البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض ‏النور - الشيخ العلاوي

http://al-sufia.com/content/uploads/2017/05/al-bahr-al-masjur.pdfلقد دوّن الأستاذ رحمه الله تعالى في هذا الكتاب مقدّمة وتشتمل هذه المقدّمة ‏على ‏ستة فصول، لأنّها من جواهر النقول، ثمّ بعد ذلك بدأ بتفسير سورة ‏الفاتحة، ‏وابتدأها بـ: بسم الله الرحمن الرحيم ثمّ بتفسير مائة وثماني آيات ‏من سورة ‏البقرة، والحقّ أحقّ أن يقال بأنّ ما ورد في شرح هذه الآيات لهو في ‏غاية الدقّة ‏التي يتخلّلها التشريح الحسيّ والمعنويّ، وبعبارة أخرى الجسميّ ‏والروحيّ فجزاه ‏الله عن الجميع خير الجزاء، ولا بدّ في هذا المقام من أن نتناول ‏بيد العناية والدقّة ‏مقتطفات من ذلك، والله هو الموفق.

البحر المسجور الجزء 1, أضغط على غلاف الكتاب

البحر المسجور الجزء 2

مختصر الكتاب...

أ: مقدمة الكتاب:

يقول رضي الله عنه :

الحمد لله الذي نزّل الكتاب على عبده المصطفى من خلقه بلسان عربي مبين، ‏تبيانا لكلّ شيء وهدى ورحمة للمؤمنين، قرأننا يهدي إلى الرشد، فأمنّا به ونحن ‏‏على ذلك من الشاهدين، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، حيث لم يجعل فهمنا ‏له ‏مرتهنا بفهم السابقين، فجل قدر القرآن أن يكون وقفا على أحد من العالمين، ‏‏وإلاّ لكان خطابا له لا لغيره من المكلفين، حتى كأنّه الآن يتلقف من الروح ‏‏الأمين إن لم نقل من أرحم الراحمين، فهذه عقيدتنا في كتاب الله، وما أنا من ‏‏الممترين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، شهادة أولي العلم به، وأنّه الواحد الأحد في ‏‏ذاته وصفاته وفعله الظاهر في ملكه، الباطن في كنهه، أرسل رسوله بالهدى ‏ودين ‏الحقّ، ليظهره على الدين كلّه سيدنا محمدا صلّى الله عليه وعلى أله ‏وأصحابه ‏وأزواجه وذرّيته، وعن التابعين ومن ذبّ على الدين، واعتنى بنصرته، ‏وسلم ‏سلاما جزيلا طيّبا شاملا تشملنا نفحاته.‏

إنّي لمّا عزمت على تسطير ما فهمت من كتاب الله، تخيّلت كأن القائل يقول: ‏ما ‏ترك الأول للآخر ما يقول، فظهر لي أن نقدّم مقدّمة أمام المقصود، فيها ما ‏‏يفيدك الشعور بأنّ الفضل بيد الله وأنّه ليس بمحجور، ونسمّي ما فهمته من ‏‏كتاب الله (بالبحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور)، راجيا أن يطابق ‏‏الاسم مسمّاه، واللفظ معناه ومبناه، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.‏

إنّ هذه المقدمة تشتمل على فصول ستة فيها من جواهر النقول، وهي: ‏

  1. الفصل الأول: فيما يفيد الإنسان أنّ القائم بالحقّ موجود في كلّ زمان.
  2. الفصل الثاني: فيما يفيد أنّ للقرآن وجوها، وأنّه لا تنقضي عجائبه حتى يستغني ‏‏بفهم المتقّدمين منه عن فهم المتأخرين.
  3. الفصل الثالث: فيما يدل على أنّ في القرآن علوما ليست متعاطية فيما بين ‏‏العموم.
  4. الفصل الرابع: فيما يشعرنا بأنّنا المقصودون بالقرآن، ولا واحد أولى من الآخر ‏في ‏كلّ زمان.
  5. الفصل الخامس: فيما يشعرنا بتعلّق سائر ألفاظ القرآن بالمكلفين في كلّ وقت ‏‏وآن.‏
  6. الفصل السادس: يذكر فيه من أهم شيء يعتبره الإنسان في كتاب الله أن يراه ‏‏واصلا إليه من حضرة الرحمن.‏

ولنأخذ مقتطفات ممّا يشير إليه الفصل الثاني أعلاه:

إنّ ما تمتعت به البصائر والأبصار، وجالت فيه العقول وتعلّقت به الأفكار، ‏‏كتاب الله العزيز الغفار، فلن يزال روضة يانعة ودوحة جامعة، حتى كأن الأخذ ‏‏منه زاد فيه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، غضا طريا في كلّ عصر ‏‏وأوان، فحاله في السابق كحاله الآن، جاء في الخبر على أنّ القرآن لا تنقضي ‏‏عجائبه، وعلى أنّ له وجوها كثيرة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنّه قال: (لن ‏‏تفقه كلّ الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة)، وقيل: إنّه حديث عن شدّاد بن ‏‏أويس نقله ابن عبد البر، وممّا يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: (إنّ للقرآن ‏ظاهرا ‏وباطنا وحدّا ومطلعا) نقله في تاج التفاسير، وعلى هذا فلا نستبعد الكلام ‏الصادر ‏من العلماء بالله في كتاب الله، وإن لم تصل إليه عقولنا فنحمله من قبيل ‏أحد ‏الوجوه الأربعة، ولا تحسبن هذه الوجوه توجد في كتاب الله من حيث ‏الإجمال، ‏كلا، إنّما هي في كلّ آية وكلمة، إن لم نقل في كلّ حرف. فالحرف ‏قرآن، كما ‏أنّ عموم الكتاب قرآن، ولهذا قال جل ذكره: (سنلقي عليك قولا ‏ثقيلا, المزمل ‏آية, 5)، وقال: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, الزمر ‏آية, 18)، ‏فعبّر بالقول دون اللفظ والكلام، ليشمل الكلمة والحرف، لأنّ ‏القول عام في ‏جميع ذلك، فكلّ جزء من كتاب الله ‏‎–‎‏ وإن تجزأ ‏‎–‎‏ فهو ثقيل ‏باعتبار ما جمع فيه ‏من المعاني التي تفوق حدّ الحصر، وممّا يدلك على أنّ الحرف ‏قرآن ما أخرجه ‏الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: (من قرأ حرفا من كتاب الله ‏فله حسنة، ‏والحسنة بعشر أمثالها)، فاتضح من هذا أنّ الحرف بانفراده قرآن ‏بالنظر لما اشتمل ‏عليه من المعاني، وفي رواية لا أقول ألم حرف، التأويل: علوم ‏القرآن خمسون ‏علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم ‏مضروبة في، إذ لكلّ ‏كلمة ظاهر وباطن وحدّ ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار ‏التركيبات، وما بينهما ‏من الروابط، وهذا ما لا يحصر، ولا يعلمه إلاّ الله، قلت ‏ولا يقع على علومه، ‏ويتفرس في وجوهه إلاّ مفتوح عليه، وأمّا المحجوب فإنّه ‏ينادى من مكان بعيد، ‏ويسمع من وراء حجاب حديد، فهو أبعد من أن يتناول ‏الغاية من ظواهره ‏فكيف بباطنه ! وأين هو من حدّه ومطلعه ! ومن فتح الله ‏عليه بالتوصيل إلى ‏شيء من ذلك لا يبعد أن يقول كما قال الإمام عليّ كرم الله ‏وجهه: (لو شئت ‏لوقرت أربعين وقرا من شرح الفاتحة)، أو كلاما هذا معناه، ‏ولعلّك تقول أين ‏الإمام عليّ كرّم الله وجهه، وأين علومه ؟، فأقول يا لله ‏العجب ! ومع ذلك ‏يحتفل به من أهل زمانه إلاّ القليل، حتى كان يقول: (أنا ‏جنب الله الذي فرطتم ‏فيه وهو المنبر، والمفرّط فيه هو المفرّط الآن في أهل ‏زمانه).

