الذي جذبنا إليه فطنته على الرغم من تقدم سنه وحيويته ونظره الصحيح والواضح, وذاكرة استثنائية وخاصة تصوفه الحي والمتفتح. راقبناه أكثر من الآخرين, فنسجنا علاقات ودية معه وقرأ علينا قصة حياته.
إلى اليوم, ما زال الرجل المسن سيدي أحمد أوحمودة (إسمه الحقيقي "أحمد عدّيس") وفيا لأولاد وأحفاد الشيخ عدة بن تونس, وعلى الرغم من تقدم سنه, ما زال محافظا على صلواته المفروضة منها والمسنونة وكذلك على ورده اليومي.
لاحظناه بشكل مطول, أكثر من مرة رأينا الدموع في عينيه في الوقت الذي قضى فيه الصلاة. حتى لما حدثنا عن شيوخه المتوفين تدفقت عيناه بالدموع. حاولنا استدراجه وإسقاطه في فخ النميمة, وتعمدنا في الكلام بمكر منا بشكل مطول عن رؤساء المعارضة من المقدمين للطريقة العلاوية لمشيخة عدة بن تونس وعن الإصلاحيين, وعن كل من آذى الطريقة بشكل أو بآخر, أبدا ولا مرة واحدة, لم يقع سيدي أحمد أوحمودة في الفخ, كان يكرر دائما: "الله يسامحهم يا سيديٍ! الله يسامحهم يا سيدي!".
حين كنا في الزاوية بباريس, دعا أحد الفقراء من أصل قبائلي (بربري) كذلك سيدي أحمد أوحمودة إلى بيته ودعاني معه ووضعنا في نفس الغرفة, فقضينا عنده ثلاثة أيام. أثناء نومه, سمعته يذكر الإسم الأعظم بالكيفية المعروفة عند العلاويين, أصغيت إليه جيدا ظنا مني أنه مستيقظ, فأضئت الغرفة, فلم أرى أي حركة على عينيه بل لم يتحرك أي شيئ فيه, كان في أعمق نومه, فعدت إلى الفراش تحت ذبذبات الإسم الأعظم الآتية من أعماق قلب الرجل المسن المجرد. وفي الصباح أردنا أن نعرف إذا كان قد ذكر الاسم وهو مستيقظ فكانت إجابته سلبية, كنا نعلم انه لا يستطيع الكذب, وفي الليلة الموالية أيقظنا الصوت اللطيف للشيخ وهو يذكر الإسم وكانت الليلة الثالثة مثل سابقاتها. فعرفنا أن الإسم الأعظم استقر في أعماق هذا الفقير المسن الذي سأقص عليكم قصة حياته. يقول الشيخ العلاوي (قدس الله روحه) في هذا المعنى عن الذكر بالإسم الأعظم (و إن كان في الحقيقة يقصد القرآن الكريم في لطفيته فكلاهما ذكر): فامتزج بدمنا ولحمنا والعروق والعظام وما فينا.
من الولادة إلى قوة الشباب 1898-1919
ينتمي سيدي أحمد أوحمودة إلى خروبة آيت احمد, في نهاية مسار الشارع خروبة آيت إسماعيل وفي مؤخرة القرية, إلى أعلى الجبل توجد خروبة آيت العربي تبدو وكأنها مسيطرة ومهيمنة على القرية كلها. كان الانسجام بين الثلاث خروبات بعيدا أو شبه منعدم لأسباب تافهة وكانت الإشتباكات تصل أحيانا إلى استعمال العنف, فكانت الحمية هي المسيطرة وكان أغلب رجال القرية الواحدة ما يتناسون صلة الدم التي تربطهم ويتذكرونها عند التعدي على أحدهم من طرف العشائر الأخرى. لم يكن هناك مركز لرجال الدرك في ذاك الزمان وكثيرا ما كانت القرية مسرح للمشاجرات, تصل في بعض الأحيان إلى القتل. فكان الثار يخلفه ثار آخر وأكثر من جثة تم صيدها من قاع الوديان, وبما أن كل أهالي القرية يعرفون بعضهم البعض جيدا, سرعان ما يتعرفوا على الجاني وسبب الجريمة ومن جديد الدم يثار للدم, فالدوامة الجهنمية للثأر كانت تحمل في طياتها الفلاحين الأشد بنية.
