بلقاسم بلخيري

الشيخ بلقاسم بلخيري المشهور في ديوان الصالحين بـ "أبا القاسم الصقر", شيخ تربية, أخذ الطريقة وأصول التصوف عن الشيخ إسماعيل الهادفي عن الشيخ محمد المداني عن الشيخ أحمد العلاوي المستغانمي الجزائري.

في قلب بادية المقسم وعلى الحدود التونسية الجزائرية, ولد الشيخ بلقاسم بالخيري في خيمة من وبر, يوم 5 من شهر يوليو سنة 1942 ميلادية.

ينحدر من سلالة طاهرة, فهو شريف إدريسي حسني, من عرش أولاد سيدي عبيد الله. هاجر أهله من الأراضي الجزائرية إلى داخل الأراضي التونسية, فرارا من بطش المستعمر الفرنسي.

لم تكن نشأته عادية, بل كانت استجابة لدعاء ويقين والدته الأَمَة الصالحة "لالا حدة", ذات البصيرة النافذة والحال مع الله. كانت تناجي ربها وهي حامل به وتقول: "إن كان فيه خير فاهديه, وإن كان فيه شر فاديه (فَخُذْهُ)". فكانت الاستجابة مولد إمام من أئمة الهدى. منذ نعومه أظفاره, حاطته العناية الإلهية بكرامات باهرة. سقط طفلا في بئر جافة, فهرع الناس لنجدته ليجدوه في قعرها جالسا لم يمسه سوء. ومرة أخرى تاه في الصحراء وهو ابن خمس سنين ليجده أهله ساكنا وأمامه ذئب يجلس قبالته, فلما رأى الذئب الناس انصرف بهدوء. فكانت تلك إشارة بان هذا الطفل وديعة إلهية ذات شأن عظيم.

شبَّ الفتى منصرفا عن اللهو, متجها بقلبه إلى ربه. ففي السادسة عشره من عمره, أخذ الطريقة القادرية, وظهر نبوغه فيها, حتى صار مقدما. في إحدى زياراته السنوية لضريح جده سيدي عبيد الله, سمع هاتف في المنام يقول له بوضوح: "أرجع وأعمل لنا ضيافة وسنأتي إليك" (برا روح واعمل لنا ضيافة, واحنا نجوك).عاد الفتى وقلبه مشغول بهذه الإشارة, ولم يطل انتظاره. فقد سبقه أخوه الهادي ورفاقه إلى العارف بالله الشيخ إسماعيل الهادفي بـ "توزر", واخذوا عنه الطريقة الشاذلية. لما رأى الشيخ بلقاسم صدق إقبالهم, والنور الذي على وجوههم, أدرك أنهم وجدوا الضيافة التي بُشِّرَ بها, فقال لنفسه: "لن أبرح حتى أُحظى بتلك تلك البشارة. فتوجه إلى "توزر", ووضع يده في يد الشيخ إسماعيل, لتبدأ رحلته في بحر المعرفة الشاذلية.

ذاع صيته في الصدق والإقبال, وعندما أقامه شيخه مقدما على زاوية "الرديف", اعترض البعض, فتوجهوا إلى الشيخ إسماعيل في "توزر", مقترحين عليه مقدما أخر, فقال لهم الشيخ إسماعيل: "إذا فلتنادوا صاحبكم (أي المقدم الذي تحسبونه أولى بهذا التكليف) وأنادي أنا صاحبي الذي اخترته. والذي يجيب (علينا) هو المقدم." فنادوا ممثلهم ثلاث مرات, فلم يسمع صاحبهم لندائهم رغم وجوده في الزاوية, ثم نادى الشيخ إسماعيل من "توزر" مقدمه في "الرديف": "يا سيدي بلقاسم"... فدوى ردُّ الشيخ بلقاسم من "الرديف" المجلس بصوت يسمعه أهل البصيرة, يكشف قوة اتصاله واتحاده بأستاذه قائلا: "نعم سيدنا الشيخ".

وتوالت الشهادات...
فمرة دخل على شيخه, فوجده في استغراق, فنظر إليه الشيخ إسماعيل وقال مباشرة: "(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, بسم الله الرحمن الرحيم, ياسين والقرآن الحكيم, إنك لمن المرسلين, على صراط مستقيم) ... هيا, استأذن بالخروج". فكانت شهادة روحية وهو سر كتمه الشيخ طويلا.