ب: يقول رضي الله عنه في تفسير سورة (الفاتحة)، ولنأخذ مقتطفات من ‏ذلك: ‏‏‏ 

(1) : إنّ التالي أو القارئ لكتاب الله مهما يرسل طرفه ويحرّك لسانه، إلاّ ‏‏ويلتصق بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، فيكون ذاكرا للاسم متبرّكا به من حيث ‏لا ‏يشعر، قصد أم لم يقصد، حبّ أم كره، ولمّا جاء الإسلام بالتساوي بين أفراد ‏‏الإنسان، وأنّه لا فضل لأحد على أحد إلاّ بتقوى الله، أمر الشارع أن لا يذكر ‏‏اسم عند فعل ذي بال إلاّ اسم الله أن يكون ذراعه لفعله، والحكمة من ذلك ‏‏لكونه تعالى لم يأذن فيه، ثمّ إنّ الباء في بسم الله الرحمن الرحيم جاءت للإلصاق ‏‏فهي ملتصقة بلفظ الجلالة الله، لأنّ الاسم غير فاصل بينهما لكونه عين المسمّى ‏‏عند القوم وجمهور الأشاعرة فصار الابتداء بالله فمنه بدأ الأمر وإليه يعود، أمّا ‏‏استطالة الباء وخروجها عن مقتضى عادتها فليس ذلك إلاّ لاتصالها بالاسم ‏المتصّل ‏بالمسمّى من أهل الله أولى بالارتفاع على أبناء جنسه، وأمّا نيابتها عن ‏الألف ‏المحذوفة من الاسم تشير إلى نيابة الوارث المحمديّ عن الله في خلقه: (يا ‏داود إنّا ‏جعلناك خليفة في الأرض, ص آية, 26)، (من يطع الرسول فقد ‏أطاع الله, ‏النساء آية, 80)، وفي بعض الأثر يشير إلى انطواء جميع الأشياء في ‏وجود ‏موجدها، والمعنى أنّ ما فيها مفرع عمّا فيه: (وإن من شيء إلاّ عندنا ‏خزائنه, ‏الحجر آية, 21)، وأمّا تقديم اسم الجلالة على غيره من أسماء الله ‏الحسنى يشير ‏إلى تخصيص الذات بالسابقيّة، وتكون الأسماء والصفات في حال ‏الكنزيّة.‏

إنّ الضمير الساكن المفهوم من خفضة الباء المؤول في بعض الألسن على ما ‏‏يقتضيه السرّ المصون، فهو راجع المؤول في بعض الألسن على ما يقتضيه السرّ ‏‏المصون، فهو راجع لصفة الفعليّة المعبّر عنها بالقبضة النورانيّة في السنّة الصوفيّة ‏‏فهي القائلة لحضرة القدم والكنز المطلسم على لسان الباء للاسم الأعظم في اسم ‏‏الله، فالقدير بالمقدور قادر، والبصير بالمبصور باصر، وهكذا النظائر، ولمّا كانت ‏‏الأفعال مظهر للأسماء، والصفات دون الذات التصقت الباء بالاسم دون المسمّى ‏‏الذي هو الله، لتكون إشارتها عائدة عليه في الإظهار، وأمّا الذات فهي التي ‏‏أوجبت لها الإضمار، لأنّه تعالى ظاهر بذاته، ما لم يعتبر الفعل، وإلاّ كان باطنا ‏‏بذاته ظاهرا بصفاته.‏

(2): إنّ الفاتحة سبع آيات، وتسمّى أم الكتاب، وإنّ تصدّرها في أول ‏الكتاب ‏فيه رحمة من الله بالقارئ وتعليم وتلقين، وتوقيف للعبد على خطّة ‏الأدب، ليقوم ‏بما وجب عليه من الشكر، حيث صيّره أهلا لمواصلته تعالى، وهي ‏نعمة لا يوازيها ‏شكر. فإنّه أول ما يجريه الله على لسان العبد أن يخصّه تعالى ‏بجميع المحامد، ثمّ ‏يعترف له بالربوبيّة، وأنّه لا ربّ سواه في جميع العالمين على ما ‏تقتضيه الإضافة، ‏ولقد أوقف الله العبوديّة عند مركز الاعتدال، فاستجلبها ‏بالجمال وهدّدها ‏بالجلال، فأخذت حظّا من التمكين بقوله تعالى: (مالك يوم ‏الدين, الفاتحة آية, ‏‏4)، وبما أجراه على لسانها من صفة العدل، وأنّه لا بدّ من ‏يوم الفصل، فلزم ‏بالطبع أن نلتجئ إلى حصن حصين، فلقّنها تعالى أن تقول: ‏‏(إيّاك نعبد وإيّاك ‏نستعين, الفاتحة آية, 5)، فالشق الأول تقاوم العدل، والثاني ‏تستوجب الفضل، ‏ولمّا كان الشق الأول لا يقوم بانفراده، لأنّه الغالب معلول، ‏والشق الثاني متعذّر ‏الحصول، وفي الغالب يكون دعوة باللسان، والدعوة تحتاج ‏إلى بيان ألهمها تعالى ‏أن تسأل الهداية إلى ذلك السبيل القويم بقوله: (اهدنا ‏الصراط المستقيم, الفاتحة ‏آية, 6).‏

(3): إنّ الإشارة تفيد أنّ العبادة عبودة، وأنّ الحقائق في الشرائع موجودة، ‏وهي ‏سريرة خصّصت بالخفي تدق عن البصائر فضلا عن الأبصار، وهي التي ‏تصحّح ‏الوقوف مع الله لأحد وإن كان يوجد وتنفيه عن الآخر، وإن كان ‏يتعبّد، ولولا ‏أنّ في الصلاة غاية، وفي السير نهاية ما أجرى الله على لسان العبد ‏وهو في الصلاة ‏أن يسأل الصراط المستقيم، ففهمنا من هذا أنّ فعل الجوارح ليس ‏هو بالغاية ‏كافل، وإلاّ كان المسؤول من قبيل تحصيل الحاصل.‏

(4): يقول رضي الله عنه في تفسير كلمة (العالمين)، من الآية (الحمد لله ربّ ‏‏العالمين, الفاتحة آية, 2)، إنّ العالمين جمع عالم، وهو عبارة عمّا سوى الله في ‏‏الجملة، ومجيئه بهذه الصيغة يفيدنا أنّ لله تعالى عوالم لا غاية لها من جهة الكثرة، ‏‏قال عليه الصلاة والسلام: (إنّ لله ثمانية عشر ألف عالم كعالمكم هذا)، وعن أبي ‏‏سعيد الخدري رضي الله عنه: (إنّ لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى ‏‏غربها عالم واحد)، وذكره الشبرخيتي، ولا وجهة لمن حصر العوالم في هذه الكرة ‏‏الأرضيّة إلاّ عدم انتباهه لسعة ملك الله، ذكر الغزالي رضي الله عنه: (أنّ رسول ‏‏الله صلّى الله عليه وسلّم دخل على أصحابه ذات يوم، وهم يتفكرون، فقال: ما ‏‏لكم لا تتكلّمون؟، فقالوا: نتفكر في خلق الله عزّ وجلّ، قال: فكذلك فافعلوا ‏‏تفكّروا في خلقه ولا تتفكروا فيه، فإنّ بهذا المغرب أرضا بيضاء، نورها بياضها، ‏‏وبياضها نورها مسيرة الشمس فيها أربعون يوما، بها خلق من خلق الله عزّ ‏‏وجلّ، لم يعصوا الله طرفة عين، فقالوا: يا رسول الله، فأين الشيطان منهم ؟، ‏‏فقال: لا يدرون خلق الشيطان أم لا، فقالوا: أمن أولاد آدم ؟، قال: لا يدرون ‏‏خلق آدم أم لا) ذكره الغزالي في جواهر القرآن، إنّ الإشارة في قوله: (إيّاك نعبد ‏‏وإيّاك نستعين, الفاتحة آية, 5)، تشعرنا بلزوم ارتباط الشريعة بالحقيقة، فالشق ‏‏الأول من الآية شريعة، والشق الثاني منها حقيقة، الأول يثبت شيئا من الكسب، ‏‏والثاني ينفيه، فالأوّل للنظر العام أقرب، والثاني عند الخواص أرغب، لأنّ الأول ‏‏عمل لله، والثاني عمل بالله، فالأول عمل الأبرار لأنّهم قائمون لله، والثاني عمل ‏‏المقربين لأنّهم قائمون بالله، فالأول غايته طلب الجزاء، والثاني كفى به جزاء، ‏لأنّ ‏الأول علّته لأداء واجب التكليف، والثاني زبدة نتائج التعريف، فالشق الأول ‏‏مكابدة، والثاني مشاهدة، فهذا يتألم في عبادته، والآخر يتنّعم في مشاهدته: (كلا ‏‏نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورا, الإسراء آية, ‏‏‏20)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله)، والمعنى أنّ ‏‏وجود العبد اسبق من العبادة، فالمعرفة ثمّ العبادة، فالمعرفة تستلزم العبادة لا ‏‏العكس، إنّ لسان الروح يفني ضمير النون من إيّاك نعبد في ضمير إيّاك نستعين، ‏‏حتى إذا انحصرت العبادة في الاستعانة، بقيت الاستعانة والمعين، فأين العبادة ‏‏والعبد إن كنت ذا يقين؟، فسرّه يعبده وحقيقته تشهده.

