وهو من مؤلفات الأستاذ الشيخ أحمد العلاوي التي كتبها في ميدان التصوف حسبما تشير إليه الصفحات الأخيرة من المخطوط، يشرح فيه الأستاذ منظومة شيخه مربي السالكين محمد بن الحبيب البوزيدي، على طريقة أهل الأذواق، حسبما يقتضيه الاستغراق في الحضرة الإلهية المعبر عنها بالفنا، وهو مقام السادات الأبرار من أفراد الأمة المحمدية.
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حمدا لمن آثر بصائر العارفين, وجعلهم على قدم الأنبياء والمرسلين, ومن ذلك جعل لكل ولي عدوا كما جعل لكل نبي عدوا من المجرمين, واصطفاهم فحب من حبهم وعادى من عاداهم, قال غيرة عليهم وهم أهل القرب والعناية : (من آذى لي وليا فقد بارز الله بالمحاربة), والصلاة والسلام على المصطفى سيد العالمين, وقائد الغر المحجلين, القائل : (أنا سيد ولد آدم ولا فخر), المورث السيادة لآله المتحلين في القرآن بتاج الطهر, المأثور في حديثه الشريف : (بأن الطعن في نسبى كفر), وعلى آله الأشراف رغما على من حاد عن الإنصاف, غارقا في جمادات الضلال والإعتساف, صلاة وسلاما يكونان حصنا من سوء العقيدة.
أما بعد :
فيقول العبد الفقير إلى الله, المستعين بالله أحمد بن مصطفى بن عليوة, منَّ الله عليه بالتوفيق وجعله الدارين من أسعد فريق :
لما اطلعت على المنظومة المنسوبة إلى الشيخ الإمام المحقق, العارف المدقق الولي الرباني, والقطب الصمداني, سيدنا ووسيلتنا إلى ربنا, سيدي محمد بن مولاي سيدي الحبيب البوزيدي نسباً, المستغانمي مسكنا, الشريف أصلا رضي الله عنه وعنا به, ونفعنا به وببركته وأفاض علينا من ودّه ووداده, ورأيت أهل الهمم القاصرة والعقول الخاسرة يتكلمون فيها بالإنكار ولم يطلعوا لها على معاني ولا آثار, لجعلهم بمقامات السادات الأبرار, فحركتني الغيرة الإلهية على أن نجعل لها شرحاً واضحاً نبيّن فيه مقصدها وإن كنت لست أهلاً لذلك بعد الإذن من الشيخ ولا يسعني مخالفته لأنه هو الذي يسعى في مصالحي عند الله, لأن تأييد الله يسهل وعور المسالك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال رضي الله عنه :
لما فنيت الفناء *** ما بقيت إلا أنا
في الحسُّ وفي المعنى *** أنا الطالب المطلوب
قوله: لما فنيت الفناء, هذا اصطلاح معروف عند أرباب التصرف, وهو عبارة عن ظهور العظمة والجلال, ويعبرون عنه بالاضمحلال, وفيه تكّل العبارات وتضيع الإشارات وتخشع الأصوات (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) النبأ 38. لأنه إذا فني العبد عن الخلق والهوى والنفس والإرادة والأماني, دنيا وأخرى, ولم يبقى إلا الله عزَّ وجلَّ, كان كما كان. قال صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولا شيء معه), وقال أكابر العارفين (وهو على ما عليه كان).
و وفي هذا المقام قال رضي الله عنه: ما بقيت إلا أنا, لأن قوله صار بالله, وقد فني العبد وبقي الرب. فإذا كان العبد على هذه الحالة, لم يبقى له وجود مع سيده, وتصير أفعاله وأقواله كلها لله أي صادرة منه, سواء كان واجبا (وجيبه) أو غير ذلك.
قال صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه, ولا زال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, و يده التي يبطش بها, و رجله التي يمشي بها, وإن سألني لأعطينه, وإن استعاذني لأعيذنه), وقال في رواية أخرى : (كنتُ هو) فإذا صار هو هو, أين يكون هذا العبد ؟ و الحاصل لا موجود مع الله, ولا متكلم سواه, (فالله هو الولي, وهو يحيي الموتى) الشورى 19.
وأما قوله: (في الحسُّ وفي المعنى) إذ هو في الحس ببصره, وفي المعنى ببصيرته, وإن شئت قلت: هو في الحس بشبحه وفي المعنى بروحه, وإن شئت قلت: هو في الحس بفرعه وفي المعنى بأصله, والعبارة لا تنحصر.
و أما قوله: (أنا الطالب والمطلوب) إذ هو طالب الوصول لصالح الحرية والمشاهدة لأنوارها القدسية, ومطلوب بالوقوف مع العبودية, والقيام بحقوق الربوبية, لقوله تعالى: (إن كل من في السماوات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم 93, وفي هذا البيت معاني لطيفة, لا يفهمها إلا أهل الذوق والمعرفة.
ثم قال رضي الله عنه:
شرابي لي مني *** وسري في الأواني
حاشا يكون الثاني *** أنا الشارب المشروب
قوله رضي الله عنه: (شرابي لي مني) إضافة الشراب لنفسه رضي الله عنه تدل على كماله و ارتفاع مقامه عند الله كما قال بعضهم:
صار مشروبي من إنائي *** مذ استعذبت الورود
وذلك أن الله تعالى تجلى لقلبه كما في الآثار, إن الله يقول : (لا يسعني أرضي ولا سمائي ولا يسعني إلا قلب عبدي المؤمن), فإذا صار هذا القلب مسكن الرب فكيف يحتاج إلى الشرب, فيصير الشراب منه وإليه, بل كل الأشياء تستمد منه كما قال رضي الله عنه : (وسري في الأواني) والمراد بالأواني جميع الموجودات, لأن مدد الوليّ سار في الأكوان كسريان الماء في الأغصان, وهذا المقام هو المسمى عندهم بالغوثية.
أما قوله رضي الله عنه : (حاشا يكون الثاني) أي في القلب الذي ذكرناه, والمراد بالإثنينية وجود الشريك الذي لا يستقر في القلب, لأنه محل الرب, والحق تبارك وتعالى غيور أن يكون معه غيره في القلب الذي سكنه.
وأما قوله : (أنا الشارب المشروب) فهو شارب باعتبار البداية ومشروب باعتبار النهاية, وإن شئت قلت : مريد في بدايته ومراد في نهايته, والمراد والمشروب بمعنى واحد والألفاظ مختلفة, وكل داع إلى الله يطلق عليه مشروب بالنسبة لتلاميذه لأنهم شربوا حبه في قلوبهم, والله أعلم.
ثم قال رضي الله عنه :
أنا الكأس أنا الخمرة *** أنا الباب أنا الحضرة
أنا الجمع أنا الكثرة *** أنا المحب المحبوب
قوله رضي الله عنه (أنا الكأس أنا الخمرة) فالمراد بالكأس هو البشرية الحاملة سر الألوهية, أما الخمرة عبارة عن الروحانية, وفي هذا المعنى قال سلطان العاشقين سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه : (أرواحنا خمر وأشباحنا كرم).
وأما قوله : (أنا الباب أنا الحضرة) لا شك آن أولياء الله هم أبواب حضرة الله, إذ لا وصول إلى الله إلا بصحبة أولياء الله, لأنهم هم القوم لا يشقى جليسهم, والحاصل هم أبواب الله, قال تعالى (وأتوا البيوت من أبوابها) البقرة 189, وإذ تحققنا أن الولي هو باب الحضرة يصح له أن يقول : أنا الحضرة, لأن باب الحضرة ليست غيرها والله أعلم.
