وُلِدَ أحمد إبْنْ عَلِيوَه, المشهور بالعَلَاوي بدائرة تِجْدِيتْ, ضاحية من ضواحي مستغانم عام 1874م الموافق لـِ 1291 من الهجرة. كان له اثنتين من الأَخَوَاتْ. كانت والدته فاطمة امرأةٌ صالحة, رأت النبي صلى الله عَلَيهِ وَسَلَّمْ, في رؤيا يهدِي لها وردةٌ حمراء, قبيل وِلادةِ أحمد العلاوِي. والِده مصطفى, لم يكن يدع علاماتِ الحاجةِ تظهر على ملامِحه كرامة للنفس. فأقل ما يمكِن قوله هو أن الفقر كان سائِدا في بيتِ عائلةِ بَنْ عَلِيوَة. لَمْ يرسِل الأب قَطْ إِبنَهُ أحمد إِلى الكُتَّاب »ولو لِيوم واحِد», هو بنفسهِ مَنْ تولى تعلِيمه في البيت. عَلَّمَه القِراءةَ وحفظِ القرآن حتى سورة الرحمن.
تَوَفَى الأبْ عام 1886م الموافق لـِ 1304 من الهجرة, بينما أحمد لَمْ يَبْلُغِ الثانيةَ عشرةَ مِنْ عُمْرِهِ. صارت الحاجةُ أكثرَ إلحاحاً داخلَ الأُسْرَةِ المتواضعة. تَأَثَّرَ أَحْمدْ مِنْ كُلِّ أعماقِهِ لِحالةِ عائِلَتِهِ, مِمَّا أَضْطَرَ إلى أَخْذِ مَكَانِ الأَبِ المُتَوَفَى, وَمَارَسَ مُختلفِ الحِرَفْ.
كانت صناعة الأحذيةِ العَمَلَ الأَفضَل الذي مَهَرَ فيه, والذي سَمَحَ لَهُ ضَمَانَ نَوعًا مَا سهولَةَ العَيشِ. عَمَلَ في الجُلُودِ خِلَالَ عِدَّةَ سَنَوَاتْ, ثُمَّ تَوَجَّهَ بَعدَ ذَلكَ نَحوَ التِجَارَةِ.
من ناحية أخرى, كان يحترق عطشا إلى العِلْمِ الذي استولى عليه طلبُهُ لَه. ولكن لَمْ يَكن لِيستطع أن يتفرغ لهذا الطلب كليا, نظرا لاحتكار التجارة لِجُلِّ وقتِهِ. ولو لا القرِيحةُ ومَلَكَةِ الفَهْمِ, ما تَحَصَّلَ منه على شيءٍ يُذْكَرْ.
ولكنه كان يواكب النقص في العلم بالليل, مرافقا إياه بعض المشايخ في بيته. كان منكبا على الدروس بكل طاقته, منهمكا في الكتب وأَخَذَ ذلك مِنْهُ الليلَ كُلَّهُ, حتى أن زَوْجَتُهُ أُهْمِلَتْ وينتهي بها الأَمْرُ أَنْ تَطْلُبَ الطلاقَ بِدَعْوَى عَدَمِ تَحْقِيقِ الواجبات الزوجية, وقد كان شيئاً من ذلك.
هذه المواظبة على الدروس «تحت إشراف سلسلة من المشايخ المحليين» مَكَّنَتْ لأحمد العَلَاوِي غَرْسَ مِنْهَجاً عقلياً مُعَيَّناً في المَعرفَة القَائِمِ على فَهْمِ بعضَ الرَقَائِقِ مِنَ العقائدِ. وتدريجياً تَوَسَعَتْ آفاقِ مَعرِفَتِهِ, وخاصةً تِلكَ التي تتعلق بِعلمِ القومِ الذي لَّمْ يُفَارِقُهُ طِوَالَ حَيَاتِهِ.
الحاجة إلى العمل في النهار جعلت هذا التعطشُ إلى العلم أكثر خفقانا, فكان يغادر بيته بالليل, ويذهب لحضور الدروس والمشاركة في اجتماعات الذِكْرْ. والدَتُهُ كانت تخاف عَلَيْهِ أكثرْ مِنَ اللزوم, وذلك لأن بيت الأُسْرَة, الواقع خارج المدينة, معزولٌ والطريق خطرةٌ, فلهذا السبب عارضت خروجه بالليل باستخدام كل الوسائل, ولكن عبثا.
تَمَيَّزَتْ الفَتْرَةُ مَا بَيْنَ عام 1886م إلى 1894م, الموافق لـِ 1304 إلى 1311 من الهجرة, بتَأَثُرِهِ بشَكْلٍ قطعيٍ بالطريقة العِيسَوِيَةِ, وذلك لنقاء سَرِيرَةِ شيخها المُعَاصِرِ لأحمدِ العَلَاوِي, واستِقَامَتِهِ وَتَقْوَاهُ الوَاضِحِ للعيَانْ, والذي شُغِفَ أحمدْ بمَحَبَتِهِ.
انضبط أحمد مع مبادئ الطريقة العيسوية. وسُرعانَ ما حقق في وقتٍ وجيزٍ مرونةً في ممارسات الطريقة. حتى أن جميع رفقاءه أصبحوا معجبون به. فأحاطت به هالة من الهيبة, واكتسب سمعةَ "عيسويٍ متحققٍ", يستطيعُ القيامَ دون خطأٍ بالخوارقِ, اللاتي كان يتباهى بها أعضاءُ هذه الطريقة. وكانت عقِيدَتُهُ فيما يتعاطاه, إلا التقربَ إلى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ. جهلاً منه, كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مُذَكراتِه.
وفي ذاتَ يومْ, لمح ورقةً معلقةً على جدار أحدهم عند اجتماعهم في بيته, ينسبه صاحِبُهُ, حديثاً للنَبِيٍّ الأَكْرَمِ, صلى الله عَلَيهِ وَسَلَّمْ. ألزَمَهُ ذلك الكلام المكتوبُ, بتَرْكِ ما كان يتعاطاهُ مِنَ الخوارقِ. وأَلْزَمَ نَفْسَهُ على أَنْ يَقْتَصِرَ في تلك النِسْبَة, على مَا كان مِنْ قِبَلِ الأورادِ, والأدعيةِ, والأحزابْ.
لَّمْ ينسحبْ مِنَ الطريقةِ فَحَسبْ. بَلْ وَاصَلَ في التَنَصُّلِ مِنَ الجماعةْ. كان ذَلِكَ مَضْيَعَةً للوقتِ والجُهْدِ. وتَرَكَ مَا كانَ مِنَ الأَورادِ. و لَّمْ يُدَاوِمْ إِلاَّ على أَخْدِ الأفاعي فَقَطْ. بانفرادِهِ أو بحضورِ بعضِ الأصدقاء.
من دون مرشد روحي, دَفَعَهُ ذلك إلى أَنْ يُفَاتِحَ صَدِيقَهُ و شَرِيكَهُ في التجارةِ إبْنْ عَوْدَة, إبْنْ سليمان, في الأمر. هذا الأخير تكلم معه بشَكْلٍ مطولٍ, وبحماسٍ عَنْ شيخٍ معينٍ... رجلٌ صالحٌ عادَ مِنَ المَغْرِبِ الأقصى. حَمُّو الشيخ البُوزَيْدِي.
بالتَأكِيدِ أَنَّ هذا الشيخُ مِنْ أَهْلِ الخُمُولِ. صَلاحُهُ, وَسِعَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي عِلْمِ القَوْمِ. ولُطْفِهِ, عَلى الرَّغْمِ مِنْ كُثْرَةِ أَعْدَائِهْ... وَكُلَّ شَيءٍ يُشيرُ إليهِ كَوْنَهُ المُرْشِدِ الروحي الوَحِيدِ في مُسْتَغَانِمْ. هذا ما كان يُفَكِّرُ فيه باعتقادٍ إبْنْ عَوْدَةْ, إبْنْ سليمان.
هَذِهِ الملاحظةُ تَرَكَتْ أَصْدَاءً عميقةً لدَى أحْمَدِ العَلَاوِي, التَوَّاقُ إلى المَثَلِ الرُوحِي الأَعْلَى. فَقَرَّرَ أَنْ يَتَعَرَّفَ عَلَيهِ. القَضَاءُ تَحَمَّلَ عَنْهُ ذَلِكْ. بَعْدَ أَيَامٍ فَقَطْ مِنْ اتِخَاذِ ذَلِكَ القَرَارْ, وَفِي حِينٍ كَانَا الصَدِيقانِ في مَحَلِّهِمَا, مَرَّ مِنْ أَمَامِهِمَا الشيخ البُوزَيْدِي, فَتَوَجَهَ نَحوَهُ إبْنْ عَوْدَةْ, إبْنْ سليمان وَ دَعَاهُ إلى الدُخُولِ إلى المَحَلِّ والجلوسِ مَعَهُ بعضَ الوقتِ. قَبِلَ الشيخُ الدَعْوَةَ, وَتَنَاجَيَا بعْضَ الوقتْ, بَيْنَمَا كَانَ أحْمَدِ العَلَاوِي, مُنْشَغِلاً بعَمَلِهْ. لَّمَّا أَعْرَبَ الشيخ البُوزَيْدِي عَنْ رَغْبَتِهِ في الذَهَابْ, طَلَبَ مِنْهُ إبْنْ عَوْدَةْ, بِعَدَمِ تَوَقُفِ زِياراتِهِ لَهُمَا.
«كلامُهُ أَعْمَقْ بِكَثِيرٍ مِنْ مُحْتَوَى الكُتُبْ» مُشِيراً بذلكَ إبْنْ عَوْدَةْ إلى صَدِيقِهِ.
عاد الشيخ إلى زيارة الصديقين أكثر من مرة, وكان من الطبيعي أن يعرف أَنَّ أحْمَدَ العَلَاوِي, أصبحَ موهوباً في أخذِ الأفاعي. فسأله يوماً: «أَيُمكِنُكَ فِعْلُ ذَلكَ هُنَا فِي حُضُورِي؟»
ذَهَبَ أحْمَد خارجَ أسوارِ المدينةِ, وَلَّمْ يَعْثُرْ سِوَى على حَيَّةٍ صغيرةٍ لاَ تَتَعَدَّى نِصْفَ الذِرَاعْ. وبَدَأَ في مُلاَعَبَتِهَا, كَمَا تَعَلَّمَهُ عندَ اتِصَالِهِ بالطريقة العِيسَوِيَةِ.
عندئذ قال له الشيخ البُوزَيْدِي : "لكنْ, هَلْ يُمْكِنُكَ التَحَكُّمُ في أَفْعَى أَكْبَرْ مِنْ هَذِهِ ؟"
فَرَدَّ عَلَيْهِ : «كُلٌّ عِنْدِي سَوَاء!».
فقال له الشيخ البُوزَيْدِي : «إذاً, سَأُرِيكَ وَاحدةً أكبرُ بِكَثيرْ, وأَكْثَرُ خُطُورَةً. إِذَا نَجَحْتَ فِي التَغَلُّبِ عَلَيْهَا, فَسَتَكُونُ حَكِيماً بالفِعْلْ !»
فَسَألَهُ أحْمَد, «وَلَكِنْ. أَيْنَ هِيَّ ؟»
فَرَدَّ عَلَيْهِ الشيخ : «نَفْسُكَ التِي بَيْنَ جَنْبَيْكْ. فَسُمُّهَا أَقْوَى بِكَثيرٍ مِنْ سُمِّ الأَفْعَى. سَتَكُونُ حَقاً حَكِيماً, إِذَا تَمَكَّنْتَ مِنْهَا, مِثْلَمَا تَقُومُ بِهِ مَعَ هَذَا الجِنْسُ مِنَ الأَفَاعِي. لاَ تُكَرِّرْ هَذِهِ التَجَارِبْ!»
هَّلْ مِنَ المُمْكِنِ أَّنْ تَكُونَ النَفْسُ أَكْثَرَ خُطُورَةً مِنْ سُمِّ الأَفْعَى ؟ هَذَا السُؤَالُ عَّنِ النَفْسِ, طَالَمَا خَالَجَ هَاجِسَ أحْمَدِ العَلَاوِي.
وبسرعةٍ فائقةٍ, إكْتَشَفَ فِيهِ الشيخُ البُوزَيْدِي, أَنَّهُ مُؤَهَلاً, لَيْسَ لِتَلَقِي التَعلِيمِ فَحَسْبْ, بَلْ وَلِنَشْرِهِ عَلَى نِطاقٍ أَوْسَعْ. و بَشَّرَهُ بِمَقَامٍ عَاليِ. "إِذاَ عَاشَ طَويلاً إن شَاءَ اللهُ تَعَالَى".
بعد وقتٍ قصيرٍ, أَخَذَ أحْمَدِ العَلَاوِي, الطريقَةَ عَنِ الشيخِ البُوزَيْدِي, وَاتَخَذَهُ مُرْشِداً رُوحِياً, وارْتَبَطَ بِذَلِكَ بالطَرِيقَةِ الدَرْقَاوِيَةِ.