ولد سيدي أحمد أوحمودة بهذه القرية وفي هذه الظروف سنة 1898, فعشيرة آيت أحمد لم تكن تحمل المودة لعشيرة آيت العربي التي كانت تتصف بالغطرسة وكانت تتفاخر بانتسابها إلى أحد الأجداد الذي تحدى أهالي المنطقة كلها بغطرسته بما فيهم قاضيها. عشيرة آيت احمد كانت على العكس مسالمة وأهلها فلاحين بسطاء, مشغولون وراء تلك الأرجوحة القديمة لحرث الأرض, أو قطع الأشجار التي بات منتوجها ضئيلا أو منعدما, فالجميع إذن يجمع على أن أهالي عشيرة آيت احمد فلاحين بالمعنى الحقيقي.
ولكن سيدي أحمد أوحمودة لم يكن يشبه رجال خروبته, يقال أنه ورث طبيعته من جدته لأبيه, من عشيرة آيت العربي (التي لا احد في القرية يستطيع أن يفسر كيف تم زواجها بأحد من عشيرة آيت أحمد). باختصار سيدي أحمد أوحمودة كان يكره العمل الزراعي الذي كان يعتبره خاص بالنساء وبالرجال الضعفاء أو الأقل رجولة حيث كان يمتلأ ازدراءً من ناحيتهم. ولكنه كان يتذكر انه من عشيرة آيت احمد, وهذا ما لم يستطع أن ينكره خشية من أن يتهم باللقيط, وهذه أسوأ إهانة توجه لأحدهم. وبهذا كان يقر بانتسابه لخروبته, لكن تصرفه كان تصرف عشيرة آيت العربي. كانت معاملته مع الآخرين خشنة ووقحة, كما كان يخشاه الناس لقوة بنيته العضلية, لأنه ينبغي القول انه بالإضافة إلى طول قامته مع القوة البنيوية والعضلية فقد كان شديد الحيوية.
كان الولد الوحيد وسط ثلاثة بنات فكان بذلك موضع دلع من طرف والديه وأخواته, وكانت خروبته فخورة به لعدم خشيته من عشيرة آيت العربي بل كان يتحدّاها, وبذلك فإنه يحافظ على شرف عشيرته التي كانت عشيرة آيت العربي تميل إلى السخرية منها, وهذا ما جعل أهالي عشيرته يتغاضون عن تجاوزاته وعنفوانه وحدّة لسانه وغضبه السريع لأنهم كانوا على علم إذا استنجدوا به حين يُعتدى على شرف خروبته, هرع إليهم طائراً.
أحيانا, كان يرافق والده إلى السوق, الذي كان يقام مرة في الأسبوع, فكان والده يصطحب بغلا ليركب عليه وليحمل عنه الشعير والذرة والفائض من الرمّان أو التين. أمّا سيدي أحمد أوحمودة فكان في طريقه يتنزه ويتسلل إلى غابة الصنوبر وخاصة كان يقوم بدور رجل الأمن في حراسة أبيه أيام السوق. في ذات يوم , بينما أبيه جاثم على البغل, ناعس, في طريق عودتهم, تعرض لهم خيال عصابة من أربع أشخاص مهددين تحت جناح الليل المظلم, سيدي أحمد أوحمودة لم يمتلكه الخوف, وإنما كان قلقا على أبيه.
- "أبي ! أبي ! إحترس, أعتقد أننا سنواجه عصابة".