وأما قوله : (أنا الجمع أنا الكثرة) كان نظره رضي الله عنه للنفس الأصلية التي كثرت في وحدتها وتنزهت في بهجتها, ومن أجل هذا قال تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) الأعراف 189, وكل نفس من الأنفس إلا وهي فرع من النفس الأصلية, ويصح للفرع أن يقول : أنا الأصل, وكذلك الأصل يقول : أنا الفرع, لان مقامهما واحد والله اعلم.
وأما قوله: (أنا المحب المحبوب) أشار رضي الله عنه للآية الكريمة وهو قوله تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) المائدة 54, وهؤلاء القوم اللذين حبهم الله في الأزل, وحبوه في الأبد, فصار أحدهم حبيبا ومحبوبا, ونشير لطرف من المحبة, قال تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران 92, قال بعض العارفين : (لن تنالوا محبتي وفي قلوبكم محبة غيري), ولاتكن المحبة إلا في قلب حي, وحياته بموت النفس, فان قيل كيف قدم محبته لهم على محبتهم له وقدم ذكرهم له على ذكره إياهم ؟ قال تعالى: (أذكروني أذكركم) البقرة, فالجواب كما قال الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله تعالى عنه : (الذكر مقدم طلبا, فكأنه أمر بالطلب منه فقدم ذكرهم له), وأما المحبة, فهي تحفة إلهية ليس للعبد فيها اختيار, فلا يصح وجودها إلا بعد بروزها من جانب الغيب على يد المشيئة, فلهذا قدم محبته لنا على محبتنا له, وله الفضل والمنة, ومعنى محبته لنا توفيقه لنا بالطاعات, والله أعلم.
ثم قال رضي الله عنه :
كم من فرد سقيته *** من قيود فكيته
من الغفلة يقظته *** كسيته بنعم الثوب
هذا من باب التحدث بالنعم, لا من الفخر والعجب, قال تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث) الضحى, وقال صلى الله عليه وسلم : (إذا أنعم الله على عبده بنعمة, أحب أن ترى عليه), والفردانية التي ذكرها رضي الله عنه هي من أشرف المقامات, وعليها حضَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم, وأمر أصحابه بالجد في طلبها, لقوله : (سيروا فقد سبق المفردون, قالوا وما هم الأفراد يا رسول الله ؟ قال : هم اللذين نظروا لباطن الدنيا حيث نظر الناس لظاهرها).
وأما قوله رضي الله عنه : (من قيوده فكيته) : فلا قيد أعظم من الحجاب, عند أهل المعرفة والآداب, وإن كانت القيود شتى, فهي منطوية ومندرجة تحت الحجاب, كما قال بعضهم : (سبب العذاب وجود الحجاب وتمام النعيم النظر إلى وجهه الله الكريم).
وأما قوله رضي الله عنه : (من الغفلة يقظته) :
الغفلة هي من أعظم المصائب على المريد, لأنها تطمس القلب عن مشاهدة أسرار الرب, واليقظة عكسها, وهي من أكمل الرغائب, وهي التي يعبرون عنها بالشعور, عند ارتفاع الستور.
وأما قوله رضي الله عنه (كسيته بنعم الثوب) :
فهو عبارة عن الأسرار والمعاني واللطائف التي يتحلى بهم المريد بعد التخلي من الحصر والتقييد.
ثم قال رضي الله عنه :
أنا الذي ظهرت *** خمرتي مني فاضت
والأشياء بي قامت *** أنا رافع الحجب
قوله رضي الله عنه : (أنا الذي ظهرت خمرتي مني فاضت) :
كل هذا على لسان الحضرة المحمدية, التي قامت بها الأشياء, ومنهم من يتكلم على لسان الحضرة الإلهية, كمولانا عبد القادر الكيلاني رضي الله تعالى عنه حين قال : أنا الواحد الفرد الكبير بذاته, ولا إنكار في ذلك ولو قال أكثر من ذلك, فهو ليس بملوم, ولا على قوله مأثوم, لأنه كان في حالة سكره, قال سيدي الغوث أبو مدين رضي الله عنه : (فلا تلم السكران في حال سكره ... الخ).
وأما قوله رضي الله عنه: (أنا رافع الحجب) :
جمع حجاب, وهو في اللغة يطلق على الساتر, وأما عند أرباب البصائر فهو عبارة عن الوهم الذي لا حقيقة له, ومن كان يعتقد أن الحجاب في أمر الله أمر وجودي بحيث هو كالحاجز بين الشيئين فقد ضل ظلال بعيدا, تعالى الله عن الحصر والتقييد, تالله ما هو إلا هو, فما حجبه غيره, ولو حجبه غيره لكان قاهرا له, وكيف (وهو القاهر فوق عباده) سورة الأنعام.
وحاصل الأمر أن الكلام الصادر عن شيخنا رضي الله عنه, كان في حال فنائه, وقد سئل بعض العارفين عن مثل هذا الكلام الصادر من شيخنا رضي الله عنه فأجاب بجواب مقنع, ويقع من المنصف موقعا, ونصه:
أعلم أن الأصل الأصيل الذي لا محيد عنه, ولابد لكل مؤمن اعتقاده, ومن خرج عنه خرج عن قاعدة الإيمان, وهو أن الحق سبحانه وتعالى تجلى بعلو كبريائه وعظمته وجلاله, وعموم صفاته العلية وأسمائه السنية, وان ذلك التجلي ليس هو في كل شخص كما عند الآخر, ولا على قانون واحد, ولا على كيفية مطردة, بل البصائر فيه متفاوتة وأسرار الخلق في ذلك متباينة من كثير وقليل, فهو يتجلى لكل شخص على قدر طاقته, وعلى قدر ما تسعه حوصلته من تجلي الجمال القدسي الذي لا تدرك له غاية, ولا يوقف له على حد ولا نهاية, وإذا عرفت هذا فاعلم أن الذي في مرتبته صلى الله عليه وسلم من تجليات الصفات والأسماء والحقائق, لا مطمع فيه لأحد من أكابر أولي العزم من الرسل, فضلا عمن دونهم من الأنبياء والمرسلين, وان الذي في مرتبة أولي العزم, لا مطمع في ذلك لأحد من الصديقين, وإذا كان الأمر كذلك, وعرفت هذا التفضيل, فاعلم أن الشطحات التي صدرت من أكابر العارفين, ما يوهم أو يقضي أن لهم شفوفا وعلوا على مرتبة الأنبياء والمرسلين, مثل قول أبي يزيد البسطامي رضي الله تعالى عنه (خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله), ومثل قول الشيخ عبد القادر الكيلاني : (معاشر الأنبياء أوتيتم لقبا وأوتينا ما لم تؤتوه) ومثل قول بن الفارض رضي الله عنه :
ودونك بحرا خضته وقف الأولى *** بساحله صونا لموضع حرمتي
إلى أن قال:
فحي على جمع القديم الذي به *** وجدت كهول الحي أطفال صبية
وكقوله في الكافية:
كل من في حماك يهواك لكن *** أنا وحدي بكل من في حماكَ
وكقول بعض العارفين :
نهاية أقدام الأنبياء, بداية أقدام الأولياء.
