لقد دوّن الأستاذ رحمه الله تعالى في هذا الكتاب مقدّمة وتشتمل هذه المقدّمة على ستة فصول، لأنّها من جواهر النقول، ثمّ بعد ذلك بدأ بتفسير سورة الفاتحة، وابتدأها بـ: بسم الله الرحمن الرحيم ثمّ بتفسير مائة وثماني آيات من سورة البقرة، والحقّ أحقّ أن يقال بأنّ ما ورد في شرح هذه الآيات لهو في غاية الدقّة التي يتخلّلها التشريح الحسيّ والمعنويّ، وبعبارة أخرى الجسميّ والروحيّ فجزاه الله عن الجميع خير الجزاء، ولا بدّ في هذا المقام من أن نتناول بيد العناية والدقّة مقتطفات من ذلك، والله هو الموفق.
البحر المسجور الجزء 1, أضغط على غلاف الكتاب
البحر المسجور الجزء 2
البحر المسجور الجزء 1, أضغط على غلاف الكتاب
البحر المسجور الجزء 2
مختصر الكتاب...
أ: مقدمة الكتاب:
يقول رضي الله عنه :
الحمد لله الذي نزّل الكتاب على عبده المصطفى من خلقه بلسان عربي مبين، تبيانا لكلّ شيء وهدى ورحمة للمؤمنين، قرأننا يهدي إلى الرشد، فأمنّا به ونحن على ذلك من الشاهدين، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، حيث لم يجعل فهمنا له مرتهنا بفهم السابقين، فجل قدر القرآن أن يكون وقفا على أحد من العالمين، وإلاّ لكان خطابا له لا لغيره من المكلفين، حتى كأنّه الآن يتلقف من الروح الأمين إن لم نقل من أرحم الراحمين، فهذه عقيدتنا في كتاب الله، وما أنا من الممترين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، شهادة أولي العلم به، وأنّه الواحد الأحد في ذاته وصفاته وفعله الظاهر في ملكه، الباطن في كنهه، أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ، ليظهره على الدين كلّه سيدنا محمدا صلّى الله عليه وعلى أله وأصحابه وأزواجه وذرّيته، وعن التابعين ومن ذبّ على الدين، واعتنى بنصرته، وسلم سلاما جزيلا طيّبا شاملا تشملنا نفحاته.
إنّي لمّا عزمت على تسطير ما فهمت من كتاب الله، تخيّلت كأن القائل يقول: ما ترك الأول للآخر ما يقول، فظهر لي أن نقدّم مقدّمة أمام المقصود، فيها ما يفيدك الشعور بأنّ الفضل بيد الله وأنّه ليس بمحجور، ونسمّي ما فهمته من كتاب الله (بالبحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور)، راجيا أن يطابق الاسم مسمّاه، واللفظ معناه ومبناه، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
إنّ هذه المقدمة تشتمل على فصول ستة فيها من جواهر النقول، وهي:
- الفصل الأول: فيما يفيد الإنسان أنّ القائم بالحقّ موجود في كلّ زمان.
- الفصل الثاني: فيما يفيد أنّ للقرآن وجوها، وأنّه لا تنقضي عجائبه حتى يستغني بفهم المتقّدمين منه عن فهم المتأخرين.
- الفصل الثالث: فيما يدل على أنّ في القرآن علوما ليست متعاطية فيما بين العموم.
- الفصل الرابع: فيما يشعرنا بأنّنا المقصودون بالقرآن، ولا واحد أولى من الآخر في كلّ زمان.
- الفصل الخامس: فيما يشعرنا بتعلّق سائر ألفاظ القرآن بالمكلفين في كلّ وقت وآن.
- الفصل السادس: يذكر فيه من أهم شيء يعتبره الإنسان في كتاب الله أن يراه واصلا إليه من حضرة الرحمن.
ولنأخذ مقتطفات ممّا يشير إليه الفصل الثاني أعلاه:
إنّ ما تمتعت به البصائر والأبصار، وجالت فيه العقول وتعلّقت به الأفكار، كتاب الله العزيز الغفار، فلن يزال روضة يانعة ودوحة جامعة، حتى كأن الأخذ منه زاد فيه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، غضا طريا في كلّ عصر وأوان، فحاله في السابق كحاله الآن، جاء في الخبر على أنّ القرآن لا تنقضي عجائبه، وعلى أنّ له وجوها كثيرة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنّه قال: (لن تفقه كلّ الفقه حتى ترى للقرآن وجوها كثيرة)، وقيل: إنّه حديث عن شدّاد بن أويس نقله ابن عبد البر، وممّا يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: (إنّ للقرآن ظاهرا وباطنا وحدّا ومطلعا) نقله في تاج التفاسير، وعلى هذا فلا نستبعد الكلام الصادر من العلماء بالله في كتاب الله، وإن لم تصل إليه عقولنا فنحمله من قبيل أحد الوجوه الأربعة، ولا تحسبن هذه الوجوه توجد في كتاب الله من حيث الإجمال، كلا، إنّما هي في كلّ آية وكلمة، إن لم نقل في كلّ حرف. فالحرف قرآن، كما أنّ عموم الكتاب قرآن، ولهذا قال جل ذكره: (سنلقي عليك قولا ثقيلا, المزمل آية, 5)، وقال: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, الزمر آية, 18)، فعبّر بالقول دون اللفظ والكلام، ليشمل الكلمة والحرف، لأنّ القول عام في جميع ذلك، فكلّ جزء من كتاب الله – وإن تجزأ – فهو ثقيل باعتبار ما جمع فيه من المعاني التي تفوق حدّ الحصر، وممّا يدلك على أنّ الحرف قرآن ما أخرجه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: (من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها)، فاتضح من هذا أنّ الحرف بانفراده قرآن بالنظر لما اشتمل عليه من المعاني، وفي رواية لا أقول ألم حرف، التأويل: علوم القرآن خمسون علما وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم مضروبة في، إذ لكلّ كلمة ظاهر وباطن وحدّ ومطلع، وهذا مطلق دون اعتبار التركيبات، وما بينهما من الروابط، وهذا ما لا يحصر، ولا يعلمه إلاّ الله، قلت ولا يقع على علومه، ويتفرس في وجوهه إلاّ مفتوح عليه، وأمّا المحجوب فإنّه ينادى من مكان بعيد، ويسمع من وراء حجاب حديد، فهو أبعد من أن يتناول الغاية من ظواهره فكيف بباطنه ! وأين هو من حدّه ومطلعه ! ومن فتح الله عليه بالتوصيل إلى شيء من ذلك لا يبعد أن يقول كما قال الإمام عليّ كرم الله وجهه: (لو شئت لوقرت أربعين وقرا من شرح الفاتحة)، أو كلاما هذا معناه، ولعلّك تقول أين الإمام عليّ كرّم الله وجهه، وأين علومه ؟، فأقول يا لله العجب ! ومع ذلك يحتفل به من أهل زمانه إلاّ القليل، حتى كان يقول: (أنا جنب الله الذي فرطتم فيه وهو المنبر، والمفرّط فيه هو المفرّط الآن في أهل زمانه).