قبل شهرين من دخول أَحْمَدِ العَلَاوِي في الطَرِيقَةِ, كان قَدْ سَبَقَهُ إليها إبْنْ عَوْدَةْ, إبْنْ سليمان, ولكنه لَّمْ يَلْفَظْ بذلك لِصَدِيقِهِ أَحْمَدْ, الذي لَّمْ يَعْلمْ بالأمرِ إلاَّ بَعْدَ دخوله في الطَرِيقَةِ. فَلَقَّنَهُ الشيخُ البُوزَيْدِي أنواع الأوراد المحدودة والمُنَاسِبَةِ للطَرِيقَةِ الدَرْقَاوِيَةِ, وأوصاه بقراءتِها بعد صلاة الفجر والمغرب.
مَرَّ أسبوعٌ فَقط حينَ قامَ الشيخُ البُوزَيْدِي بتلقينِ أحْمَدِ العَلَاوِي, الإسْمَ الأَعْظَمْ, وكيفيةِ لَفْظِهِ, والطَرِيقَةِ التي يجبْ أَّنْ يَجْلِسَ عليها لِتَصَدُّرِهِ. وأَمَرَهُ لهذا الغرضِ أَّنْ يُكَرِّسَ نَفْسَهْ ولكنْ لعدمِ وجودِ مكانٍ للخُلْوَةْ, كان مِنَ الصعبِ عَلَيْهِ ممارسةِ الإسْمَ الأَعْظَمْ بكلِ ارتياحْ. كان من الضروري إذاً, البحثِ عنْ مكانٍ مناسبْ, ولكن عبثاً. فاشتكى ذلك إلى شيخه الذي قال له: «أَّنَّ أفضلَ مكانٍ للعزلةِ هوَّ بِلاَ شَكٍ, المقبرةْ».
ولكن كانت المقبرةُ تُقْلِقُ أحْمَدِ العَلَاوِي, وتُخِيفُهُ, رغْمَ كلِّ النواياَ الحسنةِ التي أبْدَاهَا. فلَّمْ يتَمَكَّنْ لَهُ ذلكَ بِمُمَارَسَةِ الإسْمَ الخَّاصْ. ففاتحَ ثانيةً شَيخَهِ الذي أوْضَحَ لهُ, أنَّهُ لَّمْ يَلْزِمْهُ الذهابَ إلى المقبرةِ ليلاً, كَمَا حَاوَلَ القيامَ بهْ. فأَمَرَهُ أَّنْ يَذْكُرَ في الثُلُثِ الأخيرِ مِنَ الليلْ.
وهكذا كان يذكر ليلاً ويجتمع بالشيخِ البُوزَيْدِي نهاراً, إما بمجيء الشيخِ عندَ أحْمَدْ, أو بذهاب هذا الأخير عند شيخه. وكان مع ذلك يلازم بعض الدروس العلمية التي كانت له من قبل, يحضرها وسط النهار. فسأَلَهُ شَيْخُهُ ذات يوم :
«بأي فن يتعلق هذا الدرس الذي أراك تُحافظ عليه؟»
فقال له : «بفن التوحيد وأنا الآن في تحقيق البراهين».
فقال له : «قَدْ كَانَ سِيدي فُلاُنْ يُسميه «بفن التَوْحِيلْ». الأَوْلَى لكَ الآن, أَنْ تَشْتَغِلَ بتَصْفِيَةِ باطِنِكَ حتى تُشْرِقَ فيه أَنْوَارِ رَبِّكْ. فتَعْرِفَ معنى التَوْحِيدْ. أَمَّا عِلْمِ الكَلاَمْ, فَلاَ تسْتَفِيدَ مِنْهُ, إلاَّ زِيَادَةَ الشُكُوكِ وتَرَاكُمِ الأَوْهَامْ. الأَوْلَى لَكَ الآنْ, أَنْ تَتْرُكَ سَائِرَ الدُرُوسِ حَتَى تَفْرُغَ مِنْ عَمَلِكَ الحاضِرْ. لأَنَ تَقديم الأهم واجب.»
لَّمْ يَشُّقْ على أحْمَدِ العَلَاوِي, شيءٌ مِنْ أَوَامِرِ شَيْخِهِ مِثْلَمَا شَقَّ عَلَيْهِ هذا الأَمْرُ, حَتَّى كَادَ أَلَّا يَمْتَثِلَ لَهُ بِمَا تَعَوَّدَهُ مِنْ مَحَبَّةِ الدُرُوسِ, مَعَ مُسَاعَدَةِ الفَهْمْ. لَوْلاَ أَنْ أَلْقَى اللهُ عَلى بَاطِنِهِ : «وَمَا أَدْرَاكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قُبَيْلَ العِلْمِ الذِي أَنْتَ طَالِبُهُ, أَو أَعْلَى مِنْهْ». وثَانياً, سَلاَّ نَفسهُ بِمَا أَنَهُ لَمْ يَكُنْ المَنْعُ مُؤَبَّداً. وثالثاً بِمَا أَنَهُ كانَ بَايَعَهُ على الإِمْتِثَالْ. وَرَابِعاً, رُبَمَا أَرادَ, أَنْ يَمْتَحِنَهُ بِذَلِكَ, كَمَا هِيَ عَادَةِ المَشايِخْ. وكُلُّ ذَلكَ لَمْ يُفِدْهُ سَلاَمَةً مِنْ وُقُوعِ حَزَازَةً في البَاطِنْ. إلاَّ أَنَهَا ذَهَبَتْ بِمَا أَنَهُ اسْتَبْدَلَ أوقاتَ القراءة بالإنفرادِ لِلْذِكْرْ. وبالأَخَصِ عِندمَا بَدَأَتْ تَظْهَرُ لَهُ نَتَائِجُهْ.
عِنْدَمَا فَرَغَ أحْمَدْ مِنْ وَاجِبِ إسْتِيعَابِ الإسْمَ الأَعْظَمْ, كَلَّفَهُ الشيخُ البُوزَيْدِي بالدَلَالَةِ علىَ اللهِ, وَالإِرْشَادْ. إِمْتَلَكَ أحْمَدِ العَلَاوِي, الخَوْفُ, وَسَأَلَهْ : «وَهَلْ تَرَى أَنَهُمْ يَسْمَعُونَ لِي ؟». فَأَجَابَهُ: «إِنَّكَ سَتَكُونْ مِثْلَ الأَسَدْ. مَهْمَا وَضَعْتَ يَدَكَ عَلَى شَيْءٍ إِلاَّ أَخَذْتَهْ !». فكَانَ الأَمْرُ كَمَا ذَكَرْ. وَكَانَ مَهْمَا تَكَلَّمَ مَعَ أَحَدٍ وَعَقَدَ العَزِيمَةَ عَلَى انْقِيَادِهِ لِلِطَرِيقْ, إِلَّا وَانْقَادَ لِكَلَامِهِ, وَعَمِلَ بِإِشَارَتِهِ, حَتَّى انْتَشَرَتْ تِلْكَ النِسْبَةْ. وَالحَمْدُ لِلهْ.
مِنَ المحتملِ جِدا أَنَّ أَحْمَدْ العَلَاوِي لَّمْ يَبْقَ وَقتاً طَويلاً مَخْفِياً. في أَقَلِّ مِنْ سَنَةٍ, جَنَا ثِقَةَ شَيْخِهْ لإِسْتِعْدَادَاتِهِ الإِسْتِيعَابِيَةِ لِدَقَائِقِ عِلْمِ التَصَوفِ, وَلإِخْلاَصِ مَشَاعِرِهِ, وَلِصَلاَبَةِ إِيمَانِهِ, وَلِتَحَقُّقِهِ الرُوحِي.
وهكذا ليس من المُدْهِشِ أَّنْ نَرَاهُ عُيِّنَ مَنْدُوباً للشيخِ البُوزَيْدِي وعُمْرَهُ لَّمْ يتجاوز العِشْرِينْ مُسَخِّراً كُلَّ جُهْدَهُ فِي خِدْمَةِ شَيْخِهِ طِوَالَ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةْ.
ومما يؤكد ذَلِكْ, هُوَّ مَا وُجِدَ فِي سِيرَتِهِ الذاتيةِ, بَعْدَ تَحَدُّثِهِ عَنْ تَحَقُّقِهْ. «ثُمَّ دُمْنَا على صُحْبَتِهِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً, عاملينَ في كُلِّ ذلكَ على نُصْرَةِ الطَرِيقْ...»
اكتسى مَحَّلِ الصَدِيقانْ, حُلَّةَ الزاوية أكثرَ منْ مكانٍ للأعمالِ التجاريةْ. مع تدفُّقٍ متزايدٍ من المُرِيدِينْ. كان يُلقي فيه الشيخُ البُوزَيْدِي الدروسَ ليلاً, و يتعَاطَوْنَ في النهارِ الذِكْرْ الخَّاصْ.
وخلال هذه الفترة, أهمل أَحْمَدِ العَلَاوِي, بعض الضروريات من الأشغال في مصالحه التجارية. ولوْلَا شريكَهُ وصدِيقَهُ, إِبْنَ عَوْدَةْ إِبْنَ سليمان, الذي كان يُحَافِظُ لَهُ على مالِهِ, والذي اتَّخَذَ بَعْضاً منَ الحِرْصِ, وضَبَطَ صَدِيقَهُ مِنْ جِهَةِ تِجَارَتِهِ, لأَعْلَنَ أَحْمَدِ العَلَاوِي, إفلاسَهُ, وَلَقَضَى عَلَيْهَا, من أصْلِهَا.
وخلال هذه الفترة التي تميزت بتعميق تجربته في التصوف السني الصحيح, شرَحَ فيها مَنْظُومَةَ شَيْخِهِ البُوزَيْدِي, على طريقة أهل الأذواق, المعروفِ بِـ «معراج السالكين و نهاية الواصِلِينْ». وتحت تأثيرٍ روحيٍ قوي صعب الاحتمال, ولرد هجماتِ ذلك, والذي حاول إيقافه بكل معنى, أنشأ كِتَابْ «مفتاح الشهود في مظاهر الوجود». ثم كِتَابَهُ الشهير «المِنَحْ القُدُّوسِيَّة في شرحِ المُرْشِدِ المُعِينِ بطريقِ الصوفيّة».
خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً مرَّتْ, و أَحْمَدِ العَلَاوِي, ساهرٌ على نشرِ الطريقْ بِكُلِّ إخلاصْ. وبكونِهِ ممثلاَ شرعِيًّا للشيخِ البُوزَيْدِي, الذي مَنَحَهُ ثِقَتَهُ. ونَالَ احْتِرَامَ مُعْظَمَ الفُقَرَاءِ الدَرْقَاوِيِينْ.
اشْتَدَّ بالشيخِ البُوزَيْدِي المَرَضْ, وكَانَ في ذَلِكَ المَرَضْ مَعْقُودَ اللِسَانِ عنِ النُطْقِ مَعَ سَلاَمَةِ الفَهْمْ. وَشُلَّ نِصْفَ جَسَدِهِ. وَلَمْ تَمُرّْ إلاَّ أَيَاماً قَلِيلَةً, حَتَّى انْتَقَلَ إلى رَحْمَةِ اللهْ, يوم الاثنين 25 أكتوبر, 1909. الموافقِ لـ 10 شوالْ, 1327 من الهجرة.
ورثاه أَحْمَدِ العَلَاوِي, بقصيدةٍ رائعةٍ عظيمةٍ من البحرِ الطويلِ : "لله أشكُو حُزْنِي, لِفَقْدِ عَرْشِ الوَلاءْ, فَقِيدِ الوَرَى طُراً, واللهِ كَذَا العَصْرِ".
لَّمْ يُعَيِّنِ الشيخِ البُوزَيْدِي, أَحَداً لِخِلاَفَتِهْ. قَالَ يَوْماً لأَحَدِ أَتْبَاعِهِ, والذِي كَانَ, مَغروراً في حَدِّ ذَاتِهِ, بِتَخَيُّلِهِ أَنَّهُ مُؤَهَّلاً لِإرْشَادِ الإِخْوَةَ, بَعْدَ شَيْخِهِ, الذِي قَالَ لَهُ يَوْماً (لأَّنَ المَسْأَلَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ قَدْ طُرِحَتْ مِنْ طَرَفِ هَذَا المُرِيدِ المَرِيضْ) «مثلي, مثلَ الذي يستأجرُ بيتاً بإذنٍ مِن صاحبهِ. وإذا جاء وقتُ انتهاءِ إجازةِ الإقامةْ, تُرَدُّ المفاتيحُ لصاحبِ البيتْ. فهُوَ فقط, لَهُ الحَقُ لإعطاءِ المفاتيحِ لِمَنْ يُرِيدْ».