وفي مناسبه أخرى وضع الشيخ إسماعيل صحن من فاكهة التين الشوكي, وشجرتها تنتمي إلى عائلة الصبَّار, فقال: "هذه فحل ولا يأكلها إلا الفحل". فدخل الشيخ بلقاسم في تلك اللحظة ومد يده مباشرة إلى تلك الفاكهة وأكلها. فكانت إشارة لطيفة لا يفهمها إلا أهل الأذواق.

قال له الشيخ إسماعيل في آخر حياته: "شجرة الطريق, حركتها بشدة قبل أن أسلمها لك, وكل ثمرة معفنة سقطت على الأرض". لم يكن الإذن بالتربية عنده لحظة واحدة, بل مسار أنوار تتنزل, بدأ بهمسة آذن لها, ثم جاءه النداء: "أن أذن لهم". حتى جاء الأمر الأعظم بصوت السماء: "ارفع الحرج, ذكر الفقراء والفقيرات, ارفع الحرج". عندها سلمت له الراية ومضى الشيخ بلقاسم مربيا بأمر الله.

وعند وفاة شيخه سنه 1994م, تولى الشيخ بقاسم غسله ودفنه. وفي طريق العودة, قال رفيقهم سيدي محمد بن عثمان: "واحد منكم الآن هو الشيخ, فالطريق لا يحتمل الفراغ". ظل الشيخ صامتا, دامع العينين, لم يطلبها ولم يسعى إليها, ولكن الفقراء العارفين الذين شهدوا الإشارات, التفوا حوله لعلمهم أنه صاحب الإذن وحامل السر.

أقام مدرسة تعمرها المحبة. كان ميزانها الشريعة, لا يتهاون في حدودها, ويقول: "لا كمال للحقيقة دون نور الشريعة". وكان الحب عنده سُلَّمًا, يبدأ بصحبة الإخوان ويرتقي إلى الشيخ, ثم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم,  ثم إلى حضرة الحق. فمن كسَّر أخاه انكسر سُلَّمُهُ.

وكان كثيرا ما يستشهد بهذه الأبيات في مذاكراته حول محبة الإخوان: "محبة الإخوان شرط لازم, تعظيمهم تزكو به المكارم, إذ كل الخير في اتباع فعلهم, فاستغنم الأوقات واحضر جمعهم". 

وفيما يخص الشيخ المربي كان يستشهد بهذه الأبيات: "قف على أعتابه, لتسقى خمر من صفاء شرابه, لا تبتغي إلا رضاه يا بني, فذاك غنم زائد عن كل شيء"... 
 
حتى يقول رضي الله عنه فيما يخص الذكر: "والذكر عنوان القبول يا فتى, فاذكر كثيرا حسب أمر قد أتى"... وكان يختمها بالتالي: "مالك؟ هكاك الرجال باش فازت (ما كان ظنك؟ هكذا فاز الرجال) ... أهل الله رآهم حازوا, يا سامع قولي أصغاه, بلغوا مناهم لما جازوا, وفنوا عما سواه, شغلوا عمرهم حتى فازوا, بلا إله إلا الله... بها وصلوا للمطلوب, كنزهم ذاك المرغوب, شاهدوا نور المحبوب, تجلى لمن رآه, خذها صقال (مصقلة) القلوب, لا اله إلا الله, خذها صقال القلوب, لا اله إلا الله".

وكان تعليمه حيا بنور الحال, لا بسطور النظريات, يحكي لهم عن العرجون الذي وزع التمر بعدل البشر, ومرة بعدل الله, ليريهم أن حكمة الحق أوسع من فهم الخلق. 

ورث الحال عن والدته الصالحة, يروي أنه وجدها تبكي وهي تمسك بعرجون تمر جاف, فسألها: "ما يبكيك؟", فقالت: "أسمعه يبكي", فسأل الشيخ العرجون: "وما يبكيك يا عرجون", فأجابه بلسان الحال: "كنت في أعلى النخلة, تُرفَع لي الرؤوس, فأصبحت في الأسفل". فعرف أن لوالدته حالا عظيما, فالتزمها وسألها عن أسرار الطريق.