لم يتجاوز سيدي أحمد أوحمودة آنذاك العشرين من عمره, الوقت الذي حذر فيه أباه وفي أقل من ثانية, ضبط عصاه التي كانت على البغل, والتحق بخيال الأربع أشخاص وتقوم المشاجرة. لم تكن المعركة متكافئة حيث لم يدري كيف خرج منها دون أن يصاب بأذى ولا خدش واحد. لم يكن يعلم من كان أولئك, كان بكل بساطة يفرغ عليهم قوته ودفاعا عن أبيه العجوز وخصوصا طلق سراح رغبةٍ كانت مخفية في أعماق نفسه, هذه الرغبة في العنف. وفي اليوم التالي, لاحظ أهالي القرية غياب رابح أوعامر أحد أفراد عشيرة آيت العربي أكثر المشاكسين, وبعد يومين, شابين من عشيرة آيت العربي من المتهورين ومسببي معظم الاضطرابات, لم يلاحظا كعادتهما في الشارع, وفي اليوم الثالث, سليمان أوقاسي, شخص آخر من نفس السن والعشيرة (الخروبة) لم يوجد له أثر في القرية.
أخبار ليلة المشاجرة التي قام بها سيدي أحمد أوحمودة وجها لوجه مع أربعة أعداء مجهولين لم تتأخر عن الإنتشار, واستنتجت عشيرة آيت أحمد أن الأشخاص الأربع من عشيرة آيت العربي الغائبين والذين تم إخفاءهم خوفاً من كشف الحقيقة ومن أن يطلع أحد على جروحهم, إلا أنه يجب التأكد من ذلك. فوكلت المهمة إلى عجوز من آيت احمد "يمّا رمضانة" التي بذكائها توغلت بين أسر عشيرة آيت العربي, فأكدت أن الأربع شبان العفاريت متخفين فعلاً, وأضافت أن رابح أوعامر لفّ ذراعه اليمنى في حزام إلى الكتف.
بعد ذلك, رفعت عشيرة آيت احمد رأسها فخراً, والد سيدي أحمد أوحمودة رفع رأسه وأخذ بصراحة يتصرف تصرفا إستفزازيا, أما سيدي أحمد أوحمودة فأصبح رمزاً من طرف خروبته فكان يستغل مشاعر الفخر والإحترام من جهة عشيرته وخوف شبه مخفي للعشائر الأخرى من جهة أخرى.
كان في زهرة العمر لمّا اجتمع حكماء القرية (الجماعة) وأجمعوا على أن الأخلاق انحلت وانهارت من بين الأهالي وسبب ذلك طبعاً يكمن في عدم تقوى الله تعالى وغياب مكان للعبادة. بعض كبار السن من عشيرة آيت إسماعيل غبطوا سكان القرى المجاورة الذين كان لهم الحظ في وجود مسجد بقراهم, فلماذا لا نبني مسجداً إذاً؟ فاخذ شيوخ عشيرة آيت إسماعيل يدافعون عن هذا المشروع مبررين حماسهم بافتخارهم بالإنتساب إلى أجداد كانوا طلبة علم وخاصة أن أحدهم وصل إلى مرتبة القضاء ولكن هذا يعود إلى زمن بعيد. وعليه, لمّا قررت الجماعة المكونة من العشائر الثلاثة بناء المسجد, كان سيدي أحمد أوحمودة قد بلغ من العمر عشرين سنة, كان ذلك في 1908م , فكان المسجد صغيرا جدا يعكس صورة الحجم الصغير للقرية. فبطبيعة الحال كان رجال عشيرة آيت إسماعيل الأكثر وفوداً إلى المسجد, وسرعان ما أصبح المكان معقلهم إلا أن هذا لا يعني أن العشائر الأخرى لم تكن تتوافد عليه. أمّا سيدي أحمد أوحمودة, فكان يتصرف تصرف الملحدين بوقاحة وخبث بيّنٍ, وكان لا يمنع نفسه من الإستفزاز ببعض أهالي عشيرة آيت العربي الذين كانوا يتظاهروا بالتقوى والصلاح التي قال عنها سيدي أحمد أوحمودة آنذاك, أنها كانت سطحية لإيهام الآخرين. فكان يشهر في بعض الأوقات فجوره, جاهرًا إلحاده بأعلى صوته, لا يتباطأ عن اضطهاد المؤمنين مهما كان انتسابهم إلى أي عشيرة كانت وأصبح طاغية ينشر الرعب ويرهب المؤمنين, لأنه كان يشمئز من وفود المؤمنين إلى المسجد... العبادة؟... لا يعرف لمن بالضبط, والسجود دائما في نفس الاتجاه, لا! هذه الممارسات المهينة والشعائر الاستعبادية (على حسب تفكيره آنذاك) كانت بالنسبة له أكثر استعبادا من العمل الزراعي.