لَّمْ يَكُنْ بإمكانِ الفُقَرَاءِ تَرْكَ الأَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكْ. ولإِسْتِيعَابِ الحَيْرَةِ التي تَرَكَهَا فِيهِمْ اخْتِفَاءِ الشيخِ البُوزَيْدِي, كَانَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ الإِسْتِعْدَادَ لِوَضْعِ أَيْدِيهِمْ في يَدِ أَحْمَدِ العَلَاوِي, وَتَقْدِيمِ البَيْعَةَ لَهْ. أَوَلاً, لإِسْتِخْلافِهِ مِنْ طَرَفِ شَيْخِهِ لَمَّا كَانَ حَيًّا يُرْزًقْ. وثانياً, لِتَوَلِيهِ الإِرْشَادَ لِلمُرِيدِينَ حَتَّى نِهَايَةَ سُلُوكِهِمُ الرُّوحِي. فَكَانَ ذَلكَ أَكْثَرَ مِنْ كَوْنِهِ مندوباً عَادِياً. ولكِّنَهُ قَرَّرَ أَنْ يَهْجُرَ البَلَدَ نَحْوَ المَشْرِقْ.
لَّمْ يَسْمَحْ اخْتِلاَفِ تَبَايُنِ الآرَاءِ, لِلإجْتِمَاعِ الذي عَقَدَهُ الفُقَرَاءْ, مِن أَنْ يَأخُذُوا قَرَاراً في تَعْيِينِ خَلِيفَةً لِشَيْخِهِمِ الرَاحِلْ. وَبِرَأْيٍ رَاشِدٍ مِنَ المندوبِ, إِبْنَ عَوْدَةْ إِبْنَ سليمان, أُرْجِئَتْ المُدَاوَلاَتْ إلى الأسبوعِ التاليِ, أَمَلاً في أَنْ تَظْهَرَ في ذلكَ الوَقْتْ, رُؤَى, تُوَّجِّهُهُمْ في اخْتِيَارِ مُرْشِدٍ جَدِيدٍ.
ولكن وقبلَ مُضِّيِ الوَقْتِ المُحَدَّدِ, ظَهَرَتْ كَثِيرٌ مِنَ, الرُؤَى, وَكُلُهَا لَّمْ تَتْرُكِ أَيَّ شَكٍّ عَنِّ الشَخْصِ الذي سَيَتَرَأَّسُ مَصِيرَ الطَرِيقَةِ. فَدُوِّنَتْ كُلُّهَا. هَذهِ, الرُؤَى, تَرْوِي بِوُضُوحٍ أَنَّ المُهِمَّةَ الرَئِيسِيةَ يَنْبَغِي أَنّْ تَقْتَصِرَ على أَحْمَدِ العَلَاوِي, فَقَطْ. «حَتَّى هُوَّ بِنَفْسِهِ شَهِدَ فِي رُؤْيَا قَبْلَ وَفَاةِ شَيْخِهِ بِبِضْعَةِ أَيَامٍ, النَبِّيَ, صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ, يُعْلِنُ لَهُ أَنَّهُ سَيَكُون خَلِيفَةَ سُلْطَانِ الشَرْقِ وَأَنَّهُ سَيَكُون دَعْمَهُ الرَئِيسِي».
ولكن, وأكثر من أي وقت مضى, وضع أَحْمَدِ العَلَاوِي, في ذهنه موضوع الهجرة إلى الشرق, وبالفعل, فقد قام بتصفية جميع ممتلكاته من قطع الأثاث, ورَاهَنَ مَا لَمْ يستطع بيعَه, مع تحميل أَصدقائِهِ مسؤوليةَ تصفيتها عند غِيابه.
تَرجَّاهُ بَعْضَ الإخْوَة, ليَقُومَ بالاشتغَالِ, بِمُهِمَّةِ التَذْكِيرِ, على الأَقَلِ خِلَالَ انْتِظَارِهِ رُخْصَةَ السَفَرِ مِنَ الإدَارَةِ الفَرَنْسِيَةِ. اقْتَرَحَ عَلَيْهِ صَدِيقُهُ أَحْمَدْ إبْنْ ثُرَيَّةْ, الزَوَاجَ بِابْنَتِهِ دُونَ أَيَّ شَرْطٍ, فَقَبِلَ أَحْمَدِ العَلَاوِي, هَذَا العَرْضْ.
بينما في الوقت ذاته, عَقَدَ الفُقَرَاءُ جَمْعاً عمومياً في الزاوية. كُلُّهُمْ قدَّموا الولاء لأَحْمَدِ العَلَاوِي. حتى أعضاء الطريقة القاطِنِينَ خارج مُسْتَغَانِمْ, لم يتأخروا في القدوم في مَجموعاتٍ صغيرةٍ لِلبَيْعَةِ لِشيخهمْ الجَدِيدْ.
يقول الشيخ العلاوي في تفسير هذه التلقائية واتحاد الفقراء حوله : "وكان يعد ذلك الانضمام من الفقراء كرامة, لأنه لم يكن بيدي من الأسباب والدواعي الخارجية ما يستلزم الإحاطة بإفراد مختلفي البقاع, إلا ما لديهم من اليقين الصرف من جهة ما كنت عليه من المكانة مع الأستاذ في هذا الشأن"ولم يبق من أفراد الطائفة إلا اثنان أو ثلاثة..." ووافق على يمين الولاء.
كانت الرغبة في الهجرة قَويَّةً جداً. استولت على أحْمَدِ العَلَاوِي, حتى قُبَيْلَ وفاة الشيخ البُوزَيْدِي. كان للمشرقِ جذبٌ قَوِّيْ. بالإضافة إلى ذلك يقول في سِيرته الذَّاتِيَة : "رأيتُ البلد قَدْ غَرَقَ في الفساد الأخلاقي. فمجموعة من أصدقائي أيضا, لهُمْ نِيَّةَ الهِجْرَة إلى المشرق.
قبل بضعةَ أسابيع من وفاة الشيخ البُوزَيْدِي, سَبَقَهُ إلى طرابلس, بِلِيبِيَا, أبناءَ عَمِّهِ, محمدْ وعبد القادر إبْنْ عَلِيوَه. أَمَّا هُوَ, فقد كانت الحيرة مهيمنةً عَلَيْهِ. كان منقسِماً بين الحاجة إلى ترك البلد, والواجبِ على البقاءِ للدلالةِ على الله. لَّمْ يَدٌمْ تَرَدُّدَهُ طويلاً. فَضَغْطُ زيارةَ ديارِ الخلافةَ العثمانية, كان أقوَى مِنْ أَّنْ يُقَاوَمْ.
اصطحب الشيخ العَلَاوِي, محمدْ إبْنْ قاسمْ الباديسي. فزَارَ فقراءَ غيليزان. وبَقِيَا بها يومين. ثم اتجها نحو الجزائر العاصمة بِنِيَّةِ طَبْعِ مخطوطَ «المِنَحِ القُدُّوسِيَّةْ». ولكن, ولا مطبعةً واحدةً وافقت على طبعه. فَتَوَجَّهَا نحو الشقيقة تُونَسْ. فاستأجرا سَكَنًا بعاصمتها. وعاهد الشيخ العَلَاوِي نفسهُ, ألاَّ يتركَ المكانَ حتى يأتيه أحدٌ من الذاكرينَ يَخْرُجُ معه. وسبَبُ ذلك لرؤيا رآها. وهي أن جماعةً مِنَ الإخوان, أَتَتْ إليه, وأخذوه إلى مكان اجتماعهم.
استمر الحال على ما هو عليه أربعةَ أيام. بينما رفيقه محمدْ إبْنْ قاسمْ الباديسي في الخارج بصدد قضاء بعض الحاجات, بَقِيَ الشيخ العَلَاوِي في البيت لتنقيح المخطوط الذي بحوزته. ثم أتته جماعةً من الأشخاص, وهيَّ التي رآها في الرؤية. وكانوا من مريدي الشيخِ صادقْ الصحراوي. «ويتصل سَنَدُهُ بمحمدْ ظافرْ المدني», وقد تُوُفِّي قبل ذلك بأشهر.
أَصَرَّ الفقراءُ على الشيخ العَلَاوِي بأن يرافقَهم إلى مَوضِعِ اجتماعهم. فانتهى به الأمر إلى أن وافق. وأنزلوه بِمَحَلِ أحدِ الأصدقاء. كانت تنبعث من زيارةِ هؤلاءِ الإخوانْ, لوائح المحبة, التي كانت تظهر على سيماهم ومجاملاتهم له. وكان يتوافد عليه في تلك المدة, الفقهاءَ والمتخصصين في الحديث. ومن جملتهم : الأَخْضَرْ إبْنْ حسين. عبد الرحمن البَنَّانِي. صالَحْ خليفَةْ, من قُصَيْبَةْ المَدْيُونِي.
وكانت مجموعةً من الطلبة مرافِقَةً لأساتذتهم, وأحيانا تأتي بمفردها للاستماع «إلى الذي يقال عَنْهُ, كونُهُ متبحراً في علوم القوم», ومن بين هؤلاء الشباب, محمدْ إبْنْ خليفةْ المدني. فاقْتَرَحُوا على الشيخ العَلَاوِي, أن يجعل لهم درساً في «المرشد المعين» وأن يَبْسُطَ لهم كلاماً فيه من طريق الإشارة. فوقع ذلك موْقِعاً حسناً عند السامعين. وكان السبب في تعلق بعض الطلبة بالطريق.
بعدما اتفق الشيخ العَلَاوِي مع صاحب المطبعة على طباعة المخطوط, قرر التحركَ نحو طرابلس, بِلِيبِيَا, لزيارة أبناء عَمِّهْ. وكان من المقرر أن يذهب بعدها لزيارة بيت الله الحرام, ومسجدِ النَبِيٍّ الأَكْرَمِ, صلى الله عَلَيهِ وَسَلَّمْ. و تزامَنَ الحَجُّ آنذَاكْ, مع شهرِ ديسمبر 1909 الموافق لـِ 1327 من الهجرة. ولكنْ وَصَلَتْهُ رسالةٌ من مُسْتَغَانِمْ تُخْبِرُهُ أن الحجَّ ممنوعٌ من السلطاتِ الفرنسية. وتُحَذِّرُهُ من الوقوفِ في تلك السنة بما يَعُودُ عليه بفرض عقوبةٍ ماليةٍ قويةْ. ربما كانَ هناك وباءاً ينتشر في التجمعات المماثلة, مما أدَّى بالإدارة الاستعماريةِ إلى المَنْعِ للحَدِّ من انتشاره.
تَوَجَّهَ أحمدِ العَلاوِي, منفردا نحو طرابلس, رغم علمه أنه لن يستطيعَ الذهابَ إلى الحجِّ هذه السنة. وكانت لِيبِيَا آنذاك, ما تزال سالمةً من السيطرةِ الأجنبية. وبَدَا للشيخ العَلَاوِي أن البلدَ صالحٌ للهجرةِ والإقامةِ به. وبما أن طبيعة سُكَّانِهِ مماثلةً قدْرَ الإمكانِ من طبيعةِ أهلِ بلدهِ, وحتى أن هناك تشابُهٌ في اللغةِ والتقاليد.
في نهاية اليوم الثالث التي قَضَاهَا في طرابلس, رَكِبَ البَحْرَ نحو إسطنبول. ولكن هناك أصيب بخيبةِ أملٍ كبيرةٍ من الاضطرابات التي هزت الخلافةَ العثمانية. فولَّى راجعا إلى الجزائر, وقال عن عودته إلى وطنه : «لم يرتح لي بال, وَلَّمْ يَسْكُنْ روعي إلا في اليوم الذي وَطِأَتْ قَدَمَيْ «أرضَ الجزائر».
انطلاقاً من مُسْتَغَانِمْ... عَزَمَ الشيخُ العَلَاوِي حسم معركة الذَّوْدِ عَنِ الإيمان. لكنه كان مُجرَّداً من أدواتِ الدفاعْ. فقد باع تقريباً كلَّ أملاكِهِ لدفعِ ثمنِ سفرِهِ, ولَمّْ يبقى لهُ إلَّا القليل الذي كان يستعمله لنشر الطريقة الدَرْقَاوِيَة, لأنه عَزَمَ أَلَّا يَدَّخِرَ جُهْداً لنصرِ حزبِ الله.
عارض أوَّلًا بعض الممارسات التي شَكَّلَهَا بَعْضَ مُرِيدِيهِ وهي في لقاءهم كل يوم خميس, حول ضَرِيحِ الشيخِ البُوزَيْدِي. ثم يَقُومُونَ بحرق العطور وتلاوة الأذكار والغِنَاءِ بقصائدِ الصالحين.
مَرَّتِ الأسابيع وهي تتشابه في محتواها. لَّمْ يستطع الشيخ العَلَاوِي, التحَمُّلَ أكثرَ تلك اللقاءات حول ضَرِيحِ الشيخِ البُوزَيْدِي, والتِيي وَصَفَهَا بأنها تُشْبِهُ اجتماعاتِ النِسَاءِ العجائز.
فقال عندئذٍ : لا أعتقد أن سَيِّدِي, حمّو الشيخ البُوزَيْدِي, حينما أورثنا من علمه, أرَادا بذلك أَن نَحُلَ مَكانَهْ. بَلْ بِالعَكْسْ, تَرَكَنَا مِثْلَ مَطْرُحَاتِ شَجَرَةٍ قديمةْ. فالشَجَرَةُ انتهَى وَقْتُهَا, وَلَكِنْ مَطْرُوحَهَا بَاقِيٌ, لِيَمْنَحَ ثِمَارَهْ. وإذَا كَانَتِ الثِمَارُ لَا تُبَاعُ عندَ الشَجَرَةْ, فيجِبُ إذاً علَى المَرءِ أنْ يَذْهَبَ بِهَا إلى السُوقْ. عَلَيْنَا بإبلاغِ ما لَدَيْنَا وليسَ كَتْمُهْ, لأنَهُ مُفيدٌ لإخواننَا البَشَرْ.
