يقول العبد الفقير محمد ابن الهاشمي التلمساني: لما كانت رسالة الأستاذ الكبير والإمام المربي الشهير نبراس الحقائق الربانية ومعدن الرقائق الأقدسية الكنز الحاوي سندنا ومولانا الشيخ سيدنا الحاج أحمد بن مصطفى العلاوي أبقاه الله لنفع العباد هاديا إلى طريق الرشاد الموجهة لبعض المشايخ في بيان مشروعية ذكر الاسم المفرد: (الله) المنشورة على صفحات "البلاغ الجزائري عدد (69, 70, 71 من سنة 1928) من أهم ما كتب في الموضوع طلب منا بعض الأصدقاء غير ما مرة أن لو تطبع في شبه كراسة حتى تتأتى مطالعتها, ولا تعدم فائدتها, فوافقناهم على ذلك, وأضفنا لها جملة من تقاريظ علماء القرويين الأعلام, وغيرهم من ذوي المكانة العلمية, والمروءة والاحترام ذوي الأقلام الراقية التي زادتها رونقا على رونقها, وإن كانت الحسناء مكتفية بحسنها, لكن القمر قد يزيد في أبهته التفاف الكواكب من حوله, صدر عن مطبعة الإعتدال بسوريا سنة 1931, و هذا نصها :
الحمد لله و كفى, و سلام على عباده الذين اصطفى
من عبد ربه أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي, إلى جناب المفضال السيد ...
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
أما بعد
أيها الأخ المحترم, فقد كنتُ تشرفتُ بزيارتكم صحبة صديق الجميع حضرة الشيخ فلان و بمناسبة ما دار بيننا من الحديث, في تلك السويعات التي رأيتكم فيها موغر الصدر على إخوانكم العلاويين, حسبما لاح لي في ذلك الحين, لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم مولعون بإجراء الاسم المفرد على ألسنتهم, و هو قولهم: (الله) فظهر لكم أن ذلك مما يستحق عليه العتاب, أو نقول العقاب, لأنكم قلتم إنهم يلهجون بذكر ذلك الاسم بمناسبة أو غير مناسبة, سواء عليهم في الأزقة, أو غيرها من الأماكن التي لا تليق للذكر, حتى أن أحدهم إذا طرق الباب يقول: (الله), و إذا ناداه إنسان يقول:(الله), و إذا قام يقول: (الله), و إذا جلس يقول: (الله), إلى غير ذلك مما جرى به الحديث و من جهة أخرى أنكم كنتم ترون أن هذا الاسم, لا يصلح أن يكون ذكرا, و لا هو من أقسام الكلام المفيد, جريا منكم على ما اشترطه النحويون, من لزوم التركيب, في تعريفهم الكلام المفيد, و لما كان لا يسعني حملكم في جميع ذلك إلا على قصد طلب التفاهم, و الفحص عن الحق و الصواب فيما جاءوا به, هل هو جائز أو لا, ظهر لي أن نواجهكم بهذا المكتوب, عسى أن يحصل به ما هو شفاء للصدور, و دواء للقلوب.
فأقول: أما وقوفكم عند ما اشترطه النحويون, من لزوم التركيب فيما يعتبر كلاما فهو صحيح, غير أنه فاتكم كون النحويين كانوا في تقريرهم ذلك, عاملين عل تعريف الكلام, الذي تتوقف عليه إفادة السامع, و بعيدٌ أن ينطبق عملهم ذلك على الأذكار, و ما يخصها من جهة المشروعية أو عدمها, و ما يترتب على ذلك من الثواب و نحوه, و لا شك أنك لو سألتهم في ذلك الحين, أو هذا الحين, لأجابوك قائلين: إن ما قررناه هو مجرد اصطلاح نعتمده في عرفنا, و لا مشاحة في الاصطلاح, و أنت َ خبير من كون الكلام عند النحويين هو غيره عند المتكلمين, وعند المتكلمين هو غيره عند الفقهاء, و عند الفقهاء هو غيره عند الأصوليين, و هلم جرا, فإن لكل قوم اصطلاحا, و ينتج لنا من هذا أن النحويين كانوا بصدد تعريف الكلام المفيد, الذي يحسن سكوت المتكلم عليه, لا بصدد تعريف الأذكار المشروعة من الأذكار الغير المشروعة و بعبارة أخرى, إن ما اشترطه النحويون من لزوم التركيب, هو خاص بمن يريد بكلامه إفادة غيره, أما الذاكر فلا يقصد بذكره إلا إفادة نفسه, و تمكين معنى ذلك الاسم من قلبه, أو ما يشبه ذلك المقاصد و ثنيا إن النحويين لم يشترطوا في حق المتوجه أو المتأوه, وجود التركيب فيما يبرز من لسانه, لأن قصده غير قصد النحويين, و من البعيد أن يقول النحوي للمتوجه أو للمتأوه: إنني ما فهمتُ مقصودك من تأوهك لأنه لفظ غير مركب يحتاج إلى خبر أو شبه ذلك !