(5): ويقول رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم, ‏‏الفاتحة آية, 6)، الهداية أنواع وهي عبارة عن ملكة تحدث في الإنسان، وفي ‏‏غيره من الحيوان، تلهمه المنافع والمضار بقدر استعداده لذلك، وهي في الإنسان ‏‏على شقين فالشق الأسفل منها يتصّل بالحيوان، والشق الأعلى منها يتصّل ‏بملائكة ‏الرحمن، وهو المراد به، ثمّ إنّه في الإنسان على قسمين أيضا، فمنهم من ‏هداه الله، ‏ومنهم من زادهم هدى، فأمّا من شرح الله صدره للإسلام بأن أوقفه ‏على ‏الصراط، المستقيم فانتهى به السير إلى جنّة النعيم فقد اهتدى، وأمّا من زاده ‏هدى ‏فهو المشار إليه بقوله تعالى: (يهدي الله لنوره من يشاء, النور آية, ‏‏35)، ثمّ ‏إنّ الصراط المستقيم هو عبارة عن شريعة نبويّة وخطّة سّماويّة وهذا ‏باعتبار ‏العبادة العمليّة، وأمّا باعتبار العبادة العقليّة أو نقول الاعتقاديّة فهو عبارة ‏عن ‏خطّة جامعة بين طرفي المتناقضين نحو الإفراط والتفريط فهو أدقّ على ‏الإدراك، ‏يتعذّر سلوكه بالانفراد وإن مع وجود الاستعداد، فالواقفون عليه كثر، ‏‏والسائرون عليه قليلون، والواصلون أقل.

(6): ويقول لسان الروح: سألت مسؤولا عن صراط العقول، فأجاب قائلا: ‏‏خطّة رقيقة وسيمة دقيقة، متعذّرة السلوك، كثيرة الشكوك، بين جزر واعتزال ‏‏مبدؤه، وتنزيه وتشبيه وسطه، وحرية وتكليف غايته، فالميل لأحد الشقيّن ‏مضر، ‏والجمع بينهما متعذّر إلاّ لذوي الجناحين المسمّى بواحد في اثنين، قلت عزّ ‏المنال ‏وندمت على السؤال.

‏(7): إنّ الاستنباط المستخرج من قوله تعالى: (الحمد لله إلى قوله ولا الضالين)، ‏‏هو اثنا عشر حكما نأخذ منها على سبيل الدلالة:

  1. الأول: علمنا بوجود عوالم لا تحصى ذكرها من ذكره تعالى بصيغة الجمع.‏ 
  2. الثاني: علمنا بأنّ الجماليّة في نعوت الألوهيّة أسبق مكانة من الجلاليّة من تقدّم ‏‏الاسمين الرحمن الرحيم على غيرهما من سائر الأسماء.‏ 
  3. الثالث: علمنا بأنّ الإسلام جاء على شقين، تحقيقا وتشريعا من قوله: إيّاك نعبد ‏‏وإيّاك نستعين.‏ 
  4. الرابع: علمنا بمطلوبية الجماعة في الصلوات الخمس من إتيانه تعالى بضمير الجمع ‏‏في قوله نعبد، لأنّ المقام مقام تذلّل لا يصلح للمعظّم نفسه.‏ 
  5. الخامس: علمنا بأنّ أهم شيء أولى بالسؤال من الله أن يسأله العبد الهداية إلى ‏‏الصراط المستقيم.‏ 
  6. السادس: علمنا بأنّ الحقّ يريد منّا رفع الهمّة، بأن نسأل منه أرفع المنازل لا ‏‏أدناها، من قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم)، ولا شكّ أنّ منهم النبيّين ‏‏والصديقين والشهداء والصالحين. 
  7. السابع: علمنا بأنّ المغضوب عليهم أسفل دركة من الضالين من التنصيص عليهم ‏‏أولا.

(8): إنّ الإشارة في عموم السورة إلى افتتاح الفاتحة بالاسم الشريف واختتامها ‏‏ب (ولا الضالين) لذكرى للذاكرين جاء الاسم الأعظم على منصتها يشير إلى ‏‏استيلائه على عروش حقائقها حقيّة أو خلقيّة، ولمّا أخذ الخط الأكمل من ‏الظهور ‏أخذ في التدلي والتنزّل، ليحوز رتبتي البطون والظهور حتى بلغ من ‏الاختفاء غايته، ‏وبالأخص عند التنزّل الآخر المغضوب عليهم والضالين، فكاد أن ‏لا يعرف، لا ‏تدركه الأبصار، جاء في الأثر ما يدلّ على أنّ الفاتحة قسّمت بين ‏العبد وربّه، ‏فحظّ العبوديّة الشق الأسفل منها، ولمّا كانت الربوبيّة تقتضي ‏الظهور، والعبوديّة ‏مقتضى البطون، جاءت أسماؤه تعالى في الشق الأعلى فظهرت، وهي الله والربّ ‏والرحمن والرحيم والملك، فهذه خمسة كلّها فظهرت، ‏ثمّ ذكر نفسه في الشق ‏الأسفل منها في خمسة مواضع أيضا كلّها مضمرات ‏وهي: الكاف في قوله إيّاك ‏نعبد، والكاف الثانية من قوله إيّاك نستعين، وضمير ‏الفاعل من قوله اهدنا، والتاء من قوله أنعمت عليهم، والفاعل المحذوف من قوله ‏المغضوب عليهم، فعليهم ‏مرتفع على نيابة الفاعل فهذه خمسة من أسمائه تعالى، ‏ذكرت مضمرات، مقابلة ‏للخمسة المظهرات، فحصل التقابل، وتمّ التعادل، ‏فاتضح حينئذ أنّه الظاهر فيما ‏ظهر، والباطن فيما بطن، وحيث ما كان فهو الله، ‏وهو الذي في السماء إله وفي ‏الأرض إله، ثمّ اعلم إنّ أول التنـزلات التحقت ‏بالذات صفة الربوبيّة، ولهذا ‏ذكرت بعد اسم الذات على البدليّة، ثمّ الرحمانيّة ‏للزوم الاستواء (الرحمن على ‏العرش استوى, طه آية, 5)، فبموجب ذكر العالمين تعيّن الاستواء، ثمّ الرحيميّة ‏فيما بين المستوى عليه وهي داعية الائتلاف، ‏ثمّ الملكيّة للفصل إن كان خلافا، ‏ولمّا وصلت الربوبيّة إلى هذه الغاية في التنـزّل، ‏وهو الفصل ما بين العبادة ‏والاستقامة، ولولا هذا التنـزّل الأخير لما تعلّقت بها ‏العبوديّة، قائلة: إيّاك نعبد ‏وإيّاك نستعين، ولمّا صحّ الالتجاء، واتضحت الحجّة ‏ذكر نفسه تعالى مضمرا، أداء لواجب البطون، غير أنّه مصدرا أول الخطاب إيّاك ‏نعبد وإيّاك نستعين، ثمّ ‏أخذ في الإضمار، وتأخر عن صدرات الكلام في الفعل ‏في اهدنا، والتاء من ‏أنعمت، ثمّ اختفى البتة في المغضوب، لا نونا ولا تاء لكن ‏مع بقاء الفاعليّة بعد ‏التقدير تجرّد عن الضالين، فمع كونهم مفعولين صيّرهم ‏فاعلين، فهذا هو حدّ ‏الخفاء، وهذا الظهور لأهل الصفاء، إنّ لسان الروح يقول: ‏يستبعد أن يرى أول ‏جزء من الفاتحة أي الحمد مجرّدا عمّا بعده، بل يراها بما فيها ‏لله، وإلاّ لم يكن ‏الحمد لله، لأنّ الحمد اسم لجميع السورة، وهو لله.