بَذَلَ الشيخ العَلَاوِي, كل مَا فِي وسْعِهِ لتنشيط الطريقة, حتى أَنْفَقَ كلَّ مَا تَبَقَّى من ممتلكاته. لَّمْ يَكُنْ يطلب أي شيء من مريديه. لأنه لا يرتاحُ أبَداً لطلبِ المالِ منَ الغير. ثم تجاوزت هذه الصعوبات المالية المَرْحَلَةَ الصعبة, حَيْثُ رَهَنَ مَنْزِلَهْ. لأنه وَجَدَهُ الحَلَّ الوحيد الذي بقيَ, وهو رَهْنَ العَقَارَ الوحيدَ لَهْ.
حَمْل أعباء التكفل بالفقراء الذين كانوا يتزايدون بسرعة مَنَعَهُ في حقيقة الأمر, من قضاء ديونه. بالإضافة إلى ذلك, فَإِنَّ بعض المشايخ والمندوبين الدَرْقَاوَة في مُسْتَغَانِمْ وفي منطقة الغرب الجزائري, لم يتراجعوا لوضع العقبات على طريقه, حسدا مِنْهُمْ بسبب الإقبال الكبير على الشيخ الدَرْقَاوِيي الجديد. لَمّْ يَدَّخِرُوا جُهْدَا لمنعه من الدعوة عن طريق المؤامرات, الإشاعات الكاذبة, الاستفزازات, إلى آخره.
زِيَادَةً على ذلكَ, فإن السلطات الاستعمارية التي لم تَقِفْ مكتوفة الأيدي, بسبب المقاومات المسلحة التي مارستها الطائفة الدَرْقَاوِيَة, ِفي السنوات الأخيرة. لِذَا, كانت لَهُمْ بالمرصاد, وخصوصا أتباع الشيخ الجديد, والتي كانت تَرَى فيه, في نفس الوقت, عَدُوًّا صاعداً لسلطتها.
كان عداء رؤساء الزوايا الدَرْقَاوِيَة المجاورة يتزايَدُ بمقدار توسع المِسَاحَةِ الجغرافيةِ لأتباع الشيخ العَلَاوِي, الذي دَاعَ صَيْتُهُ حتى في الدواوير أو القرى الصغيرة, والتي كانت معروفة حتى لوقت سابق بِمُقَاوَمَتِهَا لكُلِّ دعوةٍ دينيةْ. تَحَوَّلَ عَدَاءُ شيوخُ الزوايا إلى كَرَاهِيَةٍ عندما قرر الشيخ اتخاذ استقلاليته بالنسبةِ إلى الزاوية الدَرْقَاوِيَة الأُمّْ, بِبَنِي زروال في المغرب, عام 1914, الموافق لـِ 1332 من الهجرة. فأخذت إسْمْ «الطريقةَ العَلاوِيَةْ». «الدَرْقَاوِيَةْ». «الشَاذِلِيَةْ».
رأى الشيخ العَلَاوِي في ضرورة الخلوة كمحورٍ رئيسيٍ لطريقته. والتي لا يمارسها الشاذلية إلا أحيانا, بخلوات منفردة طبيعيةْ. إذْ سَتُشَكِّلُ الخُلْوَةُ بالنسبة للشيخ العَلَاوِي, جزءاً لا يتجزَّأُ من طَرِيقَتِهْ... هَذِهِ الحاجةُ الملحةُ للعملِ بهَا, جَاءت من استفادته الشخصية منها, عندما لَمْ يكنْ يَمْلِكُ مكاناً مُنَاسباً لتكريس وقته لها.
لَمْ يَتَأَنَ الغضبُ من منافسيه في الظهور. إدخال الخلوة كقاعدةٍ أساسيةٍ بالنسبة إليهم بدعةْ. وَصَلَ عَدَاءَهُمْ لَهُ إلى ذَرْوَتِهْ. اسْتُعْمِلَتْ جميعَ الوسائلِ لتحويلِ فقراءَ الشيخ البُوزَيْدِي عَنْهْ. بالفعل نجحوا في فصل البعض عنه ولكن بالمقابل ارتبط به المئات من المريدين الجدد الذين تدفقوا من كل الآفاق, حتى وصَلَ الأمرُ إلى مبايعة واحد أو اثنان من رؤساءِ الزوايا مع كل مُرِيدِيهْ, للشيخ العَلَاوِي. ثم إن ارتباطَ محمد إبْنَ الطَيِّبِ الدَرْقَاوِيي حَفِيدْ مَوْلَايْ العَرْبِي الدَرْقَاوِيي بالشيخ العَلَاوِي, رمى الارتباكَ بين صفوف أعداء الشيخ, الذين ظلوا عن السبيل.
رسالةٌ لمحمد إبْنَ الطَيِّبِ الدَرْقَاوِي نُشِرَتْ في كِتَابِ محمد إبْنَ عبد البَارِي الحَسَنِي. "الشَهَائِدْ والفَتَاوِي فيما صَحَّ لَذَا العُلَمَاءْ من أمر الشيخ العَلَاوِي". يمكن قراءة مَا يَلِي... : ما لَاحَظْتُهُ في الشيخ, دَفَعَنِي للإِرْتِبَاطِ بهْ. بالشوق إلى الظَفْرِ بفتح البصيرة. فَطَلَبْتُ مِنْهُ الإذنَ في الذِكْرِ بالاسمِ الأعظمْ. كنت في عَهْدِي عضواً كباقِي الإخوةِ في طريقتنا. إنما سَمِعْتُ أَنَّ أسلافي يعتبرون الطريقة كوسيلة مباشرة للتحقيق, وليس كونها رابطاً بسَنَدٍ روحيٍ فقط. لَمَّا قُمْتُ بممارسةِ الاسمَ الأعظمَ, طبقا لتوجيهات الشيخ, لم يمْضِ وقتٌ طويل, حتى تَحَصَّلتُ على العِلْمِ اللَّدُنِّيّ.»
لَمْ تتأخر شرارة وعداوة خصومه الدَرْقَاوَة من الخمود كما خمدت نار نَمْرُوودْ أمام النشاط الحيوي للشيخ العَلَاوي.
كان في كل مكان. وأين ما كان, إلا وارتبط به المئات من المريدين الجدد. حتى أنه وقع أن ارتبطت به, وبطريقتِه وبتعاليمه, قبيلةً بأسرها. و ذلك من الإمدادات الغيبية التي يمنحها الله تعالى لأوليائه, في لحظات حرِجَةْ.
ذاتَ يومٍ وهو يمشي بالجزائر العاصمة, وكانت وِجهته نحو الجامع الكبير, تَبِعَهُ في الطريق نحو 100 شخص, ليس لهمْ من الإسلام إلا الاسم. وعند عتبة الجامع, اقْتَرَحَ عَلَيْهُمْ الشيخَ الدخولَ معه. فتقدموا دونَ تردد. فدعاهم للجلوس, وجَلَسَ في وسطهم, وقام بتعليمهم. عند انتهاء الدرس, تحَوَّلَ الجميعُ نحو القِبْلَة, معلنين تَوْبَتَهُمْ. ثم قدموا اليمين للشيخ, واقْسَمُوا على عدمِ مخالفةِ شرعِ الله.
ويمكن للمرء أن يرى أمام الشيخ... الآلافْ من البشر, إذا تكلمَ, أَطرق جلساءَهُ, كأن على رؤوسهم الطير. قلوبُهم خاشعة, وأعينُهم تَسِيلُ بالدمع, ينهلون من كلامه بشغف.
كيفَ يُمْكِنُ تفسيرُ هذه الظاهرة ؟ إلا لكَوْنِ الشيخ, بكلامِه إلى الناس, يتحدث بلُغَةٍ شفافةٍ ومُقْنِعَةْ. منبَعِثَةً من قلبٍ سليمٍ من الإسلام الأدبي, السطحي, الصعبِ فَهْمُهْ, المُحَبَّذِ لدى طائفةَ الظاهر. فكلامه مستقيم, ينبعث من قلبٍ مستقيمْ. لا يمكن له إلاَّ اختراقَ مسامعَ الحاضرين.
الحديث التالي لوحده يُعَبِّرُ أكثر من أَيِّ كَلَامٍ عن نظرة الشيخ في أسلوب توجيهه في الطريق. «يقول المُتَحَدِّثْ, عبد الرحمان أبو عزيز.».
«ارتبطتُ بشيخٍ في مدينة بجاية وأخذتُ منه العهدَ بشرْطِ قراءة عددٍ كبيرٍ من الأوراد يوميا. ثابرتُ في قراءتها بانتظام. وبعد فترةٍ زمنيةٍ معَيَّنَةْ, أمرني بالصيام كل يوم, ولا آكُلَ إلا خبزَ الشعيرِ مُشَبَّعاً بالمَاءْ. إِلْتَزَمْتُ أوَامِرَه. ثم لَقََّنَنِي الأسماءَ السبعةَ الخاصةَ المستخدمة في طَرِيقَتِهْ. ثُمَّ مَرَّتْ أياماً قليلةً بعد ذلك, فَأجازني بالإرشاد والدلالَةِ على الله. وفي انتظار ذلك, غلبني الإحباط وخيبةَ الأمل. لأنني أعلمُ أنني لم أقصِدْهُ من أجل هذا. لَّمْ آخُذْ منه سوى بعض الإشارات الغامضة والتي لم أفهمْ مَعَانِيهَا. ولَمَّا سألتُهُ, منعني بشدَّة من تجديد السؤال أمامه أو أمام مريديه, خشيةَ التسَبُّبَ في الشكوك من جهته. فتَرَكْتُهُ وقمتُ بالبحث عن شيخٍ آخَرٍ, يكونُ أجدرَ بالارتباط. حتى جاء بفضل اللهْ, اليوم الذي سمح لي بالاتصال بالأستاذ الكبير, الشيخ سَيِّدِي أحمدْ العَلَاوِي , عن طريق أحدِ مُرِيدِيهْ, المندوب, الحسن الطرابلسي, الذي أعدني قبلَ ذلك وأعطاني قراءةَ كِتَابَ الشيخ «المِنَحِ القُدُّوسِيَّةْ»...
ثم جاء اليَوْمُ الذي قَدِمَ إلينا الشيخُ بنفسه زائرا وسائحا في شرق الجزائر. عامَ 1919, الموافق لـِ 1337 من الهجرة. جَدَّدْتُ معه العهدَ وبادرني بتلقيني الإسم الأعظم كما يمارسُهُ أتباعُهْ. وقال لي انه يمكن لي أن أَذْكُرَهُ في كل مكانْ, قَدْرَ المُسْتَطَاعْ. في السِّرِ أو علانيةْ. بَقِيَ معناَ ثلاثَةَ عَشَرَ يوماً. وخلال هذا الوقت ارتبط به 2000 من البشر, رجَالاً ونِساءاً وشباباً. ثم بعد عودته إلى مُسْتَغَانِمْ , ذهبتُ إليه وأدخلني الخلوة. مكثتُ فيها ستةَ أيامْ, وحَصَّلْتُ على كل ما رَغِبْتُهُ قبلَ ذلك».
كان توجيهُ الشيخُ العَلَاوي على مراحل. أوَّلُهَا... تطهيرُ نفسِ المبتدئ. ولمَّا تتزكى النفس, وتَشْرُقُ الأنوارَ الإلهِيَّة في القلبْ, يأذَنُ لبعضٍ من مُرِيدِيهْ, الذينَ وصلوا إلى هذا المقام, بالإرشاد والدلالة على الله. وكثيرٌ هُمْ مَنْ أُجِييزُوا بالإرشاد.
وكان يَنْتَظِرُ من مندوبيه النزاهةَ في السُلُوك. عندما كان يبعث مَثَلاً أحدهم إلى قبائلَ مُعَيِّنَةٍ, كان يَمْنَعُهُ من تَقَبُّلِ الغذاء, إلَّا لضرورةٍ ما. لا يمكن له سوى طلب الماء لِلْوُضُوء.
هذه الفترة من 1914 إلى 1934, الموافق لـِ 1332 إلى 1353 من الهجرة, شَهِدَتْ تأسيسَ شبكةٍ مِنَ الزوايا في المغرب العربي. وفي الشرق الأوسط. وفي أوروبا. كانت الزاوية الأُّمْ, بِمُسْتَغَانِمْ, تَتَذَبْذَبُ من شِدَّةِ السُكْرِ الروحي.
