الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلاميّة - الشيخ العلاوي

الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية
نشرت الأبحاث للأستاذ الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي لأول مرة على شكل مقالات في جريدة البلاغ الجزائري ثم جمعت في كتاب (الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلاميّة), وقد ورد فيه سبعة وعشرون بحثا.






(1): البحث فيما يجده الإنسان من نفسه من الإحساسات نحو موالده الثلاثة
(2): البحث في جواب ما هو الإنسان
(3): البحث في أصناف الناس باعتبار ما اكتسبوه من الطبيعة من جهة الحركة والسكون
(4): البحث في قول من يقول: إنّ صوت الضمير ينوب عن الدين في ردع الإنسان عن المنكرات
(5): البحث في لزوم مراعاة المدبر لهذا العالم وليس هو إلاّ الله عز وجل
(6): البحث فيما هو السبب الحامل لبعض الفلاسفة العصريين على نفي المدبر
(7): البحث فيما يشبه المجادلة بالتي هي أحسن
(8): البحث في كون العقل قد يتطرّق إليه الخطأ كغيره من المدركات
(9): البحث في الفلسفة الصحيحة، وفي كونها لا تنافي خالص التوحيد
(10): البحث الخامس عشر في كون الشرائع الإلهيّة لم توضع إلاّ لحفظ قوام الإنسان، ومراعاة مصالحه

مختصر الأبحاث العلوية في الفلسفة الإسلاميّة

الحمد لله الذي ربط حبل الإنسان بالعلويّات السماويّات، بعد استخلاصه له من أجناسه السفليّات، فكان بذلك إنسان عين الوجود والنقطة المركزيّة لدائرة الفضائل والجود مهما كان إنسانا بالمعنى المراد من خلق الإنسان لا غير، ثمّ الصلاة والسلام على من هو للإنسانيّة غاية وللحقائق الأقدسيّة بداية نبراس الأزل، ومحور الكلّ الداعي إلى الله بإذنه، العارف بما له وعليه، وعلى آله وصحبه وذويه.

أما بعد فيقول المعتمد على العزيز القوي، عبد ربّه أحمد بن مصطفى العلاوي

إنّ من أهم ما جادت به القريحة، ووجبت به النصيحة، نشر هاته الأبحاث الابتدائيّة، في التعاليم العلويّة، وقد كانت تلقى في أوقات مختلفة، وعلى كيفيّة غير مطردة، فيأخذ منها المريد بقدر استعداده، أمّا الآن فقد ظهر حصرها ونشرها والغرض من ذلك تعميم الانتفاع بها، فمن رآها من قبيل ما ينتفع به، فليأخذ منها ما يعنيه وإلاّ (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

(1): البحث فيما يجده الإنسان من نفسه من الاحساسات نحو موالده الثلاثة:

فأقول: إنّ للإنسان ارتباطا بأجناسه السفليّة، ارتباطا محكما إلاّ أنّ ارتباطه بالحيوانيّة أقوى منه في النباتيّة وارتباطه في النباتيّة، أقوى منه في مطلق الجسميّة، ولهذا تجده يتأثر للحيوانيّة وينفعل لانفعالها مهما لحقها ما يوجب الانفعال لغير فائدة أكثر ممّا يتأثر كحطم الأشجار مثلا، وهكذا يجد الإنسان نفسه من الإحساسات على هذا النوع أيضا أكثر ممّا يجده فيما يلحق الأجسام غير الناميّة ممّا هو من ذلك القبيل، وما ذلك إلاّ لقرب رحمته بالحيوانيّة المطلوب بمراعاته.

ثمّ إنّ الاحساسات تختلف في الإنسان من جهة القوّة والضعف باختلاف نصيبه من الإنسانيّة. فقد لا يتأثر بانحطام الإنسانيّة أجمع، وذلك لعدم نصيبه منها، وقد يتأثر لأقل حيوان كيفما كان وإلى أولئك الإشارة في قوله عزّ من قائل: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما/ الفرقان آية 63)، والشاهد في: (يمشون على الأرض هونا).