- هكذا إذا!؟ عشيرة آيت العربي في هذا المكان! هذا غاية انحلال الأخلاق والتقاليد الإجتماعية!
عمل سيدي أحمد أوحمودة كل ما في وسعه لمنع أهالي خروبته من تلك الشعائر الإستعبادية (على حسب تفكيره آنذاك), لكن عبثا ودون جدوى, لأنهم استمروا في الذهاب إلى المسجد في الخفاء ودون إيقاظ شكوكه, ولكن في نهاية المطاف أدرك ذلك وبدأ الغضب يزداد وأصبح أكثر إستبدادا, كان يبحث عن التعارك خاصة مع الشباب الذاهب إلى المسجد وتضاعفت مشاجراته.
أمه "يمّا كمومة" عملت كل ما في وسعها لوعظه ونصحه وتأنيبه. فأرادت أن تزوجه بإبنة عمه "نجمة" التي تتمتع بقوة سليمة وحيوية للغاية, إنها تشبهه كثيرًا ومجتهدة في العمل المنزلي والمزرعي, كأنها خلقت من أجله, ستعطي له الكثير من الأولاد لكي لا يكون وحده ضد كل القرية. "يمّا كمومة" تعلم انه إذا وافق على الزواج, سيتخلص من حماقته وغطرسته وينتهي الأمر. كانت محقة في القلق على إبنها الوحيد الذي يكاد أن يتجاوز العقد الثالث من عمره الذي لا يفكر بتاتا في الزواج, ثم إن "نجمة" جميلة وقوية, والعروسة المثالية لإبنها التي تحلم بها "يمّا كمومة". لكن سيدي أحمد أوحمودة لم يكن على هذا الرأي, هو لا يريد بأي حال من الأحوال أن يفقد حريته فالزواج كان بالنسبة له وسيلة أخرى للإهانة والإستعباد, وكان متشبثا بحريته المطلقة. لا! لن يتزوج وسوف يستمر في النوم وحده على حصير من الحلفة الذي عليه جلد الغنم الذي وضعته "يمّا كمومة" ليكون نوم إبنها أكثر راحة.
ازداد قلق "يمّا كمومة" بعد زواج بناتها واحدة تلو الأخرى, وبلوغ زوجها الخمسة والخمسين سنة والذي يعاني من مرض شللي فكانت تعمل بمفردها في المزرعة التي كانت تحتوي على ثلاثة من المرفقات زرعت فيها أشجار التين والزيتون وأشجار الرمَّان, ولكن أصبحت تلك الأشجار غير مثمرة لقدم سنها, فضلا عن أشجار التين البري التي تتطلب غرسها من جديد لأنها تدخل أيضا في إطار قوانين الحياة, ورغم تعبها لم يكن المنتوج يكفي, والكوخ العائلي هو الآخر, كان يشكل خطرًا ويهدد بالإنهيار, لكن سيدي أحمد أوحمودة لم يكن كثير القلق عن الحالة المادية والمعنوية لوالديه.
يئست "يمّا كمومة" وقطعت أملها في رؤية ولدها مسؤولا ومتزوجا مثل شقيقاته, ففاتحت يوما إحدى بنات عمّها في الموضوع فأخذتها إلى أحد الشيوخ أصحاب التمائم التي تعتبر تمائمه حلاً للمشاكل الشائكة. سبعة كيلومترات عبرتها السيدتان, بطرقها الخطيرة والمسارات المنحدرة والحادة والمسالك الصعبة والوعرة, وغامرن في طرق مصنفة بين الوديان الصغيرة. لكن تميمة السي طاهر لم تنفع, حيث مرّ عليه أسبوع دون أن يحدث تغيير في سلوك سيدي حمودة, وخلال شهر شهدت "يمّا كمومة" أزمة يأس حقيقية حيث أصبح سيدي أحمد أوحمودة أكثر اضطرابا من أي وقت مضى.