ج: يقول رضي الله عنه في تفسير سورة (البقرة ولغاية أول آية, 108)، ‏ولنأخذ ‏مقتطفات من ذلك:‏

(1) : إنّ الإشارة تفيد بأنّ (ألم)، فالألف من اسم الله، واللام من جبريل، ‏‏والميم من محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإذا وصلت الحروف ببعضها جاءتك ‏‏الإشارة، قائلة: ألم يكن ذلك الحقّ بلى الله الذي أنزل الكتاب إلى محمد بواسطة ‏‏جبريل لا زائد على ما به الإشارة، كان القرآن متعلّقا بالألف ثمّ اتحد مع اللام، ‏‏ثمّ استجمع في دائرة الميم، ومن المعلوم أنّ الكتاب متواصل من الله إلى جبريل إلى ‏‏محمد، ووجه اختصاص الألف بإشارته للألوهيّة لاستقامته، وكونه أول الحروف ‏‏الهجائيّة وآخرها همزة، وظهر في الحروف لأنّها مأخوذة من مساحته، فما الحاء ‏‏إلاّ ألف محدودب، والميم ألف مستدير، وباطن فيها من جهة كونه لا تدركه ‏‏الأبصار في دائرة الميم مثلا، واللام يشير إلى جبريل لقربه من الألف من جهة ‏‏الصورة لا من جهة الجر والانعطاف، والميم تشير إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، ‏‏لانتهائه في دائرة العبوديّة، فهو العبد على الحقيقة، فبانعطافه فيه انتهى أوله في ‏‏آخره غاية في الاستعداد (إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد, القصص ‏‏آية, 85)، فمن فاتته معجزة النبيّ لم تفته معجزة القرآن، لأنّه دلّ بنفسه على ‏أنّه ‏كلام الله بشهادة الغير لما حواه من الإعجاز لفظا ومعنى، وخروج نظامه ‏عمّا في ‏طوق البشر، بخلاف غيره من الكتب السّماويّة، فإنّها تتوّقف صحة ‏نسبتها لله ‏على شهادة شاهد صادق، فمن نظر القرآن بعين الإنصاف، وتأمله ‏بفؤاد ‏الاعتراف يعلم بالضرورة أنّه كلام الله، وقد كنت اجتمعت في سياحة مع ‏بعض ‏أحبار اليهود، فتكلّمنا في التوراة ونظامه ثمّ تكلّمنا في القرآن وأسلوبه ‏وكان له ‏حفظ من كتاب الله، فقلت له: أتل شيئا منه، ورتله ترتيلا، فاستفتح ‏سورة ‏الرحمن، وكان كلّما مرّ على قوله تعالى: فبأي آلاء ربّكما تكذبان تأمل ‏ما قبله، ‏فلم يبلغ ربع السورة حتى تلألأ وجهه عرقا، وقال: أشهد أنّه كلام الله، ‏ثمّ نطق ‏بالشهادتين، واعترف بالإسلام، فافترقنا على هذا العهد، والله أعلم بما ‏وراء ‏ذلك.

(2): إنّ الكتاب المشار إليه ب (ذلك الكتاب لا ريب فيه, البقرة آية, 2)، ‏‏عبارة عمّا ظهر من الكائنات راجع للعالم بأجمعه، جوهره وعرضه، لا ريب فيه ‏‏أي لا شكّ فيه، إنّه متنـزّل من الحضرة الأقدسيّة وشعاع الألوهيّة، واتصال ‏‏الكتاب بالميم يشير بتدفقه من دائرتها عبارة عن القبضة النورانيّة والحضرة ‏‏المحمديّة، فالكون بما فيه نورانيّ الحقيقة بكلّ اعتبار، عرفت أم لم تعرف (وما ‏‏خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ, الحجر آية, 85)، شاهدت ‏أم ‏لم تشاهد، ومن لم يره من الحقّ وبالحقّ نزل،  فقد أعوزه وجود الأنوار، ‏‏وحجبت عنه شموس المعارف بسحاب الآثار. فالكتاب موصل إلى الله بالمقال، ‏‏والكون موصل بالاستدلال، والكتاب فيه ذكر أسمائه تعالى وصفاته، وفي الكون ‏‏ظهور أسماء الله وصفاته وآثاره، وإنّ الكتاب لن تزال حقيقته مستترة إلاّ عند ‏‏الخصوص من جهة الحدوث والقدم، وكما إنّ الكتاب مؤلف من حروف ‏‏وألفاظ ليست مقصودة بالذات، فكذلك الكون مؤلف من جواهر وأعراض ‏‏تومئ لما فيها. وبما إنّ الكتاب تنزل من حضرة العلم إلى حضرة القول، فكذلك ‏‏الكون تنزّل من حضرة العلم إلى حضرة الفعل. وكما إنّ الكتاب يضلّ به كثيرا، ‏‏ويهدي به كثيرا، فكذلك الكون يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضلّ به ‏إلاّ ‏الفاسقون، ولا يهدي به إلاّ المتقون.

إنّ لسان الروح يقول: ألم مبتدأ، خبره ذلك الكتاب الذي هو المظهر بأجمعه لا ‏‏ريب فيه ولا زائد عليه، فميمه ملك، ولامه ملكوت، وألفه جبروت، فالميم مجلى ‏‏الظواهر، واللام غيب السرائر، والألف فيهما ظاهر، اتصلت الميم باللام لوجود ‏‏الالتزام من حيث المكان والتكليف، وانفصلت الألف من حيث المكانة ‏‏والتعريف، وبهذا التقرير يستغني عن كثرة الكلام، وتكون الميم خبرا عن اللام، ‏‏وكلاهما أخبر عن الألف، واتحدت حريّة وتكليف، وبطون وظهور، والى الله ‏‏تصير الأمور.

(3): إنّ الاستنباط من قول الله سبحانه وتعالى: (يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم ‏‏الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون, الذي جعل لكم الأرض فراشا ‏‏والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا ‏‏لله أنداد وأنتم تعلمون, البقرة آية, 21-22)، يستخرج منه ستة أحكام:

  1. الأول: علمنا بأنّ العبادة هي أبلغ داع في حصول التقوى لمن أراد أن يكون من ‏‏المتقين من قوله (اعبدوا ربّكم) إلى قوله (تتقون).‏ 
  2. الثاني: علمنا بأنّ الله تعالى قد يقبل العبادة من غير المتقين كما يأمرهم بها من ‏‏دعوته تعالى لهم قبل حصول التقوى منهم، ولو لم تقبل إلاّ بها لكانت علّة في ‏‏وجودها. 
  3. الثالث: علمنا بأنّ الأول للناس أن يعبدوا ربّهم شكرا، أداء لواجب ما في ذمتهم ‏‏من نعم الله أولى من أن تكون عبادتهم لحظ في الأجل، كطلب الجنّة مثلا، من ‏‏قوله (اعبدوا ربّكم الذي خلقكم إلى آخره)، حيث استلفتهم لنعمة عليهم، التي ‏‏أعظمها نعمة الإيجاد. 
  4. الرابع: علمنا بأنّ الأولى للمعلم أن ينقل تلامذته للبسائط، ثمّ المركبات، ليكون ‏‏أدعى للفهم، من قوله (الذي جعل لكم الأرض إلى آخره)، حيث استلفتهم ‏‏للأجرام، ثمّ إلى كيفيّة خلق النبات.‏ 
  5. الخامس: علمنا بأنّ التوحيد هو من العبادات التي يؤجر عليها العبد يوم الجزاء، ‏‏من تفسيره لها تعالى بعد ما طلبها من الناس بقوله (فلا تجعلوا لله أندادا).‏

إنّ الإشارة لهاتين الآيتين ترى أنّ الله تعالى لا يدعو عباده في الغالب إلاّ لمعرفته ‏‏الخاصّة، ولهذا فسرت العبادة المدعوون لها بقوله (فلا تجعلوا لله أندادا)، وليس ‏‏المراد بالند إلها آخر، فذلك لا يعقل، لأنّ الخطاب راجع لأهل العلم، المشار ‏إليهم ‏بقوله (وأنتم تعلمون)، ومن يجعل مع الله إلها آخر لا علم له، وعليه فيكون ‏نهيا ‏للمتوجه أن يرى كينونة لأحد مع الله، فيكون متخذّه ندا. إنّ لسان الروح ‏لهاتين ‏الآيتين: لقد سألته عن الند، فقال لي: لم يوجد، فقلت: ما بال وقوع ‏النهي عليه؟ ‏قال: لأنّها مكابرة حيث ادعى العبد بجعله ما عجزت القدرة عن ‏مثله.