وهذا كله لا يتفق مع مقصود المتوجع, لأنه لا يقصد إفادة غيره, إنما يقصد الترويح بذلك اللفظ على نفسه, و هكذا ذاكر الاسم, لا يقصد إلا تمكين أثر ذلك الاسم من نفسه, و أنت تعلم يا حضرة الأخ, من أن لكل اسم أثرا يتعلق بنفس ذاكره, و لو من غير الأسماء الإلهية, حتى إن الإنسان إذا ردد على لسانه ذكر الموت مثلا, فإنه يحس بأثر يتعلق بالنفس, من ذكر ذلك الاسم, بالخصوص ذا دام عليه, و لا شك أن ذلك الأثر هو غير الأثر المستفاد من ذكر المال, أو العز, أو السلطان, و لولا مراعاة ذلك الأثر, لما ورد في الحديث الشريف:" أكثروا من ذكر هادم اللذات " يعني الموت, و لا شك أنها كلمة مفردة, و قد ورد أنها كانت وردا لبعض السلف و بالجملة, إن تعلق أثر الاسم المذكور بالنفس, يحس به كل إنسان مهما كان له حس لطيف, سواء كان ذلك من قبيل الجديات, أو الهزليات, و إذا سلمنا هذا لزمنا أن نعتقد كون اسم الجلالة يحدث أثرا في النفس كما يحدثه غيره من بقية الأسماء, و لكل أثر ما يناسبه, ولا يفوتك أيها الأخ من كون الاسم يشرف بشرف مسماه, بما يحمله من أثره في طي سره و معناه ثم إننا إذا قطعنا النظر عن جميع ما قدمناه, و ألزمنا نفوسنا بالوقوف عند حكم الشرع, فيما يرجع لجريان ذلك الاسم على اللسان, فلا شك أننا نجده داخلا تحت حكم من أحكام الشرع الخمسة وهي:
- الوجوب
- الندب
- الحرمة
- الكراهة
- الإباحة
حيث أنه لا مسألة من المسائل الفعلية أو القولية, إلا و هي مشمولة بحكم من الأحكام السابقة و إذاً ينبغي لنا قبل توجيه اعتراضنا على المتلفظ بذلك الاسم, أن ننظر أي حكم يشمله, فإن وجدناه داخلا تحت أقسام المحرمات أو المكروهات, وجب علينا توجيه اعتراضنا على المتلفظ به, لأنه جاء شيئا نكرًا, و إلا فإن وجدناه من غير ذلك القسم, فيكون الإنكار عليه منكرا, لأنه لم يزد على أن تلفظ بشيء مباح على الفرض, هذا إذا لم يكن واجبا أو مندوبا, و إذا كان اللفظ في حده مباحًا, فما يمنعنا من تكرار المباح, حتى نجعل المتلفظ به مستحقا للعتاب أو نقول للعقاب و هذا على فرض تجريد ذلك الاسم من كل صبغة دينية و كيفما فعلنا لا يبلغ بنا أن نلحقه بأقسام المكروهات أو المحرمات, مع بقائه على صبغته بالنظر إلى منزلته, فمثلكم من يخصص له من المراتب ما يناسبه, (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).
ثم أقول: إن جميع ما قدمناه هو جري من على سبيل الفرض, من جهة كونه اسما مفردا غير منظم لشيء, و لو على سبيل التقدير أما إذا استطلعنا الحقيقة و أمطنا القناع, فإننا نستطيع أن نقول: إنه مما يجوز ذكره حتى على قول من يشترط التركيب لأنه في الواقع منادى و المنادى عندهم من أقسام الكلام المفيد, لأنهم أولوا حرف النداء بمعنى أدعو, و حذفه جائز و شائع في لغة العرب, وكثيرًا ما يدعو المقام لحذفه لزوما, كما في القضية هنا مراعاة لما تطلبه منا الآداب القرآنية و التعاليم الإسلامية, التي قد يكون منها للسادة الصوفية أكثر مما لغيرهم و أرجوكم يا حضرة الأخ أن لا تستبعدوا قولنا لكم: إن القوم قد تأدبوا بآداب القرآن و تمسكوا بأهداب التقوى, التي تعطي الفرقان, قال تعالى (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) و قد صفت لذلك بواطنهم, إلى أن فتح الله عليهم فيه, بما لم يفتحه على غيرهم و مثال ذلك اعتراض بعض الناس على مد الهمزة من الله و قولهم: إن الهمزة هنا للاستفهام لا غير مع إن الاستفهام لا يكون إلا في الجمل, و هنا دخل على اللفظ المفرد, فهو منادى لا غير, قال ابن مالك في الخلاصة : و المنادى النائي أو كالنائي يا و أي و آ كذا أيا ثم هيـا و على فرض تقديره جملة, فما المانع أن يكون التقدير في ذلك يا الله أرحمنا, أو أغفر لنا أو نحو ذلك.