ب: يقول رضي الله عنه في تفسير سورة (الفاتحة)، ولنأخذ مقتطفات من ذلك:
(1) : إنّ التالي أو القارئ لكتاب الله مهما يرسل طرفه ويحرّك لسانه، إلاّ ويلتصق بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، فيكون ذاكرا للاسم متبرّكا به من حيث لا يشعر، قصد أم لم يقصد، حبّ أم كره، ولمّا جاء الإسلام بالتساوي بين أفراد الإنسان، وأنّه لا فضل لأحد على أحد إلاّ بتقوى الله، أمر الشارع أن لا يذكر اسم عند فعل ذي بال إلاّ اسم الله أن يكون ذراعه لفعله، والحكمة من ذلك لكونه تعالى لم يأذن فيه، ثمّ إنّ الباء في بسم الله الرحمن الرحيم جاءت للإلصاق فهي ملتصقة بلفظ الجلالة الله، لأنّ الاسم غير فاصل بينهما لكونه عين المسمّى عند القوم وجمهور الأشاعرة فصار الابتداء بالله فمنه بدأ الأمر وإليه يعود، أمّا استطالة الباء وخروجها عن مقتضى عادتها فليس ذلك إلاّ لاتصالها بالاسم المتصّل بالمسمّى من أهل الله أولى بالارتفاع على أبناء جنسه، وأمّا نيابتها عن الألف المحذوفة من الاسم تشير إلى نيابة الوارث المحمديّ عن الله في خلقه: (يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض, ص آية, 26)، (من يطع الرسول فقد أطاع الله, النساء آية, 80)، وفي بعض الأثر يشير إلى انطواء جميع الأشياء في وجود موجدها، والمعنى أنّ ما فيها مفرع عمّا فيه: (وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه, الحجر آية, 21)، وأمّا تقديم اسم الجلالة على غيره من أسماء الله الحسنى يشير إلى تخصيص الذات بالسابقيّة، وتكون الأسماء والصفات في حال الكنزيّة.
إنّ الضمير الساكن المفهوم من خفضة الباء المؤول في بعض الألسن على ما يقتضيه السرّ المصون، فهو راجع المؤول في بعض الألسن على ما يقتضيه السرّ المصون، فهو راجع لصفة الفعليّة المعبّر عنها بالقبضة النورانيّة في السنّة الصوفيّة فهي القائلة لحضرة القدم والكنز المطلسم على لسان الباء للاسم الأعظم في اسم الله، فالقدير بالمقدور قادر، والبصير بالمبصور باصر، وهكذا النظائر، ولمّا كانت الأفعال مظهر للأسماء، والصفات دون الذات التصقت الباء بالاسم دون المسمّى الذي هو الله، لتكون إشارتها عائدة عليه في الإظهار، وأمّا الذات فهي التي أوجبت لها الإضمار، لأنّه تعالى ظاهر بذاته، ما لم يعتبر الفعل، وإلاّ كان باطنا بذاته ظاهرا بصفاته.
(2): إنّ الفاتحة سبع آيات، وتسمّى أم الكتاب، وإنّ تصدّرها في أول الكتاب فيه رحمة من الله بالقارئ وتعليم وتلقين، وتوقيف للعبد على خطّة الأدب، ليقوم بما وجب عليه من الشكر، حيث صيّره أهلا لمواصلته تعالى، وهي نعمة لا يوازيها شكر. فإنّه أول ما يجريه الله على لسان العبد أن يخصّه تعالى بجميع المحامد، ثمّ يعترف له بالربوبيّة، وأنّه لا ربّ سواه في جميع العالمين على ما تقتضيه الإضافة، ولقد أوقف الله العبوديّة عند مركز الاعتدال، فاستجلبها بالجمال وهدّدها بالجلال، فأخذت حظّا من التمكين بقوله تعالى: (مالك يوم الدين, الفاتحة آية, 4)، وبما أجراه على لسانها من صفة العدل، وأنّه لا بدّ من يوم الفصل، فلزم بالطبع أن نلتجئ إلى حصن حصين، فلقّنها تعالى أن تقول: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين, الفاتحة آية, 5)، فالشق الأول تقاوم العدل، والثاني تستوجب الفضل، ولمّا كان الشق الأول لا يقوم بانفراده، لأنّه الغالب معلول، والشق الثاني متعذّر الحصول، وفي الغالب يكون دعوة باللسان، والدعوة تحتاج إلى بيان ألهمها تعالى أن تسأل الهداية إلى ذلك السبيل القويم بقوله: (اهدنا الصراط المستقيم, الفاتحة آية, 6).
(3): إنّ الإشارة تفيد أنّ العبادة عبودة، وأنّ الحقائق في الشرائع موجودة، وهي سريرة خصّصت بالخفي تدق عن البصائر فضلا عن الأبصار، وهي التي تصحّح الوقوف مع الله لأحد وإن كان يوجد وتنفيه عن الآخر، وإن كان يتعبّد، ولولا أنّ في الصلاة غاية، وفي السير نهاية ما أجرى الله على لسان العبد وهو في الصلاة أن يسأل الصراط المستقيم، ففهمنا من هذا أنّ فعل الجوارح ليس هو بالغاية كافل، وإلاّ كان المسؤول من قبيل تحصيل الحاصل.
(4): يقول رضي الله عنه في تفسير كلمة (العالمين)، من الآية (الحمد لله ربّ العالمين, الفاتحة آية, 2)، إنّ العالمين جمع عالم، وهو عبارة عمّا سوى الله في الجملة، ومجيئه بهذه الصيغة يفيدنا أنّ لله تعالى عوالم لا غاية لها من جهة الكثرة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنّ لله ثمانية عشر ألف عالم كعالمكم هذا)، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (إنّ لله أربعين ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد)، وذكره الشبرخيتي، ولا وجهة لمن حصر العوالم في هذه الكرة الأرضيّة إلاّ عدم انتباهه لسعة ملك الله، ذكر الغزالي رضي الله عنه: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل على أصحابه ذات يوم، وهم يتفكرون، فقال: ما لكم لا تتكلّمون؟، فقالوا: نتفكر في خلق الله عزّ وجلّ، قال: فكذلك فافعلوا تفكّروا في خلقه ولا تتفكروا فيه، فإنّ بهذا المغرب أرضا بيضاء، نورها بياضها، وبياضها نورها مسيرة الشمس فيها أربعون يوما، بها خلق من خلق الله عزّ وجلّ، لم يعصوا الله طرفة عين، فقالوا: يا رسول الله، فأين الشيطان منهم ؟، فقال: لا يدرون خلق الشيطان أم لا، فقالوا: أمن أولاد آدم ؟، قال: لا يدرون خلق آدم أم لا) ذكره الغزالي في جواهر القرآن، إنّ الإشارة في قوله: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين, الفاتحة آية, 5)، تشعرنا بلزوم ارتباط الشريعة بالحقيقة، فالشق الأول من الآية شريعة، والشق الثاني منها حقيقة، الأول يثبت شيئا من الكسب، والثاني ينفيه، فالأوّل للنظر العام أقرب، والثاني عند الخواص أرغب، لأنّ الأول عمل لله، والثاني عمل بالله، فالأول عمل الأبرار لأنّهم قائمون لله، والثاني عمل المقربين لأنّهم قائمون بالله، فالأول غايته طلب الجزاء، والثاني كفى به جزاء، لأنّ الأول علّته لأداء واجب التكليف، والثاني زبدة نتائج التعريف، فالشق الأول مكابدة، والثاني مشاهدة، فهذا يتألم في عبادته، والآخر يتنّعم في مشاهدته: (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورا, الإسراء آية, 20)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله)، والمعنى أنّ وجود العبد اسبق من العبادة، فالمعرفة ثمّ العبادة، فالمعرفة تستلزم العبادة لا العكس، إنّ لسان الروح يفني ضمير النون من إيّاك نعبد في ضمير إيّاك نستعين، حتى إذا انحصرت العبادة في الاستعانة، بقيت الاستعانة والمعين، فأين العبادة والعبد إن كنت ذا يقين؟، فسرّه يعبده وحقيقته تشهده.