‏(4): قد تقدّم أنّ القرآن العظيم مؤسس في سابق علمه، وأنّه مبعوث إلينا على ‏‏ما هو عليه، ولمّا كان مشتملا على عدّة أمثال ضربها تعالى تقريبا للأفهام، نوه ‏‏لذلك في صدر الكتاب ليكون القارئ على بصيرة ممّا يطرق سمعه من الأمثال، ‏‏وإنّ تفسير هذه الأمثلة في قوله: (إنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة ‏‏فما فوقها, البقرة آية, 26)، أي لا يمتنع مهما كان فيها ما ينهض بالعقول ‏‏السليمة لمقاصد القرآن، فما بالك فيما فوقها ممّا هو كالرعد والبرق والمشكاة ‏‏المضروب بها المثال لنوره في قوله: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح, النور آية, ‏‏‏35)، إلى غير ذلك (فأمّا الذين أمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الذين ‏‏كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ ‏‏به إلاّ الفاسقين, البقرة آية, 26)، الثابت ولا يشكون أنّه من ربّهم ليتوصلوا ‏به ‏لما هو الأعلى من مراده تعالى بالقرآن، وبمن نزل عليه، أي فأي شيء هذا ‏المثال ‏حتى يضربه تعالى، وما أراد به يقول ذلك استخفافا بالقرآن، وكلّ من لم ‏تقم ‏عنده ألفاظ القرآن جميعها أجل مقام يخشى أن يشمله هذا الحكم بأن يكون ‏ذلك ‏اللفظ سببا في ضلالته، فدلّ هذا على أنّ الكثير ممّن حقّت عليه الضلالة ‏بسبب ما ‏استشكله من بعض ألفاظ القرآن بأن لم يتلقاها بالتسليم، أي بذلك ‏اللفظ والمثال ‏نفسه، فتكون حكمة نزوله لهداية البعض، وهو الغالب المضروب ‏المثال من أجله ‏وضلالة البعض، ولمّا ذكر الله تعالى أنّ القرآن ما يضلّ به ‏اقشعرت الجلود، ‏وتشوشت القلوب لما تعلمه من القرآن أنّه هدى ورحمة ‏للمتقين، فأتى تعالى بما ‏يزيل الإشكال،  وينزّه جانب الهداية على جانب ‏الضلالة للسفهاء والمرتدين ‏‏(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)، فدلّ هذا ‏على أنّ هؤلاء يكون لهم عهد ‏وتمسّك بالدين وبما يستعبدونه من أمثال القرآن ‏ينقضون عهدهم (ويقطعون ما ‏أمر الله به أن يوصل)، من صلة أرحام المؤمنين ‏وموالاتهم، ويستبدلونها بموالاة ‏أعدائهم (ويفسدون في الأرض)، ببث أفكارهم، ‏وخبث انتقادهم على الإسلام ‏والمسلمين، ولن تخلو الأمّة من هؤلاء بين أظهرها ‏‏(أولئك هم الخاسرون, البقرة ‏آية, 27)، بما فاتهم من كتاب الله بسبب ‏انتقادهم، وقلّة انقيادهم، ولو صدقوا ‏الله لكان خيرا لهم.

(5): إنّ الإشارة من قول الله تعالى: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في ‏‏الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ‏‏ونقدّس لك قال إنّي أعلم مالا تعلمون, وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على ‏‏الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين, البقرة آية, 30-31)، ‏‏فالخليفة للملك هو عبارة عن المتولّي لأمور القائم بشؤونه بمعنى أنه يخلفه في المحل ‏‏المستخلف فيه، ولا بدّ وأن يكون فيه من نعوت الملك من جهة العطاء والمنع، ‏‏والنفع والضر وغير ذلك من النعوت التي تربطه بالملك، وتميّزه عن المملوك، ‏‏والمعنى أنّه يكون ملكا من وجهة مملوكا من الأخرى، وبهذا الموجب ظهر تعالى ‏‏في آدم بعموم أسمائه وصفاته، خلق الله آدم على صورته، ولولا ذلك لما ‏سجدت الملائكة له، فمن نظر وجه الملك في الخليفة فقد قام بحقّه، ومن لم يعرفه ‏باء ‏بغضبه، وما تميّزت الملائكة من الشياطين إلاّ بذلك، فملاحظة الحقّ في الخلق ‏‏خطة الملائكة المقرّبين وعدم ملاحظته خطة الشياطين، والناس جاءت على ‏أزواج ‏ثلاثة، فطائفة على نعت آدم، وهم العارفون والجهابذة الواصلون، عرفوا ‏الأسماء ‏وحقائقها، والصفات ودقائقها، والذات ومقتضياتها، فاستحقوا بذلك ‏الخلافة ‏الإلهيّة والظهور على جميع البريّة، وطائفة جاءت على خطّة الملائكة، ‏وهم العلماء ‏العاملون، والزهّاد الصالحون، غير أنّهم محجوبون عمّا وراء الستور ‏فيما يقتضي ‏الشعور، ولهذا تجدهم ينتقدون على القوم أحيانا فيما يظهر لهم في ‏سيرتهم من ‏النقص، كما ظهر للملائكة في آدم لكن قبل أن يطلعهم الله على ما ‏لهم من ‏المزايا، ويستر عنهم أوصاف البشريّة بسرّ الخصوصيّة، وأمّا بعد الإطلاع ‏فهم ‏أبعد من أن يجحدوا الحقّ، لكن يبتليهم الله بالسجود إليهم، كما ابتلى ‏الملائكة بالسجود لآدم، ولهذا لا تجد عالما ممّن يتوسم بالصلاح إلاّ وهو يدين ‏بالانحطاط ‏للقوم والاعتراف بعلومهم، ولا تجدهم بين أيديهم إلاّ كما تجد ‏الملائكة بحضرة ‏آدم عليه السلام، وهذه الطائفة أقرب من الولاية الخاصّة، الطائفة ‏الثالثة، وهي ‏أبعد الطوائف عن الله سارت على خطّة الشياطين، والحقّ يقول: ‏‏(ولا تتبعوا ‏خطوات الشيطان, البقرة آية, 168)، فإنّها لم تعترف بالإيقان، ‏ولا تدين ‏بالشهود ولا بالعيان ترى كأنّ الوجود فارغ من كلّ معنى راجعة ‏لذات الله ‏وصفاته ‏‎–‎‏ عافانا الله من الاحتجاب ‏‎–‎‏ ثمّ إنّ نظير آدم على ما به ‏الإشارة تنزّل ‏اللطيفة الروحانيّة من سماء الحريّة لتقوم بالخلافة في هذا البدن على مقتضى ‏العبوديّة، فبعدما تعلّقت به على كره حسبما يقتضيه فراق الوطن وما ‏كانت عليه أيّدها الله عزّ وجلّ بما تحتاج إليه، وخصّها بخصائص كانت مقصورة ‏عليه، ومن ‏ذلك أن أسجد لها الملائكة، فهي إلى الآن حافة من حوله، فمنها ‏ساكنة في بدنه، ‏ومنها خارجة عليه، ألا ترى أنّ الإنسان في حالة النوم والأنفاس ‏تجري مجراها، ‏والدماء تسلك مسلكها، وحركة العروق مثل ذلك، وليس ذلك ‏إلاّ من آثار ‏الموكلين به، ومنهم سكان القوّة الفكريّة، وسكان القوّة العقليّة ‏والبصريّة ‏والسمعيّة، وقس على ذلك: (وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو, المدثر آية, 31)، ‏وكلّ هذا من آثار السجود لآدم، وإنّ امتناع الشيطان من السجود لآدم ‏لما ‏تقتضيه حقيقته الناريّة المستمدّة منها القوّة الغضبيّة والطبيعيّة فهي مالكة بالطبع لا ‏تنطوي تحت القوّة الترابيّة، ولهذا تجد الإنسان كيفما كان إلاّ والغضب ‏يستفزه، وجاء في الخبر إنّ الغضب شيطان، وأمّا ما مقرّ آدم في الجنّة نظيره ‏صيبوبة ‏الإنسان، فهي جنّة يتبوأ منها حيث يشاء، بحيث لا يسأل عمّا يفعل، ولمّا ‏‏استعملت فيه الغريزة الشهوانيّة، واستحكمت منه القوّة الناريّة التي هي حقيقة ‏‏الشيطان دعته إلى شجرة المخالفة، فأكل منها، فأهبطه الله إلى دركة التكليف، ‏‏وحصل بين القوّة العقليّة والطبيعيّة عداوة أبديّة، فمن كان تعلّقه بالقوّة العقليّة ‏‏كان مقرّه الحضرة الإلهيّة المشار لها بقوله تعالى: (ثم اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى‏‏, ‏طه آية, 122)، ومن أخلد إلى الأرض قال تعالى: (نوله ما تولى, النساء آية‏‏, ‏‏115).‏

إنّ لسان الروح في هاتين الآيتين القرآنيتين يقول: يعتبر آدم اللطيفة الإلهيّة ‏المتنـزّلة ‏من سماء الحرية إلى أرض العبوديّة بما اشتملت عليه من الصفات الكماليّة ‏على ‏مقتضى أنّه جاعل في الأرض خليفة، خطاب من حضرة الذات القدسيّة إلى ‏‏السماء الأزليّة، فأجاب العدل بلسان المتكلّم قائلا: أتجعل في أرض العبوديّة من ‏‏يفسد فيها، ويسفك الدماء مستفهما عمّا تقتضيه الإرادة الأزليّة والحكمة ‏‏الأبديّة، وكان العليم أحوط بالجزئيّات فضلا عن الكليّات، قال: إنّي أعلم ما لا ‏‏تعلمون. فرجعت الأسماء لصفاتها، والصفات لذاتها قائلة: لا يسأل عمّا يفعل ‏‏وهم يسألون.