إنّ الخلاصة والفائدة من هذا هو لينظر الإنسان وجه معاملته وإحساساته نحو موالده الثلاثة، ليوفي من الحقّ ما هو مطلوب بمراعاته حسب الروابط.

(2): البحث في جواب ما هو الإنسان:
فأقول: إنّ الإنسان هو الفرد المتكاثر المستطيع أن يحكم نفسه بنفسه، وهذا ما يتيسر أن نعرفه به على فرض أن يكون الإنسان هو ذلك المرئي بالأبصار الملموس باليد إمّا على تقدير كون الحواس لا تتعدّى الحيوانيّة منه، فلا يكون في التعرّيف هذا ما يستريح إليه الضمير، ويتحتّم إذا أن يقال في تعريف الإنسان إنّه يطلق على معنيين:

فالأول: هو المشهود بالحسّ المدرك بالمس المخصّص بالفصل النوعي من الجنس.
والثاني: له لوازم وخصائص تميزه عن الأول أشهرها ترفعه عن ممازجة الطبيعة، وما هو من قبيل الفساد.


وحقيقا أن يسمّى الأول بالإنسان المعقول، والثاني بالإنسان المجهول، وليس للقائل أكثر من أن يقول: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي / الإسراء آية / 85), إذ لا نستطيع أن نتوسمه من وراء هذا الشكل الكثيف، والطبع المتحجّر إلاّ قدر ما يبديه لنا أحيانا من بعد المدارك ورقيق الشعور، فننخدع إلى أن نقول: (حاشا لله ما هذا بشرا /  يوسف آية / 31) ولكن نريد أن نعرفه وهو بشر فهل من مخبر بما يثلج له الفؤاد، ويستريح به الضمير.

وهل في استعداد الإنسان ما يهديه إلى إدراك كنه معنى الإنسان إمّا على القياس فمتعذّر، لأنّي رأيت إدراكاته كلا منها عاجزا عن إدراك نفس ما هو به مدرك فالعين مثلا لا تدرك عينها، وقس على ذلك حتى العقل فإنّ في استطاعته أن يدرك ما يتأتى إدراكا دون حقيقة ما هو به عقل.

وبهذا الأنموذج نتحقّق أنّ الإنسان ليس في استطاعته أن يدرك ما هو به إنسان إلاّ إذا رفعه الله إليه، غير أنّ في إمكانه أن يؤمن بأنّ الجوهر الإنساني أعزّ شيء يوجد فيما اشتملت عليه العوالم أجمع.

إنّ الخلاصة والفائدة من هذا هو استخدام القريحة، واستلفات النظر الإنساني لما هو به إنسان عملا بقوله عزّ وجلّ: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون / الذاريات آية / 21) وإن عسى أن يعثر الإنسان على ضالته لما في الأثر: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).

(3): البحث في أصناف الناس باعتبار ما اكتسبوه من الطبيعة من جهة الحركة والسكون:
فأقول: إنّ الحركة الإنسانيّة حركتان: فكريّة وبدنيّة، أمّا الحركة الفكريّة فإنّ الناس فيها طبقات، فمنهم من لا حركة له تعتبر في عالم الناطقيّة البتة، وهذا الصنف لا ينتفع بوجوده في عالم المعقولات إلاّ مثل ما ينتفع بالصخر في عالم المحسوسات، فإن تكن له حركة فبغيره.


ومنهم من له حركة هنالك غير أنّها صادرة منه على غير انتظام، أو تقول على غير إرادة، فهي أشبه شيء بالارتعاش، وهذا الصنف ينتفع بحركته في عالم المعقولات مثل ما ينتفع بحركة الأشجار ونحوها من النباتات في عالم المحسوسات، غير أنّه لا يعتدّ بهاته الحركة حيث كانت طوع الهوى.

ومنهم من له حركة انتظاميّة إراديّة غير أنّها مفيّدة للغير أكثر من إفادتها لصاحبها، وهذا الصنف ينتفع بحركته في عالم المعقولات مثل ما ينتفع بحركة الحيوان المسخّر للإنسان في عالم المحسوسات.

