ولد محمد بن أحمد بن حسن بن عبد الله السعافين الشهير بأبو أحمد الفالوجي, بقرية الفالوجا من قرى الجنوب الفلسطيني, ونشأ يتيما, وما أن بلغ مرحلة الشباب حتى اجتمع بشيخه حسين أبو سردانة, وتلقى علي يديه علوم الدعوة الأولى, وسرعان ما استجاب قلبه للنداء, وانجذب لبه للتصوف, وانصرف بكله للدعوة الجديدة, وأصبح لا يفوت لشيخة إشارة, ولا يتجاوز من كلامه عبارة, وقد واجه بكثير من الفتن, حيث ثارت عليه عشيرته, وأخذتها حمية الجاهلية وحاولت بكل الوسائل معه, غير أن هذا ما زاده إلا تمسكا بهدفه وإصراراً على الوصول لغايته, وتحقيق اَماله في الخلاص والحقيقة.
اشتهر في بداية سيره بالتسليم الكامل لشيخه وحبه والفناء فيه حتى عرف بين الخاصة والعامة بلقب “البهلول”, وحتى غلبت علي كنيته عصبيته كنية شيخه وصار يعرف إلى عهد قريب بالشيخ "محمد أبو سردانة" نسبه لشيخه, وظل هذا حاله حتى تم له شربه من كأس أستاذه رضي الله عنهما.
حين تعرضت فلسطين لمحنتها كان شيخه يعالج مراحل وداع حياته الدنيوية الأخيرة, ولقد تعرضت قرية الفالوجا لحصار طويل من أكتوبر 1948 حتى نهاية فبراير 1949, توفي أثنائه أستاذه الشيخ حسين أبو سردانة, وحمل هو الأمانة من بعده. غير أنه وجد أن الواجب يحتم عليه أن ينهض للدفاع عن وطنه, فحمل السلاح وظل مرابطاً في مواقع الجهاد إلى جانب الجيش المصري المحاصر يقاتل حتى كان ما أراده الله وكانت الهجرة. فاتجه إلى قطاع غزة ليبدأ مرحلة جديدة من حياته, بدأ حياته بقرية خان يونس من قطاع غزة, داعياً إلى الطريقة لا يكِّل وهادياً إلى الحقيقة لا يمَّل, فصار يطوف بالمنتديات وأماكن السمر يدعو الناس إلى حياتهم وإلى نجاتهم. وما أن انقضى على إقامته عامين حتى كان القطاع علي صغره يعج بالمحبِّين ويموج بالسالكين الذين ودَّعوا أسر المادة وقيد الدنيا وشربوا من كأسه, فأقاموا علي حقيقتهم.
انتشرت الزوايا العلاوية التابعة لفضيلته في كل مدن وقرى القطاع, وأصبح أتباعه, وأكثرهم من الشباب, يصدحون بالتصوف طريقاً للوصول إلى غاية الحق من الخلق. وتخرَّج علي يديه جيل ممن ذل الدنيا لهم, عزوا هم عنها, ترى فيهم المثل الأعلى للنخبة الأولى من أتباع ومحبي سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه.
انقضت على إقامته بالقطاع ست سنوات أدى فيها واجبه على أتم وجه, ثم تطلع إلى الجنوب حيث شبه جزيرة سيناء, تحكمها البداوة بأوحش صورها ويعيش فيها مجتمع من قطاع الطرق ومهربي المخدرات, مجتمع لا قيم تحكمه ولا يعرف إلا القتل والنهب والسلب, مزقته الضغائن وفتته الحقد. فتطلع إلى المجتمع واستخار الله أن يأذن له بالدعوة هناك, وما أن قارب عام 1956 على الانتهاء حتى أذن الله له بالهجرة الثانية إلى صحراء سيناء. وهناك عاش حياة حافلة, واجه فيها العناء ما تنوء بحملة الجبال, وخاطر فيها بنفسه وهو يواجه الفتنة في عقرها, وما أن مرت فترة وجيزة من الزمن, حتى كان الخصوص من اللصوص. استجاب بسره لدعوته من قست قلوبهم فصاروا نموذجاً للألفة والمودة, وصارت الصحراء جنة تموج بالسالكين إلى الله الذين خلفوا من ورائهم كل ما يقطعهم, وانقلب بفضل الله, الحقد إلى محبة, والضغائن إلى ألفة, ومجالس اللهو والفساد إلى حلق الذكر والمذاكرة, وانتشرت الزوايا العلاوية في كل ربوع سيناء, وأصبح قاطن شبه الجزيرة بفضل الأتباع العلاويين اَمناً على نفسه وماله.