(5): ويقول رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم, الفاتحة آية, 6)، الهداية أنواع وهي عبارة عن ملكة تحدث في الإنسان، وفي غيره من الحيوان، تلهمه المنافع والمضار بقدر استعداده لذلك، وهي في الإنسان على شقين فالشق الأسفل منها يتصّل بالحيوان، والشق الأعلى منها يتصّل بملائكة الرحمن، وهو المراد به، ثمّ إنّه في الإنسان على قسمين أيضا، فمنهم من هداه الله، ومنهم من زادهم هدى، فأمّا من شرح الله صدره للإسلام بأن أوقفه على الصراط، المستقيم فانتهى به السير إلى جنّة النعيم فقد اهتدى، وأمّا من زاده هدى فهو المشار إليه بقوله تعالى: (يهدي الله لنوره من يشاء, النور آية, 35)، ثمّ إنّ الصراط المستقيم هو عبارة عن شريعة نبويّة وخطّة سّماويّة وهذا باعتبار العبادة العمليّة، وأمّا باعتبار العبادة العقليّة أو نقول الاعتقاديّة فهو عبارة عن خطّة جامعة بين طرفي المتناقضين نحو الإفراط والتفريط فهو أدقّ على الإدراك، يتعذّر سلوكه بالانفراد وإن مع وجود الاستعداد، فالواقفون عليه كثر، والسائرون عليه قليلون، والواصلون أقل.
(6): ويقول لسان الروح: سألت مسؤولا عن صراط العقول، فأجاب قائلا: خطّة رقيقة وسيمة دقيقة، متعذّرة السلوك، كثيرة الشكوك، بين جزر واعتزال مبدؤه، وتنزيه وتشبيه وسطه، وحرية وتكليف غايته، فالميل لأحد الشقيّن مضر، والجمع بينهما متعذّر إلاّ لذوي الجناحين المسمّى بواحد في اثنين، قلت عزّ المنال وندمت على السؤال.
(7): إنّ الاستنباط المستخرج من قوله تعالى: (الحمد لله إلى قوله ولا الضالين)، هو اثنا عشر حكما نأخذ منها على سبيل الدلالة:
- الأول: علمنا بوجود عوالم لا تحصى ذكرها من ذكره تعالى بصيغة الجمع.
- الثاني: علمنا بأنّ الجماليّة في نعوت الألوهيّة أسبق مكانة من الجلاليّة من تقدّم الاسمين الرحمن الرحيم على غيرهما من سائر الأسماء.
- الثالث: علمنا بأنّ الإسلام جاء على شقين، تحقيقا وتشريعا من قوله: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين.
- الرابع: علمنا بمطلوبية الجماعة في الصلوات الخمس من إتيانه تعالى بضمير الجمع في قوله نعبد، لأنّ المقام مقام تذلّل لا يصلح للمعظّم نفسه.
- الخامس: علمنا بأنّ أهم شيء أولى بالسؤال من الله أن يسأله العبد الهداية إلى الصراط المستقيم.
- السادس: علمنا بأنّ الحقّ يريد منّا رفع الهمّة، بأن نسأل منه أرفع المنازل لا أدناها، من قوله: (صراط الذين أنعمت عليهم)، ولا شكّ أنّ منهم النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين.
- السابع: علمنا بأنّ المغضوب عليهم أسفل دركة من الضالين من التنصيص عليهم أولا.
(8): إنّ الإشارة في عموم السورة إلى افتتاح الفاتحة بالاسم الشريف واختتامها ب (ولا الضالين) لذكرى للذاكرين جاء الاسم الأعظم على منصتها يشير إلى استيلائه على عروش حقائقها حقيّة أو خلقيّة، ولمّا أخذ الخط الأكمل من الظهور أخذ في التدلي والتنزّل، ليحوز رتبتي البطون والظهور حتى بلغ من الاختفاء غايته، وبالأخص عند التنزّل الآخر المغضوب عليهم والضالين، فكاد أن لا يعرف، لا تدركه الأبصار، جاء في الأثر ما يدلّ على أنّ الفاتحة قسّمت بين العبد وربّه، فحظّ العبوديّة الشق الأسفل منها، ولمّا كانت الربوبيّة تقتضي الظهور، والعبوديّة مقتضى البطون، جاءت أسماؤه تعالى في الشق الأعلى فظهرت، وهي الله والربّ والرحمن والرحيم والملك، فهذه خمسة كلّها فظهرت، ثمّ ذكر نفسه في الشق الأسفل منها في خمسة مواضع أيضا كلّها مضمرات وهي: الكاف في قوله إيّاك نعبد، والكاف الثانية من قوله إيّاك نستعين، وضمير الفاعل من قوله اهدنا، والتاء من قوله أنعمت عليهم، والفاعل المحذوف من قوله المغضوب عليهم، فعليهم مرتفع على نيابة الفاعل فهذه خمسة من أسمائه تعالى، ذكرت مضمرات، مقابلة للخمسة المظهرات، فحصل التقابل، وتمّ التعادل، فاتضح حينئذ أنّه الظاهر فيما ظهر، والباطن فيما بطن، وحيث ما كان فهو الله، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، ثمّ اعلم إنّ أول التنـزلات التحقت بالذات صفة الربوبيّة، ولهذا ذكرت بعد اسم الذات على البدليّة، ثمّ الرحمانيّة للزوم الاستواء (الرحمن على العرش استوى, طه آية, 5)، فبموجب ذكر العالمين تعيّن الاستواء، ثمّ الرحيميّة فيما بين المستوى عليه وهي داعية الائتلاف، ثمّ الملكيّة للفصل إن كان خلافا، ولمّا وصلت الربوبيّة إلى هذه الغاية في التنـزّل، وهو الفصل ما بين العبادة والاستقامة، ولولا هذا التنـزّل الأخير لما تعلّقت بها العبوديّة، قائلة: إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ولمّا صحّ الالتجاء، واتضحت الحجّة ذكر نفسه تعالى مضمرا، أداء لواجب البطون، غير أنّه مصدرا أول الخطاب إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، ثمّ أخذ في الإضمار، وتأخر عن صدرات الكلام في الفعل في اهدنا، والتاء من أنعمت، ثمّ اختفى البتة في المغضوب، لا نونا ولا تاء لكن مع بقاء الفاعليّة بعد التقدير تجرّد عن الضالين، فمع كونهم مفعولين صيّرهم فاعلين، فهذا هو حدّ الخفاء، وهذا الظهور لأهل الصفاء، إنّ لسان الروح يقول: يستبعد أن يرى أول جزء من الفاتحة أي الحمد مجرّدا عمّا بعده، بل يراها بما فيها لله، وإلاّ لم يكن الحمد لله، لأنّ الحمد اسم لجميع السورة، وهو لله.