ومنهم من له حركة ذات التأثير الفعالة في غيرها من بقيّة الحركات الفكريّة وهؤلاء هم قادة الأفكار في كلّ عصر، فوظيفتهم في عالم المعقولات وظيفة الإنسان في عالم المحسوسات وهي الطبقة العليا التي تتضمّن بين أفرادها كأنبياء البشر، وبخاصّة المصلحون.

أمّا ما يتعلّق بالحركة البدنيّة فيجري فيها ما تقدّم في الحركة الفكريّة من كون الناس فيها طبقات. فمنهم من لا حركة له البتة، ولو فيما يعود نفعه عليه وأحرى ما يعود نفعه على غيره، ويكون وجود هؤلاء في المجتمع الإنساني شبه العضو الأشلّ في جسم الإنسان، ومنهم من له حركة سائرة طبق الهوى على غير انتظام، فينتفع بها في المجتمع تارة، ويتضرّر بها أخرى.

ومنهم من له حركة إراديّة انتظاميّة يعود نفعها على صاحبها وأكثر ما يعود على المجتمع أيضا على شرط أن يكون صاحبها مسخرّا لغيره.

أمّا أهل الطبقة العليا من أرباب الحركة البدنيّة والقوّة النفسيّة فيعتبرون عاملين في أبناء الإنسان مثل عمل الإنسان في أنواع الحيوان وإنّ هاته الطبقة تترّكب من نحو الأمراء والملوك وأرباب الثروة.

قال جل ذكره: (ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخرّيا / الزخرف آية / 32)، إنّ الخلاصة والفائدة من هذا ليحقّق الإنسان مكانته بين هاته الطبقات ويختار لنفسه ما شاء أن يختار، ويتقي الله في ذلك المختار. 

(4): البحث في قول من يقول: إنّ صوت الضمير ينوب عن الدين في ردع الإنسان عن المنكرات:
فأقول: من المحتمل أن يقال أنّ ما أجمع عليه القدماء من لزوم مراعاة الشرائع الإلهيّة في حفظ ما للإنسان، وما عليه هو من ضرورة الظروف الغابرة جريا على محاولة الغاية التي يرمي إليها كلّ مصلح، وليس هي إلاّ استتباب الأمن وتقرير أسبابه بين أفراد البشر، أمّا الآن فقد تهذبت الأفكار وترّقت العقول إلى غاية كفيلة بتنظيم مهماتها على طريقة لا تفتقر معها إلى شيء من نحو الشرائع الإلهيّة تستند إليه وإنّ الإنسان يكفيه صوت الضمير زاجرا من باطنه عن ارتكاب ما لا ينبغي ارتكابه.


فأقول: إنّها خزعبلة قد تنخدع لها صغار النفوس، ودعوة باطلة منقوصة بالظواهر حسبما تشهد به الإحصاءات من الجرائم اليوميّة، وتلك الجرائم ضرورة صادرة عن غير المتدينين في الغالب وأين أولئك من أصوات ضمائرهم إن كانت لهم ضمائر لها أصوات زاجرة كما يقولون، ولكنّها الإباحة إذا تسرّبت إلى أمّة تجعل الإيمان يتسلل منها رويدا إلى أن تحل مكانه.

وإذا لا تكتفي إلاّ برفع الحواجز التي من جملتها صوت الضمير أيضا، لأنّه حائل بين المرء وشهوته فهو ضرب من التقيّيد الذي يعتقد الإباحي أنّ الراحة من ورائه، وهذا إن كان له صوت ينازعه للعمل ولا يكون إلاّ ضئيل النزال معدوم النتيجة لانتهاك قواه بانتهاك الإيمان بالغيب، وحيث إنه غيب يعتمد في مذهب الإباحي فيكون وجوده يعتبر ضربا من الوسوسة عنده التي هي أحرى بالتغفّل عنها سعيا وراء صفاء الوقت في صريح الانهماك.