عاش في صحراء سيناء أربع سنوات وبعدها عاد إلى قطاع غزة, وهد الوهن جسمه وما وهنت عزيمته, فكنت تراه وهو في العقد الرابع من عمره وكأنه بلغ السبعين. سكن بعد عودته في الطرف الجنوبي لمدينة غزة, وظل على نشاطه وجهاده وما أعطى بالاً لنصيحة أطباؤه الذين كلوا يطالبونه بالراحة قليلاً وبرحمته نفسه, غير أنه كان شعاره : "الجهاد المتصل", فقد كان يصارع الألم ويحاول النهوض ليسقي أتباعه من كأسه, يشير إلى جسده ويقول : "لن يهدأ بالي حتى أفنيك تماماً في هذه الطريقة". لم ينتبه لمرضه وهو يدُّب في أوصاله, فما أن انقضى على عودته من سيناء ثلاثة أعوام حتى أصبح وكأنه شيخاً عجوزاً رغم أنه لم يزل بعد في ريعان الشباب, فلم يكن يستطيع القيام أو الحركة إلا بمساعدة غيره, ومع هذا الحال كان يسير في الدعوة بنشاط الشباب. وما هي إلا فترة وجيزة حتى أتى عام 1966 حيث عصف بوجوده مرضه الخطير وأقعده هبوط في القلب كما قرر أطباؤه, وكان رائعاً كما هو دائماً, كان رائعاً في مرضه, فقد عاش غيبوبة استمرت زهاء الشهر, وفي غيبوبته تلك كان يرى جليسه كيف يكون الشاغل الحق في الله, فقد كان حتى في غيبوبته مشغولاً بتذكير الفقراء, يوجه ويدعو. نهض من مرضه هذا وقد دبَّ الفناء في أوصاله تماماً كما كان يريد, وعاش بعد ذلك عاماً جديداً حافلاً بالجهاد في سبيل الدعوة والنشاط المستمر وكأنه كان يودع في ذاك العام أحبابه. فقد انقلب شاباً لا يترك صغيراً ولا كبيراً من أتباعه بغير لفتة أو جرعة من كأس, وكان كل من ينظر إليه في عامه الأخير, وقد أعرض عن الدنيا بكله وتمامه وقد ترك من وراء ظهره نصائح الأطباء, فهو في جهاد متصل, لا تكاد تمسك به في مكان واحد أكثر من ساعات قليلة لتجده في مكان اَخر. وظل هذا حاله, حتى عصفت به أزمة قلبية أخرى في شوال 1286, شباط/ فبراير 1967, وكأنه في عامه قبل هذا الشهر, وقد أعطى كل ذي حق حقه, وودع أحبابه وأتباعه, وقد حمَّلهم الأمانة وبلَّغهم الرسالة كأكرم ما يكون البلاغ. وفي 25 من شوال سنة 1286, 5 شباط/ فبراير 1967, ووسط أتباعه وبين يدي محبيه, تمَّ له ما مراده وفاضت تلكم الروح العظيمة وتوقف ذلك القلب الكبير عن الحركة, وعاد إلى حضرة السلام كأجمل ما تكون العود مخلفاً وراءه من الاَثار ما يعجز عن وصفها الواصفون أو عن حصرها الحاسبون, رحمه الله ورضي عنه.
والزاوية العلاوية الكائنة في حي الزيتون من طرف مدينة غزة الجنوبي هي أم الزوايا التابعة له في كل الجهات وقد أسسها في أوائل الخمسينات من القرن الماضي وكانت مثواه الأخير عند وفاته وفيها دفن, ولا زالت هذه الزاوية تشع بأنوار الطريق منذ تأسيسها والى لحظتنا هذه.
تعليقات
إرسال تعليق