و من جملة ما يرجع لهاته النازلة أعني ذكرهم الاسم المفرد بإسقاط أداة النداء فإنهم بما التزموا به, بموجب قوله تعالى: (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) فتوجهت عنايتهم إلى أول مأمور بذكره, و هو قولنا: الله و عند محاولتهم و استفراغهم الجهد, و استغراق الهمة في الخلوات و الجلوات, قياما و قعودا و على جنوبهم, احتفاظا منهم بواجب الدعاء المأمور به, دفعهم التوفيق الإلهي إلى لزوم إسقاط حرف النداء, و كل ذلك لما تطلبهم به حضرة القرب, بناء على أن أدوات النداء, جاءت للبعيد لا لمن هو أقرب إلينا من حبل الوريد و الذي يشعرك بصدق إلهامهم, هو ما تجده في كتاب الله من الآي التي هي من مشمول النداء, و كانت على قسمين, منها ما هو من العبد لربه, و منها ما هو للرب لعبده, فإذا كان من قبيل القسم الأول جاء بإسقاط حرف النداء, و إن كان من قبيل الثاني جاء بإثباته؛ و ممَّ كان هذا يا ترى ؟ و كيف اهتدى القوم لذلك يا سبحان الله ؟ و قد كنت وقفتُ على كلام لمفخرة المغرب الأستاذ أبي إسحاق الشاطبي يكفينا مئونة ما نستجلبه من التفصيلات في هذا الموضوع, قال طيب الله ثراه في كتاب " الموافقات " الجزء الثاني صحيفتي 68 و 69 ما نصه :
إن القرآن أتى بالنداء من قبل الله تعالى للعباد و من العباد لله سبحانه إما حكاية و إما تعليما, فحين أتى بالنداء من قبل الله تعالى للعباد جاء بحرف النداء المقتضي للبعد, ثابتا غير محذوف, كقوله تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ) (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ) (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) فإذا أتى بالنداء من العباد على الله تعالى جاء من غير حرف نداء ثابت, بناء على إن حرف النداء للتنبيه في الأصل, و الله منزه عن التنبيه, و أيضا فإن أكثر حروف النداء للـبُعد منها " يــا" التي هي أم الباب و قد أخبر الله تعالى أنه قريب من الداعي خصوصا في قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) و من الخلق عموما لقوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) و قوله: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) فحصلوا من هذا التنبيه على أدبين: أحدهما ترك حرف النداء و الآخر استشعار القرب, كما أن في إثبات الحرف في القسم الأخير, التنبيه على معنيين: إثبات التنبيه لمن شأنه الغفلة و الإعراض و الغيبة و هو العبد, و الدلالة على ارتفاع شأن المنادى و أنه منزه عن دنو كدنو العباد إذ هو في دنوه عال و في علوه دان سبحانه و الثاني: فانظر رحمك الله كيف جاء النداء المختص بالعبد بإسقاط يا النداء, و ما لذلك إلا لحكمة ما سبق؛ و إذا فهمت هذا فقل لي بربك هل يبقى على القوم من عتاب إذا بلغنا عنهم أنهم يحذفون ياء النداء في دعائهم و ندائهم لمولاهم ؟ و هل هذا من فقهم في دين الله أو من عدم فهمهم عن الله ؟ تأمل.
ومع ما قدمناه من الاستشهادات فإني لا أنسى كون الخصم, أو نقول المسترشد, لا ينفك متشوفا لما بأيدي القوم من النصوص و الاستشهادات الدالة على مشروعية ذكر اسم الجلالة بانفراده, من حيث وروده على ألسنة السلف بتلك الصيغة, غير أنه ينبغي لصاحب هذا التشوف أن لا ينسى أن القوم لا ينفكون متشوفين لما بأيدي الخصم أيضا من النصوص و الاستشهادات القاضية بعدم مشروعية ذكر الاسم بمفرده, و كونه لم يكن من ذكر السلف, لا في خلواتهم و لا في جلواتهم, فإن كان أقصى ما يعتمده في هذه النازلة هو ما يرجع للقواعد النحوية من جهة عدم التركيب, فإننا قد قدمنا له عدم صلاحيتها لأن تكون حجة في هذا الباب, و إن كان بيده من النصوص غير ذلك فينبغي له أيضا أن لا يسارع بالنكير, لما ربما يكون بيد القوم ما يعارضها, و على فرض وجود التساوي في الطرفين, أو عدم الوجود في الوجهتين, فلا تزيد المسألة عن أن يشملها دور الاجتهاد, و إذًا فيكون قول الخصم: إنه لا يجوز ذكر هذا الاسم بانفراده ليس بحجة على من يقول بجوازه, و غاية الأمر أن يكون أن يكون قولكم بعدم الجواز مقصودا على ما يخصكم أنتم, لأن التشريع للغير و إلزام الناس بسلوكه هو من خصائص المعصوم صلى الله عليه و سلم, أما غيره فلا يستطيع لأن يقول هذا جائز, وهذا غير جائز, ومن كان ذلك شأنه فجدير به أن يغض من صوته, في شبه دائرة جهله فيها أكثر من علمه, و هي قاعدة تشمل سائر النوازل.
فالصوفي كغيره ملزوم بخفض الجمجمة و سلب الاختيار أمام الشرع الشريف و الوضع الإلهي المقدس نعم إنه لا يبعد أن يأتينا الخصم من طريق آخر يقول فيه: لأن ما لم يثبت فعله عند السلف لا يسوغ لنا أن نتعبد به, أو نتخذه قربة نرجو الثواب عليه, فنقول له نعم, و الأمر كما قلتم, و الرجاء في الله أن نكون نحن و أنتم على وثيرة واحدة في شبه هذه النقطة, و لكن أظنك لا تنسى يا حضرة الأخ, ولا يفوتك كون الأسماء الإلهية مشروعة للتعبد بتلاوتها, يقتضى قوله جلت قدرته:{وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وهي مفردة, و مع كونها مفردة لم تنص الآية الكريمة و لا غيرها عن كيفية الدعاء بها من جهة الصيغة, أو التركيب و نحوه, و ما أظن ذلك إلا مراعاة لأحوال السائرين و المتوجهين لله, حيث أنهم مختلفون من جهة القوة و الضعف, و الرغبة و الرهبة و الشوق و الاشتياق, و الناس طبقات و الشوق مراتب, و أسرار الخلق متباينة من جهة علاقتهم مع الله عز و جل, و من تلك الحيثية لا يتأتى حصر ما كان يجري على ألسنة السلف من صيغ الأدعية والأذكار, حتى نستطيع أن نقول هذا الاسم لم يكن ذكرًا للسلف على سبيل القطع, أو هذا الاسم كانوا لا يرونه ذكرًا, كل ذلك لقصورنا عن الإحاطة بجميع ما كان يجري على ألسنتهم في خلواتهم و جلواتهم و سقمهم و عافيتهم, و من البعيد أن نعتقد كون الصحابة رضي الله عنهم ما كان يمر على ألسنتهم إسم الجلالة مكررا (الله الله) برأهم الله من مثل ذلك, و هنا يحسن بي أن نقدم لكم ما هو شبه دليل في النازلة, لتعلم كون الأمر كان أوسع مما تظن أخرج الرافعي في تاريخ قزوين و أثبت العزيز حسنه عن عائشة رضي الله عنها أنه رُأي مريضا يئن في حضرته صلى الله عليه و سلم فنهاه بعضهم و أمره بالصبر, فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ذروه يئن فإنه يذكر إسما من أسماء الله تعالى.