والجواب عن هذه الشطحات, أن للعارف وقت, كما قال صلى الله عليه وسلم (لي وقت لا يسعني فيه غير ربي), فيطرأ الفناء على ذلك العارف, والاستغراق والاستهلاك, حتى يخرج بذلك عن دائرة حسه, ورؤية نفسه, ويخرج عن جميع مداركه ووجوده, وذلك تارة يكون في ذات الحق سبحانه وتعالى فيتدلى له من قدس الإله فيض يقتضي منه أن يشهد ذاته, عين ذات الحق سبحانه وتعالى, لمحقه فيها, واستهلاكه فيها, ويخرج في هذا الميدان بقوله :(سبحاني ,لا إله إلا أنا وحدي) وكقوله : (جلت عظمتي وتقدس كبريائي) وهو في ذلك معذور لان العقل الذي يميز به الشواهد والفوائد, ويعطيه تفصيل المراتب بمعرفة كل ما يستحق من الصفات غاب عنه, وامتحق وتلاشى واضمحل, وعند فقد هذا العقل وذهابه, وفياض ذلك السر القدسي عليه, تكلم به بالكلام الذي وقع فيه, خلفه الله فيه نيابة عنه, فهو يتكلم بلسان الحق لا بلسانه, ومعربا عن ذات الحق لا ذاته, ومن هذا الميدان قول أبي يزيد البسطامي: (سبحاني ما أعظم شأني) وقول الحلاج: (أنا الحق الذي لا يغير ذاته أمر الزمان, وما في الجبة إلا الله), وقول بعضهم: (فالأرض ارضي والسماء سمائي) وكقول الششتري:
أنا شيء عجيب لمن رآني *** أنا المحب وأنا الحبيب ما ثم ثاني
وأقوال بن الفارض مثل هذا كثيرة, وهذا ما يقتضيه الفناء والاستغراق في ذات الحق, وهذا الأمر خارج عن دائرة العقل, يدرك بالذوق, وصفاء الأحوال, فلا يعلم حقيقته إلا من ذاقه, وتارة يكون الاستغراق للعارف والفناء في ذات النبي صلى الله عليه وسلم, فيغيب عن ذاته في ذات النبي صلى الله عليه وسلم فيتدلى له صلى الله عليه وسلم ببعض أسراره, فإذا كسبت ذاته ذلك الشرف لا تشهد ذاته إلا ذات النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا هو حقيقة الاجتماع بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وما سوى هذا الاجتماع عند العارفين فما هو إلا أضغاث أحلام, فإذا حصل للعارف هذا الاجتماع, فيعلمه الله ببعض ما اختص به نبيه صلى الله عليه وسلم من الخصوصية التي لا مطمع فيها لغيره صلى الله عليه وسلم, فيتكلم بلسان النبي صلى الله عليه وسلم, نيابة عنه في بعض ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من الخصوصية العظيمة, التي له فيها علو وشرف على مراتب جميع الأنبياء والمرسلين, وهو يخبر عما أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم معبرا عن نفسه, فمن سمعه يظن انه ينسب ذلك لنفسه وإنما هو يتكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لغيبته في ذاته, فإذا انفصل عن هذا الفناء والاستغراق, ورجع إلى حسه تبرأ من ذلك الكلام, لعلمه بمرتبته وقال أنا عبدا فقير (لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) س . الأعراف 188. وسق يا أخي هذا المساق في كل ما تسمعه من الشيوخ, مما يقتضي لهم شفوفا على مرتبة الأنبياء والمرسلين, مثل قول الدسوقي: (أنا كنت مع نوح, وأنا كنت مع عيسى), وغير ذلك, ومثل هذا كثير, وكل هذا لفنائه في ذات النبي صلى الله عليه وسل مترجما عن مقاله. وإياك يا أخي أن تبادر بالإنكار على أولياء الله العارفين عز وجل لأنهم اعلم منك بحقيقة الله وأنبيائه, أعوذ بالله من سوء الظن بالله, وبعباد الله الصالحين, وهذا يغني في الجواب, ومن وراء ذلك مما لا يلحقه العقل, ولا يأتي عليه نقل ولا يحل ذكره لبعده عن الأفهام. (انتهى)
وهذا الذي ذكرناه من الفناء للعارف في ذات الله, وفي ذات النبي صلى الله عليه وسلم, ليس هذا لكل ولي, ولا في كل وقت من الأوقات, بل هو خاص ببعض الأوقات لبعض العارفين الراسخين في العلم, فيتلخص من هذا أن الذي تكلم به الشيخ رضي الله عنه في حال فنائه في ذات الله, مما هو مختص بأحكام الربوبية, وفي ذات النبي صلى الله عليه وسلم, مما هو مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم. (انتهى)
ثم قال رضي الله عنه :
ناداني من كل مكان *** أصدع وبشر الإخوان
بالقرب مع الأمان *** اللي يتبعك محبوب
قوله: ناداني, أي ناجاني كما يناجي أنبياءه وأولياءه الصالحين الغارقين في بحر قدسه, الجالسين على بساط أنسه, الذين هم أهل مكالمته ومحادثته, الذين اصطفاهم لنفسه.
وأما قوله : من كل مكان, المراد به الجهات الست وهي : الأعلى والأسفل والأمام والخلف واليمين والشمال, لأن كلام الحق ليس بمتحيز ككلام غيره, بل هو كلام مطلق لا يتقيد بجهة, كما أن المستمع إذا سمعه يسمعه بكل جريحة, كما قال بعضهم : (كلك سمع, إذا تجلى الحبيب, تجلى بسناه).
وأما قوله: أصدع وبشر الإخوان, هذا إذن من الله وبشارة ليحصل الاطمئنان لجميع الفقراء, أخذ من قوله: (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم), س التوبة, 21.
وأما قوله: بالقرب مع الآمان اللي يتبعك محبوب, أي بشر الذي تبعك بحفظ العهد وصفاء الود, بالقرب مع الآمان, وكل هذا رضاء من الرحمن, والحمد لله على وجود أهل الإيمان.
ثم قال:
ناداني يا بوزيدي *** أصدع بشر عبادي
بالقرب والمزيد *** حاشا مريدك محجوب
هذا البيت كله توكيد للبيت الأول في النداء, ليحصل ويستقر في ذهن السامع وفيه فائدتان:
الأولى: نفي الحجاب عن المنسوب إليه, لقوله (حاشا مريدك محجوب) والمراد بالمريد : أي المريد الصادق الذي أشرقت عليه أنوار التحقيق.
وقيل : (إن المريد هو الذي لا إرادة له مع شيخه), فمن باب أولى وأحرى مع ربه, فإذا تخلى هذا المريد عن الإرادة حصلت له الزيادة, وتحلى بأحسن العبادة, وهي متابعة الشيخ في أقواله وأفعاله, لان متابعته متابعة للرسول صلى الله عليه وسلم, قال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) س . آل عمران 31, ومن تهاون في متابعة شيخه لا فائدة فيه كما قال صاحب الرائية:
وان تسمو نحو الفقر نفسك فاطرح *** هواها وجانبها مجانبة الشر
قال شارحها :
أي إن أردت أن ترفع همتك نحو طريق الفقراء, وهي طريقة التصوف, فاطرح هوى نفسك فيما تختاره لنفسها من وجود التعبدات وأنواع القربات, دون أن يأمرها به الشيخ, ويباعد هواها في ذلك مباعدة الشر, يريد أن فلاح المريد بما يختاره له الشيخ لا فيما يختاره هو لنفسه, وان كان يختار هو لنفسه هلك.