(6): إنّ الاستنباط من قول الله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك ‏الجنّة ‏وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين, ‏فأزلهما ‏الشيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ‏ولكم في ‏الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين, فتلّقى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه ‏إنّه هو ‏التواب الرحيم, قلنا اهبطوا منها جميعا فإمّا يأتينكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا ‏خوف عليهم ولا هم يحزنون, والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك ‏أصحاب النار هم فيها خالدون, البقرة آية, من 35-39)، يستخرج منه ‏عدّة أحكام:

  1. الأول: علمنا بأنّ استقر في محلّ يسمّى بالجنّة مدّة من الزمان في أول أمره من ‏‏قوله: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة). 
  2. الثاني: علمنا بأنّ الجنّة التي كان فيها لحقته فيها بعض التكاليف من قوله: (ولا ‏‏تقربوا هذه الشجرة)، حيث عبّر بالقرب، فيكون ما أكله ممتنع من طريق ‏‏الأحرويّة.‏ 
  3. الثالث: علمنا بأنّ الشيطان كان له نفوذ بالجنّة بعد خروجه منها، وقبل هبوطه ‏‏إلى الأرض، وإلاّ لما وصلت وسوسته إلى آدم وهو بالجنّة من قوله: (فأزلهما ‏‏الشيطان عنها). 
  4. الرابع: علمنا بأنّ الخروج من الجنّة هو غير الهبوط الآتي ذكره، ولهذا بقيت يد ‏‏الشيطان في الجنّة من قوله: (فأخرجهما ممّا كانا فيه). 
  5. الخامس: علمنا بأنّ الشيطان تأخر هبوطه عن خروجه من الجنّة، حتى أهبطه الله ‏‏مع آدم وحواء من قوله: (وقلنا اهبطوا) حيث أتى بضمير الجمع.‏ 
  6. السادس: علمنا بأنّ للشيطان فروعا وأبناء، كما لأدم، من قوله: (بعضكم ‏‏لبعض عدو)، إنّ الإشارة في قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة)، حيث ذكرها ‏‏بالجنس، ولم يذكرها بالنوع تفيد وجوب التوقي والاحتراز من كلّ مشتبه فضلا ‏‏عن المنصوص عليه بالمنع، لئلا يكون دخلا تحت الجنس، وفي تعبيره عن الأكل ‏‏بالقرب كفاية، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.‏

إنّ لسان الروح يقول: إنّ آدم وإن أساء في دار الإحسان، فقد أحسن في دار ‏‏الإساءة، ليعلم أبناؤه احتمال وقوع الشيء في ضده، حتى لا يأمن أحدهم مع ‏‏الأمن، ولا ييأس مع الخذلان.

(7): ولمّا أنهى تعالى الكلام على الجناية التي ارتكبها بنو إسرائيل من جهة ‏عبادة ‏العجل شرع في ذكر جناية أخرى، فقال: (وإذ قلتم)، وتفسير ذلك أي ‏تذكروا ‏مقالتكم عندما خرجتم تعتذرون إلى الله من عبادة العجل (يا موسى لن ‏نؤمن لك ‏حتى نرى الله جهرة)، أي بالأبصار، والقائلون هم السبعون المختارون ‏للميقات ‏‏(فأخذتكم الصاعقة)، التي كادت أن تذهب بكم إلى العدم المحض ‏‏(وأنتم ‏تنظرون)، ما حلّ بكم (ثمّ بعثناكم من بعد موتكم)، أي أرجعناكم إلى ‏قيد ‏الحياة، فدلّت الآية على مفارقتهم الدنيا، وقال وهب إنّهم لم يموتوا إنّما ‏أخذتهم ‏رعدة، ورجفة لما عاينوا تلك الهيبة الهائلة، وعلى هذا يكون إطلاق ‏الموت هنا من ‏قبل إطلاقه على النوم أحيانا والبعث من ذلك القبيل، كما في قوله ‏بعثناكم، لنعلم ‏والذي يقوي حجة ما ذكرنا هو قوله: (وأنتم تنظرون)، إنّما لو ‏حصلت لهم ‏مفارقة الأبدان، لم يتمكن لهم النظر -والله أعلم-‏‎‏ ثمّ أقول لا ‏جناية في سؤال ‏الرؤية، لأنّ موسى كان سألها من قبل، إنّما الجناية في تعليق ‏الإيمان عليها بقولهم: ‏لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وهذا أبلغ غاية في ‏ضعف العقيدة لما يلزم أنّهم ‏ليسوا بمؤمنين في حال سؤالهم لها، وهذا مستبعد جدا ‏في عصبة من خيار قوم ‏كليم الله، ولكن من المحتمل أن يكون المراد بقولهم: لن ‏نؤمن لك حتى نرى الله ‏على حدّ قضية سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما قال له ‏تعالى: أو لم تؤمن قال: ‏بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي. ولعلّك تقول فأي الجناية إن ‏كان السؤال سيفهم به ‏كليم الله، ونصّ السؤال جاء على حدّ قضية خليل الله، ‏فأقول: إنّ الجناية تتحقّق ‏في عدم شكرهم نعمة البعث المشار إليها بقوله: (ثمّ ‏بعثناكم من بعد موتكم ‏لعلّكم تشكرون, البقرة آية, 55-56)، وهذا ‏بالنظر إلى نصّ السؤال مجمله، ‏وأمّا لو تتبعنا ألفاظه لوجدنا في كلّ لفظ جناية ‏وتقصيرا، ومن ذلك قولهم: يا ‏موسى، فهو خطاب مجرّد من كلّ احترام، ولا ‏شكّ أنّ الله لا يرضى به حسبما ‏جاء في القرآن: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم ‏كدعاء بعضكم بعضا) الثاني: ‏سوء التعبير في قولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله، ‏فلو قالوا لن تطمئن قلوبنا حتى ‏نرى الله، لكان أجمل، الثالث: زيادتهم اللام ‏والكاف، وهو قولهم لك: فكأنّهم ‏يمنّون عليه إيمانهم، والحقّ ينهى عن ذلك، ‏كما في القرآن: فلا تمنّوا عليّ ‏إسلامكم، بل الله يمنّ عليكم، الرابع: تقيد الرؤية ‏بكونها جهرة فيه خروج عن ‏سنّة موسى عليه السلام، لأنّه لم يقيدها بكونها ‏جهرة، إنّما قال: ربّ أرني أنظر ‏إليك، الخامس: فرط الجفاء المستفاد من قولهم: ‏حتى نرى الله بعدم إضافته لهم، ‏ولو قالوا: حتى نرى ربّنا وإلهنا لكان أحسن، ‏وهكذا سائر ألفاظهم لو تتبعتها ‏غالبا.‏

(8): إنّ الاستنباط من الآية القرآنيّة: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب ‏‏بعصاك الحجر فانفجرت منه إثنا عشرة عينا قد علم كلّ أناس مشربهم كلوا ‏‏واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين, البقرة آية, 60)، هو: ‏‏يستخرج من قوله تعالى في هذه الآية أربعة أحكام:

  1. الأول: علمنا بأنّ الاستسقاء هو من سنن الأنبياء عليهم السلام من قوله: (وإذ ‏‏استسقى موسى).‏ 
  2. الثاني: علمنا بأنّ الأنبياء على ثقة من الله من جهة وصول ما به من قوام البدن، ‏‏إنّما يسألون من الله ما هو من ذلك القبيل لقومهم، لأنّهم أضعف يقينا من ‏‏أنبيائهم، من قوله: (وإذ استسقى موسى لقومه)، أيضا حيث أسند الاستسقاء ‏‏لهم. 
  3. الثالث: علمنا بأن القوم كانوا أحوج إلى الماء من جهة الشراب لا لنحو السقي، ‏‏وإلا لأرسلت عليهم السماء بدل انفجار الحجر. 
  4. الرابع: علمنا بأنّ المشارب تختلف في كلّ شيء حسّا ومعنى، من قوله: (قد علم ‏‏كلّ أناس مشربهم)، إنّ لسان الروح يقول: سألته عن العصا التي كانت لموسى ‏‏فلم تعمل الأعمال، قال: لأنّها كانت في يد آدم، وآدم منفوخ فيه من روح الله.‏

(9): إنّ الإشارة لقوله تعالى: (إنّ الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى ‏‏والصابئين من أمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا ‏‏خوف عليهم ولا هم يحزنون, البقرة آية, 62)، تتضمّن تسوية هذه الفرق، ‏‏ودخول المؤمنين في جملتهم أن لا يرى الإنسان دونه مسلما ولا كافرا، ولا ‏طائعا ‏ولا عاصيا، ما دامت عاقبة أمره مجهولة، لأنّ العبرة بالخواتيم، وإلى الله ‏عاقبة ‏الأمور، والناس في جانب التقدير سواء.