كانت السِيَاحَاتْ ضروريةً لنَشْرِ الطريقْ وإنشاء زَوَايَا, و تلقين المريدين تعاليم الطريقة. فبادر الشيخ عدةَ سِيَاحَاتْ. ما عَدَا سياحاتِهِ داخلَ البلد, ذهب مرةً أخرى إلى تُونَسْ وخاصةً في منطقة الساحل. فزارَ أَحَدَ مُرِيدِيهْ المفضلين, الشيخُ محمد المدني, في قُصَيْبَةْ المَدْيُونِي. وكان ذلك في عام 1915 الموافق لـِ 1333 من الهجرة.
ثم في عام 1918 الموافق لـِ 1336 من الهجرة, أين تباحث فيها مع علماء الزيتونة. وعاد أكثر من أي وقتٍ مضى إلى بلاده مسرورا للمستوى الرفيع في الحديث مَعَهُمْ.
اتجه سَنَةَ 1924 الموافق لـِ 1342 من الهجرة, إلى المغرب. وكانت تلك زيارته الأولى. وفي عام 1928 الموافق لـِ 1346 من الهجرة, زار مرةً أخرى المغرب. وتباحث في فَاسْ مع عددٍ من علماءِ القرويين.
وفي ربيع عامِ 1930, الموافق لـِ 1348 من الهجرة, قَامَ بأداء فريضةَ الحجْ... ثم زار القدس... والخليل... وغزةَ هاشم... ثم دمشق... ثم بيروت... التي عاد منها عبر مرسيليا... إلى الجزائر
تأسيس زوايا في مختلف الأماكن التي ذهب إليها, لم يكن كافيا بالنسبة له. ولمراعاة هذه المراكز الإشعاعية, كان من الضروري لدى الشيخ العلاوي, تأسيسِ جمعية التنوير في العشرينات. وكان دورها الحرص على خدمة المساجد والزوايا العَلَاوِيَة حتى لا ينقصها أي شيء. مثل الإضاءة, وتغطية الأرض, ومن غسلٍ وضمانِ صيانةِ المباني, وإعادتها إذا لزم الأمر. وكان ذاك هو الهدف الحقيقي للجمعية التي تضاعفت فروعُها.
حَتَّى يكونَ الشيخُ حاضراً بدَوَامْ, وتَكُونَ تَعَالِيمَهُ مسموعةً في آنٍ وَاحِدٍ من جميع طَلَبَتِهْ, في بلدان المغرب وفي منطقة الشرق الأوسط. كان لا بد من تأسيس جريدةٍ أسبوعيةٍ «لسان الدِينْ». التي تأسست في يناير 1923 الموافق لـِ 1341 من الهجرة, والتي لَمْ تَدُمْ طويلا, وعَدَدُهَا لم يتجاوز 25 رقما, لأسبابٍ معينةْ.
ولسد هذه الثَغْرَة في مجال الطباعة, كان من الضروري أن تكتسب الطريقةَ مطبعةً خاصةً بها. وحصل ذلك يوم 22 نوفمبر «كانون الثاني» 1924, الموافق لـِ 24 من ربيع الثاني 1343, عن طريقِ مساهمةِ إبْنَ عَمِّهِ عبد القادر, وأحدْ مُرِيدِيهْ, صَالِحْ إبْنْ دِيمْرَادْ. فاشترى مطبعةً بالجزائر العاصمة. وَأَسَّسَ جريدَتَهُ الأسبوعية «البلاغ الجزائري» عام 1926 , الموافق لـِ 1345 من الهجرة.
ومن ناحية أخرى, لم يتوقفْ الشيخِ العَلَاوي, من نشر دراسات في الميدانِ «الروحي والأخلاقي», في التفسير, والذود عن التصوف. فكانت الفترةَ مَابَيْنَ 1914 و 1934, الموافق لـِ 1332 إلى 1353 من الهجرة, بشكلٍ قاطعْ, أخصبَ فترةٍ في هذا الصدد.
كان الشُغل الشاغل للشيخ العلاوي وهاجسه الدائم, حماية الإسلام من الأخطار المتعددة التي تُهدده وتريد تفكيكه.
كان إذاً من الضروري, التَصَدِّي لأَسْوَأْ «أعداء الدِّين», أولئك الذين يتحدثون باِسْمه, بمَن فِيهم شيوخ الطرق الذين غلبهم الطمع, ويَسْتَغِلُّونَ سذاجة الشَعْب المغلوبِ على أمره.
إذ شكَّلوا هدفاً مختاراً لجريدة الشيخ العَلَاوي "البلاغ الجزائري", وخاصةً أنَّهُمْ كانوا يذيعون وسط الأغلبية الأمية, جراثيم الشعْوَذَة, وَالخرافات, وبَعْضَ الممارسات التي غطت شيئا فشيئا, الإيمانَ الحقيقي بسلوكيات الجاهلية, مثل عبادة القبور.
التأثير الغربي, مع كل السلبيات التي يَحْملها, لم يَغِبْ عن هجمات الشيخ الشديدة. ثُمَّ إنَّ التجنيس كان يُمَثِّلُ خَطَراً حقيقيا وخسارة أكيدة للهويَّة الإسلامية, لأنه يمسُّ بالإيمان وقانون الأحوال الشخصية للمواطنين. لأنه من اللحظة التي يتمتعون فيها بالجنسية الفرنسية فإنهم يَخْرُجون من إطار قانون الشريعة الإسلامية ويطبق عليهم القانون الفرنسي الذي لديه أكثر من نقطةِ تناقض مع الشريعة الإسلامية.
كثيرا ما كانت مواضيع البلاغ الجزائري تكتسِ صيغةً أدبيةْ, حيث يمكن القول أنها كانت تَحْمِلُ همّاً ثقيلاً. كان الأسلوب واضحا, يوقظ ويثير المشاعر, التي كانت غافية شيئاً ما.
أيها الشعبُ الذي لَمْ يَخُنْ أبداً, العَهْدَ مع اللَه. كُنْتَ تُضَّحِيي دائماً مِنْ أجلِ هذه الأمانة المقدَّسة. أَيُمْكِنُكَ التَضْحِيَةَ بِمَاضيكْ ؟ والبَيْعَ بالرَخِيصِ الكثيرَ منَ المزايا ؟ أو السماحِ لِحَدِيثِيْ النِعْمَةِ ذَوِي المَصَالِح, فِعْلَ ذلك ؟
كان الإدمان على الخمر, آفةً اجتماعية أخرى. إذ كان المجتمع الجزائري ملغوما. لما أصدر وزير الحربية مرسوما يحظر فيه استهلاكَ المشروبات الكحولية على الجنود المسلمين, لَمْ يَتَرَدَدْ الشيخْ العَلَاوِي, لمراسلته ببرقية, بما أن هذا الموضوع كان يشغله كثيرا.
بِاسْمِ شخصياً. وبِاسْمِ المسلمينَ الجَزَائِرِيِينْ, نُهَنِّئُكُمْ على جهودكم لمَنْعِ المشروبات الكحولية. آملا في حكومتكم تمديد هذا الإصدار, لجميع السُكَّانِ في المستقبلِ القريب.
إنَّ آفةً الإدمانِ على الخمرْ, كانت في حقيقة الأمر, من الأشكال المتعددة للتقليد الأعمى. وإحدى الوجوه من تغريبِ العقولِ وفسادِ الأخلاقْ. وتغييرِ طريقةِ التفكيرِ بالنظرِ إلى الأشياءِ والإحساسِ بها بصفةٍ عامةْ.
كَمَا كان انتشار عادة وضع القُبَّعَة على الرأس ولَبْسِ البَنْطَلونْ, من أعراض الشخصية. ومن الواضح أن التَخَلِّيِي عَنِ اللباس التقليدي الذي يُذَكِّرُ بالبيئة النفسية, واعتماد المَلَابِسَ الحديثة, كان يعني التخلِّيِي عن الهوية الثقافية, أو ببساطةٍ فصلَ جزءٍ محددٍ, من الإرث التاريخي والثقافي.
كانت مكافحة الاتجاهات النابذة تَمُرُّ حتماً عن طريق الدفاعِ عن الإسلام. فكثيرا ما كان الشيخ ينادي بالعودة إلى إسلام الصحابة, إلى إسلامٍ قريبِ العهدِ من النبوة, الذي لَمْ يَتَجَمَّدْ بعدُ من أعمال الفقهاء الذين أتوا من بعد.
ثم إن اللغة العربية كانت مُهْمَلةً وفي آخر قائمةِ انْشِغَالاَتِ الهيئةِ التربوية للاستعمار الفرنسي. فكان الشيخُ العَلَاوي من السبَّاقين الذين نادَوْا لإدراجها و تجديدها. ولفهم القرآن والحديث كان لا بدَّ من معرفةِ اللغةَ العربية.
فكانت جريدةَ البلاغ الجزائري, تَجْتَهِدُ و تَبْذُلُ كُلَّ طاقتها, لِتَصِلَ في النهاية إلى الاستياء من الانحطاط الفكري, وخاصةً من بعض التجمعات الفكرية الجزائرية, التي كانت تطالب بالاندماج مع وطن المستعمر فرنسا, وعلى رأسهم »فَرْحَاتْ عَبَّاسْ».
إذا كان استنتاج المُضَلِّلِين أَنَّ الشيخَ العَلَاوي, رجلاً جاهلاً ورجعياً, فهذا التفكير خاطئْ, وظالم. لا أحد من معاصريه اتهمه بذلك. في الحقيقة كان الشيخ منفتحاً إلى درجةٍ عاليةٍ من أن يدعو إلى الجاهليَّة أَوْ الرَجْعِيَّة.
رَأَى الشيخَ العَلَاوي, أنه يجب على كل مُسْلِمٍ أن يكون على عِلْمٍ باللُغَات. كان يوصي بالتعليم ويُشَجِّعُ الإهْتِمَامَ بالعِلْمْ, مثلما اهْتَمَّ المسلمون في العصور الأولى بالحضارات القديمة مثل اليونانية والفارسية.
لماذا تريدون مِنَّى نحن المعاصرون للحضارة الأوروبية, ألاَّ نَهْتَمَّ بِهذه الحضارةِ الرائعة؟. من نَاِحيَتِي... فإنه لا يَمُرُّ يوماً بدونِ مَا أَنْ أوصِي أتباعِي بإرسالِ أطفالهم إلى المدارس لكي يتعلموا اللغةَ الفرنسية, على قيادة السيارة.
ثم إن استيعاب الأعمال الرائعة لعلم الآلات, لا يتعارض مع الدِّيْن ولا يمنع الإنسانَ من الوصول إلى أعلى القمم في العلم. وهو «أي علم الآلات» كالمرشد الذي يبذل قصارى جهده ليرفع الإنسانَ إلى الأفضل, ويُدَمِّرُ في نفس الوقت غرائزَه السَيِّئَة. ما نقوم به سوى أننا نوطد مبادئ إبراهيم, سليمان, عيسى ومُحَمَّدٍ صلوات الله وسَلامُه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينْ.
كَانَ فِقْهُهُ المعاصر, على درجةٍ من الإقدامْ, مِمَّا أَرْبَكَ جميعَ علماءِ عَصْرِه. ففي الأزهرِ الشَريِفِ مَثَلاً, وَقَعَ سَنَةَ 1931, الموافق لـِ 1349 من الهجرة, جَدَلاً حادًّا حول ترجمةِ القرآنِ الكريم إلى اللغةِ التركية. فَكُوِّنَتْ لجنةً فرعيةً خاصةً من العلماء, فقطْ لحَلِّ هذه المشكلةِ الشائكة. فبعد مناقشاتٍ طويلة, خَرَجَتِ اللجنةَ بقرارٍ أنَّ ترجمةَ مَعَاني القرآنْ, جائزةً على شَرْطِ أَلَّا تأخذَ هذه الترجمةْ عنواناً لها «بالقرآنِ», وإنَّ استنساخَ كلماتِ المُصْحَفِ كلمةً, كلمةْ, غيرُ جائز.
في سَنَةِ 1930, الموافقِ لـِ 1342 من الهجرة, تحديداً, أَيّْ سنةً واحدةً قبل القَرَارِ «التاريخي» لجامعة الأزهر. أقَرَّ الشيخُ العَلَاوي, أنه لا يرى أيَّ مَانِع مِنْ ترجُمَةِ مَعَانِي القرآنِ إلى الفرنسيةِ أو إلى الأمازيغية... ومن المعلوم أن نظام قراءة القرآن له ضوابطُه العلمية. لكنْ لانْتِشَارِ كِتَابِ الله, على نطاقٍ أوسع, يمكن تجاوز الكلمةِ لبقاء المعنى. وحُجَّتُهُ في ذلك... «أن كلَّ إنسانٍ, موهوبِ العقلْ, من حقِّهِ الاتصالْ المباشرْ مع كِتَابِ الله. ولا يَجِبُ حَجْبُهُ عَنْهْ, لِجَهْلِهِ اللُّغَةَ العربية».