الإجتماع بالشيخ أحمد العلاوي 1919
انتشر الخبر انتشارا كبيرا بأن شيخ كبير سيأتي إلى القرية بدعوة من إمام المسجد (وكان ذلك في عام 1919), لا احد يعرف متى؟, الجميع يقول إن هذا الشيخ تقي وبلغ تقواه درجة عالية أن جعله الله تعالى خليفة النبي "صلى الله عليه وسلم" (على الأرواح). فكانوا ينتظرون وقت قدومه بصبر فارغ. إلا سيدي أحمد أوحمودة كان يشتعل غيضا وغضبا. كأنه ليس كافيا أن يرى أهالي قريته مستعبدين وها هو هذا الشيخ يأتي ليساهم في إنحلال الأخلاق وتشتيت التقاليد العريقة لشعبه. لا! سيدي أحمد أوحمودة لن يسمح بذلك, يجب دفنه أولا, ليتاح لهذا الشيخ إفساد مواطنيه. وعاهد سيدي أحمد أوحمودة نفسه بأن يعارض بجميع قواه قدوم الشيخ.
ذات يوم, ذهب إلى المقبرة لزيارة أم جده وعاهدها بإهانة الشيخ الضيف إلى درجة أن لا تمتد رجليه إلى تراب قريته مرة أخرى, وعند رجوعه إلى القرية, تفاجئ برؤية شوارعها مقفرة إلا من بعض النساء اللاتي كن مجتمعة على عتبة باب إحداهن يتبادلن أطراف الحديث الذي لم يكن من عادتهن, وسمعهن يتحدثن عن الرجل الصالح وأنه بالتأكيد مجتمع بالجماعة وبالرجال بالمسجد. لم تكن على علم بنوايا سيدي أحمد أوحمودة السيئة, كما لم تنشغلن به لأنهن كنَّ على علم أنه لا يؤذي النساء.
امتلك سيدي أحمد أوحمودة جنون من الغضب, فلحق بالجماعة بالمسجد الذي امتلأ بكل رجال القرية صاغيين جميعا إلى رجل وهو يتكلم. لمح سيدي أحمد أوحمودة بكدر ولم يلاحظ سوى أن الرجل كبير, عليه جبة بيضاء وذو لحية طويلة ووفيرة, وأنه متعمم وحول عنقه مسبحة ضخمة. فزادت نفس سيدي أحمد أوحمودة عنفا وثارت ثائرتها, فتسلل بين الصفوف بصعوبة مستعملا قوة ذراعيه ويديه ومستعرضا كتفيه وجنبيه يمينا ثم شمالا. فأدرك الجمع نيته وخافوا على الضيف, وعند وصوله إلى الصف الأول توقف فجأة, عاجز عن التقدم, كأنه مسمر من طرف قوة لا تقاوم, إحساس لم يشعر به من قبل, وعبثا حاول التقدم ولكن ساقيه لم تطع إرادته, ولم يبقى سوى مترين يفصل بينه وبين الغريب الذي اقسم جهد إيمانه على إهانته ما لم يفعله من قبل مع أحد. إنه لم يره من قبل, ولكنه لا يمكن أن يكون سوى عدوه اللذوذ, ألم يأت لإفساد تقاليد الشجاعة العريقة لشعبه؟
امتلأ سيدي أحمد أوحمودة غضباً وهو واقف عاجز عن أية حركة. أما باقي الحضور فقد انتابتهم الدهشة ضانين أن سيدي أحمد أوحمودة يمكن أن يكون قد تغير لان كلام الغريب يحرك فيهم القلوب ويشغل التفكير, فحتى ضعفاء الإيمان بدا عليهم الإهتمام بما كان يتكلم به الشيخ العلاوي ويوافقونه على أفكاره. اعتقد أهل القرية أن سيدي أحمد أوحمودة تعرض مثلهم لنفحات الشيخ الإيمانية لكنه على الرغم منه, استمع إلى كلامه. وشيئا فشيئا, وجد أن أسلوبه بليغ, شفاف وبسيط ومذهل, حكيم...