ج: يقول رضي الله عنه في تفسير سورة (البقرة ولغاية أول آية, 108)، ولنأخذ مقتطفات من ذلك:
(1) : إنّ الإشارة تفيد بأنّ (ألم)، فالألف من اسم الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإذا وصلت الحروف ببعضها جاءتك الإشارة، قائلة: ألم يكن ذلك الحقّ بلى الله الذي أنزل الكتاب إلى محمد بواسطة جبريل لا زائد على ما به الإشارة، كان القرآن متعلّقا بالألف ثمّ اتحد مع اللام، ثمّ استجمع في دائرة الميم، ومن المعلوم أنّ الكتاب متواصل من الله إلى جبريل إلى محمد، ووجه اختصاص الألف بإشارته للألوهيّة لاستقامته، وكونه أول الحروف الهجائيّة وآخرها همزة، وظهر في الحروف لأنّها مأخوذة من مساحته، فما الحاء إلاّ ألف محدودب، والميم ألف مستدير، وباطن فيها من جهة كونه لا تدركه الأبصار في دائرة الميم مثلا، واللام يشير إلى جبريل لقربه من الألف من جهة الصورة لا من جهة الجر والانعطاف، والميم تشير إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، لانتهائه في دائرة العبوديّة، فهو العبد على الحقيقة، فبانعطافه فيه انتهى أوله في آخره غاية في الاستعداد (إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد, القصص آية, 85)، فمن فاتته معجزة النبيّ لم تفته معجزة القرآن، لأنّه دلّ بنفسه على أنّه كلام الله بشهادة الغير لما حواه من الإعجاز لفظا ومعنى، وخروج نظامه عمّا في طوق البشر، بخلاف غيره من الكتب السّماويّة، فإنّها تتوّقف صحة نسبتها لله على شهادة شاهد صادق، فمن نظر القرآن بعين الإنصاف، وتأمله بفؤاد الاعتراف يعلم بالضرورة أنّه كلام الله، وقد كنت اجتمعت في سياحة مع بعض أحبار اليهود، فتكلّمنا في التوراة ونظامه ثمّ تكلّمنا في القرآن وأسلوبه وكان له حفظ من كتاب الله، فقلت له: أتل شيئا منه، ورتله ترتيلا، فاستفتح سورة الرحمن، وكان كلّما مرّ على قوله تعالى: فبأي آلاء ربّكما تكذبان تأمل ما قبله، فلم يبلغ ربع السورة حتى تلألأ وجهه عرقا، وقال: أشهد أنّه كلام الله، ثمّ نطق بالشهادتين، واعترف بالإسلام، فافترقنا على هذا العهد، والله أعلم بما وراء ذلك.
(2): إنّ الكتاب المشار إليه ب (ذلك الكتاب لا ريب فيه, البقرة آية, 2)، عبارة عمّا ظهر من الكائنات راجع للعالم بأجمعه، جوهره وعرضه، لا ريب فيه أي لا شكّ فيه، إنّه متنـزّل من الحضرة الأقدسيّة وشعاع الألوهيّة، واتصال الكتاب بالميم يشير بتدفقه من دائرتها عبارة عن القبضة النورانيّة والحضرة المحمديّة، فالكون بما فيه نورانيّ الحقيقة بكلّ اعتبار، عرفت أم لم تعرف (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ, الحجر آية, 85)، شاهدت أم لم تشاهد، ومن لم يره من الحقّ وبالحقّ نزل، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسحاب الآثار. فالكتاب موصل إلى الله بالمقال، والكون موصل بالاستدلال، والكتاب فيه ذكر أسمائه تعالى وصفاته، وفي الكون ظهور أسماء الله وصفاته وآثاره، وإنّ الكتاب لن تزال حقيقته مستترة إلاّ عند الخصوص من جهة الحدوث والقدم، وكما إنّ الكتاب مؤلف من حروف وألفاظ ليست مقصودة بالذات، فكذلك الكون مؤلف من جواهر وأعراض تومئ لما فيها. وبما إنّ الكتاب تنزل من حضرة العلم إلى حضرة القول، فكذلك الكون تنزّل من حضرة العلم إلى حضرة الفعل. وكما إنّ الكتاب يضلّ به كثيرا، ويهدي به كثيرا، فكذلك الكون يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا، وما يضلّ به إلاّ الفاسقون، ولا يهدي به إلاّ المتقون.
إنّ لسان الروح يقول: ألم مبتدأ، خبره ذلك الكتاب الذي هو المظهر بأجمعه لا ريب فيه ولا زائد عليه، فميمه ملك، ولامه ملكوت، وألفه جبروت، فالميم مجلى الظواهر، واللام غيب السرائر، والألف فيهما ظاهر، اتصلت الميم باللام لوجود الالتزام من حيث المكان والتكليف، وانفصلت الألف من حيث المكانة والتعريف، وبهذا التقرير يستغني عن كثرة الكلام، وتكون الميم خبرا عن اللام، وكلاهما أخبر عن الألف، واتحدت حريّة وتكليف، وبطون وظهور، والى الله تصير الأمور.
(3): إنّ الاستنباط من قول الله سبحانه وتعالى: (يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون, الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداد وأنتم تعلمون, البقرة آية, 21-22)، يستخرج منه ستة أحكام:
- الأول: علمنا بأنّ العبادة هي أبلغ داع في حصول التقوى لمن أراد أن يكون من المتقين من قوله (اعبدوا ربّكم) إلى قوله (تتقون).
- الثاني: علمنا بأنّ الله تعالى قد يقبل العبادة من غير المتقين كما يأمرهم بها من دعوته تعالى لهم قبل حصول التقوى منهم، ولو لم تقبل إلاّ بها لكانت علّة في وجودها.
- الثالث: علمنا بأنّ الأول للناس أن يعبدوا ربّهم شكرا، أداء لواجب ما في ذمتهم من نعم الله أولى من أن تكون عبادتهم لحظ في الأجل، كطلب الجنّة مثلا، من قوله (اعبدوا ربّكم الذي خلقكم إلى آخره)، حيث استلفتهم لنعمة عليهم، التي أعظمها نعمة الإيجاد.
- الرابع: علمنا بأنّ الأولى للمعلم أن ينقل تلامذته للبسائط، ثمّ المركبات، ليكون أدعى للفهم، من قوله (الذي جعل لكم الأرض إلى آخره)، حيث استلفتهم للأجرام، ثمّ إلى كيفيّة خلق النبات.
- الخامس: علمنا بأنّ التوحيد هو من العبادات التي يؤجر عليها العبد يوم الجزاء، من تفسيره لها تعالى بعد ما طلبها من الناس بقوله (فلا تجعلوا لله أندادا).
إنّ الإشارة لهاتين الآيتين ترى أنّ الله تعالى لا يدعو عباده في الغالب إلاّ لمعرفته الخاصّة، ولهذا فسرت العبادة المدعوون لها بقوله (فلا تجعلوا لله أندادا)، وليس المراد بالند إلها آخر، فذلك لا يعقل، لأنّ الخطاب راجع لأهل العلم، المشار إليهم بقوله (وأنتم تعلمون)، ومن يجعل مع الله إلها آخر لا علم له، وعليه فيكون نهيا للمتوجه أن يرى كينونة لأحد مع الله، فيكون متخذّه ندا. إنّ لسان الروح لهاتين الآيتين: لقد سألته عن الند، فقال لي: لم يوجد، فقلت: ما بال وقوع النهي عليه؟ قال: لأنّها مكابرة حيث ادعى العبد بجعله ما عجزت القدرة عن مثله.