قلت : وكم من مريد سقط من هذا الباب, لان المريد قبل الفتح عليه, إذا اختارت له نفسه الإكثار من النوافل والصيام والقيام, فربما كان ذلك للشهوة والسمعة والرياء, فيصير عمله لغير الله, والله لا يحب العمل المشترك, فإذا رحمه الله بالشيخ المربي وجمعه به, فانه يرى ذلك علة فيه, فيريد نقله عنها, فان ساعفه المريد وسبقت له العناية من الله سبحانه وتعالى, دله على ما يليق به, وانتقل إلى حالة مرضية عند الله تعالى, وان لم يساعده المريد وقال جئناه ليزيدنا فجعل ينقصنا, وخسرت نيته في الشيخ المربي, فهذا قد استحوذ عليه الشيطان, واستحكم عليه الرياء والخسران, فنسال الله السلامة, والعافية بمنه وكرمه. (انتهى).
وأما الفائدة الثانية :
هي تعريف نفسه, هو مولانا محمد بن مولانا الحبيب البوزيدي, الشريف الحسني, المستغانمي أصلا, ومسكنا, لأنه من ذرية فاطمة البتول بنت النبي الرسول صلى الله عليه وسلم, والانتساب إليه صلى الله عليه وسلم من أعلى المراتب, لان لقرابته فضل على غيرهم, كما قال الصديق رضي الله عنه : (لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي أفضل من قرابتي) وما أحسن ما أورده الشيخ الكبير في الفتوحات شعرا :
فلا تعدل بأهل البيت خلقا *** فأهل البيت هم أهل السيادة
فبغضهم من الإنسان خسران *** حقيقة وحبهم عبادة
وفي المنن للشعراني رضي الله عنه قال: (ومما من الله به علي محبة الأشراف, وأهل البيت, ولو من قبل الأم فقط, ولو كانوا على غير قدم الاستقامة, لأنهم بيقين يحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ومن حب الله ورسوله لا يجوز بغضه ولا سبه, لقرينة انه صلى الله عليه وسلم كان يحِّد نعيما كلما شرب الخمر, وأتوا به إليه مرة فحَّده, فصار بعض الناس يلعنه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تلعنوا نعيما فانه يحب الله ورسوله). فاعلموا انه لا يلزم من إقامة الحد على الشرفاء, أننا نبغضهم, بل إقامتنا الحدود عليهم إنما هو محبة فيهم, وتطهيرا لهم. وقال سيدي محي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه : (الذي أقول به, أن ذنوب أهل البيت إنما هي ذنوب في الصورة لا في الحقيقة), لأن الله سبحانه وتعالى غفر لهم ذنوبهم بسابق العناية, لقوله تعالى : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) س . الأحزاب 33, ولا رجس أرجس من الذنوب.
قال : وجميع ما يقع منهم من الأذى لنا يجب علينا في الآداب معهم أن نجعله شبيها بالمقادير الإلهية من الأمراض ونحوها, فيجب علينا الرضا بها, والصبر عليها, وان اخذوا أموالنا ولم يعطوها لنا, ولا ينبغي لنا حبس احد منهم ولا رفعه إلى الحاكم لأنه بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الإمام أبو بكر رضي الله عنه يقول: (راقبوا محمد في أهل بيته).
قال الشعراني رضي الله عنه: (سمعت سيدي علي الخواص يقول: حق الشريف علينا أن نفديه بأرواحنا لسريان لحم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودمه الكريمين فيه).
وقال بعض العلماء : (ومن حقوق الشرفاء علينا وان بعدوا في النسب أن نؤثرهم على أنفسنا, وشهواتنا, ونعظمهم ونوقرهم ولا نجلس فوق سريرهم, وهم على الأرض).
وكان سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه إذا جلس أمامه شريف, يظهر له من الخشوع والانكماش بين يديه, ويقول انه نطفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (انتهى من نور الأبصار).
ولا زال الكلام في مناقبهم, وإنما اقتصرت على هذا النزر القليل لقلوب المحجوبين اللذين لا يعرفون لهم قدرا, ويقع في بغض المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن بغض ذريته بغضا له, لأن الله تعالى أوصى بتوقيرهم واحترامهم بقوله : (قل لا أسألكم عليه من اجر إلا المودة في القربى), س الشورى 23. اللهم ارزقنا محبتهم.
ثم قال رضي الله عنه:
الحمد لله الذي *** قوى لي أمدادي
نسقي من أتى عندي*** يشرب غاية المشروب
أتى بالحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل يحب أن يحمد), واخرج الديلمي مرفوعا :(إن الله يحب الحمد, يحمد به, ليثيب حامده, وجعل الحمد لنفسه ذكرا ولعباده ذخرا).
وفي "البدر المنير" عنه صلى الله عليه وسلم (حمد الله آمان للنعمة من زوالها), فلذلك حمده هنا رضي الله عنه لما أنعم عليه بهذه النعم التي من أعظمها معرفة الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأس المال معرفة الله). أعقبها بالحمد والشكر امتثالا لقول الله عز وجل (لئن شكرتم لأزيدنكم), إبراهيم 7, وقال صلى الله عليه وسلم (قيدوا النعم بالشكر), وقال بعض العارفين : (من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها).
ثم قال رضي الله عنه :
يشرب كاس المعاني *** يفنى عن كل فاني
يغيب في ذات الغاني *** يشاهد علام الغيوب
قوله رضي الله عنه : (يشرب كاس المعاني):
أي كأس التحقيق الذي يغيب به عن التفريق.
وقوله (يفنى عن كل فان):
أي عن الموجودات في شهود الذات الجامعة للأسماء والصفات.
وقوله: (يغيب في ذات الغني):
أي يغيب عن حسه ورؤية نفسه في رؤية ربه, كما قال رضي الله عنه : (يشاهد علام الغيوب), والكلام في هذا البيت داخل في شرح البيت المتقدم, مما ذكرناه في حقيقة الفناء.
ثم قال رضي الله عنه :
صلِّ يا رب على *** يا ذا الجود والجلالة
من نوره تجلى *** يا مفرج الكروب
ختم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله تعالى حيث قال (يا أيها اللذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما), الأحزاب 56, ولقوله صلى الله عليه وسلم (من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب), وقوله صلى الله عليه وسلم (أكثروا من الصلاة علي لان من كثر الصلاة علي في حياته أمر الله جميع مخلوقاته أن تستغفر له بعد موته), وقال صلى الله عليه وسلم (أكثروا من الصلاة علي فإنها نور في القبر ونور على الصراط ونور في الجنة).
وأما قوله (يا مفرج الكروب):
لاشك أن من توسل له بنبيه صلى الله عليه وسلم فانه يفرج كربته, لأنه هو باب الله الأعظم وبه تقضى الحوائج. (انتهى).
وهذا ما يسر الله جمعه من الشرح على هذه المنظومة المباركة, وكان وقت الفراغ منها عشية يوم الأحد من شهر المولد النبوي الشريف, بعد ما مضت منه ستة أيام عام تسعة عشر وثلاثمائة وألف (1319) من هجرة من خلق على أحسن صفة صلى الله عليه وسلم.
اللهم إني أسالك التوبة الكاملة والمغفرة الشاملة والمحبة الجامعة والخلة الصافية والرحمة الواسعة والأنوار الساطعة والشفاعة والمحبة البالغة والدرجات العالية والنجاة من المعصية وأفض علينا من بحر كرمك وعفوك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها, واجعلنا عند الموت ناطقين بالشهادة عالمين بها, وأرأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد نزولها, وارزقنا راحة من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها.
وصلى الله على خاتم النبوة والرسالة وعلى آله وأصحابه أرباب العناية الإلهية وسلم تسليما.
والحمد لله أولا والحمد لله آخرا والحمد لله مستغرقا في المحامد كلها, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبي الله ونعم الوكيل, نعم المولى ونعم النصير.