وإذا فماذا ترى يرحمك الله في هاته الواقعة , على الفرض لو أن ذلك المريض كان متلفظاً بإسم الجلالة مكررًا (الله الله) بدل قوله "آه آه" أكان يصح من ذلك الصحابي توجيه الإعتراض عليه ؟ كلا ! فإن المقام يأبى ذلك على ما يظهر , و ما كان إعتراضه إلا لما فاته من إدراك معنى كلمة " آه " من كونها إسماً من أسماء الله تعالى , حتى أرشده النبي لذلك بقوله :"ذروه يئن , فإنه يذكر إسماً من أسماء الله" و أظنه دليلاً كافياً على ما يظهر , و حجتنا فيه كون كلمة "آه" مفردة , فقرر النبي على ذكرها بتلك الصفة , و هذا زيادة على ما استفدناه من كونها إسماً من أسماء الله , ولا شك أنها فائدة ثمينة تبعث الإنسان على حسن الظن بالذاكرين كيفما ذكروا , و على فرض أن لا يستقيم ما قدمناه عندكم حجة في طريق الإستدلال , فلا يسمح الإنصاف لنا و لكم أن نقول إلا أن المسألة خلافية , و مهما ثبت تقريرها بتلك الصفة فالمسألة إجتهادية, و إذا فما هو وجه إلزامكم لنا يا حضرة الأخ أن نأخذ بقولكم , أو ندخل تحت إجتهادكم, في حال أننا لم نلزمك بمثل ذلك ؟ هذا من جهة , و من جهة أخرى ,أنكم كيفما شددتم النكير على إخوانكم العلاويين في شبه هاته النازلة , فلا تستطيعون أن تجعلهم غير مسبوقين بمن كان يذكر ذلك الإسم بانفراده , و يأمر بذكره أيضا أئمة الدين و هداة المسلمين. وها أنا أستطرد لكم نقل بعض ممن تطمئنون إن شاء الله بالنقل عنه ,لاحتمال أنه لم يبلغكم ذلك , وإلا لما رأيتم العلاويين ممن انفرد به فنظرتموهم بعين ملؤها إحتقار.
فأقول: ذكر في "مفيد الراوي" للشيخ سيدي مصطفى ماء العينين ابن جرير في تفسيره أنه كان يقول: "بمطلوبية الاقتصار على ذكر الاسم المفرد للمريد في حال سلوكه". و جاء في الحديث: "إن العبد إذا قال الله صعد من فيه عمود من نور فينتشر في الأفق, ثم يصعد إلى عنان العرش فيملأ الكون طرًا, فيقول و عزتك و جلالك لا أكف حتى تغفر لمن ذكر بهذا الاسم, فيقول (و عزتي و جلالي لقد آليتُ على نفسي قبل أن أخلق الدنيا لا أُجريه على لسان عبد من عبادي إلا و قد غفرتُ له) "من مفيد الراوي".
و ذكر في شرح المباحث الأصلية لابن عجيبة رحمه الله, أن "أبا حامد الغزالي" رضي الله عنه قال: لقد أردتُ في بداية أمري سلوك هذا الطريق بكثرة الأوراد, و الصوم و الصلاة, فلما علم الله صدق نيتي, قيض لي ولياً من أوليائه قال لي: يا بُـني, أقطع عن قلبك كل علاقة إلا الله وحده, واخل بنفسك, و اجمع همتك و قل: الله الله الله.
و قال أعني الغزالي رضي الله عنه في "مشكاة الأنوار" ما نصه: ما دُمتَ ملوثا بما سوى الله فلا بُد لك من نفي لا إله, و إذا غبتَ عن الكل في مشاهدة صاحب الكل, استرحتَ من نفي لا إله, و وصلتَ إلى الإثبات قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون).
ثم قال: متى تتخلصُ من ذكر ما لم يكن, و تشتغل بذكر من لم يزل, فتقول: (الله) فتستريح مما سواه, و قال أيضا: افتح باب قلبك بمفتاح قولك: (لا إله إلا الله) و باب روحك بقولك: (الله), و استنزل طائر سرك بقولك: (هو هو).