وبالجملة إنّ الاعتماد على صوت الضمير في حفظ ما للإنسان، وما عليه لا تقوم به حجّة عند المنصف، أمّا من غلبت عليه شقوته فلا يرى إلاّ قضاء شهوته بأي طريق كانت.

إنّ الخلاصة والفائدة من هذا ليتحقّق الإنسان أن لاشيء جدير بالاعتماد عليه في مؤازرة السلطان في حفظ ما للإنسان، وما عليه من الوازع الدينيّ، وتنمية الشعور بما بعد الموت إلاّ الإيمان.

(5): البحث في لزوم مراعاة المدبر لهذا العالم وليس هو إلاّ الله عز وجل:
فأقول: إنّ الأصل الأصيل فيما قدمناه من مراعاة لزوم سلطة دينيّة تؤازره السلطة الحكوميّة فيما يرجع لاحترام الحقوق الإنسانيّة هو مفرّع عن إثبات المدبر لهذا العالم، وقد أجمعت الأمم مع اختلاف معتقداتها قديما وحديثا من سكان البسيطة على إثباته وإنّ مع تباين المشارب فكلّ منهم يعتقد ثبوت الحقّ إنّما المختلف فيه تعيّين الحقيقة، أي ما هو ذلك المدبر من جهة الماهيّة والكيف، فذهبت كلّ فرقة إلى ما سمح لها به اجتهادها أو أخبرها به كتابها، فكان ذلك سبب افتراق الملل، وتعدّد النحل وعلى كل حال فالنقطة الجامعة لطرفي المتناقضين هو الإثبات ولم يخرج عن هذه الدائرة إلاّ شرذمة قالت: بنفيه وأسندت الأمر لغير أهله ويا ليتها لو قالت هو ذلك المسند إليه فكانت تحصل على طرف من الإثبات تدخل به في دائرة الموحدين، ولو بما ينطبق على ما في نفس الأمر، ولكنّها أغفلت شيئا اعتبرت بإغفالها له خارجة لما أجمع عليه العالم بأسره، فلا جرم تتحمّل مسؤولية ما انتهجت دنيا وأخرى، لأنّه كفر بأتمّ معناه وكلّ ما دونه من الكفريّات هو مفرّع عنه قال عزّ من قائل: (ذلك بأنّ الله مولى الذين أمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم / محمد آية/ 11) يعني أنّهم لا يعترفون له بالوجود ولا شكّ أنّ هذا ممّا يسوء المثبتين على اختلافهم وزيادة على عدم اعترافهم تراهم عاملين على نشر مذهبهم، وهم على صفة إعجاب ظنّا منهم أنّهم عثروا على علم من نتائج الرقي العصري، ولم يشعروا بأنّ إنكارهم للدين هو ضرب من ضروب الوحشيّة، فحقّه أن يعدّ قرحة في جنب الإنسانيّة، أو نقول بقية حيوانيّة بما إنّ هاته العقيدة قد كان تلبّس بها الأقدمون حسبما أخبر به التنزيل منبئا عن قولهم: (وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يظنّون / الجاثية آية / 24).


وعلى هذا فلا تصحّ هاته العقيدة أن تعدّ من حسنات هذا العصر عصر الرقي حسبما يقولون حيث ثبتت أنّها ممّا تمخضت به الدهور الغابرة، والأمم القاصرة ولا مستبعد فيما ارتكبوه في تلك الإعصار على ما أخبر به القرآن حيث يقول: (إن هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا / الفرقان آية / 44) إنّما المستغرب صدوره من أرباب الأهميّة الذين ربما يرجى بصلاحهم صلاح العالم أجمع.

إنّ الخلاصة والفائدة من هذا يستلفت المتشكك إلى محاولة الدخول في دائرة المثبت ولو بأقل ما يمكن الدخول به على أنّ الحقّ لا يخرج عن دائرة الإثبات ولا يطلب إلاّ هناك.