إنّ لسان الروح يقول: على ما فهمت من لغز أنّ جميع هذه الفرق لها مكانة في ‏‏الدين، وأنّ التفاصيل فيما بينهما حسبما رتبه الكتاب المبين، وأنّ الأسفل منها ‏‏أعلى درجة من المشركين.‏

(10): إنّ التفسير لهذه الآية وهو الخطاب الموجه لمحمد وأصحابه: ‏‏‏(أفتطمعون)، يا معاشر المؤمنين: (أن يؤمنوا لكم)، اليهود: (وقد كان فريق)، ‏أي ‏طائفة (منهم) أي من أحبارهم (يسمعون كلام الله)، وهو التوراة، ويعرفون ‏أنّه ‏كلام الله (ثمّ يحرّفونه)، أي يغيرونه ويبدلونه (من بعد ما عقلوه)، إنّه كلام ‏الله، ‏وليس ذلك منهم إلاّ حسدا أن يظهر ما فيه دلالة على صفة محمد صلّى الله عليه ‏وسلّم حذرا أن ينتشر أمره، والله متم نوره ولو كره الكافرون (وهم ‏يعلمون)، ‏أنّ ما فعلوه جرأة على الله بدليل اعترافهم لبعضهم بعضا (وإذا لقوا ‏الذين أمنوا)، ‏بمحمد الأيمان الخالص (قالوا)، لهم (أمنا)، كما أمنتم، وإنّه النبيّ ‏المبشّر به في ‏التوراة (وإذا خلا بعضهم إلى بعض)، في مجتمعهم الخصوصيّ، الذي ‏لا يطلع ‏عليهم فيه غيرهم ( قالوا)، لهم شياطينهم أهل الجحود المحض، يلومونهم ‏على ‏اعترافهم لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوءة، ويقولهم لهم (أتحدثونهم بما ‏فتح الله ‏عليكم)، في التوراة، وبما عرفتموه من أوصاف المبعوث آخر الزمان ‏‏(ليحاجوكم ‏به)، أي ليحتجوا عليكم بحديثكم يوم القيامة (عند ربّكم)، بأنّكم ‏عرفتم محمدا ‏بأوصافه، وجحدتم نبوءته (أفلا تعقلون)، أنّ ما فعلتموه هو حجّة ‏عليكم ولمّا ‏أثبتوا من العقل لأنفسهم ما نفوه عمّن تحدّث بأوصاف النبي، أتى تعالى بما فيه ‏توهين لمعتقدهم فقال: (أولا يعلمون)، أي أو ليس يعلمون (أنّ ‏الله)، تعالى (يعلم ‏ما يسرّون)، في أنفسهم (وما يعلنون)، من أقوالهم وأفعالهم، ‏ولكنّهم لا يعلمون ‏ذلك، ولو كانوا أعلى بصيرة من أوصاف ربّهم لما ظنّوا أنّ ‏كتمان ما عرفوه من ‏الحقّ منجيّهم من عذاب الله، ثمّ قال تعالى: (ومنهم)، أي ‏من اليهود (أميّون لا ‏يعلمون)، أي لا يعرفون (الكتاب)، وهو التوراة حتى ‏يجادلوا فيه (إلاّ أماني)، ‏يمنونهم بها أحبارهم فأخذوها منهم على سبيل التقليد، ‏وليسوا على يقين من ‏أمرهم (وإن هم إلاّ يظنون)، فيما يعارضونه من الحقّ، ‏وبمناسبة ما ذكره تعالى ‏من أنّ اليهود أميّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني يتلقونها ‏من أحبارهم. ومن جملة ‏جرأتهم على الله أن كانوا يكتبون الكتاب طبق ‏أغراضهم، ثمّ يقولون للعموم أنّ ‏ما فيها من عند الله، فقال تعالى: (فويل)، هي ‏كلمة وعيد وتهديد (للذين يكتبون ‏الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون)، للأميّين الذين لا ‏يعرفون الكتاب (هذا من عند ‏الله)، فأنصتوا هل فيه ما يلزمنا بمتابعة هذا النبيّ، ‏أو ما فيه ما يطابق أوصافه، أو ‏يطابق ما جاء به ويفعلون ذلك (ليشتروا)، أي ‏ينالون من أجل ذلك (به ثمنا ‏قليلا)، من أعراض الدنيا والكلّ في جانب الله قليل ‏‏(فويل لهم ممّا كتبت أيديهم)، ‏من الافتراء على الله (وويل لهم ممّا يكسبون)، من ‏أعراض الدنيا في مقابلة ما ‏يكتبون.‏

(كلّ الآيات القرآنية الواردة أعلاه هي من سورة البقرة, من آية 75-79).

يقول لسان الروح: سألته في معنى قوله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان ‏‏فريق منهم يسمعون كلام الله)، فما هو موجب استبعاد إيمانهم مع ما كانوا عليه ‏‏من استماع كلام الله، فقال من سقط من أعلى درجة المكالمة، فلا يرضى ‏‏بحضيض الإيمان فإنّه يستنكف أن يكون مؤمنا بعد أن كان محسنا، فيفوته خير ‏‏المقامين، الأوّل باضطرار، والثاني باختيار.‏

(11) : إنّ الاستنباط من قوله تعالى: (ولقد أتينا موسى الكتاب وقفينا من ‏‏بعده بالرسل وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلّما جاءكم ‏‏رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون, وقالوا قلوبنا ‏‏غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون, البقرة آية,87-88)، هو ‏‏يستخرج من قوله: (ولقد أتينا موسى ….)، إلى قوله: (فقليلا ما يؤمنون)، ‏‏خمسة أحكام: ‏

  1. الأول: علمنا بانّ الله تعالى بعث رسلا بين موسى وعيسى، وفي الغالب أنّ شرع ‏‏موسى كان شرعا لهم، من قوله: (وقفينا من بعده بالرسل).‏ 
  2. الثاني: علمنا بأنّ ما أوتي عيسى من البينات كانت أبين وأوضح من غالب ‏‏الآيات الصادرة على يد أنبياء الله، من قوله: (وأتينا عيسى ابن مريم البينات ‏‏وأيدناه بروح القدس).‏ 
  3. الثالث: علمنا بأنّ الرسل كانت في الغالب تأتي بما لا تهواه النفوس الخسيسة، من ‏‏قوله: (أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم). 
  4. الرابع: علمنا بأنّ عدم إيمان بني إسرائيل بأنبيائهم كان ناشئا عن كبر. من قوله: ‏‏‏(استكبرتم).‏ 
  5. الخامس: علمنا بأنّ تعلّق اليهود بأنبيائهم كان قليلا، بالنسبة لجرأتهم عليه من ‏‏قوله: (ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون).