(4): قد تقدّم أنّ القرآن العظيم مؤسس في سابق علمه، وأنّه مبعوث إلينا على ما هو عليه، ولمّا كان مشتملا على عدّة أمثال ضربها تعالى تقريبا للأفهام، نوه لذلك في صدر الكتاب ليكون القارئ على بصيرة ممّا يطرق سمعه من الأمثال، وإنّ تفسير هذه الأمثلة في قوله: (إنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها, البقرة آية, 26)، أي لا يمتنع مهما كان فيها ما ينهض بالعقول السليمة لمقاصد القرآن، فما بالك فيما فوقها ممّا هو كالرعد والبرق والمشكاة المضروب بها المثال لنوره في قوله: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح, النور آية, 35)، إلى غير ذلك (فأمّا الذين أمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضلّ به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضلّ به إلاّ الفاسقين, البقرة آية, 26)، الثابت ولا يشكون أنّه من ربّهم ليتوصلوا به لما هو الأعلى من مراده تعالى بالقرآن، وبمن نزل عليه، أي فأي شيء هذا المثال حتى يضربه تعالى، وما أراد به يقول ذلك استخفافا بالقرآن، وكلّ من لم تقم عنده ألفاظ القرآن جميعها أجل مقام يخشى أن يشمله هذا الحكم بأن يكون ذلك اللفظ سببا في ضلالته، فدلّ هذا على أنّ الكثير ممّن حقّت عليه الضلالة بسبب ما استشكله من بعض ألفاظ القرآن بأن لم يتلقاها بالتسليم، أي بذلك اللفظ والمثال نفسه، فتكون حكمة نزوله لهداية البعض، وهو الغالب المضروب المثال من أجله وضلالة البعض، ولمّا ذكر الله تعالى أنّ القرآن ما يضلّ به اقشعرت الجلود، وتشوشت القلوب لما تعلمه من القرآن أنّه هدى ورحمة للمتقين، فأتى تعالى بما يزيل الإشكال، وينزّه جانب الهداية على جانب الضلالة للسفهاء والمرتدين (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه)، فدلّ هذا على أنّ هؤلاء يكون لهم عهد وتمسّك بالدين وبما يستعبدونه من أمثال القرآن ينقضون عهدهم (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل)، من صلة أرحام المؤمنين وموالاتهم، ويستبدلونها بموالاة أعدائهم (ويفسدون في الأرض)، ببث أفكارهم، وخبث انتقادهم على الإسلام والمسلمين، ولن تخلو الأمّة من هؤلاء بين أظهرها (أولئك هم الخاسرون, البقرة آية, 27)، بما فاتهم من كتاب الله بسبب انتقادهم، وقلّة انقيادهم، ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم.
(5): إنّ الإشارة من قول الله تعالى: (وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم مالا تعلمون, وعلّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين, البقرة آية, 30-31)، فالخليفة للملك هو عبارة عن المتولّي لأمور القائم بشؤونه بمعنى أنه يخلفه في المحل المستخلف فيه، ولا بدّ وأن يكون فيه من نعوت الملك من جهة العطاء والمنع، والنفع والضر وغير ذلك من النعوت التي تربطه بالملك، وتميّزه عن المملوك، والمعنى أنّه يكون ملكا من وجهة مملوكا من الأخرى، وبهذا الموجب ظهر تعالى في آدم بعموم أسمائه وصفاته، خلق الله آدم على صورته، ولولا ذلك لما سجدت الملائكة له، فمن نظر وجه الملك في الخليفة فقد قام بحقّه، ومن لم يعرفه باء بغضبه، وما تميّزت الملائكة من الشياطين إلاّ بذلك، فملاحظة الحقّ في الخلق خطة الملائكة المقرّبين وعدم ملاحظته خطة الشياطين، والناس جاءت على أزواج ثلاثة، فطائفة على نعت آدم، وهم العارفون والجهابذة الواصلون، عرفوا الأسماء وحقائقها، والصفات ودقائقها، والذات ومقتضياتها، فاستحقوا بذلك الخلافة الإلهيّة والظهور على جميع البريّة، وطائفة جاءت على خطّة الملائكة، وهم العلماء العاملون، والزهّاد الصالحون، غير أنّهم محجوبون عمّا وراء الستور فيما يقتضي الشعور، ولهذا تجدهم ينتقدون على القوم أحيانا فيما يظهر لهم في سيرتهم من النقص، كما ظهر للملائكة في آدم لكن قبل أن يطلعهم الله على ما لهم من المزايا، ويستر عنهم أوصاف البشريّة بسرّ الخصوصيّة، وأمّا بعد الإطلاع فهم أبعد من أن يجحدوا الحقّ، لكن يبتليهم الله بالسجود إليهم، كما ابتلى الملائكة بالسجود لآدم، ولهذا لا تجد عالما ممّن يتوسم بالصلاح إلاّ وهو يدين بالانحطاط للقوم والاعتراف بعلومهم، ولا تجدهم بين أيديهم إلاّ كما تجد الملائكة بحضرة آدم عليه السلام، وهذه الطائفة أقرب من الولاية الخاصّة، الطائفة الثالثة، وهي أبعد الطوائف عن الله سارت على خطّة الشياطين، والحقّ يقول: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان, البقرة آية, 168)، فإنّها لم تعترف بالإيقان، ولا تدين بالشهود ولا بالعيان ترى كأنّ الوجود فارغ من كلّ معنى راجعة لذات الله وصفاته – عافانا الله من الاحتجاب – ثمّ إنّ نظير آدم على ما به الإشارة تنزّل اللطيفة الروحانيّة من سماء الحريّة لتقوم بالخلافة في هذا البدن على مقتضى العبوديّة، فبعدما تعلّقت به على كره حسبما يقتضيه فراق الوطن وما كانت عليه أيّدها الله عزّ وجلّ بما تحتاج إليه، وخصّها بخصائص كانت مقصورة عليه، ومن ذلك أن أسجد لها الملائكة، فهي إلى الآن حافة من حوله، فمنها ساكنة في بدنه، ومنها خارجة عليه، ألا ترى أنّ الإنسان في حالة النوم والأنفاس تجري مجراها، والدماء تسلك مسلكها، وحركة العروق مثل ذلك، وليس ذلك إلاّ من آثار الموكلين به، ومنهم سكان القوّة الفكريّة، وسكان القوّة العقليّة والبصريّة والسمعيّة، وقس على ذلك: (وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو, المدثر آية, 31)، وكلّ هذا من آثار السجود لآدم، وإنّ امتناع الشيطان من السجود لآدم لما تقتضيه حقيقته الناريّة المستمدّة منها القوّة الغضبيّة والطبيعيّة فهي مالكة بالطبع لا تنطوي تحت القوّة الترابيّة، ولهذا تجد الإنسان كيفما كان إلاّ والغضب يستفزه، وجاء في الخبر إنّ الغضب شيطان، وأمّا ما مقرّ آدم في الجنّة نظيره صيبوبة الإنسان، فهي جنّة يتبوأ منها حيث يشاء، بحيث لا يسأل عمّا يفعل، ولمّا استعملت فيه الغريزة الشهوانيّة، واستحكمت منه القوّة الناريّة التي هي حقيقة الشيطان دعته إلى شجرة المخالفة، فأكل منها، فأهبطه الله إلى دركة التكليف، وحصل بين القوّة العقليّة والطبيعيّة عداوة أبديّة، فمن كان تعلّقه بالقوّة العقليّة كان مقرّه الحضرة الإلهيّة المشار لها بقوله تعالى: (ثم اجتباه ربّه فتاب عليه وهدى, طه آية, 122)، ومن أخلد إلى الأرض قال تعالى: (نوله ما تولى, النساء آية, 115).