اللهم صلي على محمد سر الناسوت ونور الجبروت ورسول الحي الذي لا يموت وعلى آله وأصحابه اللذين تحقق لهم الفوت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلاما على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حمدا لمن آثر بصائر العارفين, وجعلهم على قدم الأنبياء والمرسلين, ومن ذلك جعل لكل ولي عدوا كما جعل لكل نبي عدوا من المجرمين, واصطفاهم فحب من حبهم وعادى من عاداهم, قال غيرة عليهم وهم أهل القرب والعناية : (من آذى لي وليا فقد بارز الله بالمحاربة), والصلاة والسلام على المصطفى سيد العالمين, وقائد الغر المحجلين, القائل : (أنا سيد ولد آدم ولا فخر), المورث السيادة لآله المتحلين في القرآن بتاج الطهر, المأثور في حديثه الشريف : (بأن الطعن في نسبى كفر), وعلى آله الأشراف رغما على من حاد عن الإنصاف, غارقا في جمادات الضلال والإعتساف, صلاة وسلاما يكونان حصنا من سوء العقيدة.
أما بعد :
فيقول العبد الفقير إلى الله, المستعين بالله أحمد بن مصطفى بن عليوة, منَّ الله عليه بالتوفيق وجعله الدارين من أسعد فريق :
لما اطلعت على المنظومة المنسوبة إلى الشيخ الإمام المحقق, العارف المدقق الولي الرباني, والقطب الصمداني, سيدنا ووسيلتنا إلى ربنا, سيدي محمد بن مولاي سيدي الحبيب البوزيدي نسباً, المستغانمي مسكنا, الشريف أصلا رضي الله عنه وعنا به, ونفعنا به وببركته وأفاض علينا من ودّه ووداده, ورأيت أهل الهمم القاصرة والعقول الخاسرة يتكلمون فيها بالإنكار ولم يطلعوا لها على معاني ولا آثار, لجعلهم بمقامات السادات الأبرار, فحركتني الغيرة الإلهية على أن نجعل لها شرحاً واضحاً نبيّن فيه مقصدها وإن كنت لست أهلاً لذلك بعد الإذن من الشيخ ولا يسعني مخالفته لأنه هو الذي يسعى في مصالحي عند الله, لأن تأييد الله يسهل وعور المسالك ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال رضي الله عنه :
لما فنيت الفناء *** ما بقيت إلا أنا
في الحسُّ وفي المعنى *** أنا الطالب المطلوب
قوله: لما فنيت الفناء, هذا اصطلاح معروف عند أرباب التصرف, وهو عبارة عن ظهور العظمة والجلال, ويعبرون عنه بالاضمحلال, وفيه تكّل العبارات وتضيع الإشارات وتخشع الأصوات (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) النبأ 38. لأنه إذا فني العبد عن الخلق والهوى والنفس والإرادة والأماني, دنيا وأخرى, ولم يبقى إلا الله عزَّ وجلَّ, كان كما كان. قال صلى الله عليه وسلم: (كان الله ولا شيء معه), وقال أكابر العارفين (وهو على ما عليه كان).
و وفي هذا المقام قال رضي الله عنه: ما بقيت إلا أنا, لأن قوله صار بالله, وقد فني العبد وبقي الرب. فإذا كان العبد على هذه الحالة, لم يبقى له وجود مع سيده, وتصير أفعاله وأقواله كلها لله أي صادرة منه, سواء كان واجبا (وجيبه) أو غير ذلك.
قال صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه, ولا زال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, و يده التي يبطش بها, و رجله التي يمشي بها, وإن سألني لأعطينه, وإن استعاذني لأعيذنه), وقال في رواية أخرى : (كنتُ هو) فإذا صار هو هو, أين يكون هذا العبد ؟ و الحاصل لا موجود مع الله, ولا متكلم سواه, (فالله هو الولي, وهو يحيي الموتى) الشورى 19.
وأما قوله: (في الحسُّ وفي المعنى) إذ هو في الحس ببصره, وفي المعنى ببصيرته, وإن شئت قلت: هو في الحس بشبحه وفي المعنى بروحه, وإن شئت قلت: هو في الحس بفرعه وفي المعنى بأصله, والعبارة لا تنحصر.
و أما قوله: (أنا الطالب والمطلوب) إذ هو طالب الوصول لصالح الحرية والمشاهدة لأنوارها القدسية, ومطلوب بالوقوف مع العبودية, والقيام بحقوق الربوبية, لقوله تعالى: (إن كل من في السماوات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا) مريم 93, وفي هذا البيت معاني لطيفة, لا يفهمها إلا أهل الذوق والمعرفة.
ثم قال رضي الله عنه:
شرابي لي مني *** وسري في الأواني
حاشا يكون الثاني *** أنا الشارب المشروب
قوله رضي الله عنه: (شرابي لي مني) إضافة الشراب لنفسه رضي الله عنه تدل على كماله و ارتفاع مقامه عند الله كما قال بعضهم:
صار مشروبي من إنائي *** مذ استعذبت الورود
وذلك أن الله تعالى تجلى لقلبه كما في الآثار, إن الله يقول : (لا يسعني أرضي ولا سمائي ولا يسعني إلا قلب عبدي المؤمن), فإذا صار هذا القلب مسكن الرب فكيف يحتاج إلى الشرب, فيصير الشراب منه وإليه, بل كل الأشياء تستمد منه كما قال رضي الله عنه : (وسري في الأواني) والمراد بالأواني جميع الموجودات, لأن مدد الوليّ سار في الأكوان كسريان الماء في الأغصان, وهذا المقام هو المسمى عندهم بالغوثية.
أما قوله رضي الله عنه : (حاشا يكون الثاني) أي في القلب الذي ذكرناه, والمراد بالإثنينية وجود الشريك الذي لا يستقر في القلب, لأنه محل الرب, والحق تبارك وتعالى غيور أن يكون معه غيره في القلب الذي سكنه.
وأما قوله : (أنا الشارب المشروب) فهو شارب باعتبار البداية ومشروب باعتبار النهاية, وإن شئت قلت : مريد في بدايته ومراد في نهايته, والمراد والمشروب بمعنى واحد والألفاظ مختلفة, وكل داع إلى الله يطلق عليه مشروب بالنسبة لتلاميذه لأنهم شربوا حبه في قلوبهم, والله أعلم.
ثم قال رضي الله عنه :
أنا الكأس أنا الخمرة *** أنا الباب أنا الحضرة
أنا الجمع أنا الكثرة *** أنا المحب المحبوب
قوله رضي الله عنه (أنا الكأس أنا الخمرة) فالمراد بالكأس هو البشرية الحاملة سر الألوهية, أما الخمرة عبارة عن الروحانية, وفي هذا المعنى قال سلطان العاشقين سيدي عمر بن الفارض رضي الله عنه : (أرواحنا خمر وأشباحنا كرم).
وأما قوله : (أنا الباب أنا الحضرة) لا شك آن أولياء الله هم أبواب حضرة الله, إذ لا وصول إلى الله إلا بصحبة أولياء الله, لأنهم هم القوم لا يشقى جليسهم, والحاصل هم أبواب الله, قال تعالى (وأتوا البيوت من أبوابها) البقرة 189, وإذ تحققنا أن الولي هو باب الحضرة يصح له أن يقول : أنا الحضرة, لأن باب الحضرة ليست غيرها والله أعلم.