(12): إنّ الإشارة من قوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنّه نزله على ‏‏قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين, من كان عدوا لله ‏‏وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإنّ الله عدو للكافرين, ولقد أنزلنا إليك ‏‏آيات بينات وما يكفر بها إلاّ الفاسقون, البقرة آية, من7-99)، تفيدنا ‏أنّ محبّة ‏الله لا تكتسب إلاّ بمحبّة أحبابه، وعداوته لا تتأتى بعداوتهم. جاء في ‏الحديث ‏القدسيّ: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)، فليحترز اللبيب من أن ‏يسعى ‏فيما يؤذي المنتسبين لله كما يجتهد أن يأخذ الحقّ حيثما وجده، ولا يقول ‏كما ‏قالت اليهود لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: لو كان الوحي جاءك به ميكائيل ‏‏لاتبعناك، ولكنّ جبريل عدو لنا، وكان الحقّ منهم أن يأخذوا الحقّ مهما عرفوه، ‏‏ولكن الأغراض قد تحول عن المراد. ‏

(13): إنّ التفسير حيث قال تعالى في خطاب راجع لليهود المنكرين نبوءة ‏‏محمد صلّى الله عليه وسلّم: (ولو أنّهم أمنوا)، بما جاء به القرآن (واتقوا)، عقوبة ‏‏الله المترتبة على كلّ من يجحد الحقّ بعد ظهوره (لمثوبة)، تعرّضوا لها (من عند ‏‏الله)، يوم القيامة (خير)، لهم من نكرانّ الحقّ (لو كانوا يعلمون)، العلم النافع ‏‏لقالوا الحقّ أحقّ أن يتبع ولمّا كان الغشّ من جبلة اليهود لزم لهم من أقوالهم ‏‏وأفعالهم وأحوالهم قديما وحديثا، ومن جملة ذلك أنّهم كانوا يدسّون للنبيّ في ‏‏حديثهم ما هو في الظاهر بصفة المدح وفي الباطن بعكسه، فأراد تعالى تنبيه ‏‏المؤمنين عن مثل ذلك، فقال: (يا أيّها الذين أمنوا لا تقولوا)، لنبيّكم (راعنا)،أي ‏‏اجعل رعايتك علينا فإنّ اليهود تقولها معكم، وتريد بها معنى آخر في لغتهم ‏‏مضمنة سببا (وقولوا انظرنا)، بدل قولكم راعنا حتى لا تكون ذريعة، فإنّ المعنى ‏‏واحد (واسمعوا)، ما قلناه لكم، فكان الأخذ بهذه الكلمة بدل الأولى على سبيل ‏‏الوجوب (وللكافرين)، المتجرّئين على رسول الله (عذاب أليم)، بقدر جرأتهم ‏‏وطغيانهم، ثمّ أتى تعالى بما فيه تحذير المؤمنين من أعدائهم، فقال: (ما يود)، أي ‏‏يحبّ (الذين كفروا من أهل الكتاب)، وهم اليهود (ولا المشركين)، من العرب ‏‏وغيرهم (أن ينزّل عليكم من خير)، مطلقا وبالأخص ما هو كالوحي (من ‏‏ربّكم)، فتكون لكم به السعادة الأبديّة في الدين والدنيا (والله)، سبحانه وتعالى ‏‏تجلّ إرادته عن موافقة الأغراض، فله الاختيار التام (يختصّ برحمته)، ونبوءته ‏‏وولايته (من يشاء)، من عباده، وبما شاء وكيف شاء، فالناس في جانب الفضل ‏‏سواء (والله ذو الفضل العظيم)، الممتنع تقيده بشخص دون الآخر.

(كلّ الآيات ‏‏القرآنيّة الواردة أعلاه هي من سورة البقرة من آية, 103- 105).

إنّ الإشارة في قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ….إلخ)، ما ‏‏يتناول كلّ حسود، ويكون الكاف من ضمير المخاطبين شامل لأهل الخصوصيّة ‏‏مطلقا في كلّ عصر وزمان، والمستفاد الأهم من الآية هو علمنا ببعد المشيئة عن ‏‏الارتباط بالعلّل والأسباب، من قوله: (يختص برحمته من يشاء)، ولمّا كان الوهم ‏‏قد يسلم ذلك غير أنّه يسبق إلى تخصيص المتقدّمين بما يتعذّر في الإمكان وصول ‏‏المتأخرين إليه، نفاه تعالى بكيفية كادت تثبت شيئا من عكسه، بقوله: (ما ننسخ ‏‏من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء)، ولعلّك ‏‏تقول إنّ الآية السابقة تامّة الاستقلال بنفسها، فأقول وهو كذلك، غير أنّ ‏‏الإشارة تؤخذ من سرّ ترتيب الآي مع بعضها وما يعقلها إلاّ العالمون، فما من ‏آية ‏إلا وتعضد ما قبلها بطرف ما خفي أو جلي.

(14): إنّ التفسير حيث قال: وبمناسبة ما كانت عليه جبلته عليه الصلاة ‏‏والسلام من جهة تمسّكه بالتنزيل، فكان ما من آية نزلت إلاّ وتمكّنت من باطنه، ‏‏وأخذت بمجامعه، فهو بالطبع يألفها، ويشفق من نسخها كلّ الإشفاق خشية أن ‏‏لا يعوّضه تعالى بمثلها من جهة ما يراه لها من التأثير في القلوب، فجاءت آية ‏‏النسخ تشجيعا من الله له على أن يتلّقى الناسخ بأبلغ ما تلّقى به المنسوخ، وربّما ‏‏يوجد فيه من الخير ما لا يوجد في ضده، حسبما يؤخذ من قوله تعالى: (ما ‏ننسخ ‏من آية أو ننسها نأت)،أي نأتيك يا محمد (بخير منها أو مثلها)، ولمّا كان ‏الوهم ‏ربّما يستبعد وقوع الخيريّة باعتبار امتزاج الآية السابقة بذوقه وارتشافها ‏في لبّه ‏أتاه تعالى بما فيه تقرير، واستلفته لما سبق في علمه عليه الصلاة والسلام من ‏‏استطلاعه على قدرة القادر، فقال: (ألم تعلم)، يا محمد (أنّ الله على كلّ شيء ‏‏قدير)، فكأنّه يقول أليس في علمك أنّ القدرة الذاتيّة هي التي أوجبت الانفعال ‏‏في القلوب، حتى تأثرت بالآي القرآنيّة، ولم يزل ربّك موصوفا بالقدرة على كلّ ‏‏شيء، فالذي أتاك بالخير هو قادر على أن يأتيك بخير منه (ألم تعلم أنّ الله له ‏‏ملك السّماوات والأرض)، زيادة في توسيع النظر، لينطرح المخاطب أمام إرادته ‏‏تعالى انطراح الميّت بين يدي القاتل، بموجب ما يعتبره من خلقه السموات ‏‏والأرض وما فيهن إندراج الكلّ تحت حكمه وكفالته، فيعلم يقينا أنّ اختياره أولى من اختيار غيره، ولو لنفسه، كائنا من كان فيتلقى الناسخ بما تلقى به ‏‏المنسوخ أول مرة، وبمناسبة مشاركة الصحابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من ‏جهة ‏تأثرهم بوقوع النسخ خشية قدح المعارض في القرآن، وكان ذلك أشدّ ‏عليهم من ‏السيف شاركهم تعالى في الخطاب احتراما لجنابهم، فقال: (وما لكم)، ‏يا معاشر ‏المؤمنين (من دون الله من وليّ ولا نصير)، فكأنّه يقول لهم: كونوا على ‏حذر من ‏أمر الخلق، فإنّه ليس لكم في الأرض صديق ولا وليّ حميم، كما قال ‏إبراهيم عليه ‏السلام: (فإنّهم عدو ليّ إلاّ ربّ العالمين, الشعراء آية, 77)، فلا ‏تركنون ‏لمدحهم، كما لا تتأثرون من قدحهم، فالله وليّكم ومتولّيكم لا غيره.‏

ثمّ إنّ الوليّ لغة هو عبارة عن القريب الملاطف، ومهما تحقّقت ولايته تعالى ‏‏للمؤمنين فقد تحقّقت لهم السعادة الأبديّة. غير أنّ الولاية لا تستلزم صفة ‏الناصريّة ‏فالمعنى لا يلزم من الوليّ عن المتولي، فلا تستكمل في غير الله لعجزه ‏عنها من ‏بعض الوجوه، والمعنى أنّ النصر قد يتخلّف عن الولاية باعتبار النظر ‏المتعلّق ‏بالظواهر (وكأين من نبيّ قاتل معه ربّيون كثير, آل عمران آية, ‏‏146)، وكونه ‏تعالى وليهم: هي نعمة تخصّهم فيا بينهم وبين الله، وكونه ‏ناصرهم: نعمة تخصّهم ‏فيما بينهم وبين الخلق فاستجمعت النعمتان لديهم، ولاية ‏الباطن ونصرة الظواهر. ‏ولمّا كانت كثرة النعم قد تفضي بمن لم يتثبت إلى حلول ‏النقم، حذّر تعالى ‏المؤمنين من أمر ذي أهميّة، ممكن الوقوع، قد يتساهل فيه الإنسان غالبا، ومن ‏ذلك ما يلقى على الأنبياء من كثرة المسائل وتكلّفهم بما هو ‏كخرق العوائد، ‏وربّما كان مثل ذلك يخلج في أفكار بعض المؤمنين بما مرّ على ‏أسماعهم.‏ 

تعليقات