إنّ لسان الروح في هاتين الآيتين القرآنيتين يقول: يعتبر آدم اللطيفة الإلهيّة المتنـزّلة من سماء الحرية إلى أرض العبوديّة بما اشتملت عليه من الصفات الكماليّة على مقتضى أنّه جاعل في الأرض خليفة، خطاب من حضرة الذات القدسيّة إلى السماء الأزليّة، فأجاب العدل بلسان المتكلّم قائلا: أتجعل في أرض العبوديّة من يفسد فيها، ويسفك الدماء مستفهما عمّا تقتضيه الإرادة الأزليّة والحكمة الأبديّة، وكان العليم أحوط بالجزئيّات فضلا عن الكليّات، قال: إنّي أعلم ما لا تعلمون. فرجعت الأسماء لصفاتها، والصفات لذاتها قائلة: لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.
(6): إنّ الاستنباط من قول الله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين, فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقرّ ومتاع إلى حين, فتلّقى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه إنّه هو التواب الرحيم, قلنا اهبطوا منها جميعا فإمّا يأتينكم منّي هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون, البقرة آية, من 35-39)، يستخرج منه عدّة أحكام:
- الأول: علمنا بأنّ استقر في محلّ يسمّى بالجنّة مدّة من الزمان في أول أمره من قوله: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة).
- الثاني: علمنا بأنّ الجنّة التي كان فيها لحقته فيها بعض التكاليف من قوله: (ولا تقربوا هذه الشجرة)، حيث عبّر بالقرب، فيكون ما أكله ممتنع من طريق الأحرويّة.
- الثالث: علمنا بأنّ الشيطان كان له نفوذ بالجنّة بعد خروجه منها، وقبل هبوطه إلى الأرض، وإلاّ لما وصلت وسوسته إلى آدم وهو بالجنّة من قوله: (فأزلهما الشيطان عنها).
- الرابع: علمنا بأنّ الخروج من الجنّة هو غير الهبوط الآتي ذكره، ولهذا بقيت يد الشيطان في الجنّة من قوله: (فأخرجهما ممّا كانا فيه).
- الخامس: علمنا بأنّ الشيطان تأخر هبوطه عن خروجه من الجنّة، حتى أهبطه الله مع آدم وحواء من قوله: (وقلنا اهبطوا) حيث أتى بضمير الجمع.
- السادس: علمنا بأنّ للشيطان فروعا وأبناء، كما لأدم، من قوله: (بعضكم لبعض عدو)، إنّ الإشارة في قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة)، حيث ذكرها بالجنس، ولم يذكرها بالنوع تفيد وجوب التوقي والاحتراز من كلّ مشتبه فضلا عن المنصوص عليه بالمنع، لئلا يكون دخلا تحت الجنس، وفي تعبيره عن الأكل بالقرب كفاية، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
إنّ لسان الروح يقول: إنّ آدم وإن أساء في دار الإحسان، فقد أحسن في دار الإساءة، ليعلم أبناؤه احتمال وقوع الشيء في ضده، حتى لا يأمن أحدهم مع الأمن، ولا ييأس مع الخذلان.
(7): ولمّا أنهى تعالى الكلام على الجناية التي ارتكبها بنو إسرائيل من جهة عبادة العجل شرع في ذكر جناية أخرى، فقال: (وإذ قلتم)، وتفسير ذلك أي تذكروا مقالتكم عندما خرجتم تعتذرون إلى الله من عبادة العجل (يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، أي بالأبصار، والقائلون هم السبعون المختارون للميقات (فأخذتكم الصاعقة)، التي كادت أن تذهب بكم إلى العدم المحض (وأنتم تنظرون)، ما حلّ بكم (ثمّ بعثناكم من بعد موتكم)، أي أرجعناكم إلى قيد الحياة، فدلّت الآية على مفارقتهم الدنيا، وقال وهب إنّهم لم يموتوا إنّما أخذتهم رعدة، ورجفة لما عاينوا تلك الهيبة الهائلة، وعلى هذا يكون إطلاق الموت هنا من قبل إطلاقه على النوم أحيانا والبعث من ذلك القبيل، كما في قوله بعثناكم، لنعلم والذي يقوي حجة ما ذكرنا هو قوله: (وأنتم تنظرون)، إنّما لو حصلت لهم مفارقة الأبدان، لم يتمكن لهم النظر -والله أعلم- ثمّ أقول لا جناية في سؤال الرؤية، لأنّ موسى كان سألها من قبل، إنّما الجناية في تعليق الإيمان عليها بقولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وهذا أبلغ غاية في ضعف العقيدة لما يلزم أنّهم ليسوا بمؤمنين في حال سؤالهم لها، وهذا مستبعد جدا في عصبة من خيار قوم كليم الله، ولكن من المحتمل أن يكون المراد بقولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله على حدّ قضية سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما قال له تعالى: أو لم تؤمن قال: بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي. ولعلّك تقول فأي الجناية إن كان السؤال سيفهم به كليم الله، ونصّ السؤال جاء على حدّ قضية خليل الله، فأقول: إنّ الجناية تتحقّق في عدم شكرهم نعمة البعث المشار إليها بقوله: (ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون, البقرة آية, 55-56)، وهذا بالنظر إلى نصّ السؤال مجمله، وأمّا لو تتبعنا ألفاظه لوجدنا في كلّ لفظ جناية وتقصيرا، ومن ذلك قولهم: يا موسى، فهو خطاب مجرّد من كلّ احترام، ولا شكّ أنّ الله لا يرضى به حسبما جاء في القرآن: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) الثاني: سوء التعبير في قولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله، فلو قالوا لن تطمئن قلوبنا حتى نرى الله، لكان أجمل، الثالث: زيادتهم اللام والكاف، وهو قولهم لك: فكأنّهم يمنّون عليه إيمانهم، والحقّ ينهى عن ذلك، كما في القرآن: فلا تمنّوا عليّ إسلامكم، بل الله يمنّ عليكم، الرابع: تقيد الرؤية بكونها جهرة فيه خروج عن سنّة موسى عليه السلام، لأنّه لم يقيدها بكونها جهرة، إنّما قال: ربّ أرني أنظر إليك، الخامس: فرط الجفاء المستفاد من قولهم: حتى نرى الله بعدم إضافته لهم، ولو قالوا: حتى نرى ربّنا وإلهنا لكان أحسن، وهكذا سائر ألفاظهم لو تتبعتها غالبا.
(8): إنّ الاستنباط من الآية القرآنيّة: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه إثنا عشرة عينا قد علم كلّ أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين, البقرة آية, 60)، هو: يستخرج من قوله تعالى في هذه الآية أربعة أحكام:
- الأول: علمنا بأنّ الاستسقاء هو من سنن الأنبياء عليهم السلام من قوله: (وإذ استسقى موسى).
- الثاني: علمنا بأنّ الأنبياء على ثقة من الله من جهة وصول ما به من قوام البدن، إنّما يسألون من الله ما هو من ذلك القبيل لقومهم، لأنّهم أضعف يقينا من أنبيائهم، من قوله: (وإذ استسقى موسى لقومه)، أيضا حيث أسند الاستسقاء لهم.
- الثالث: علمنا بأن القوم كانوا أحوج إلى الماء من جهة الشراب لا لنحو السقي، وإلا لأرسلت عليهم السماء بدل انفجار الحجر.