- "إخواني! الرجل الكامل, هو ذاك الرجل الذي تجاوز الصفات الحيوانية. أنظروا إلى هذه الجبال الشامخة, أي منا يستطيع أن يدعي منافستها في الارتفاع؟ مهما نظرنا إلى إخواننا باستعلاء وكبرياء ,عبثا, لن تبلغ رؤوسنا مستوى هذه الذروة من الجبل. وانظروا إلى ما يحيط بكم, هذه الغابات, هذا الكم الهائل من القرى في قاع السهول أو بجانب الوديان أو جاثمة على جوانب الجبال, وحتى هذه الجبال, كل ذلك مصيره الإضمحلال والفناء. إن القوة التي أنعم بها الله العلي القدير البعض منا, لن تبقى إلى الأبد, ومحتوم عليها الزوال والفناء هي الأخرى... ".
استمع سيدي أحمد أوحمودة إلى هذا الكلام فكانت كل كلمة تعبر كيانه من خلال الحق: "نعم! أشجار الزيتون التي بمزرعتهم أضحت لا تنتج لقدم عمرها فوالدته قطعت العديد منها, وحتى أشجار التين فإنها تنتج قليلا بسبب سنها, وهذه الجبال ستنهار شيئا فشيئا, وكان يرى ذلك في تكرار الإنهيارات الصخرية, وأين الأجداد الذين خلفوا له قوته البدنية ومهارته؟ تحت الأرض, هييه! وهو كذلك مصيره مثلهم! على كل, بدأ يشعر بضعف حيويته, ولكن هناك مثلا! هل يمكن التحرك أمام هذا الشيخ؟ أين ذهبت تلك القوة التي كان يتغطرس بها؟ أ لم تخونه؟ ومن المسلم به أن هذه الخيانة مؤقتة, ولكن قوته ستخونه مرة أخرى, انه متأكد, إن الشيخ يقول الحقيقة."
لم يدري سيدي أحمد أوحمودة أبدا كيف قبل يد الشيخ العلاوي الذي من جهته دعا له. ومنذ ذلك الحين بدأ سيدي أحمد أوحمودة بأداء الصلاة في المسجد, وتغيير سلوكه, أصبح متواضعا, فقد كبرياءه ووقاحته, فلم يعد يستعرض عضلاته, كانت والدته مجنونة من الفرح وزوجته من "نجمة" بدون صعوبة. فبدأ سيدي أحمد أوحمودة في الثلاثين عاما بالعمل في حقوله, لم يكن يتقن ذلك, ولكن كان هناك "نجمة" سباقة لمساعدته.توفى والده, ثم والدته.
رغب سيدي أحمد أوحمودة إلى لقاء الشيخ مرة ثانية, واحترق شوقا لرؤيته لتعلق قلبه به, فعرف انه من سكان مستغانم , ثم انه لم يتردد كثيرا وشد رحاله إلى غرب الجزائر. كان ذلك في عام 1924م, لم يكن يدري سبب زيارته للشيخ, كل الذي كان يبتغيه هو فعلا رؤيته, أصبح الشيخ ضرورة حتمية, نداء قوي ودعوة لا تقاوم, ترك أهله وأولاده طاعة لهذه الدعوة. وها هو الآن بالزاوية العلاوية بمستغانم بسرواله الفضفاض العربي وجبته البالية, ونعله المصنوع من المطاط. كان خجولا بتواجده وسط أناس مهذبين تظهر عليهم الآداب والأخلاق العالية وبمجاملتهم له شفقة عليه التي تركت في نفسه أثرا راسخا. كان هناك رجال من القبائل "البربرية" تحدت إليهم وأيضا رجال آخرين من مناطق أخرى. وقضى الليلة الأولى دون رؤية الشيخ, لأنه كان في سياحة كما قيل له. وغداة وصول الشيخ استقبله وعرفه.
تعجب سيدي حمودة! "أهذا معقول من الشيخ, هو الذي يرى الكثير من الناس أن يتذكر سيدي أحمد أوحمودة الفلاح القبائلي البسيط؟, دون أي مرتبة إجتماعية أو ثقافيه؟ لا بد أن الشيخ رجل غير عادي!" فكر سيدي أحمد أوحمودة في نفسه.