بَلْ أفضل من ذلك. أفتى خلافا لرأي كل الفقهاء التقليديين «أن الشهادة في غياب معرفة اللغة العربية, يمكن أَنْ تُلَقَّنَ بِلُغَةٍ أخرى, لأن الهدف مِنْ ذلكْ, هو الاعتراف بوحدانيةِ الله وبرسالة سيدنا مُحَمَّدْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ»
لِنَشْرِ الإسلام وإعادة مكانته ومجده في قلوب الناس مثلما كان عليه في الماضي, استوجب اقتران جهود جميع أصحاب النوايا الحسنة, المدافعين عن الهوية الثقافية, والمحافظين على شخصيتهم, خوفا من أي تفككٍ للمجتمع الجزائري على يد السلطات الاستعمارية, وأصحاب فكرة الاندماج في المجتمع الغربي. فنتجت عن هذه الإرادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ما يجهله المؤرخون الجزائريون قاطبة, هو لما وقعت فكرة الجمعية في بال أحد أثرياء الجزائر العاصمة, من أَصْلٍ أمَازِيغِي, واسمُهُ عمر إسماعيل, فَاتَحَ بها رئيس تحرير جريدَةَ البلاغ الجزائري, التابعة للشيخ العلاوي, وكان رئيسها آنذاك «محمد المهدي» الذي من جانبه تَكَلَّمَ مع الشيخ العلاوي, والذي بِدَوْرِهِ اعْتَبَرَ أنَّ الفكرةَ جيِّدَةً, وتبناها.
فكانت جَرِيدَتُهُ الأسبوعية, الوسيلةَ التي أُتِيحَتْ لَهُ للتعريفِ بالمشروعْ. فالبلاغ الجزائري هي الجريدة الوحيدة, من بينِ الصحف الجزائرية التي أشادت بفوائد تأسيسِ جمعية من هذا النوع... حتى استجاب لها مجموعةً من العلماء.
وَقَعَ في صدر العلماء, الذين استجابوا للدعوة آنذاك, تخوفاً على مصير ومستقبل الجمعية. وَخَشَوْ أن تكون أداةً بين أيدِ شيوخ الزوايا. فَلِذَا... عند موعد المجلس التأسيسي, رَتَّبُوا ترتيبا استراتيجيا يتلخص منه أَنْ يَكُونَ أكثرَ عدداً من شيوخ الزوايا. وعُيِّنَ الشيخُ, عبد الحميد إبْنْ باديس, من طرفِ الجمعية رئيسا لها.
أمَّا من جانبِ شيوخ الزوايا, فَلَمْ يحظر مِنْهُمْ سوى ثُلَّةٌ من الرجال. إلى الآن, مازالَ دَوْرُهُمْ مُتَجَاهِلٌ من طرفِ المؤرخين. من جانب الزاوية العَلَاوِيَة, حَضَرَ في المجلس التأسيسي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين : الشيخُ أحْمَدْ العَلَاوي.
من الواضح أنَّ ابْتِدَاءاً من هذا اليوم, انتقلت الجمعية بين أيدِ الإصلاحيين و ليس العلماء... وتظهر كل يومٍ بثوبٍ إصلاحيٍ جديد لدرجة أنها أصبحت إحدى الجمعيات الوهابية المَحْضَة.
إنَّ فَشَلَ هذه التجربة المقترنة بالجهود بين مختلف التجمعات الإيديولوجية المسلمة, لم تهزمْ قوةَ وَإرادةَ الشيخ العَلَاوي. حيث استَمَرَّتْ مجلته الأسبوعية, الأداةَ الوحيدة والتي كانت تُعْتَبَرُ الصحيفة الأقوى سحباً في الجزائر, وَتُقْرَأُ في كل الأصْقَاعْ. وبعدَ ذلك بعام, كان التفكك النهائي مع الإصلاحيين. فأسس العلماء من أهل السُنَّة والجماعة, جمعية علماء السُنَّة في الجزائر.
لبقاء الإسلام في أوروبا والانتشار بها, كَمَا كان عليه في الماضي, ليس بقوة السَيْفْ, ولكن بالرِفْقِ والكلمة الطَيِّبَة التي هي «كشجرةٍ طَيِّبَةٍ, أصْلُهَا ثَابِتٌ, وَفَرْعُهَا في السماء». فكانت الأَوْلَوِيَة استعادة المهاجرين المسلمين في فرنسا, الذين يعملون في ظروفٍ, من المحتملِ, ليس فقط أن تبعدهم عن دِينِهِمْ, بَلْ تجعلهم يَتَجَاهَلونَهْ. هذا هو الهدف الفوري بالنسبة للشيخ العَلَاوي, الذي قرر تنفيذَه.
في العشرينيات, أيَّا مُسْلِمٍ تتوفاه المَنِيَّة في فرنسا, لا يَحِقُ لأُسْرَتِهِ إعادةَ رفاته. في حينٍ كان مُجْبَراً عَلَيْهَا دفنَه بالدِيَارِ الفرنسية, وذلك لموقف السلطات الفرنسية, التي تَمْنَعُ منعا باتا نقل الجثمان خارج أراضيها. مما دفع الشيخ العَلَاوي, بطلبِ تخصيصِ مقبرةٍ للمسلمين. وانصاعت فرنسا لطلبه وأنشأت المقبرة الفرنكو إسْلَامِيَّه. وَدُشِّنَتْ مَا يُقَارِبْ 3 سَنَوَاتْ, بَعْدَ رَحِيلِهْ.
أما ما يخص المبادرة الثالثة فقد قدم طلبا بإنشاء مستشفى خاص بالجالية المسلمة وتم بالفعل إنشاءه وسمي بالمستشفى الفرنكو إسلامي, ودُشِّنَ 8 شهور بَعْدَ رَحِيلِهْ.
في عامِ 1924, الموافقِ لـِ 1342 من الهجرة, كان عَدَدَ الأتباع العلاويين العاملين في ميادين بناء السكك الحديدية, وتوفير وسائل النقل العام في المدينة من مترو الأنفاق, كبيرا.
في تقرير مجلس النُوَّابْ الفرنسي, أتى بالآتي ... إن أتباع الشيخ السيد العلاوي, هُمْ أشخاصٌ يعتنون بنظافة أنفسهم, ويَعِيشُونَ حياةً سليمةْ, فهُمْ مُهَذَّبُونَ أخلاقياً, و تعاليمُهُمْ تَدْعُ إلى محبة الآخَرِين.
وبما أن هؤلاء الأشخاص كانوا يطلبون مكانا للاجتماع لغرض الصلاة والذِكْرْ, فكان تقرير غرفة النواب يَصُبُّ في هذا الاتجاه. مِمَّا شَجَّعَ مشروع بناء أوَّلَ مسجدٍ بباريس. وافتتحه الشيخ العلاوي, في يوم الخميس 15 تموز, يوليو 1926, الموافقِ لـِ 4 مُحَرَّمْ 1345 من الهجرة, حيث قام بإلقاء خطبة الافتتاح. أمَّا خطبة الجمعة فقد وُكِّلَتْ للشيخِ أحمدْ سُكَيْرِجْ التيجاني.
من جهة أخرى, وُكِّلَتْ إلى المندوبين العَلاوِيين, ذَوِي الأَصْلْ الأوروبي, مهمةِ إلقاء الضوء على الإسلام في أوروبا. لأن بعض العقول المخربة كانت تُرَدِّدُ أن الإسلام دِينَ تَعَصُّبٍ وَدِينٌ دَمَوِّي. كان إذاً على المندوبين التحدثَ مع الجميع, دون تمييزٍ بين العَرْقِ أو الجِِنْسِ أو الوضعِ الاجتماعي. عَلَيْهِمُ التحدثَ مع مختلف الشعوب عن الإسلام.
من الأكيد أن المُبَشِّرِين بالمسيحية في شمال إفريقيا «الآباء البِيضْ», كانوا على أكثرِ الترجيحْ, سُعَدَاء بعملهم في بلاد القبائل, مما جعلهم يُمَثِّلُونَ خَطَراً حقيقياً على الهوية الإسلامية للقبائل الأمازيغية.
وإذا كان الشيخ العلاوي, ومن خلال جريدة البلاغ قد هاجم هذه الهَيْأَةِ التَبْشِيرِيَّة, الناقلةِ لجراثيمِ التَفَكُّكِ الروحي لِهَوِيَّةِ القبائل الدينية من جِهَةْ, فإنه من جهة أخرى كان يدافع عنهم عند الحاجة, حيث كان يقول...
«في الواقع إن الغالبية من هؤلاء لَيْسُوا حتماً, أَدَوَاتٍ سياسيةٍ لِحُكُومَاتِهِمْ. إنهم غيرُ راضين عن سياسةِ الاستعمارِ الانتهازية, ويَحُثُّونَ بلدانَهُمْ بالتخلِّي عن المكاسب المادية لتكريس الجهود بكل جدية في سبيل معالجة المشاكل الأخلاقية التي تعاني منها الشعوب المستعمرة.»
كان الشيخ العلاوي, بَعِيدٌ كلَّ البُعْدِ عَنِ الآراءِ المتطرفة التي تَنْقُلُ أفكاراً عدائيةً تِجَاهَ المسيحيين. بَلْ كَانَ يُرِيدُ صَدَاقَتَهُمْ.
«لَّوْ وَجَدْتُ مجموعةً من الأشخاص التي تترجم عَنِّي إلى العالم الأوروبي, فإنه سيعجب الجميعُ, حين يُدْرِكُ أنَّهُ لا شيءَ يُفَرِّقُ بينَ الغرب والإسلام.»
ليس لأنه كان يرغب في اتّحادٍ تَوْفِيقِيٍ بين المسيحية والإسلام, كَمَا كَتَبَ ذلك «بْرُوسْتْ بِيرَابَنْ», الذي صَرَّحَ أن الشيخ كان يدرس مَعَ قِسٍّ كاثوليكيٍ مِنَ البَيَّض, الوَسَائِلِ التي تُوَّفِّرُ الانْسِجَامَ بين الإسلام والمسيحية.
ولكن بما أنه كان يَكُنُّ احتراماً عميقاً لأهل الكِتَابْ, كان يبحث عن توافقٍ في الحوارِ بين الفرنسيين الكاثوليك والمسلمين. حيث طلب من النصارى التَخََّلِّي عن التثليث والتجسيد. فإن تَمَّ ذلك, فَلَا شيء يُفَرِّقُ بَيْنَنَا أبَداَ.
وَقَعَ هذا الحوار, في حقيقة الأمر, بين الشيخ والقِسّْ «جِيَاكُوبِيتِي» على جسر الباخرة في تموز, يوليو 1926, الموافقِ لـِشَهْرِ مُحَرَّمْ 1345 من الهجرة. حيث كان الشيخُ مدعوا لحضورِ افتتاح مسجدِ باريس, والآخر وُجِّهَتْ لَهُ دَعْوَةً لِيُلْقِي مُحَاضَرَةً بِلُوفَانْ بِبَلْجِيكَا حول الطرق الصوفية في الإسلام.
يقول القِسّْ «جِيَاكُوبِيتِي» في رسالته... وَجَدْتُ الشيخَ جالساً على جِلْدِ الغنم, في مكانِ الهَزَّاتِ على جِسْرِ الباخرة, التي تَنْقُلُنَا إلى مرسيليا. وفي إطار الحديث قُلْتُ لَهُ إذا أراد أن يكون هذا السلام مع المسيحيين, كان عليه ألاَّ يطالبَهم بالانتحار. لأنه يعني أَنْ يَنْتَهُ من أَنْ يَكُونُوا مسيحيين, إذا تخلوا عن هذين السِرَّيِنِ الرَئِيسِيَيْنِ في دِينِهم... ثم تَفَارَقْنَا على حُسْنِ الوداد.
لَّمْ يَكُنِ الشيخَ العلاوي يأكلُ إلاَّ قليلاً منَ الطعام. كانت من عادته شَرْبَ لِترٍ واحدٍ من الحليبِ وبَعْضَ حَبَّاتِ الثَمْرِ الجَّاف. ولكن في الأعوامِ الأخيرةِ من عمرهِ لاَ يأكلُ إلا إذا اشتدت الحاجة المُلِحَة للأكل, لأنه لم يكن يجد في نفسه الحاجة إلى ذلك.
إضافةً إلى ذلك نَجِدُهُ يقولْ: "أَنَّ أكْلَ اللَّحْمَ جَرِيمَة. وأَمَّا, النَبَاتْ فَهُوَّ ذاتُهُ اعْتِدَاءً عَلَى الحَيَاةْ. يجب امتداد الأُخُوَّةَ الإنسانيةَ نَحْوَ الحَيَوَانْ والنبات. وإنه من الضروريات الفظيعة أنْ لاَ تستطيعَ الحياة في الاستمرار إلا على حساب الأشياء الحية. أَّنْ تَقْطِفا زَهْرَةً هِيَّ قِمَّةُ القَسْوَةْ
في آخر عمره, وَصَلَ الشيخَ العلاوي إلى نوعٍ من فِكْرِ ما يمكن مُقَارَنَتُهُ بِفِكْرِ "تولستوي". "حيث الاستسلام للألم يتلوَّن بالرحمة... بالرقة والعناية اتجاه الآخَرِين... منهم الحيوان والنباتُ أيضا..."