(6): البحث فيما هو السبب الحامل لبعض الفلاسفة العصريين على نفي المدبر:
فأقول: قد يقول القائل: إنّ ما تفوّه به الأقدمون من نفي المدبر للعالم ربّما كان الباعث عليه جمود الذهن وصلابة الطبع حسبما يخبر به التنزيل حيث يقول: (إن هم كالأنعام / الفرقان آية / 44)، وعليه فما السبب في صدور نظيره الآن من أناس تباين أخلاقهم أخلاق من سلف من جهة السعة في العلم ورقّة الشعور؟


فأقول: إنّ هذا السؤال حقيق أن ينتظر جوابه، وإذا أمعنت النظر فلا تجده إلاّ سابق الاعتقاد في الإله إذ كان على غير الوجه المطابق لما في نفس الأمر، لأنّ الفيلسوف قبل اشتغاله بالفن الذي استثمر منه نفي المدبر لا يخلو من أن تكون له عقيدة تلقاها على سبيل الوراثة، وكيفما كان تلقيه لها فهو لا يتخيّل إله العالم إلاّ شبه الإنسان من جهة الكم والكيف مقرّه العلو جالس على كرسي، أو نحوه صالح أن يلمس باليد على التقدير فضلا عن إحاطة البصر به، فهذا ما يمكنه أن يكون حاملا معنى الإله عليه.

وحتى إذا وصل إلى ما وصل إليه، واستحكم به التحقيق من فن الهيئة بواسطة ما استفاده من نحو التجريبات العلميّة والاكتشافات العقليّة المستعان عليها بنحو المكبّرات وغيرها، فإنّه لا يقع الإطلاع على ما يمكن الإطلاع عليه من هذا الوجود المرئي لنا إلاّ على فراغ متسع الأرجاء تتخلّله أجرام تفوق حد الحصر بعضها يسمى بالكواكب، وبعضها بالشموس، والآخر بالأقمار، تتوّقف حركة بعضها عن بعض حسبما تقتضيه الجاذبيّة والنواميس الطبيعيّة فيتضح لديه يقينا أنّ الأشياء مرتبطة ببعضها، والمسببات موقوفة على أسبابها والطبيعة فعالة في مركباتها.

ولكن لا يخلص تماما من تحسّس سلطة زائدة تشير إليه بالوجود من وراء ما وصل إليه إدراكه، ولكن يعجّل القول بمجرد الطبيعة وإن مع توهم وجود ذلك الزائد: (خلق الإنسان من عجل / الأنبياء آية / 37)، وهكذا تجده يقول بالنفي، ولكن لو امتحنته لم تجد نفيه عائدا إلاّ على الإله المتقرّر في ذهنه سابقا من كونه أشبه بالإنسان ذي مكان صالح أن يلمس باليد حسبما تقدّم ذكره.

وحقيق بأنّ الإله الذي بهاته الصفة ليست عنقاء مغرب أولى بالنفي منه، وعلى هذا التقرير يكون نفيهم عائدا على الوصف المتقرّر في الأذهان لا على الإله الحقّ الذي هو عبارة عن الغيب الصرف، وفي ظنّي إنّه لو قيل لأحدهم إنّ الإله هو عبارة عن سطوة خارجيّة متعذّرة الإدراك تباين المادة باسم المباينة يتحسّسها الإنسان من قريب ومن بعيد، وهي أقرب إليه من حبل الوريد لم تزل مجهولة الكنه متعذّرة الإدراك عن البصائر فضلا عن الأبصار وإلى ذلك يشير القرآن: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير/ الأنعام آية / 103)، (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير/ الشورى آية / 11)، لما كان يتعجّل النفي حسبما تعجّله من قبل بما إنّ شعوره يثبت له شيئا من وراء إدراكه (ولا يحيطون به علما / طه آية /110)، غير أنّ التأني كان به أجمل لربما أن يأتيه البيان من جهة الإثبات أو النفي، وكيفما كان حقّه أن لا يتعجّل النفي لأنّه قد يتصوّر من ضعف الإدراك، ولهذا كان المثبت حجّة على النافي.