وأما قوله : (أنا الجمع أنا الكثرة) كان نظره رضي الله عنه للنفس الأصلية التي كثرت في وحدتها وتنزهت في بهجتها, ومن أجل هذا قال تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) الأعراف 189, وكل نفس من الأنفس إلا وهي فرع من النفس الأصلية, ويصح للفرع أن يقول : أنا الأصل, وكذلك الأصل يقول : أنا الفرع, لان مقامهما واحد والله اعلم.
وأما قوله: (أنا المحب المحبوب) أشار رضي الله عنه للآية الكريمة وهو قوله تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) المائدة 54, وهؤلاء القوم اللذين حبهم الله في الأزل, وحبوه في الأبد, فصار أحدهم حبيبا ومحبوبا, ونشير لطرف من المحبة, قال تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران 92, قال بعض العارفين : (لن تنالوا محبتي وفي قلوبكم محبة غيري), ولاتكن المحبة إلا في قلب حي, وحياته بموت النفس, فان قيل كيف قدم محبته لهم على محبتهم له وقدم ذكرهم له على ذكره إياهم ؟ قال تعالى: (أذكروني أذكركم) البقرة, فالجواب كما قال الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله تعالى عنه : (الذكر مقدم طلبا, فكأنه أمر بالطلب منه فقدم ذكرهم له), وأما المحبة, فهي تحفة إلهية ليس للعبد فيها اختيار, فلا يصح وجودها إلا بعد بروزها من جانب الغيب على يد المشيئة, فلهذا قدم محبته لنا على محبتنا له, وله الفضل والمنة, ومعنى محبته لنا توفيقه لنا بالطاعات, والله أعلم.
ثم قال رضي الله عنه :
كم من فرد سقيته *** من قيود فكيته
من الغفلة يقظته *** كسيته بنعم الثوب
هذا من باب التحدث بالنعم, لا من الفخر والعجب, قال تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث) الضحى, وقال صلى الله عليه وسلم : (إذا أنعم الله على عبده بنعمة, أحب أن ترى عليه), والفردانية التي ذكرها رضي الله عنه هي من أشرف المقامات, وعليها حضَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم, وأمر أصحابه بالجد في طلبها, لقوله : (سيروا فقد سبق المفردون, قالوا وما هم الأفراد يا رسول الله ؟ قال : هم اللذين نظروا لباطن الدنيا حيث نظر الناس لظاهرها).
وأما قوله رضي الله عنه : (من قيوده فكيته) : فلا قيد أعظم من الحجاب, عند أهل المعرفة والآداب, وإن كانت القيود شتى, فهي منطوية ومندرجة تحت الحجاب, كما قال بعضهم : (سبب العذاب وجود الحجاب وتمام النعيم النظر إلى وجهه الله الكريم).
وأما قوله رضي الله عنه : (من الغفلة يقظته) :
الغفلة هي من أعظم المصائب على المريد, لأنها تطمس القلب عن مشاهدة أسرار الرب, واليقظة عكسها, وهي من أكمل الرغائب, وهي التي يعبرون عنها بالشعور, عند ارتفاع الستور.
وأما قوله رضي الله عنه (كسيته بنعم الثوب) :
فهو عبارة عن الأسرار والمعاني واللطائف التي يتحلى بهم المريد بعد التخلي من الحصر والتقييد.
ثم قال رضي الله عنه :
أنا الذي ظهرت *** خمرتي مني فاضت
والأشياء بي قامت *** أنا رافع الحجب
قوله رضي الله عنه : (أنا الذي ظهرت خمرتي مني فاضت) :
كل هذا على لسان الحضرة المحمدية, التي قامت بها الأشياء, ومنهم من يتكلم على لسان الحضرة الإلهية, كمولانا عبد القادر الكيلاني رضي الله تعالى عنه حين قال : أنا الواحد الفرد الكبير بذاته, ولا إنكار في ذلك ولو قال أكثر من ذلك, فهو ليس بملوم, ولا على قوله مأثوم, لأنه كان في حالة سكره, قال سيدي الغوث أبو مدين رضي الله عنه : (فلا تلم السكران في حال سكره ... الخ).
وأما قوله رضي الله عنه: (أنا رافع الحجب) :
جمع حجاب, وهو في اللغة يطلق على الساتر, وأما عند أرباب البصائر فهو عبارة عن الوهم الذي لا حقيقة له, ومن كان يعتقد أن الحجاب في أمر الله أمر وجودي بحيث هو كالحاجز بين الشيئين فقد ضل ظلال بعيدا, تعالى الله عن الحصر والتقييد, تالله ما هو إلا هو, فما حجبه غيره, ولو حجبه غيره لكان قاهرا له, وكيف (وهو القاهر فوق عباده) سورة الأنعام.
وحاصل الأمر أن الكلام الصادر عن شيخنا رضي الله عنه, كان في حال فنائه, وقد سئل بعض العارفين عن مثل هذا الكلام الصادر من شيخنا رضي الله عنه فأجاب بجواب مقنع, ويقع من المنصف موقعا, ونصه:
أعلم أن الأصل الأصيل الذي لا محيد عنه, ولابد لكل مؤمن اعتقاده, ومن خرج عنه خرج عن قاعدة الإيمان, وهو أن الحق سبحانه وتعالى تجلى بعلو كبريائه وعظمته وجلاله, وعموم صفاته العلية وأسمائه السنية, وان ذلك التجلي ليس هو في كل شخص كما عند الآخر, ولا على قانون واحد, ولا على كيفية مطردة, بل البصائر فيه متفاوتة وأسرار الخلق في ذلك متباينة من كثير وقليل, فهو يتجلى لكل شخص على قدر طاقته, وعلى قدر ما تسعه حوصلته من تجلي الجمال القدسي الذي لا تدرك له غاية, ولا يوقف له على حد ولا نهاية, وإذا عرفت هذا فاعلم أن الذي في مرتبته صلى الله عليه وسلم من تجليات الصفات والأسماء والحقائق, لا مطمع فيه لأحد من أكابر أولي العزم من الرسل, فضلا عمن دونهم من الأنبياء والمرسلين, وان الذي في مرتبة أولي العزم, لا مطمع في ذلك لأحد من الصديقين, وإذا كان الأمر كذلك, وعرفت هذا التفضيل, فاعلم أن الشطحات التي صدرت من أكابر العارفين, ما يوهم أو يقضي أن لهم شفوفا وعلوا على مرتبة الأنبياء والمرسلين, مثل قول أبي يزيد البسطامي رضي الله تعالى عنه (خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله), ومثل قول الشيخ عبد القادر الكيلاني : (معاشر الأنبياء أوتيتم لقبا وأوتينا ما لم تؤتوه) ومثل قول بن الفارض رضي الله عنه :
ودونك بحرا خضته وقف الأولى *** بساحله صونا لموضع حرمتي
إلى أن قال:
فحي على جمع القديم الذي به *** وجدت كهول الحي أطفال صبية
وكقوله في الكافية:
كل من في حماك يهواك لكن *** أنا وحدي بكل من في حماكَ
وكقول بعض العارفين :
نهاية أقدام الأنبياء, بداية أقدام الأولياء.