لما أدخله المقدم على غرفة الشيخ, أصيب سيدي أحمد أوحمودة بذهول من خلو الغرفة من الزينة وتواضعها الشديد, حيث كان طولها أكثر من عرضها ومفروشة بالحصير, وعلى فراش على الأرض, جلس الشيخ متكأ على الحائط ومربع الرجلين, بجانبه مسبحته العظيمة وكتاب ضخم. قبل سيدي أحمد أوحمودة يد الشيخ, فنظر إليه الشيخ جيدا كما لو انه يقرأ في تفكيره وسأله إن كان قد أتى لإلتماس السلام الباطني.
- " نعم! نعم! سيدي! هذا هو, منذ زيارتكم الأخيرة في قريتنا, لم أعد اعرف نفسي بل تحولت كليا, بفضلكم سيدي, بفضلكم, شكرا جزيلا!"
- "اشكر الله العلي القدير, أخي! فالفضل لله وحده! هو الوحيد الذي يجب شكره, وحده فقط!"
- "سيدي! قبل أن أعرفكم, كنت آثماً, فمنذ زيارتكم لنا, إني أقيم صلواتي بانتظام, ولكن هذا لا يكفيني أريد أن أروي عطشي."
- "أخي! انك أتيتنا بمصباح جاهز مملوء بالزيت مع فتيلة عذراء جديدة, ستعود إلى بيتك راضي إن شاء الله!".
قام سيدي أحمد أوحمودة في البداية بقراءة عدد معين من الأوراد والإبتهالات ثم صام أسبوعا كاملا ثم ادخله الشيخ بعد ذلك إلى الخلوة. في نهاية اليوم الثالث , فتح الله على عين قلبه.
بروح حيوية ومبسوطة وخفيفة مثل الريح التي تداعب جبال جرجرة بكل متعة, عاد سيدي أحمد أوحمودة بالقرب من زوجته وأولاده الخمسة. لا احد في القرية عاد يفاجئ أن يرى سيدي أحمد أوحمودة وحول رقبته مسبحة كبيرة سوداء, لأنه الآن لا يلتزم بالصلاة المفروضة فقط, وإنما يؤدي النوافل كذلك. وأصبح من أكثر المواظبين على المسجد الصغير, يبقى الأخير فيه مربع الرجلين, ذاكرا الله تعالى.
يتكلم الناس عنه في القرية بكل إحترام وتوقير, أما الشيوخ المسنين من عشيرة بني إسماعيل, فيرون أن تحليلاته وتفسيره للقرآن الكريم, والذي تعلم منه بعض السور, تعتبر دقيقة على الأذهان وأدق فهما على العوام. لما يتحدث سيدي حمودة, فإنه يستعير المعاني والرموز التي لا احد يعلم من أين يأتي بها, هو الذي لم تطأ قدماه المدرسة قط.
في سنوات قليلة اكتسب سيدي أحمد أوحمودة سمعة ليست فقط أنه أكثر حكمة وتقوى وصلاح, لكن الأكثر رسوخا في الدين والرأي بشهادة بني إسماعيل أنفسهم الذين درس بعضهم بمدارس سطيف.
السنوات الأخيرة بجوار شيخه كمجرد
شعر سيدي أحمد أوحمودة بالضيق في قريته "تيفريغ" التي كانت تضيق عليه أنفاسه, كانت علاقاته بأهلها بلا شك على أحسن حال, حيث لم يعد له أعداء لا في عشيرة بني إسماعيل, ولا في عشيرة آيت العربي ولا حتى من عشيرته, عرف كيف يعمل ليحبه الجميع, فكان المرجع الرئيسي للتحكيم في الخلافات التي تعارض هذا الصف (العشيرة) ضد صف آخر, إلى غير ذلك , كان تحكيمه يمتاز دائما بالترجيح والحكمة والعدالة. رغم كل الإعتبار والإحترام الذي أحاطه, شعر سيدي أحمد أوحمودة بعدم الرضى, كان يقضي سرا بداخله الإلتحاق بمن صفا له قلبه وجعله وعاء الأنوار الإلهية, والمكوث بجانبه. أصبح الاستمرار في العيش بعيدا عنه كل يوم لا يطاق.