و مما ذكره أيضا في كتابه "المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" في الكلام على اسم الجلالة أعني قولنا (الله): ينبغي أن يكون حظ العبد منه, يعني ذكر هذا الاسم التأله, و نعني به أن يكون مستغرق القلب و الهمة بالله تعالى لا يرى غيره, و لا يلتفتُ إلى سواه.
هذا ما اختاره الغزالي لكل مؤمن أن يجعل حظه من هذا الاسم.فإن اخترتم يا حضرة الأخ ما اختاره الغزالي لكَ فَذاكَ, و إلا فلا تطمع بأن يكون عدم اختياركم حجة على من وافق اختياره اختيار الغزالي.
و هب أن قولكم يصلح أن يكون حُجةً على شبه العلاويين, فهل يكون حجة على من سبقهم أيضا من العلماء الأعلام المفسرين, كالفخر الرازي و غيره ؟ فقد التزم على نفسه, وصرح باختياره لذكر هذا الاسم حسبما ذكره في تفسيره الكبير, عند الكلام على البسملة حيث يقول : و اعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي (الله) , و إذا مت أقول (الله), وإذا سُئلتُ قي قبري أقول (الله) و يوم القيامة أقول (الله) و إذا أخذتُ الكتاب أقول (الله) وإذا وزنت أعمالي أقول (الله) و إذا جزتُ على الصراط أقول (الله) و إذا دخلتُ الجنة أقول (الله) و إذا رأيتُ الله أقول (الله) الخ.
كل هذا قاله الرازي على رغم أنف من لم يقل (الله) و إننا من تكلفنا على نقل هاته الجمل إلا لتعلم أيها الأخ كون العلاويين لم يكونوا مبتدعين بقولهم (الله), كما توهتموه فيهم, و ليكن في علمك أيضا أن عموم المتصوفة يشاركونهم في ذلك, و يعتقدون أنه الاسم الأعظم الذي إذا دعي به سبحانه و تعالى أجاب, و إذا سُئل به أعطى, و ليس هذا مقصورا على اختيار الصوفية, إنما هو اختيار غير واحد من الأئمة و جُل المحدثين و الأصوليين, و من ذلك ما ذكره الشيخ محمد بيرم الخامس رحمه الله في "النصرة النبوية", و هو ممن يقول بجواز ذكر اسم الجلالة قال: إنه ورد في "رد المحتار" للسادة الحنفية: روى هشام عن محمد بن أبي حنيفة رضي الله عنه, أنه (اسم الله تعالى الأعظم) وبه قال الطحاوي و كثير من العلماء,و مما استشهد به شيخ الجماعة أبو محمد عبد القادر بن يوسف الفاسي رضي الله عنه في نوازله على مشروعية ذكر اسم الجلالة بانفراده, قال بعد كلام: و في الصحيح:"لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله" و هو شاهد في الجملة لذكر هذا اللفظ وحده, سيما على رواية النصب, و لا نزاع في التلفظ بالاسم الكريم وحده, و حيث لا نزاع, فما المانع من أن يكرره الإنسان مرارا كثيرة, و ما وجه إنكاره ؟ أما لفظ الحديث المتقدم حسبما رواه الإمام أحمد في مسنده, وابن ماجه في صحيحه, عن أنس بن مالك رضي الله عنه هكذا:"لا تقوم الساعة حتى لا يُقال في الأرض الله الله".
قلتُ و أبلغ شاهد يُعتمد عليه في هذا الحديث, هو مجيء لفظ الجلالة مكررًا فكان صريحا في إرادته ذكر ذلك الاسم, أما لو جاء غير مكرر لأحتمل أن يكون المراد به, حتى لا يبقى على وجه الأرض من يعتقد وجود (الله) أما مع وجود التكرار فلا احتمال.
ثم أقول: و على فرض أنه لا يوجد في الشرع الشريف أي دليل على جواز تكرار ذلك الاسم, فكذلك لا يوجد فيه أيضا ما يفيد المنع من تكراراه على اللسان, أو مروره على القلب, بل ليس في الشرع على ما يظهر ما يمنع من تكرير أي اسم من أسماء المحدثات, إذا صح هذا, فكيف يوجد ما يمنع من التلفظ باسم من أسماء الله الحسنى ؟ فحاشا أن يوجد في الشرع ما هو قبيل هاته التعسفات و التنطعات , التي تلزم المؤمن أن لا يردد اسم مولاه على لسانه , بأن يقول (الله الله) , أو ما في معناه من بقية أسمائه , و الله يقول : {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} أي اسألوه و اذكروه بها . و هذا ما فهمناه نحن, واخترناه لأنفسنا, و لكم أنتم حق الاختيار لأنفسكم, و ليس لكم أن تلزمونا الوقوف عند اختياركم, حيث أننا لم نلزمكم بمثل ذلك.
ثم إني أنهي هذا الفصل باستطراد جملة تكون تتميما للفائدة أقول فيها: إنه على فرض تسليم وجود من يقول بكراهة هذا الاسم "و أستغفر الله" فإنهم نصوا على ما اختلف فيه بين كراهته و ندبه, يكون أرفع درجة من المباح.
و من ذلك ما ذكره "الأجهوري" في شرحه على خليل, نقلا عن المواق, بهاته العبارة: (إن ما اختلف في ندبه و كراهته, فعله أفضل, و هكذا ما اختلف في سنيته و كراهيته لا يكون أحط رتبة من المباح, بل نصوا على ما اختلف في مشروعيته أنه أرفع درجة من المباح). هذا و إن ما سقناه لكم من النقول نيتنا فيه أن يكون شافعا عندكم في قبول اعتذاراتنا عن العلاويين فيما ارتكبوه من ذكرهم ذلك الاسم, و الله يقبل معذرة الجميع آمين.هذا ما يرجع للوجه الأول من جهة مشروعية ذكر الاسم و عدم مشروعيته.