كان على علمٍ أن لحظةَ انتقالهِ قريبة, ولكن على الرغم من اقترابه من الشيخوخة ونحوله المزمن وإصابته بمرض الرّبو, كان يتابع في تربية تلامذته واستقبال تلاميذَ جُدُدْ و الحديثَ معهم. ولكن لضعف القوى كان لا يطيل حضوره بَيْنَهُمْ. ضَعُفَ قَلْبَهُ, وَأَصْبَحَتْ نبضاتُهُ غيرَ منتظمةْ. وخلالَ عام 1932 الموافق لـِ 1351 من الهجرة, أصِيبَ بِنِصْفِ غَشَيَانْ.
عندما وَصَلَ الطبيب «مارسيل كاري» بكُلِّ استعجال, كان نَبْضُ قَلْبِ الشيخ شِبْهَ غائب. بعد هذا الإنذار, تتابعت إنذارات أُخرى. فخلال تلك "السكنات القلبية" كان الشيخ يقوم بالتدريس من جديد, ويباشر توجيهاته الروحية.
يقول الطبيب «مارسيل كاري» يبدو أنه يتطلع إلى النهاية و ينتظرها بشَغَفْ. كل حياته الباطنية الحادَّة لا تظهرُ إلاَّ مِنْ خِلَالِ لَمْحِ بَصَرِهْ. الجسم يبدو وَكَأنَّهُ أكثر مِنْ أيِّ وقتٍ مضى, يَكَادُ يَذوبُ من لحظةٍ إلى أخرى. في صباح أحد الأيام, دعاني الشيخ. لم يبدو في حالة سيئة كالأيام السابقة, ولكنه قال لي :
- « هذا هو اليوم. أَعِدْنِي ألاَّ تفعلَ شيئا, واتْرُك الأمورَ تنقضي .»
أوضحتُ له أَنَّه لا يبدُو لي, أكثرَ سوءا من أمس. ولكنه أصر
- « أعرف أنَّهُ, هذا هُوَّ اليوم. ومن الضروري, أن تتركَني أنتَقِلُ إلى الرفيق الأعلى.»
تَرَكْتُهُ وأنا كُلِّيِ إعجاب. لكن كنت على شيءٍ من الرَيْبِ من ذلك. لأَنِّيِ شاهدتُ ذلك مرارا, عندما يكاد يفقد الحياة ثم تَرْجِعُ إليه. وهكذا سيكون هذا اليوم مثل المرات السابقة.
بعد ساعتين من زيارة الطبيب, انتقل الشيخ إلى الرفيق الأعلى. استهلكت المشكاة كل ما بَقَى لها من زيت. وانطفأ النُورُ صباحَ يومِ السبتْ 14 تموز, يوليو, 1934 الموافق, للأوَّلِ من ربيع الثاني 1353 من هجرة نبينا عليه الصلاةُ و السلام.
صورة تعبيرية للشيخ العلاوي
"كان عليه جِلْبَابٍ بُنِّيٍ وعلى رأسه عمامةً بيضاءْ. مع لحيةٍ فضية, ونظرةٍ مطَّلعة, وأيادي طويلة كأنها ثَقُلَتْ بفعل تدفق بركاته"
"كان مظهره يُوحِي, بِضُعْفِ القوى"
"يُمْكِنُنِي أَّنْ أُضِيفَ, أَنَّنِي وَجَدْتُ نَحَافَتَهُ قَلِقَةْ"
"كان صوته وديعٌ للغاية. كأنَّهُ شِبْهُ مَحْجُوبْ. ولا يتكلم إلا قليلا, وفي جُمَلٍ قصيرة... بصوتٍ كأنَّهُ زُجَاجٌ مُتَصَدِّعْ. يُلْقِي كَلِمَاتِهِ قَطْرَةً قَطْرَةْ. وكانَ لِصَوْتِهِ نَبْرَةَ اسْتِسْلَامٍ وَزُهْدْ. وبدا لي أَّنَ الأفكارَ التي يَنْقُلُهَا لناَ صَوْتُهُ, كَأنَّها تَجَلِيَّاتٍ رَقيقَةٍ وشَفَافَةٍ جِدًّا"
"كان يُذَاكِرُ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ وبالنَظَرِ لأَخْلَاقِهِ. يُخَيَّلُ لِلْفَرْدِ أَنَّهُ المَحْبُوبَ الوَحِيدَ عِنْدَهُ. وقدْ سَمِعْتُ مِنْهُ نُكَتاً وَأَسْرَاراً وَأَحْكَاماً يَسْتَخْرِجُها مِنْ كَلَامِ اللهِ ويُنْزِلُهَا على حَسْبِ الأَحْوَالِ الزَمَنِيَّةِ بالرَغْمِ مِنْ مَرَضِهِ المُتَوَالي."
"لا يقولُ البتة كلاما لا جدوى منه"
"كان يَنْبَعِثُ منه إشعاعاً استثنائياً وجاذبيةً لا تقاوَم. نظرته الذكية والمستنيرة لها جاذبيةٌ فَرِيدَة, تكشف عن مهارة طبيب القلوب, والقوة الخالصة الوثيقة التي يتمتع بها. إنه لطيفٌ جِدًّا ومُهَذَّبٌ ومتواضع. جميع أحوالِهِ تشير إلى أنه ميالٌ للتسامح. قَدْ حَقَّقَا, بشكلٍ يثير الإعجاب, مغزى الولي الصالح, العارف بالله. نشعر من جانبه إرادةً صلْبَة, وحِدَّةً لطيفة, والتي في لحظاتٍ قليلةٍ يَنْهِي من خلالها موضوع حواره. أمَّا إذا ظهر منه حماساً مُفْرِطاً, فيظهرُ لي أنَّهُ ليس ذلك كُلُّهُ مُنْبَعِثٌ مِنْ عِلْمِ الباطنِ أكثرَ مِنْ إشعاعه الخاص"
"إن الإشعاعَ الذي يَنْبَعِثُ مِنْهُ عندَ قُدُومِهِ على جُلَسَاءِهِ, جَليٌّ, إلى دَرَجَةٍ أَنَّهُ لَمَّا يُغَادِرُهُمْ, بِإِمْكَانِهِ جَذْبُهُمْ مِنْ وَرَاءِهِ إلى الشارعْ, بِشَكْلٍ لاَ يُمْكِنُ مُقَاوَمَتُهُ"
"وكان قدِ انتهى من استعمال سِيدي محمَّد «ابن أخته» كمترجمٍ في محادثتنا الخاصة. ومع ذلك كان هذا الأخير دائما متواجدا عند كل اجتماعٍ لنا. كنا نتحدث عادةً بالفرنسية ولم يكن سِيدي محمد ليتدخل إلاَّ إذا وجد الشيخ نفسه عاجزا عن إبداء رأي مُعَيَّنٍ لَهُ بِلُغَتِي."
"كان فضوله الفكري يَنْضُجُ كلَّ يومٍ إلى أن تلفظ أنفاسه الأخيرة. كان أَحَدَ المتحمسين لتقصي الغيبيات. جاب كلَّ المسائل وقليلا منها التي لم يتطرق لمعالجتها. يؤججها بِلَوْنٍ أرجواني بمنطقه الرشيق والطفيف. كان كلامه الفلسفي الأفلاطوني أنيقاً للغاية ورائعاً في نفس الوقت. وكان فِكْرُهُ مُنْدَفِعاً ومُتَأَلِّقاً في غايةِ التفاوت. يَحِلُّ بضربةٍ من جناحٍ في مناهجٍ صعبة. ومن شِدَّةِ تَحَمُّسِهِ للأفكارِ كانَ يَفْرِضُ ذلكَ عَلَيْهِ أَّنْ يُهَدِّأَ مِنْ حماسِهِ لها, ويُوَفِّقَ ما بَيْنَهَا, ثُمَّ يَجْعَلُهَا فِي تَرْكِيبٍ, فَسِيحَ المَعَاني."
" لديه معرفةً واسعةً وبلاغةً فريدةً وثاقبة ".
" تَحَصَّلَ حتَّى عَلَى حُبِّ المُرَاقِبِينَ لَهُ, الذِينَ اتَّصَلُوا بِهِ لِلْتَجَسُّسِ عَلَيْهِ عَنْ قُرْبْ. فَعَادُوا مُنْبَهِرِينَ, مُتَحَلِيِّينَ بِلِبَاسِ العَقِيدَةْ, مُقيَّدِينَ هُمْ الآخَرينَ أَيْضًا بِهَذَا الأَثَرِ مِنَ الرُّوحِ, الذِي ذَهَبَ الشَيْخُ بِسِرِّهِ "
الشهادةَ الغيرَ المُعْتَرَضِ عليها للقِّسْ جياكوبيتيي, التي يجب إثباتها من بين أمورٍ أخرى, والتي تتعلق بالطريقة التي كان الشيخَ العلاوي يَجْلِسُ عليها, والتي تتطابق تماما هي الأخرى مع التجرد, المتعلق بالإطار الذي عاش فيه الشيخ جُلَّ حياته, والتي نقل لنا بشأنها الطبيب مارسيل كاري, وصفاً دقيقاً...
"كانت الحجرةْ التي أُدْخِلْتُ إليها, مثل غيرها من الحُجُرَاتِ في بُيُوتِ المسلمين, عاريةً من الأثاث ولم يكن بها سوى صندوقين «عَرَفْتُ فيما بعدْ أنهما كانا يحويان كتباً ومخطوطات». والأرضية كانت مغطاةً بالسجَّاد والحصائر وفي ركن من الحجرة جلس الشيخ على سريرٍ مفروش على الأرضِ مباشرةً".
من هذه الخلوة, كانت تنبعث بوفرة, هالة من المحبة التي كانت تصل بالأولوية إلى أتباعه المريدين. يوما ما, بينما كان الشيخ منشغلا بالقراءة, دَخَلَ عليه أحد أتباعه وذَكَرَ له أن أخاً لَهُمْ قام بعملٍ خطيرٍ. اسْتَمَرَّ الشيخُ في القراءة, لكنَّ التلميذ أَصَرَّ. تابع الشيخ القراءةَ ثانيةً, فأصر التلميذ بكل قوَّاهُ لتبليغِ الوضعَ المستنكرَ لأخيهِ المخطئ ثم فجأةً, وضَعَ الشيخَ العلاوي الكِتَابَ على رُكْبَتَيْهِ وتَرَكَ نَظَارَتَهُو ونَظَرَ إلى تِلْمِيذِهِ وسَأَلَهُ :
"لمَّا ينامُ أخاك على حافة الطريق. وتَقُومُ الرِّيحُ بِتَحْرِيكِ قَمِيصِهِ وتَكْشِفُ عَنْهُ عَوْرَتَهْ. هَّلْ تَسْتُرَهُ وَتُسْدِلَ عَلَيْهِ قَمِيصَهْ, أَمّْ تَرْفَعَهُ لِتَكْشِفَ عَنْهُ أَكْثَرْ؟ فَرَدَّ التلميذُ بِخَجَلْ: أَسْتُرُهُ سَيِّدِي, فقال له الشيخ: إذاً أُسْتُرْ, أُسْتُرْ أَخَاكَ, أُسْتُرْ"
حتَّى معارضيهِ, وأعداءِهِ هُمْ الآخَرِين, وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ مُعَرَّضِينَ, رَغْماً عنهم لهذه المحبة. رئيس تحرير جريدة "الشهاب", عبد الحميد ابن باديس, الذي لم يَرْفَقْ بالشيخَ العلاوي في جريدته, ولم يَكُنْ يَدَعِ أَيَّةَ فُرْصَةٍ ويَسْتَثْمِرَ كُلَّ مُناسبةٍ لانْتِقَادِ الشيخَ العلاوي. لأن بالنسبةِ لابن باديس جميع شيوخ الزوايا مِلَّةً واحدةْ. وفَصْلَ "الحنطةِ من الزُّؤَانُ" لا يُشَكِّلُ جُزْءاً مِنْ شواغله الرئيسية.