- الرابع: علمنا بأنّ المشارب تختلف في كلّ شيء حسّا ومعنى، من قوله: (قد علم كلّ أناس مشربهم)، إنّ لسان الروح يقول: سألته عن العصا التي كانت لموسى فلم تعمل الأعمال، قال: لأنّها كانت في يد آدم، وآدم منفوخ فيه من روح الله.
(9): إنّ الإشارة لقوله تعالى: (إنّ الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من أمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون, البقرة آية, 62)، تتضمّن تسوية هذه الفرق، ودخول المؤمنين في جملتهم أن لا يرى الإنسان دونه مسلما ولا كافرا، ولا طائعا ولا عاصيا، ما دامت عاقبة أمره مجهولة، لأنّ العبرة بالخواتيم، وإلى الله عاقبة الأمور، والناس في جانب التقدير سواء.
إنّ لسان الروح يقول: على ما فهمت من لغز أنّ جميع هذه الفرق لها مكانة في الدين، وأنّ التفاصيل فيما بينهما حسبما رتبه الكتاب المبين، وأنّ الأسفل منها أعلى درجة من المشركين.
(10): إنّ التفسير لهذه الآية وهو الخطاب الموجه لمحمد وأصحابه: (أفتطمعون)، يا معاشر المؤمنين: (أن يؤمنوا لكم)، اليهود: (وقد كان فريق)، أي طائفة (منهم) أي من أحبارهم (يسمعون كلام الله)، وهو التوراة، ويعرفون أنّه كلام الله (ثمّ يحرّفونه)، أي يغيرونه ويبدلونه (من بعد ما عقلوه)، إنّه كلام الله، وليس ذلك منهم إلاّ حسدا أن يظهر ما فيه دلالة على صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم حذرا أن ينتشر أمره، والله متم نوره ولو كره الكافرون (وهم يعلمون)، أنّ ما فعلوه جرأة على الله بدليل اعترافهم لبعضهم بعضا (وإذا لقوا الذين أمنوا)، بمحمد الأيمان الخالص (قالوا)، لهم (أمنا)، كما أمنتم، وإنّه النبيّ المبشّر به في التوراة (وإذا خلا بعضهم إلى بعض)، في مجتمعهم الخصوصيّ، الذي لا يطلع عليهم فيه غيرهم ( قالوا)، لهم شياطينهم أهل الجحود المحض، يلومونهم على اعترافهم لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوءة، ويقولهم لهم (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم)، في التوراة، وبما عرفتموه من أوصاف المبعوث آخر الزمان (ليحاجوكم به)، أي ليحتجوا عليكم بحديثكم يوم القيامة (عند ربّكم)، بأنّكم عرفتم محمدا بأوصافه، وجحدتم نبوءته (أفلا تعقلون)، أنّ ما فعلتموه هو حجّة عليكم ولمّا أثبتوا من العقل لأنفسهم ما نفوه عمّن تحدّث بأوصاف النبي، أتى تعالى بما فيه توهين لمعتقدهم فقال: (أولا يعلمون)، أي أو ليس يعلمون (أنّ الله)، تعالى (يعلم ما يسرّون)، في أنفسهم (وما يعلنون)، من أقوالهم وأفعالهم، ولكنّهم لا يعلمون ذلك، ولو كانوا أعلى بصيرة من أوصاف ربّهم لما ظنّوا أنّ كتمان ما عرفوه من الحقّ منجيّهم من عذاب الله، ثمّ قال تعالى: (ومنهم)، أي من اليهود (أميّون لا يعلمون)، أي لا يعرفون (الكتاب)، وهو التوراة حتى يجادلوا فيه (إلاّ أماني)، يمنونهم بها أحبارهم فأخذوها منهم على سبيل التقليد، وليسوا على يقين من أمرهم (وإن هم إلاّ يظنون)، فيما يعارضونه من الحقّ، وبمناسبة ما ذكره تعالى من أنّ اليهود أميّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني يتلقونها من أحبارهم. ومن جملة جرأتهم على الله أن كانوا يكتبون الكتاب طبق أغراضهم، ثمّ يقولون للعموم أنّ ما فيها من عند الله، فقال تعالى: (فويل)، هي كلمة وعيد وتهديد (للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون)، للأميّين الذين لا يعرفون الكتاب (هذا من عند الله)، فأنصتوا هل فيه ما يلزمنا بمتابعة هذا النبيّ، أو ما فيه ما يطابق أوصافه، أو يطابق ما جاء به ويفعلون ذلك (ليشتروا)، أي ينالون من أجل ذلك (به ثمنا قليلا)، من أعراض الدنيا والكلّ في جانب الله قليل (فويل لهم ممّا كتبت أيديهم)، من الافتراء على الله (وويل لهم ممّا يكسبون)، من أعراض الدنيا في مقابلة ما يكتبون.
(كلّ الآيات القرآنية الواردة أعلاه هي من سورة البقرة, من آية 75-79).
يقول لسان الروح: سألته في معنى قوله: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله)، فما هو موجب استبعاد إيمانهم مع ما كانوا عليه من استماع كلام الله، فقال من سقط من أعلى درجة المكالمة، فلا يرضى بحضيض الإيمان فإنّه يستنكف أن يكون مؤمنا بعد أن كان محسنا، فيفوته خير المقامين، الأوّل باضطرار، والثاني باختيار.
(11) : إنّ الاستنباط من قوله تعالى: (ولقد أتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون, وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون, البقرة آية,87-88)، هو يستخرج من قوله: (ولقد أتينا موسى ….)، إلى قوله: (فقليلا ما يؤمنون)، خمسة أحكام:
- الأول: علمنا بانّ الله تعالى بعث رسلا بين موسى وعيسى، وفي الغالب أنّ شرع موسى كان شرعا لهم، من قوله: (وقفينا من بعده بالرسل).
- الثاني: علمنا بأنّ ما أوتي عيسى من البينات كانت أبين وأوضح من غالب الآيات الصادرة على يد أنبياء الله، من قوله: (وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس).
- الثالث: علمنا بأنّ الرسل كانت في الغالب تأتي بما لا تهواه النفوس الخسيسة، من قوله: (أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم).
- الرابع: علمنا بأنّ عدم إيمان بني إسرائيل بأنبيائهم كان ناشئا عن كبر. من قوله: (استكبرتم).
- الخامس: علمنا بأنّ تعلّق اليهود بأنبيائهم كان قليلا، بالنسبة لجرأتهم عليه من قوله: (ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون).
(12): إنّ الإشارة من قوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فإنّه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين, من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإنّ الله عدو للكافرين, ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلاّ الفاسقون, البقرة آية, من7-99)، تفيدنا أنّ محبّة الله لا تكتسب إلاّ بمحبّة أحبابه، وعداوته لا تتأتى بعداوتهم. جاء في الحديث القدسيّ: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)، فليحترز اللبيب من أن يسعى فيما يؤذي المنتسبين لله كما يجتهد أن يأخذ الحقّ حيثما وجده، ولا يقول كما قالت اليهود لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: لو كان الوحي جاءك به ميكائيل لاتبعناك، ولكنّ جبريل عدو لنا، وكان الحقّ منهم أن يأخذوا الحقّ مهما عرفوه، ولكن الأغراض قد تحول عن المراد.