أما ما ذكرتموه أو نقول أنكرتموه من تلفظهم باسم الجلالة و إجرائه على ألسنتهم حسبما قلتم بمناسبة, و بغير مناسبة في الطرقات, و نحوها من الأماكن الغير اللائقة, و قد ظهر لكم أن ذلك خروج منهم عن مطلوبية احترام الأسماء الإلهية, و أن فعلهم ذلك لم يكن من المقررات إذا الشرعية, خصوصا و أن أحدهم إذا طرق الباب يقول (الله), و إذا ناداه إنسان يقول (الله) إلى غير ذلك مما لم يجمل في نظركم.
و ها أنا ذا أقول:إني كيفما تساهلتُ في الجواب عن هاته المسألة, إلا و أراني ملزوما بعد استسماحكم أن أقول لكم: إنه قد فاتكم من الإطلاع على الآثار الواردة في شبه قضيتنا هذه, القدر الذي دفعكم للإنكار على العلاويين فيما ارتكبوه, و لولا ذلك لما تصديتم لدفع الحق, اعتمادا على ما بأيديكم من التوهم, من كون الأمر عند السلف على خلاف ذلك, و حقيق لو أنه بلغكم من النصوص ما يثبت نظيره لتصفحتموه بمهجكم, و رفعتموه فوق رؤوسكم, و هو أجمل ما نراه أليق بكم, و ينبغي لي أن أعتقده في أمثالكم, و ها أنا أستطرد لكم من ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله, في كون ما عليه العلاويين من ملازمتهم للأذكار بغير قيد, لم يكن خارجا عن السنة, و لا مزاحما لها, و هذا إذا لم نقل هو عين السنة, بناء على أن ما جاء في الذكر من الأمر, يفيد الشمول, بحيث أنه غير مقيد بوقت دون وقت, أو مكان دون مكان, و المعنى أن سائر الأزمنة و الأمكنة مناسبة لذكر الله, و الإنسان مطلوب في جميع ذلك بعمارة أوقاته, و برفع لوازم الغفلة, من أن تستحكم على مشاعره و تستولي على إدراكاته.
و بعبارة أخرى: إن الذكر محمود على كل حال, و الغفلة مذمومة على كل حال, و لا شك أن ما يجمل بنا و بكم في هذا الباب, هو الالتجاء للكتاب و السنة, أما ما جاء في الكتاب من الأمر بالذكر, و التحذير من الغفلة عنه, فقد لا يحتاج إلى سرده لوضوحه خصوصا بين أمثالكم, و أما ما جاء في السنة, فهو ليس بأقل ظهورًا منه, و على كل ذلك, لا يمنعنا من تسطير بعض النقول النبوية, و شيء من التقريرات المذهبية, لندرك مراد الشارع منا, و نعمل به إن شاء الله؛ فمن ذلك ما أخرجه ابن ضريس, و أبو يعلى في مسنده عن أبي سعيد الخدري: "عليك بتقوى الله ما استطعت, و اذكر الله عند كل شجر و حجر" و المراد من الإطلاق تعميم الزمان و المكان, و نظير هذا ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بسند صحيح, و مثله حديث عائشة رضي الله عنها أيضا: " أنه كان صلى الله عليه و سلم يذكر الله على كل أحيانه" قال العلقمي قال الدميري مقصود الحديث أنه صلى الله عليه و سلم: "كان يذكر الله متطهرا, و محدثا و قائما و قائما و مضطجعا, و ماشيا و راكبا ".
و نظيرا هذا, ما ذكره النووي في شرحه على مسلم, و المعنى أنن الذكر كان عنده صلى الله عليه و سلم لا يختص بحال دون حال, و لا بمكان دون مكان, و من تتبع دوواين العلماء في هذا الباب, يجد ما يفيد إجماع الأمة على الأخذ بالإطلاق في مسألة الذكر, و من ذلك ما نقل عن السادة الحنفية حسبما جاء في نجوم المهتدين عن القاضي خان أنه قال: الذكر في الأسواق و مجالس الغفلة و الفسوق جائز بنية أنهم مشتغلون بالدنيا, و هو مشتغل بالتسبيح و التهليل. فتأمل يرحمك الله قوله: مجالس الغفلة و الفسوق, تجد العلاويين لم يبلغ بهم الإستهتتار إلى ذلك الحد, و بالجملة, إنهم أجازوا الذكر حتى في الحمام, الذي هو محل الغفلة و كشف العورة, زيادة عن كونه مستودع القاذورات, حسبما جاء في مجموع النوازل قال نصه: إن قراءة القرآن في الحمام بالصوت رفيع تكره, و بصوت خفي لا تكره, و لا يكره التسبيح و التهليل و لو برفع الصوت. و هكذا جاء في غير هذا من بقية دواويين السادة الحنفية, كالفتاوى الخانية و الحسامية, و السراجية, و المتلفظ, و الجناس, مما استطرد ذكره صاحب النصرة و إذا كان ذكر الله جائزا في نحو الحمام, فما هو ذنب العلاويين إذا ذكر أحدهم في نحو الطرقات مثلا ؟ و على فرض أن تشمئز منه بعض النفوس الغير المتعودة على استماع الأذكار, فالواجب على المصنف إذا أراد الحكم على غيره, أن لا يحكم إلا بما يراه حكما عند الله و رسوله صلى الله عليه و سلم, لا بما يختاره هو بطبيعته, و يستحسنه في نظره, و غير خاف أن كون الإنسان قد يستحسن شيئا و يستقبحه غيره, و لهذا كان الواجب علينا أن لا نرجع للاستحسانات, و نكتفي باختيارات دون اختيارات الشرع لنا, و إذًا فالواجب على من يؤمن بالله و اليوم الآخر, أن يقف عند النصوص الشرعية, و يعمل بمقتضاها, بدون ما يختار من عند نفسه شيئا إلا ما اختاره الله له, { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }.