إذاً كثيراً مِنَ الأحيانِ كانتْ تَتَّجِهُ سِهَامُ "الشهابِ" نَحْوَ الزاويةِ العلاويةِ بمُسْتَغَانِمْ, بهجماتٍ قلَّمَا تَخْلُو من شِدَّةِ العُنْفِ والذي دَفَعَ جريدةَ "البلاغ الجزائري" بالرَّدْ. يوما ما, جاءت مُنَاسَبَةً غير منتظرة. تَلَقَّى الشيخَ العلاوي وكذلك ابن باديس دعوتان لحضور عرسٍ بمُسْتَغَانِمْ, ووجدوا أنفسهم وجها لوجه. كان ذلك في عام 1931 الموافق لـِ 1350 من الهجرة. فاستضاف الشيخَ العلاوي مُعَارِضِهِ إلى زاويته. فَقَبِلَ إِبْنَ باديسَ الدعوة. ويمكن لنا قِرَاءَتَا مَا جَاءَ في جريدة "الشهاب", ما آعْقَبَ عن هذا الاجتماع :
"دعانا الشيخ سَيِّدِي أحمد بن عَلِيوَة إلى العشاء. فَلَبَّيْنَا دَعْوَتَهُ شاكرين. وفي حفلة العشاء التي حَضَرَهَا من أعيان البلد ومن تلامذة الشيخ ما يناهز المائة. وبالغ الشيخ في الحفاوةِ والإكرام، وقام على خدمَةِ ضيوفه بنفسه، فملأ القلوبَ والعيونْ, وأطلق الألسنةَ بالشكر. وبعد العشاء قرأ القارئ آيات. ثم أخذ تلامذة الشيخ في إنشاد قصائد من كلام الشيخ ابن الفارض, بأصواتٍ حسنةٍ، ترنحت لها الأجساد. ودارت في أثناء ذلك مذاكرات أدبية في مَعَانِي بعض الآيات زادت المجلس رونقا. ومما شَاهَدْتُهُ من أَدَبِ الشيخ وأُعْجِبْتُ به, أنه لم يتعرض أصلاً, لمسألةٍ من مَحَلِّ الخلافِ, يوجبُ التَعَرُّضَ لها, على أَنْ أُبْدِي بِرَأْييي وأدافعُ عنه. فكانت محادثَاتِنَا كُلُّهَا في الكثيرِ مِمَّا هُوَّ مَحَلِّ اتِفَاقٍ دُونَ القَلِيلِ الذِي هُوَّ مَحَلِّ خِلاَفْ. وانصرف المدعوون ونحن من جملتهم, شاكرين فضلَ حَضْرَةِ الشيخِ, وأَدَبِهِ ولُطْفِهِ وعِنَايَتِهْ. كما شكرنا أدب تلامذته وعنايتهم بضيوف أستاذهم, وخصوصا الشيخ عَدَّةْ ابْنَ تُونَسْ, تلميذَ الشيخِ الخاص."
لكي نتأثر بمثل هذه الآداب أمام أحد أبرز الخصوم, من الضروري أن يتوفر أكثر مما يعرف بالدبلوماسية, من البراعة في التعامل, من الذكاء, يجب أن يكون القلب مسكونا بالحب وانه لم يكن رد "البلاغ الجزائري" موجها لشخص ابن باديس نفسه.
حتى الغير مسلمين شاهدين على هذا الحب. عندما ذهب الطبيب كاري لعيادة الشيخ لأول مرة, يقول : "أحضر أحد التلاميذ صينية كبيرة من النحاس عليها بعض الكعك والشاي تنبعث منه رائحة النعناع, ولم يتناول الشيخ شيئا بل دعاني إلى شرب الشاي ثم نطق بالبسملة نيابة عني عندما هممت برفع الفنجان إلى شفتي".
طلب البركة أي «الفيض الإلهي» لغير المسلمين, أليس ذلك تعبيرا صامتا عن حب عميق صادق لشخص لا يعرفه بعد. لا أحد يمكن له أن يقول أنه ربما كان ذلك من حسابات الشيخ لطلب البركة للذي جاء لمعالجته كرمز جزائي. ولكن شهادة الطبيب صريحة : "لم يرسل في طلبي لأصف له دواء لحالته كما قيل لي, سوف يتناول بكل تأكيد الدواء لو أنني رأيت أن ذلك ضروري ومفيد وحتى لو اعتقدت أن هذا سوف يعمل على تحسين صحته ولكنه لم تكن له أيه رغبة قوية في هذا. كان يريد أن يعرف بكل بساطة ما إذا كان ذلك المرض الذي ألَّم به منذ أيام قليلة مرض خطير من عدمه. وقد اعتمد علي في أن أصارحه وألا اخفي عنه أي شيء فيما يتعلق بحالته,أما ما عدا ذلك فقد كان في نظر ألشيخ قليل الأهمية أو معدومها". بالطبع هذا الحب كان يستبعد في نفسه كل لون من أشكال العنف, الذي كان يبغضه.
"وازداد لذلك شغفي واهتمامي بالشيخ، أن يوجد مريض لم يفتنه العلاج والتطبيب فهذا أمر نادر حقا, ولكن أن يوجد مريض لا يشعر برغبة ذاتية في تحسن حالته وكل ما يريده هو أن يعرف موقفه من المرض ليس إلا, فهذا ما يفوق في ندرته أي شبيه آخر".
"عيناه كأنهما مصباحين مقبورين, لا يبدو أنهما يريان شيئا دون الانقطاع لشيء ما, ولكن الكل بالنسبة لهما حقيقة واحدة المتمثلة في ما لا نهاية عبر الأشياء أو ربما لا شيء في مظهر الأشياء. نظرته منتصبة, صعبة شيئا ما بسبب جموده المبهم ولكنها مليئة بالشفقة".
"وغالبا ما كانت عيناه تتسع فجأة كأنه أصابتهما دهشة أو جذبهما مشهد رائع. كأن إيقاع الأناشيد والاهتزازات وطقوس العبادة لا تفارق باطنه الذي يتذبذب بدون نهاية. في بعض الأحيان كان يهز رأسه هزاً باطنيا بينما قلبه مستغرق في الأسرار المطلقة للأسماء الإلهية أثناء الذكر. يجتابنا انطباع بحالة وهمية من ناحيته حين يبدو بعيدا عنا, مغلقا, غير مدرَك في كل بساطته المجردة".
"لا احد يستطيع التشكيك في صدقه, في أمانته الروحية. كان إيمانه فياضا ومتواصلا مع الغير في ألحان متدفقة. كان ينتمي إلى هذه الفئة من الأرواح المتكاثرة في شمال إفريقيا والتي يمكن لها أن تمر دون مرحلة وسيطة من الحلم إلى التصرف, من استحالة التقدير إلى الحياة, من التحرك العظيم للأفكار إلى النظر المجهري في سياسة فرنسا نحو سكان البلاد الأصليين".
"من أول اتصالي به, جاءني انطباع أنني أمام شخصية غير عادية".
"كان محاطا بالتبجيل الذي يجب نحو الأولياء الصالحين... كالذي أحاط الصالحين من العصور الوسطى أو نبّي من الأنبياء الساميين".
"جلس الشيخ على ذلك الفراش وكان مستندا بظهره إلى بعض المساند معتدلا في جلسته متربعا، وقد ألقى يديه على ركبتيه, كان في جلسته ساكنا سكون القديسين لأبعد الحدود ولكن ينتابنا شعور أنها جلسة طبيعية. أول ما راعني فيه هو وجه الشبه بينه وبين المسيح حسب ما اعتدنا رؤيته على اللوحات التعبيرية. فملابسه قريبة الشبه إن لم تكن مطابقة تماما لتلك التي لا بد وان المسيح اعتاد أن يرتديها, وذك الغطاء الأبيض من النسيج الدقيق جدا الذي وضعه على رأسه والذي يكتنف وجهه, منظره بوجه عام وكل شيء فيه كان يتمر على دعم هذا الشبه وإظهار هذا التطابق. وخطر لي أن المسيح لا بد أنه كان كذلك وهو يستقبل تلامذته فترة إقامته عند مارتا ومريم العذراء. تساءلت حينها ما إذا كنت ضحية خيالي. فذاك الوجه المسيحي ونغمة صوته الهادئة واللطيفة وأخلاقه الكريمة, يمكن أنها مارست علي تأثيرا ايجابيا, سمحت لي مناسبة افتراض روحانية ربما لم تكن موجودة. ربما كانت جلسته عن طوع إرادته مخضعة لتدبير ما, وتحت هذا المظهر الذي يبدو وكأنه يحجب شيئا معين أو ربما ليس هناك أي شيء. ولكن بالمقابل ظهر لي في غاية البساطة والطبيعية بحيث تمادى أول انطباعي والذي تأكد لي بعد ذلك".
هذا الانطباع كان صادقا حيث أن الطبيب كان يجهل كل شيء عن الشيخ قبل أن يراه.
"كيف يمكن لنا نسيان هذا المظهر من المفارقة التأريخية المؤثرة, هذا الشيخ المسن الناعم والعصيب في نفس الوقت, يبدو وكأنه خرج من الكتب السماوية القديمة أو من القرآن... والذي ينبعث منه شيئ من البيئة العتيقة والصافية من زمن سيدنا إبراهيم الخليل".
خلاصة
يعتبر الشيخ أحمد العلاوي بذكائه النادر الذي وصل إلى أعلى قمم المعرفة الروحية ومناهج الحكمة, وصل بفضل الله و بإرادته وخصوصا بفضل استعداداته الطبيعية, على عكس تأكيدات "أوغسطين بيرك" و "غاردي و الناواتي", الشيخ لم يسافر إلى إيران و لا حتى إلى الهند ولم يكن في هذه المناطق النائية ليطلب تعلم اليوجا و الشرب من كأس الحكمة.
فمستغانم فقط كانت مكان سلوكه و بدايته المحرقة و رسوخه في الطريق و نهايته المشرقة, لان عدد الرحلات التي قام بها لم تكن لتسمح له سوى بالانشغال ببناء و فتح زوايا جديدة, و الاجتماع بمريديه و الذين يعدون بالمئات أو الآلاف ثم تذكيرهم بمراحل سيرهم و استقبال مريدين جدد. على أية حال, لم تكن تلك الأيام كافية لتمكنه من اكتساب بعض المعرفة, ثم إن قصده الديار المقدسة للحج و الرحلة التي قطعها على نفسه في المشرق العربي لم تتعدى أربعة أشهر. أما الرحلات اللاتي قام بها في الجزائر , تونس , طرابلس , إسطنبول, قصيبة المديوني, باريس وفاس لم يلتمس فيها أية فائدة تذكر, و لم تدم سوى أيام أو أسابيع على الأكثر. ليس هناك أي فترة مبهمة من حياته بالنسبة لنا, بفضل مختلف الشهادات اللاتي تحصلنا عليها, و تفرغنا عمليا بإعادة صياغة جميع الخطوط العريضة في ترجمته.
جميع الشهادات المنبثقة بالإضافة إلى ذلك, من شخصيات مستقلة عن الطريقة تأكد على أن الشيخ لم يكن منتحلا , و أن حياته الشخصية المتواضعة كانت صفحة بيضاء لا يشوبها عيب يذكر, دون أدنى ترف و باتساع عقله و روح التسامح لديه فاجئ جميع الزوار الأجانب.
كان يحظ على نسيان الإهانات, والحاجة إلى التسامح والحب بين المسلمين , بين كل الأجناس , إن فيوضاته تجمع بالحب بين الإنسان والحيوان والنبات, ثم إنه نجح في الإرشاد إلى المحبة الإنسانية و خاصة ممارستها عالميا و كونيا.
عقل حاد, كان يستطيع التحكم بدقة فائقة في مسائل صعبة, و كان حساس لمعاناة الجميع وكان يظهر حقيقة كحامل بريق الولاية تهدف إلى صهر الانتهاكات المتجلية في جدران المبنى الكوني. ولا شك انه ليس من المبالغة إن أكدنا أن الشيخ احمد العلاوي كان من الرجال العظام الذين شهدهم القرن العشرين. بأثره الراسخ على المجتمع , و تأثيره الدائم على كل من اقترب منه, و نشره روح التسامح و تعاليمه العالمية, و كان من اكبر دعاة السلام بين جميع المخلوقات , و للأخوة المترابطة بين البشر الذين كان يرى عمق معاناتهم و التي رسخ طول حياته لاستيعابها ودعوة الناس إلى طريق الله , إلى الله , و إليه المنتهى.
باختصار, في الوقت الذي نشهد فيه الانتصار المادي الأعمى الذي يؤدي حتما إلى تدمير الجنس البشري, فإن شعلة العلم و المعرفة و النور كانت مرفوعة و مشدودة بقوة من طرف الشيخ احمد العلاوي.
ترجمه إلى العربية درويش العلاوي (أحباب الشيخ أحمد العلوي – العلاوي) رضي الله عنه كاملة من الفرنسية, وهذه الترجمة للشيخ العلاوي بقدر ما هي وافية فهي غزيرة التفاصيل عن حياته وأعماله, أنقلها لكم راجيا من المولى أن يتقبلها خالصة لوجهه الكريم ومحبة لوليه الكبير سيدي ومولاي الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي الحسني رزقنا الله رضاه, آمين. كتبها الدكتور صلاح خليفة (العلاوية والمدنية من مصادرها المباشرة إلى الخمسينات) أطروحة للحصول على دكتوراه الدولة في الدراسات العربية والإسلامية. جامعة ليون جان مولان في ليون (فرنسا).
للمراجعة : الفترة الأولى من حياة الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي بقلمه
ترجمه إلى العربية درويش العلاوي (أحباب الشيخ أحمد العلوي – العلاوي) رضي الله عنه كاملة من الفرنسية, وهذه الترجمة للشيخ العلاوي بقدر ما هي وافية فهي غزيرة التفاصيل عن حياته وأعماله, أنقلها لكم راجيا من المولى أن يتقبلها خالصة لوجهه الكريم ومحبة لوليه الكبير سيدي ومولاي الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي الحسني رزقنا الله رضاه, آمين. كتبها الدكتور صلاح خليفة (العلاوية والمدنية من مصادرها المباشرة إلى الخمسينات) أطروحة للحصول على دكتوراه الدولة في الدراسات العربية والإسلامية. جامعة ليون جان مولان في ليون (فرنسا).
للمراجعة : الفترة الأولى من حياة الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي بقلمه
تعليقات
إرسال تعليق