إنّ الخلاصة والفائدة من هذا نشعر بأنّ القائلين بالنفي لم يكن نفيهم صادقا إلاّ على ما توهموه في الإله من قبل، أمّا لو كان لهم إلمام بشيء من أخصّ عقائد الإسلام لما صادف نفيهم موقعا يقع عليه.
 (7): البحث فيما يشبه المجادلة بالتي هي أحسن:
فأقول: إنّي قد كنت كثيرا ما أتحرى أساليب الأدب في المحاورة مهما يسعفني الحظ بالاجتماع مع من هو بالأدب أحرى، ومن ذلك أني قد اجتمعت ذات يوم بأحد من رجال الأهميّة العصريّين الّذي كان يقول بالطبيعة المحضة، وبعد ما تجاذبنا الحديث بأحسن ما ينبغي أن يكون مثله بين المتحاورين.


- فقلت له: ولعلّكم بلغتم الغاية في فنكم هذا بأكمل تحرير من جهة تحقيق النفي.

- فقال لي: على ما يظهر.

- فقلت له: ومع ذلك لا يخلو من بقيّة شكّ لكم يرمي إلى وجود سلطة زائدة على ما وصلتم إليه، أو نقول قوّة أعزّ من أن يحاط بها من جهة ما هي عليه حافظة للعالم من نحو الاختلال والتلاشي.

- فقال: لا يخلو من بقاء نوع تردد في إثبات شيء متعذّر الإدراك مجهول الكنه.

- فقلت له: وإذا من المحتمل أن يكون غيركم على يقين في إثبات ما ترددتم أنتم في وجوده لأنّ الإدراك متفاوت وأنّ الإنسان للعجز أقرب منه للإحاطة

- فقال لي: وهو كذلك.

فقلت له: وعلى فرض اعترافكم كاعتراف غيركم بوجود هاته القوّة البعيدة المنال الذي يحاول الإحاطة بها كلّ من الشكّ والوهم والظن واليقين، وهي بالجميع أحوط: (وكان الله بكلّ شيء محيطا / النساء آية / 126)، فأي اسم تستحقه ليطابق مسمّاها يا ترى ؟

- فقال لا أدري

- فقلت له:  وأي مانع من أن نسميها بالألوهيّة.

- فقال لي: أنا ما تمكنت من تخيلها فكيف أسميها.

- فقلت له: إنّ عدم تخيلك لشيء تحس بوجوده هو زبدة الاعتقاد فاثبت على ما أنت عليه الآن حتى يأتيك اليقين، لأنّ الإله الحقّ لا يبعد أن يكون هو تلك السلطة الغيبيّة التي يدق إدراكها عن الأفكار السليمة، قال تعالى: (ولا يحيطون به علما / طه آية / 110)، وقال: (لا تدركه الأبصار / الأنعام آية / 103)، وقال: (ليس كمثله شيء / الشورى آية / 11) 

وعند هذا قال لي:
- فإن كان الإله على الوصف الذي ذكرتموه فأنا مؤمن بوجوده
- فقلت له: (إنّما المؤمنون اخوة / الحجرات آية / 10)،

ثمّ وعدني أن لا يقول في الإسلام، أو يكتب فيه فيما بعد إلاّ خيرا وافترقنا على خالص المودّة.

إنّ الخلاصة والفائدة أنّ هذا يستلفتنا لتوخي أحسن الأساليب في تبليغ توحيد الله على حد ما أمرنا بقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن / النحل آية / 125).

(8): البحث في كون العقل قد يتطرّق إليه الخطأ كغيره من المدركات:  
فأقول: إنّ الملخص من جميع ما ذكرناه ينحصر في كون الفلاسفة عاجزين عن إدراك ما وراء المادة، والمعنى لا يعول عليهم في الإلهيّات كما قد يعوّل عليهم في الماديّات، والسبب في ذلك استخدام العقل فيما وراء طوره واسترساله فيما لا يدريه بدون دليل يعتمده ولا برهان يعول عليه، فحتما ينقلب خاسئا وهو حسير، ولا غرابة إن رجع القهقرى فيما فوق وسعه، والحالة أنّه قد اعتاد الخطأ أحيانا فيما تعوّد الولوج فيه، والبرهان على خطئه اختلاف العقلاء في المعقولات، وبالضرورة أنّ الحقّ ليس بمتعدّد فيحظى الكلّ بإصابته مع اختلافهم في مضمونه، وعليه فكيف يكون إذا استرسل في شيء فوق طوره، وبالجملة فإنّ سائر إدراكات الإنسان قد يتطرّقها الخطأ، وإلاّ لمّا صحّ أن يكون الإنسان مخطئا.