هذا و أنت يا حضرة الأخ مهما كان من شريف مقاصدك الإطلاع على ما في المسألة من النصوص و أقوال العلماء في ذلك حسبما ذكرت, فقد يكفيك ما سطرناه, و على كل حال فهو شيء في الجملة, و على فرض احتياجكم لما وراء ذلك, و كثير ما يحتاج المؤمن إلى الزيادة من الخير, أقول لكم بعبارة أخرى: إن الذكر قد صرح بجوازه غير واحد من الأئمة, حتى في الكنيف, و ما ذكرنا لكم هذا, إلا لتدركوا وجه ما استبعدتموه من جواز الذكر, في نحو الطرقات. قال القاضي عياض: إن مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص و الشافعي و مالك و ابن بشير, جواز ذكر الله تعالى في الكنيف الخ. و فهم أيضا من كلام ابن رشد في سماع (سحنون) و من كلام (البرزلي) نقله (أبو الفيض الشيخ محمد الكتاني) في رسالة له على تفسير قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } و عنه أيضا في سنن المهتدين ما نصه: قال اللخمي: يذكر الله قاضي الحاجة قبل دخوله لموضع قضاء الحاجة و روى عياض جوازه فيه (القاضي) ذهب بعضهم إلى جواز ذكر الله في الكنيف, و هو قول مالك, و النخعي, و عبد الله بن عمرو بن العاص, و قال ابن القاسم: إذا عطس و هو يبول يحمد الله قال جامع الرسالة المتقدم ذكره : فإن قلت أليس قال الشيخ خليل و بكنيف نحي ذكر الله و قد قيل بالمنع , و يتبادر للفهم من كلام ابن عبد السلام , و خليل في التوضيح , أن المنع على التحريم , فهو من كلام ابن رشد و عياض و صاحب الطراز أن المنع عند من يقول به , إنما معناه الكراهة , و هو صريح كلام الجزولي و صاحب المدخل , و من فهمه على التحريم انتقده عليه الأئمة , منهم الإمام أبو عبد الله الحطاب , قال : و هو غير ظاهر , إذ ليس في أحد من المتقدمين ما يوافقه , و لم يصرحوا بالتحريم , قال : فيتعين حمل كلامهم على الكراهة ليوافق كلام المتقدمين.
قلت: و ما كان استجلابنا لهذه النصوص على نية ترجيح أحد المذهبين من جهة جواز الذكر في الكنيف أو عدمه, إنما ذكرناها يا حضرة الأخ, لتعلم كيف أجاز الأئمة الذكر حتى في مثل هذا المكان, الذي هو أخبث بقعة تعتبر على الإطلاق, و على فرض أنك تجد من يحرك لسانه بذكر الله, و هو على مثل تلك الحالة, فلا تستغرب ذلك منه, بأن تراه مبتدعا ضالا, مادمت ترى من هو الشافعي و مالك قائلين بجواز ذلك, و كفى بهما قدوة في الاعتصام بحبل الله, و الاعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم, و لا شك أنه بهذا النقل و نحوه, يتضح كون العلاويين مظلومين فيما أنكرتموه عليهم, على أنهم لم يبلغ بهم الاستهتار في الذكر, الحد الذي انتهى إليه الجواز حسبما ذكر من انه لا يمتنع الذكر و لو بكنيف, أو ما هو كمحال الفسوق, إذ غاية ما ينقل عن بعض العلاويين, أنه إذا نبهه أحد يقول (الله), و إذا نبه هو أحدا يقول (الله) و هلم جرا, و في ظني أن شبه هذا لا يترتب عليه أدنى مكروه فيما يظهر, و هذا إذا لم نقل لكم إنه من السنة بمكان, و حتى إذا لم يكن منها على التقدير يكون أشبه بالحق منه بالباطل.
نعم قد يقول القائل: جلت أسماء الله أن تجعل آلة يتوصل بها لغير الأخرويات, فلا يجوز أن توضع للتنبيه و الإستلفات و نحوهما, فأقول: هذا يستقيم لو لم يكن في الشرع ما يسمح بنظيره, أو نقول يأمر به, و أنت إذا تتبعت المظان في شبه هاته النوازل, تجد مراد الشارع منا ما يقرب من الصراحة بالأمر في مثل ذلك, ألا ترى مشروعية الآذان, فلا شك أنك تجدها وضعت للإعلام بدخول الوقت, أو للأمر بالحضور لأداء الفريضة, و كان الأقرب و الأنسب للمقام أن ينادى: الصلاة قد حضرت, أو الوقت قد دخل, و ما في معنى ذلك, و إذًا فلم جاء بسرد العقيدة بتمامها, بدلا عما ينوب عنها من الألفاظ الوجيزة ؟ و عليه فهل تستطيع أن تقول لماذا صيرت أسماء الله آلة يتوصل بها إلى نداء المصلين ؟ و نظير هذا أيضا مشروعية التسبيح في الصلاة إشعارًا بأن يكون المصلي متلبسا بها, أو إشعارًا بما يطلبه به المقام من الضروريات.