وهكذا مع بداية الثلاثينات, باع سيدي أحمد أوحمودة مزرعته الصغيرة وذهب بعيدا مع زوجته وأطفالهما إلى مستغانم. وطلب من الشيخ أن يفعل به ما يلهمه الله تعالى وبما أنه تعلم العمل الزراعي وكلت له مزرعة تعرف باسم "دبدابة" التي اشتراها الشيخ لتوه. فبادر سيدي أحمد أوحمودة بالعمل بحرقة في المزرعة مع زوجته وأطفالهم الخمسة. أصبح سيدي أحمد أوحمودة من الآن فصاعدا مجرد (تجريده للخدمة في الزاوية), وأخلص في العمل حتى احتسبه الشيخ العلاوي من الفقراء الأوفياء والصادقين.
توفي الشيخ العلاوي (14 تموز / يوليو 1934) وبكى عليه سيدي أحمد أوحمودة بدموع محرقة وقدم يمين البيعة والولاء للشيخ الجديد عدة بن تونس. وعلى الرغم من المحنة في اختلافات الرأي بشان مشيخة عدة بن تونس استمر سيدي أحمد أوحمودة المجرد في صب العرق والدموع على أرض " دبدابة ". نزف قلبه دما عند وصوله خبر إعلان معارضة جديدة من طرف كبير المقاديم فلان أو علان يعارض فيها مشيخة عدة, والإستلاء بشكل أو بآخر دون إصدار أي حكم على ممتلكات الزاوية رغم علمه أنها حبست من طرف الشيخ العلاوي لفائدة كل الإخوان وكان الشيخ عدة يصابره.
واندلعت الحرب العالمية الثانية التي تفاقم فيها الوضع, الإخوة المقيمين في الزاوية, كانوا يفتقدون الطعام اللازم لهم وللزائرين والوافدين على الزاوية. الاتصالات كانت تقريبا شبه مقطوعة, أما الشيخ عدة لم يسمح له أن يتحرك بعيدا من منطقة مستغانم.
مهما كان, عمل سيدي أحمد أوحمودة في المزرعة بإخلاص وحب, فتراه يرش أشجار التفاح تارة وشذب الأغصان الميتة حينا آخر أو زرع نباتات البقول والخضروات وكتب له النجاح في كل أعماله, وساعدته زوجته وكانت حريصة على الزريبة أو ساحة الزاوية, وكانت تعد الخبز الرقيق (الكسرة) للشيخ عدة وأتباعه.
لكن لم يلبث أن تتوفى المنية بالشيخ عدة وإلتحاقه بالرفيق الأعلى حسب تعبير سيدي حمودة, وأعطى يمين الولاء للشيخ المهدي بن عدة بن تونس وهو شاب أصغر من أولاد سيدي حمودة. كانت الدموع في عيني سيدي حمودة, وهو يتذكر هذه الذكريات الحزينة, فيمتلكه صمت طويل, ثم يمسح بظهر يمينه الدموع ويبقى يسبح بنظراته بعيدا ثم يعود إلى الكلام بصوت متدفق وبطيئ.
(توفي سيدي أحمد أوحمودة في نهاية التسعينات, رحمه الله وأدخله فسيح جنانه, آمين)
المؤلف : صلاح خليفة (العلاوية والمدنية من مصادرها المباشرة إلى الخمسينات) أطروحة للحصول على دكتوراه الدولة في الدراسات العربية والإسلامية. جامعة ليون جان مولان. ترجمه إلى العربية درويش العلاوي.
شكر خاص للأستاذ ناصر الدين موهوب على تصحيحه الإسم الأصلي لصاحب الترجمة, تاريخ ميلاده و صورته الشمسية التي أهداها لنا جازاه الله خيرا.
شكر خاص للأستاذ ناصر الدين موهوب على تصحيحه الإسم الأصلي لصاحب الترجمة, تاريخ ميلاده و صورته الشمسية التي أهداها لنا جازاه الله خيرا.
تعليقات
إرسال تعليق