ألا ترى أنّ الله تعالى قد جعل الحواس الخمس حاكمة على المحسوسات: فالشمّ حاكم على المشمومات، والذوق حاكم على المذوقات، وهكذا السمع على المسموعات، والبصر على المبصرات واللمس على الملموسات ولمّا كان الخطأ قد يتطرّق كلّ حاسّة على حيدتها جعل الله تعالى العقل حاكما عليها لا هي حاكمة عليه، كي لا تعتدّ بالخطأ بدل الصواب، أو ليس البصر يرى الجبال الشواهق متصلّة بالسماء، ومثلها البحار وأين رؤية السماء فضلا عن اتصال الجبال بها، ومثله الذوق قد يحكم أيضا على مرارة العسل عند انحراف مزاج صاحبه، وهكذا بقية الحواس، وما يشاكلها من الادراكات الباطنية، ولكن مثل تلك الأحكام عند العقل: (لا يسمن ولا يغني من جوع / الغاشية آية / 7)، لعلمه بإمكان تطرّق الخطأ إلى ما تحكم به الحواس، ولما كان هو أيضا لا يعدم نصيبه من التقصير أحيانا حسبما تقدّم برهانه جعل الحقّ تعالى له الشرع حاكما عليه، فلا بدّ من اعتماده خصوصا فيما لم يتعوّد الولوج فيه، وهو النور المهتدى به: (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور/ النور آية / 40).

إنّ الخلاصة والفائدة من هذا تفيدنا أنّ الفلسفة لا يعتمد عليها في الإلهيّات إلاّ إذا كانت بشاهد من الكتاب أو السنّة بخلافها فيما سوى ذلك.

(9): البحث في الفلسفة الصحيحة، وفي كونها لا تنافي خالص التوحيد:
فأقول: إنّه ممّا يتبادره الفهم العام من لفظة الفلسفة غالبا أنّها عنوان عن سوء العقيدة لما قد يظهر من الإلحاد على بعض المنتسبين إليها، والحقّ أنّ ذلك لا ينسب إلاّ للمتداخلين، أو لمن لا تنفذ بصيرته من هذه الكثائف إلى ما وراءها من اللطائف، وكيف والحالة أنّه ممّا يعتبر كالمبدأ الفردي لمساعي الفلسفة هو محاولتها إدراك ما به الشيء شيء حسب الطاقة والاستعداد، ولا شكّ أنّ الذي يتبع غور الأشياء بنظر صادق وبصيرة نافذة لا يبعد أن ينتهي به سيره إلى إدراك وجود ارتباطها بعالم غير مرئي لنا وهي ضالة الحكماء، وقرّة عين الموحدين وهناك تجتمع نظرية هؤلاء، أو تكاد تجتمع بنظرية زعماء الأديان المخلصين، إذا فانتهاجها على الشريطة السابقة لا ينتج إلاّ خالص التوحيد، وإن طوحت بصاحبها الطوائح في البدء ما لم يكن ممّن يقتصر على القشور عوض اللباب، كاقتصار الماديّين حيث عقدوا العزيمة على أن لا يعطوا لما وراء المادة أو لقول للروحيّات أدنى اهتمام.


أمّا غيرهم ممّن تجاوزت أنظارهم إلى ما وراء الماديّات، فقد تبسّمت لهم أبكار المعاني من خلال هذه المظاهر، فأكسبتهم ما ألجأهم إلى القول بوجود يد عاملة من وراء سحاب الكثائف تلك اليد التي لها وحدها القدرة النافذة، والقضاء المبرم والمعنى أنّهم الآن على يقين من وجود سلطة غيبيّة تمثلت بعض أفعالها بما ظهر للحواس من هذه المظاهر، وما وراء ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وهكذا تجدهم يعترفون بوجوب انحناء الظهر، وخفض الجمجمة أمام تلك القوّة الهائلة التي ليس في طبيعة البشر ما يهدي إلى تصوّرها، هذا ملخص ما يراه هذا الفريق وهو أقصى ما يمكن أن ينتهي إليه في الإلهيّات حسبما جاء في التنزيل: (ولا يحيطون به علما /  طه آية / 110).