و من ذلك أيضا ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من أنهم كانوا يوقظ بعضهم بعضا بنحو التكبير, يشهد لذلك لما جاء في الصحيحين في قضية الوادي لما ناموا عن صلاة الصبح, و كان أول ما استيقظ أبو بكر, و كان عمر رابع مستيقظ, فأخذ في التكبير حتى استيقظ النبي صلى الله عليه و سلم, فتأمل يرحمك الله كيف كانوا يستعملون الأذكار في إيقاظ النيام و نحو ذلك, و هكذا كان شأنه في الحروب و غيرها, قد يستدلون على أشياء بالتكبير, و يشبه هذا ما نص عليه ابن رشد على قول خليل: (و جاز الافتخار عند الرمي و التسمية و الصياح, و الأحب ذكر الله) ابن عرفة . و هكذا عند ظن الإصابة بالرمي, و ذكر الله أحب إلي. ا هـ. تأمل كيف اختار ذكر الله سببا للإعلام بوقوع الإصابة, وما كان اختيارهم ذلك إلا لعلمهم بمراد الشارع من جهة مقصوده من تعميم الذكر في سائر الحالات.
ثم أقول: إنه لما كان من المحتمل أن يرى ما استجلبناه من النصوص غير كاف من جهة صريح الدلالة, ظهر لي أن أذكر جملا مما ورد في خصوص مطلوبية الاستئذان بذكر الله عز و جل, و بذلك يدرك الأخ الكريم بغيته التي كان بتطلبها بإرادته الوقوف على نصوص الشارع في مثل ذلك.
فأقول: إنه مما ورد من صريح الحديث في هذا الباب, قوله صلى الله عليه و سلم: " إذا أتيتم أبواب دياركم فأعلنوا بذكر الله>> نقله العلامة السنوسي صاحب العقائد في كتابه " نصرة الفقير في الرد على أبي الحسن الصغير" و الذي يزيد هذا النص متانة في المعنى, هو ما ذكره أحد المفسرين في معنى الاستئناس الوارد في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } نقل الفخر الرازي في تفسيره الكبير, بعدما تكلم عن الاستئناس من عدة وجوه, قال: و قال عكرمة: هو التكبير و التسبيح و نحوه, يعني من بقية الأذكار, و في تفسير النيسابوري المسمى بـ "غريب القرآن" نظير ما نقله الرازي بعينه. و من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة, والترمذي, و ابن أبي حاتم, و ابن مردويه و الطبراني, عن أبي أيوب قال: قلتُ يا رسول الله, أريتَ قول الله تعالى: { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } هذا التسليم قد عرفناه, فما الاستئناس ؟ قال: " يتكلم الرجل بتسبيحة و تكبيرة و تحميدة, و يتنحنح فيؤذن أهل البيت " نقله السيوطي في كتابه " الدر المنثور" في تفسير القرآن بالمأثور.
و نحن نكتفي بنقل ما سبق, عن تتبع ما ورد في هذا الباب من الدلائل الصريحة عن مشروعية الاستئذان بذكر الله, و أنه لا نزاع بين الأئمة في كون الذكر في الاستئذان أفضل من الصياح و دق الباب, خصوصا إذا كان بعنف, و أنت يا حضرة الأخ مهما أمعنت النظر بإنصاف فيما قدمناه, يتضح عندك, إن السنة لما بعدت الشقة بينها و بيننا, تمثلت في نظرنا في شكل بدعة, فلهذا قمنا نحاربها بغير شعور, و على غير علم منا, ألهمنا الله و إياكم رشدنا آمين.
وقبل اختتامنا هذا المكتوب المبارك, علينا و عليكم إن شاء الله, أذكر لكم من بعض الآثار المروية في هذا الباب, و أرجوكم أن تعطوها حضها من الاهتمام, كما هو شأن أمثالكم. و من ذلك حديثان شريفان كل منهما يفيد تلخيص جميع ما قدمناه من جهة وجوب استغراق الزمان و المكان, و عمارة سائر الأوقات بذكر الله عز و جل.
الحديث الأول هو ما أخرجه الإمام أحمد, و أبو داود, و ابن أبي الدنيا, و النسائي و ابن حبان, و اللفظ لأبي داود, قال صلى الله عليه و سلم: "من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة" قال الحافظ عبد العظيم الترة بكسر التاء, و تخفيف الراء, النقص و قيل التبعة.
الحديث الثاني هو ما أخرجه أبو داود و الحاكم, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه, إلا قاموا عن مثل جيفة حمار, و كان عليهم حسرة يوم القيامة ".
وإلى هنا انتهى بنا الجواب و التوفيق بيد من إليه المرجع و المآب, و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم, و الحمد لله رب العالمين.
كملت بحمد الله من إملاء أستاذنا و مولانا الإمام سيدي الحاج أحمد بن مصطفى العلاوي رضي الله عنه, أول رجب الفرد سنة 1346 هجرية على صاحبها الصلاة والتحية.
تعليقات
إرسال تعليق