والجواب عن هذه الشطحات, أن للعارف وقت, كما قال صلى الله عليه وسلم (لي وقت لا يسعني فيه غير ربي), فيطرأ الفناء على ذلك العارف, والاستغراق والاستهلاك, حتى يخرج بذلك عن دائرة حسه, ورؤية نفسه, ويخرج عن جميع مداركه ووجوده, وذلك تارة يكون في ذات الحق سبحانه وتعالى فيتدلى له من قدس الإله فيض يقتضي منه أن يشهد ذاته, عين ذات الحق سبحانه وتعالى, لمحقه فيها, واستهلاكه فيها, ويخرج في هذا الميدان بقوله :(سبحاني ,لا إله إلا أنا وحدي) وكقوله : (جلت عظمتي وتقدس كبريائي) وهو في ذلك معذور لان العقل الذي يميز به الشواهد والفوائد, ويعطيه تفصيل المراتب بمعرفة كل ما يستحق من الصفات غاب عنه, وامتحق وتلاشى واضمحل, وعند فقد هذا العقل وذهابه, وفياض ذلك السر القدسي عليه, تكلم به بالكلام الذي وقع فيه, خلفه الله فيه نيابة عنه, فهو يتكلم بلسان الحق لا بلسانه, ومعربا عن ذات الحق لا ذاته, ومن هذا الميدان قول أبي يزيد البسطامي: (سبحاني ما أعظم شأني) وقول الحلاج: (أنا الحق الذي لا يغير ذاته أمر الزمان, وما في الجبة إلا الله), وقول بعضهم: (فالأرض ارضي والسماء سمائي) وكقول الششتري:
أنا شيء عجيب لمن رآني *** أنا المحب وأنا الحبيب ما ثم ثاني
وأقوال بن الفارض مثل هذا كثيرة, وهذا ما يقتضيه الفناء والاستغراق في ذات الحق, وهذا الأمر خارج عن دائرة العقل, يدرك بالذوق, وصفاء الأحوال, فلا يعلم حقيقته إلا من ذاقه, وتارة يكون الاستغراق للعارف والفناء في ذات النبي صلى الله عليه وسلم, فيغيب عن ذاته في ذات النبي صلى الله عليه وسلم فيتدلى له صلى الله عليه وسلم ببعض أسراره, فإذا كسبت ذاته ذلك الشرف لا تشهد ذاته إلا ذات النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا هو حقيقة الاجتماع بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وما سوى هذا الاجتماع عند العارفين فما هو إلا أضغاث أحلام, فإذا حصل للعارف هذا الاجتماع, فيعلمه الله ببعض ما اختص به نبيه صلى الله عليه وسلم من الخصوصية التي لا مطمع فيها لغيره صلى الله عليه وسلم, فيتكلم بلسان النبي صلى الله عليه وسلم, نيابة عنه في بعض ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من الخصوصية العظيمة, التي له فيها علو وشرف على مراتب جميع الأنبياء والمرسلين, وهو يخبر عما أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم معبرا عن نفسه, فمن سمعه يظن انه ينسب ذلك لنفسه وإنما هو يتكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لغيبته في ذاته, فإذا انفصل عن هذا الفناء والاستغراق, ورجع إلى حسه تبرأ من ذلك الكلام, لعلمه بمرتبته وقال أنا عبدا فقير (لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) س . الأعراف 188. وسق يا أخي هذا المساق في كل ما تسمعه من الشيوخ, مما يقتضي لهم شفوفا على مرتبة الأنبياء والمرسلين, مثل قول الدسوقي: (أنا كنت مع نوح, وأنا كنت مع عيسى), وغير ذلك, ومثل هذا كثير, وكل هذا لفنائه في ذات النبي صلى الله عليه وسل مترجما عن مقاله. وإياك يا أخي أن تبادر بالإنكار على أولياء الله العارفين عز وجل لأنهم اعلم منك بحقيقة الله وأنبيائه, أعوذ بالله من سوء الظن بالله, وبعباد الله الصالحين, وهذا يغني في الجواب, ومن وراء ذلك مما لا يلحقه العقل, ولا يأتي عليه نقل ولا يحل ذكره لبعده عن الأفهام. (انتهى)
وهذا الذي ذكرناه من الفناء للعارف في ذات الله, وفي ذات النبي صلى الله عليه وسلم, ليس هذا لكل ولي, ولا في كل وقت من الأوقات, بل هو خاص ببعض الأوقات لبعض العارفين الراسخين في العلم, فيتلخص من هذا أن الذي تكلم به الشيخ رضي الله عنه في حال فنائه في ذات الله, مما هو مختص بأحكام الربوبية, وفي ذات النبي صلى الله عليه وسلم, مما هو مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم. (انتهى)
ثم قال رضي الله عنه :
ناداني من كل مكان *** أصدع وبشر الإخوان
بالقرب مع الأمان *** اللي يتبعك محبوب
قوله: ناداني, أي ناجاني كما يناجي أنبياءه وأولياءه الصالحين الغارقين في بحر قدسه, الجالسين على بساط أنسه, الذين هم أهل مكالمته ومحادثته, الذين اصطفاهم لنفسه.
وأما قوله : من كل مكان, المراد به الجهات الست وهي : الأعلى والأسفل والأمام والخلف واليمين والشمال, لأن كلام الحق ليس بمتحيز ككلام غيره, بل هو كلام مطلق لا يتقيد بجهة, كما أن المستمع إذا سمعه يسمعه بكل جريحة, كما قال بعضهم : (كلك سمع, إذا تجلى الحبيب, تجلى بسناه).
وأما قوله: أصدع وبشر الإخوان, هذا إذن من الله وبشارة ليحصل الاطمئنان لجميع الفقراء, أخذ من قوله: (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم), س التوبة, 21.
وأما قوله: بالقرب مع الآمان اللي يتبعك محبوب, أي بشر الذي تبعك بحفظ العهد وصفاء الود, بالقرب مع الآمان, وكل هذا رضاء من الرحمن, والحمد لله على وجود أهل الإيمان.
ثم قال:
ناداني يا بوزيدي *** أصدع بشر عبادي
بالقرب والمزيد *** حاشا مريدك محجوب
هذا البيت كله توكيد للبيت الأول في النداء, ليحصل ويستقر في ذهن السامع وفيه فائدتان:
الأولى: نفي الحجاب عن المنسوب إليه, لقوله (حاشا مريدك محجوب) والمراد بالمريد : أي المريد الصادق الذي أشرقت عليه أنوار التحقيق.
وقيل : (إن المريد هو الذي لا إرادة له مع شيخه), فمن باب أولى وأحرى مع ربه, فإذا تخلى هذا المريد عن الإرادة حصلت له الزيادة, وتحلى بأحسن العبادة, وهي متابعة الشيخ في أقواله وأفعاله, لان متابعته متابعة للرسول صلى الله عليه وسلم, قال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) س . آل عمران 31, ومن تهاون في متابعة شيخه لا فائدة فيه كما قال صاحب الرائية:
وان تسمو نحو الفقر نفسك فاطرح *** هواها وجانبها مجانبة الشر
قال شارحها :
أي إن أردت أن ترفع همتك نحو طريق الفقراء, وهي طريقة التصوف, فاطرح هوى نفسك فيما تختاره لنفسها من وجود التعبدات وأنواع القربات, دون أن يأمرها به الشيخ, ويباعد هواها في ذلك مباعدة الشر, يريد أن فلاح المريد بما يختاره له الشيخ لا فيما يختاره هو لنفسه, وان كان يختار هو لنفسه هلك.
قلت : وكم من مريد سقط من هذا الباب, لان المريد قبل الفتح عليه, إذا اختارت له نفسه الإكثار من النوافل والصيام والقيام, فربما كان ذلك للشهوة والسمعة والرياء, فيصير عمله لغير الله, والله لا يحب العمل المشترك, فإذا رحمه الله بالشيخ المربي وجمعه به, فانه يرى ذلك علة فيه, فيريد نقله عنها, فان ساعفه المريد وسبقت له العناية من الله سبحانه وتعالى, دله على ما يليق به, وانتقل إلى حالة مرضية عند الله تعالى, وان لم يساعده المريد وقال جئناه ليزيدنا فجعل ينقصنا, وخسرت نيته في الشيخ المربي, فهذا قد استحوذ عليه الشيطان, واستحكم عليه الرياء والخسران, فنسال الله السلامة, والعافية بمنه وكرمه. (انتهى).