إنّ الخلاصة والفائدة من هذا هو أن لا يعتقد أنّ الفلسفة بطبيعتها موجبة للإلحاد، ولا علينا اعتقدناها مظنّة السقوط لفاقد الاستعداد، وهذا في الإلهيّات لا في باقي أقسامها ويتمهّل قليلا، وإنّ مع وجود التردّد، ولينظر ما عسى أن يجد في الشكّ ما يستدّل به على وجود المشكوك فيه، لأنّه ولا شيء إلاّ وله تعالى فيه آية، وإذا فالشكّ لا يبعد أن يوجد فيه آية تدلّ على وجود الله.

(10): البحث الخامس عشر في كون الشرائع الإلهيّة لم توضع إلاّ لحفظ قوام الإنسان، ومراعاة مصالحه:
فأقول: غير خاف في كون الإنسان ذا مصالح يعسر تتبعها تفصيلا غير أنّها لا تخرج عن ضروب ثلاثة. فهي إمّا أن تكون ضروريات لوجوده، وإمّا حاجيّات لقوامه، وإمّا تكميليّات لتوسعاته في المعاملات، وكلّ ضرب منها موقوف على ما قبله: فالحاجيّات لا يلتفت إليها قبل الضروريّات، والتكميّلات لا يلتفت إليها قبل الحاجيّات، وكيفما وقع التفريع فأصول الضروريّات لا تخرج عن خمسة أشياء جاء الشرع الإلهيّ بالمحافظة عليها، وهي: النفس والعقل والعقيدة والنسل والمال، وهاته الأصول لا يستمرّ وجودها الإنسان غالبا إلاّ بجميعها، وكلّ منها يعتبر أصلا تنبني عليه أصول، والمعنى أنّ لكلّ ضروري منها ضروريّات، وأحرى ما وراء ذلك من الحاجيّات والتكميليّات.


فإذا نظرنا إلى ضروريّات حفظ النفس مثلا، فنجدها تبلغ خمسة أصول، وهي: المطعم والمشرب والهواء والستر والمأوى، وقس على ذلك ما ينبني على كلّ أصل من جهة مراعاة طرائق.

وأمّا الحاجيّات فهي عبارة عمّا قد يستغني عنه الإنسان أحيانا، لكن مع ضنك في عيشه، وحرج في معاملته.

وأمّا التكميليّات فهي ما زاد على ذلك حتى قد يظهر عدم الاحتياج إليها فيما يرجع لحفظ حياة الإنسان.أمّا الواقع فهي تتمّة للحاجيّات، كما إنّ الحاجيّات تتمّة للضروريّات، وبهذا القيد يكون حذف التكميليّات رأسا مخلا بالحاجيّات، كما إنّ حذف الحاجيّات رأسا مخلا بالضروريّات.

أمّا الشرع الإلهيّ لا يسمح بأي خلل أو نقص يلحق مصالح الإنسان، ولهذا حفظ لنفسه حقّ التدخل في سائر شؤونه بما أنّه لا يعترف برشد الإنسان، ولن يعترف به وإلاّ لتركه وما صنع، وماذا عسى أن يصنع أكثر ممّا هو صانعه الآن، وقبل الآن وهكذا بعد الآن (إنّ الإنسان لظلوم كفار/ إبراهيم آية / 34).

إنّ الخلاصة والفائدة من هذا ليعلم الإنسان أنّ الشرع الإلهيّ له تمام التدّخل في المحافظة على مصالح الإنسان في سائر أطواره وعموم تقلباته، وهكذا يبقى حبّ الإنسان أم كره.

تعليقات