وفي الجزائر, طلب منه إخوانه الدعاء لبلادهم التي عانت الجفاف لسنوات, فرفع يديه, وما إن أنهى الفاتحة حتى انهمر المطر, فسلك على يديه أربعون رجلا في تلك الساعة. 

ولما أراد مسؤول إداري هدم جدار في الزاوية, أخذ الشيخ حفنة من تراب, وقرأ عليها آية الكرسي, ثم ضرب بها الجدار, وقال: "دعوهما يتعاركان", وبالفعل لم يُهدم الجدار. وحين حاول الإخوان, بعد سنوات, إزالته, عجزت المعاول عن كسره, فقال لهم الشيخ: "هذا الجدار شدَّته (مسكته) آية الكرسي, اتركوه".

قال الشيخ مرة متيمنا بكلام الشيخ المدني, رضي الله عنهما: " أتمنى من الله تعالى, إن شاء الله, أن يكون كل واحد من فقرائي, يوم القيامة, شجرة تستظل تحتها الناس". 

وبعد عمر مبارك في الدعوة والتربية, انتقل الشيخ بلقاسم بلخيري إلى جوار ربه يوم 20 يوليو 2022م, لم يكن موته نهاية, بل هو كما وَصَفَهُ العارفون "حي مع الأحياء, وميت مع الأموات", فمن نظر إلى جسده رآه قد مات, ومن نظر إلى حقيقة روحه وسره, وجده حيا يرزق في قلوب أحبائه, ونوره يسري في الطريق شاهدا على أن رجال الله لا يموتون, بل ينتقلون من دار الفناء إلى دار البقاء.

كان, رضي الله عنه, هين لين, سمح وقور, متواضع, بسَّام بشوش, سهل المعشر, تجذبك إليه معاليق المحبة, وتشدك منه أنوار الهيبة, كلامه نزر, ومعانيه فيض, يكلمك عن الله تعالى كأنك معه, ويسرد لك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كأنك تصحبه, السُنَّة في رحابه حيَّة, أحيانه ذكر وتذكير, واجتماع عليهما, لا فضول في كلامه, ولا زيادة ولا نقصان في معانيه, لا يكثر في محل الاقتصاد, ولا يبخل في محل العطاء, تقبل عليه قلقا مهموما مثقلا, وتنعطف من عنده منشرح الصدر مستبشرا, كأنك قد نشطت من عقال. لا يدلك على الدنيا فيغشك, ولا يثقل عليك بالعمل فيتعبك, ولكنه يدلك على الله تعالى فينصحك. وكان شغله أن يراك سالكا نهج الصالحين والصديقين والأنبياء, وحسن أولئك رفيقا. تجالسه فلا يغادرك الشوق إليه, وتنصرف من عنده, وكأنك تنتزع أوصالك انتزاعا لرغبتك في المكوث عنده والتزود مما في حوصلته. تأبى عينك مفارقة تفاصيل وجهه المزهرة, ويأبى قلبك التفاتا عن إشاراته المشرقة, كان قمرا في كبد سماء المعارف, كلما تفيأت ظلاله, دبت في أوصالك أنواره وأسراره, وتفجرت في فؤادك ينابيع وأنهار, وانتشقت من جنانه أزكى الروائح وأشذاها روح وريحان وراح في الدنَّان.

قال يوما في إحدى مذاكراته منوها بحال الفقراء بعد انتقال شيخهم: "لما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعدما اشتاق إلى الحضرة العلية واشتاقت الحضرة إليه, انقسم الصحابة إلى ثلاث أصناف أو ثلاثة فرق, الفرقة الأولى كفرت وارتدت والعياذ بالله, والفرقة الثانية جلسوا على الربوة واكتفوا بالمشاهدة ومتابعة الأحداث, وهم أقرب إلى الكفر من الإيمان, والفرقة الثالثة حافظوا على العهد وحطوا اليد على اليد, ووحدوا صفوفهم ورفعوا الراية المحمدية وأكملوا فتح البلاد وقلوب العباد".

والذي أوصى به, قدس الله روحه, قبل انتقاله ببضعة أيام, وفي عدة مناسبات, هو الثبات على العهد وتوحيد الصفوف ونبذ التفرقة, ومحبة الإخوان, ومواصلة النشاط, حتى يأتي أمر الله. 
 
(بلقاسم,بالقاسم,بالخيري,بلخيري) 

تعليقات