(13): إنّ التفسير حيث قال تعالى في خطاب راجع لليهود المنكرين نبوءة محمد صلّى الله عليه وسلّم: (ولو أنّهم أمنوا)، بما جاء به القرآن (واتقوا)، عقوبة الله المترتبة على كلّ من يجحد الحقّ بعد ظهوره (لمثوبة)، تعرّضوا لها (من عند الله)، يوم القيامة (خير)، لهم من نكرانّ الحقّ (لو كانوا يعلمون)، العلم النافع لقالوا الحقّ أحقّ أن يتبع ولمّا كان الغشّ من جبلة اليهود لزم لهم من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم قديما وحديثا، ومن جملة ذلك أنّهم كانوا يدسّون للنبيّ في حديثهم ما هو في الظاهر بصفة المدح وفي الباطن بعكسه، فأراد تعالى تنبيه المؤمنين عن مثل ذلك، فقال: (يا أيّها الذين أمنوا لا تقولوا)، لنبيّكم (راعنا)،أي اجعل رعايتك علينا فإنّ اليهود تقولها معكم، وتريد بها معنى آخر في لغتهم مضمنة سببا (وقولوا انظرنا)، بدل قولكم راعنا حتى لا تكون ذريعة، فإنّ المعنى واحد (واسمعوا)، ما قلناه لكم، فكان الأخذ بهذه الكلمة بدل الأولى على سبيل الوجوب (وللكافرين)، المتجرّئين على رسول الله (عذاب أليم)، بقدر جرأتهم وطغيانهم، ثمّ أتى تعالى بما فيه تحذير المؤمنين من أعدائهم، فقال: (ما يود)، أي يحبّ (الذين كفروا من أهل الكتاب)، وهم اليهود (ولا المشركين)، من العرب وغيرهم (أن ينزّل عليكم من خير)، مطلقا وبالأخص ما هو كالوحي (من ربّكم)، فتكون لكم به السعادة الأبديّة في الدين والدنيا (والله)، سبحانه وتعالى تجلّ إرادته عن موافقة الأغراض، فله الاختيار التام (يختصّ برحمته)، ونبوءته وولايته (من يشاء)، من عباده، وبما شاء وكيف شاء، فالناس في جانب الفضل سواء (والله ذو الفضل العظيم)، الممتنع تقيده بشخص دون الآخر.
(كلّ الآيات القرآنيّة الواردة أعلاه هي من سورة البقرة من آية, 103- 105).
إنّ الإشارة في قوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ….إلخ)، ما يتناول كلّ حسود، ويكون الكاف من ضمير المخاطبين شامل لأهل الخصوصيّة مطلقا في كلّ عصر وزمان، والمستفاد الأهم من الآية هو علمنا ببعد المشيئة عن الارتباط بالعلّل والأسباب، من قوله: (يختص برحمته من يشاء)، ولمّا كان الوهم قد يسلم ذلك غير أنّه يسبق إلى تخصيص المتقدّمين بما يتعذّر في الإمكان وصول المتأخرين إليه، نفاه تعالى بكيفية كادت تثبت شيئا من عكسه، بقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء)، ولعلّك تقول إنّ الآية السابقة تامّة الاستقلال بنفسها، فأقول وهو كذلك، غير أنّ الإشارة تؤخذ من سرّ ترتيب الآي مع بعضها وما يعقلها إلاّ العالمون، فما من آية إلا وتعضد ما قبلها بطرف ما خفي أو جلي.
(14): إنّ التفسير حيث قال: وبمناسبة ما كانت عليه جبلته عليه الصلاة والسلام من جهة تمسّكه بالتنزيل، فكان ما من آية نزلت إلاّ وتمكّنت من باطنه، وأخذت بمجامعه، فهو بالطبع يألفها، ويشفق من نسخها كلّ الإشفاق خشية أن لا يعوّضه تعالى بمثلها من جهة ما يراه لها من التأثير في القلوب، فجاءت آية النسخ تشجيعا من الله له على أن يتلّقى الناسخ بأبلغ ما تلّقى به المنسوخ، وربّما يوجد فيه من الخير ما لا يوجد في ضده، حسبما يؤخذ من قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت)،أي نأتيك يا محمد (بخير منها أو مثلها)، ولمّا كان الوهم ربّما يستبعد وقوع الخيريّة باعتبار امتزاج الآية السابقة بذوقه وارتشافها في لبّه أتاه تعالى بما فيه تقرير، واستلفته لما سبق في علمه عليه الصلاة والسلام من استطلاعه على قدرة القادر، فقال: (ألم تعلم)، يا محمد (أنّ الله على كلّ شيء قدير)، فكأنّه يقول أليس في علمك أنّ القدرة الذاتيّة هي التي أوجبت الانفعال في القلوب، حتى تأثرت بالآي القرآنيّة، ولم يزل ربّك موصوفا بالقدرة على كلّ شيء، فالذي أتاك بالخير هو قادر على أن يأتيك بخير منه (ألم تعلم أنّ الله له ملك السّماوات والأرض)، زيادة في توسيع النظر، لينطرح المخاطب أمام إرادته تعالى انطراح الميّت بين يدي القاتل، بموجب ما يعتبره من خلقه السموات والأرض وما فيهن إندراج الكلّ تحت حكمه وكفالته، فيعلم يقينا أنّ اختياره أولى من اختيار غيره، ولو لنفسه، كائنا من كان فيتلقى الناسخ بما تلقى به المنسوخ أول مرة، وبمناسبة مشاركة الصحابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من جهة تأثرهم بوقوع النسخ خشية قدح المعارض في القرآن، وكان ذلك أشدّ عليهم من السيف شاركهم تعالى في الخطاب احتراما لجنابهم، فقال: (وما لكم)، يا معاشر المؤمنين (من دون الله من وليّ ولا نصير)، فكأنّه يقول لهم: كونوا على حذر من أمر الخلق، فإنّه ليس لكم في الأرض صديق ولا وليّ حميم، كما قال إبراهيم عليه السلام: (فإنّهم عدو ليّ إلاّ ربّ العالمين, الشعراء آية, 77)، فلا تركنون لمدحهم، كما لا تتأثرون من قدحهم، فالله وليّكم ومتولّيكم لا غيره.
ثمّ إنّ الوليّ لغة هو عبارة عن القريب الملاطف، ومهما تحقّقت ولايته تعالى للمؤمنين فقد تحقّقت لهم السعادة الأبديّة. غير أنّ الولاية لا تستلزم صفة الناصريّة فالمعنى لا يلزم من الوليّ عن المتولي، فلا تستكمل في غير الله لعجزه عنها من بعض الوجوه، والمعنى أنّ النصر قد يتخلّف عن الولاية باعتبار النظر المتعلّق بالظواهر (وكأين من نبيّ قاتل معه ربّيون كثير, آل عمران آية, 146)، وكونه تعالى وليهم: هي نعمة تخصّهم فيا بينهم وبين الله، وكونه ناصرهم: نعمة تخصّهم فيما بينهم وبين الخلق فاستجمعت النعمتان لديهم، ولاية الباطن ونصرة الظواهر. ولمّا كانت كثرة النعم قد تفضي بمن لم يتثبت إلى حلول النقم، حذّر تعالى المؤمنين من أمر ذي أهميّة، ممكن الوقوع، قد يتساهل فيه الإنسان غالبا، ومن ذلك ما يلقى على الأنبياء من كثرة المسائل وتكلّفهم بما هو كخرق العوائد، وربّما كان مثل ذلك يخلج في أفكار بعض المؤمنين بما مرّ على أسماعهم.
تعليقات
إرسال تعليق