وأما الفائدة الثانية :
هي تعريف نفسه, هو مولانا محمد بن مولانا الحبيب البوزيدي, الشريف الحسني, المستغانمي أصلا, ومسكنا, لأنه من ذرية فاطمة البتول بنت النبي الرسول صلى الله عليه وسلم, والانتساب إليه صلى الله عليه وسلم من أعلى المراتب, لان لقرابته فضل على غيرهم, كما قال الصديق رضي الله عنه : (لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي أفضل من قرابتي) وما أحسن ما أورده الشيخ الكبير في الفتوحات شعرا :
فلا تعدل بأهل البيت خلقا *** فأهل البيت هم أهل السيادة
فبغضهم من الإنسان خسران *** حقيقة وحبهم عبادة
وفي المنن للشعراني رضي الله عنه قال: (ومما من الله به علي محبة الأشراف, وأهل البيت, ولو من قبل الأم فقط, ولو كانوا على غير قدم الاستقامة, لأنهم بيقين يحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ومن حب الله ورسوله لا يجوز بغضه ولا سبه, لقرينة انه صلى الله عليه وسلم كان يحِّد نعيما كلما شرب الخمر, وأتوا به إليه مرة فحَّده, فصار بعض الناس يلعنه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تلعنوا نعيما فانه يحب الله ورسوله). فاعلموا انه لا يلزم من إقامة الحد على الشرفاء, أننا نبغضهم, بل إقامتنا الحدود عليهم إنما هو محبة فيهم, وتطهيرا لهم. وقال سيدي محي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه : (الذي أقول به, أن ذنوب أهل البيت إنما هي ذنوب في الصورة لا في الحقيقة), لأن الله سبحانه وتعالى غفر لهم ذنوبهم بسابق العناية, لقوله تعالى : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) س . الأحزاب 33, ولا رجس أرجس من الذنوب.
قال : وجميع ما يقع منهم من الأذى لنا يجب علينا في الآداب معهم أن نجعله شبيها بالمقادير الإلهية من الأمراض ونحوها, فيجب علينا الرضا بها, والصبر عليها, وان اخذوا أموالنا ولم يعطوها لنا, ولا ينبغي لنا حبس احد منهم ولا رفعه إلى الحاكم لأنه بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الإمام أبو بكر رضي الله عنه يقول: (راقبوا محمد في أهل بيته).
قال الشعراني رضي الله عنه: (سمعت سيدي علي الخواص يقول: حق الشريف علينا أن نفديه بأرواحنا لسريان لحم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودمه الكريمين فيه).
وقال بعض العلماء : (ومن حقوق الشرفاء علينا وان بعدوا في النسب أن نؤثرهم على أنفسنا, وشهواتنا, ونعظمهم ونوقرهم ولا نجلس فوق سريرهم, وهم على الأرض).
وكان سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه إذا جلس أمامه شريف, يظهر له من الخشوع والانكماش بين يديه, ويقول انه نطفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (انتهى من نور الأبصار).
ولا زال الكلام في مناقبهم, وإنما اقتصرت على هذا النزر القليل لقلوب المحجوبين اللذين لا يعرفون لهم قدرا, ويقع في بغض المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن بغض ذريته بغضا له, لأن الله تعالى أوصى بتوقيرهم واحترامهم بقوله : (قل لا أسألكم عليه من اجر إلا المودة في القربى), س الشورى 23. اللهم ارزقنا محبتهم.
ثم قال رضي الله عنه:
الحمد لله الذي *** قوى لي أمدادي
نسقي من أتى عندي*** يشرب غاية المشروب
أتى بالحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل يحب أن يحمد), واخرج الديلمي مرفوعا :(إن الله يحب الحمد, يحمد به, ليثيب حامده, وجعل الحمد لنفسه ذكرا ولعباده ذخرا).
وفي "البدر المنير" عنه صلى الله عليه وسلم (حمد الله آمان للنعمة من زوالها), فلذلك حمده هنا رضي الله عنه لما أنعم عليه بهذه النعم التي من أعظمها معرفة الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأس المال معرفة الله). أعقبها بالحمد والشكر امتثالا لقول الله عز وجل (لئن شكرتم لأزيدنكم), إبراهيم 7, وقال صلى الله عليه وسلم (قيدوا النعم بالشكر), وقال بعض العارفين : (من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها).
ثم قال رضي الله عنه :
يشرب كاس المعاني *** يفنى عن كل فاني
يغيب في ذات الغاني *** يشاهد علام الغيوب
قوله رضي الله عنه : (يشرب كاس المعاني):
أي كأس التحقيق الذي يغيب به عن التفريق.
وقوله (يفنى عن كل فان):
أي عن الموجودات في شهود الذات الجامعة للأسماء والصفات.
وقوله: (يغيب في ذات الغني):
أي يغيب عن حسه ورؤية نفسه في رؤية ربه, كما قال رضي الله عنه : (يشاهد علام الغيوب), والكلام في هذا البيت داخل في شرح البيت المتقدم, مما ذكرناه في حقيقة الفناء.
ثم قال رضي الله عنه :
صلِّ يا رب على *** يا ذا الجود والجلالة
من نوره تجلى *** يا مفرج الكروب
ختم بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله تعالى حيث قال (يا أيها اللذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما), الأحزاب 56, ولقوله صلى الله عليه وسلم (من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له مادام اسمي في ذلك الكتاب), وقوله صلى الله عليه وسلم (أكثروا من الصلاة علي لان من كثر الصلاة علي في حياته أمر الله جميع مخلوقاته أن تستغفر له بعد موته), وقال صلى الله عليه وسلم (أكثروا من الصلاة علي فإنها نور في القبر ونور على الصراط ونور في الجنة).
وأما قوله (يا مفرج الكروب):
لاشك أن من توسل له بنبيه صلى الله عليه وسلم فانه يفرج كربته, لأنه هو باب الله الأعظم وبه تقضى الحوائج. (انتهى).
وهذا ما يسر الله جمعه من الشرح على هذه المنظومة المباركة, وكان وقت الفراغ منها عشية يوم الأحد من شهر المولد النبوي الشريف, بعد ما مضت منه ستة أيام عام تسعة عشر وثلاثمائة وألف (1319) من هجرة من خلق على أحسن صفة صلى الله عليه وسلم.
اللهم إني أسالك التوبة الكاملة والمغفرة الشاملة والمحبة الجامعة والخلة الصافية والرحمة الواسعة والأنوار الساطعة والشفاعة والمحبة البالغة والدرجات العالية والنجاة من المعصية وأفض علينا من بحر كرمك وعفوك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها, واجعلنا عند الموت ناطقين بالشهادة عالمين بها, وأرأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد نزولها, وارزقنا راحة من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها.
وصلى الله على خاتم النبوة والرسالة وعلى آله وأصحابه أرباب العناية الإلهية وسلم تسليما.
والحمد لله أولا والحمد لله آخرا والحمد لله مستغرقا في المحامد كلها, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبي الله ونعم الوكيل, نعم المولى ونعم النصير.
اللهم صلي على محمد سر الناسوت ونور الجبروت ورسول الحي الذي لا يموت وعلى آله وأصحابه اللذين تحقق لهم الفوت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلاما على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق