الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد - الشيخ العلاوي

https://ia800708.us.archive.org/34/items/ANMUDEJ/AL-ANMUDEJ.pdf
مختصر الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد في معنى انطـواء الكتب السماويّة في نقطة بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى, أذكرك اللّهم باسمك الرحمن الرحيم وأستخيرك اللّهم بعلمك القديم فيما دوناه, وإنّه لشيء عظيم, وأسترشدك اللّهم برشدك القويم المتصل بصراطك المستقيم أن تعصمنا من كلّ فهم سقيم فإنّي مظهر الكلام وأنتم المتكلّم إذ لا علم لنا إلاّ ما علمتنـا إنّك أنت العليم الحكيم, فضلك تؤتيه من تشاء وأنت ذو الفضل العظيم, أشكرك اللّهم على ما منحتنا, وإنّه لخير عميم, وأسألك اللّهم بكلّ قلب سليم أن تصلّي صلاة مقرونة بالتعظيم على مـن قلت فيه إنّك لعلى خلق عظيم بالمؤمنين رءوف رحيم, وعلى البقيّة الصالحة من هاته الأمّة.

فأمطر  اللّهم عليهم سحائب الرحمة, فإنّهم جمعونا بك حتى صار نظرنا بعنايتك لا  يقع إلاّ عليك, وتوجهنا برعايتك لا يكون إلاّ إليك, وأستغفرك من دعواي  الوجود فمنك بدأ الأمر وإليك يعود.

فيقول أحمد بن مصطفى العلوي رضي الله عنه: إنّي جمعت هذه السطور حسبما سمح لي به الشعور, والباعث على تحريرها رغبتي في هذا الفن العظيم, واهتماما بما ورد في الأثر الفخيم من (أنّ كلّ الصحف الأولى منطوي في نقطة بسم الله الرحمن الرحيم), فأقول:

وردني الخبر (إنّ كلّ ما في الكتب المنزلة فهو في القرآن وكلّ ما في القرآن, فهو في الفاتحة وكلّ ما في الفاتحة فهو في بسم الله الرحمن الرحيم), وورد أيضـا: (كلّ ما في بسم الله الرحمن الرحيم فهو في الباء وكلّ ما في الباء فهو في النقطة التي تحتـها), وقد ذكره الجيلي في كتابه المسمّى (بالكهف الرقيـم): أنّه حديث مرفوع, وعندما تداولت هذا الأثر الأقلام وطرق سمع كلّ خاص وعام تشوّف الجميع لمكنوناته, والكلّ يروم الإطلاع على مخبئاتـه, فاشتد علي ذلك الازدحام فحركتني الغيرة إلى أن وقفت على الأقدام وتشبثت للأخذ من طيبه فوقع بيدي العرف من أصله فاستخرجته من بين الآكام, ودخلت به على العلماء الأعلام, فتناولوه بيد التبجيل والتعظيم, والكلّ يقول: (إن هذا إلاّ ملك كريم  يوسف ‏,آية‏ 3 1) فقلت: إنّه مباين لمقامي إذ هي رمية من غير رام, فأجاب الحال: (وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى  الأنفال ‏,آية‏ 17), قال عليه الصلاة والسلام: (من كتم علما يعرفه بريء من الإيمـان), (إنّ من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلاّ العلماء بالله, فإذا أظهروه أنكرته أهل الغرّة بالله), قلت: لا ينبغي للعاقل أن يعجّـل بالاعتراض عمّا يسمعه من الكلام البليغ الصادر من العلماء بالله, وإلاّ فإنّه يكون داخلا في الشـطر الآخر من الحديث, ولمّا كان مضمون الأثر يشير إلى التوحيد الخاص لزم أن لا يكون لي منه منـاص, فأشير ببعض لوازمه وأجمع القلوب على ظاهره وباطنه (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير  الشورى ‏,آية‏ 29), فإنّا جئناك بنبأ عظيم فاجنح لما يفيدك الاستغراق, وأخرج من التقيد إلى الإطلاق عساك أن تفهم ما في النقطة وما يفهمهما إلاّ العالمون (وما يلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم  فصلت ‏,آية‏ 35), وكلّما ذكرت آدم فنعني به نزول الحقّ إلى سماء الدنيا, ونعني بالدنيا بطون الكائنات في غياهـب الأسماء والصفات, ونعني بالصفات ظهور الحقّ لنفسه عند تجليه الأول, وبالأسماء ظهور الصفات لنفسه عند التجلي الثاني, والأول هو عين الثاني, وهذان رتبتان: هما المعبّر عنهما بالأوليّة والأخريّة, والظهور والبطون, فظهوره في بطونه, وأوله في آخره ومن هنا يقال: لا نفي ولا إثبات إنّما هو ذات في ذات وهاته الذات هي المعبّر عنها في لسان القوم بوحدة الشهود والمشار إليها في الأثر الشريف بالنقطة, وهي التي تدفقت منها سائر الكائنات حسبما تقتضيه الأسماء والصفات, وكّلما ذكرت النقطة فنعني بها غيب الذات المقدّسة المسمّاة بوحدة الشهود, وكلّما ذكرت الألف فنعني به واحد الوجود المعبّـر عنه بالذات المستحقّة للربوبيّة, وكلّما ذكرت الباء فنعني بها التجلّي الأخير المعبّر عنه بالروح الأعظـم, ثمّ بقيّة الحروف, والكلمات والكلام فعلى حسب ما يقتضيه المقام.

لقد قسّم المؤلف هذا إلى ثلاث نقاط وخاتمة وهي:
  1. الكلام على النقطة
  2. الكلام على الألف
  3. الكلام على الباء
  4. خاتمة
ولا بدّ في هذا المقام من رشفة مختصرة تنويها وزيادة للمعلوميّة عند القارئ علّها تكون فيها وبما بعدها الفائدة المرجوة إن شاء الله, ولتكن هذه الرشفة فيما يتعلّق بالكلام على النقطة.

كانت النقطة في كنزيّتها قبل تجليها بذات الألف, وكانت الحروف مستهلكة في كنهها الغيبيّ إلى أن ظهرت بما بطنت وتجلّت بما استترت, فتشكلت في مظاهر الحروف كما ترى, وإذا تحقّقت لم تجد إلاّ ذات المداد المعبّر عنه بالنقطة حسبما قيل:

إنّ الحروف إشارات المداد فلا *** حرف هناك سوى ذات المداد طلا
طلا الحروف اللواتي صار صبغتها *** وهما وصبغته صارت وما انتقـلا

بطونها كان في غيب المداد كم *** ظهورها كان بالتقدير من إلى
فإنّه كان من قبل الحروف ولا *** حرف ويبقى ولا حرف هناك ولا
فللحروف ظهور وهي خافية *** وذاك عين ظهور للمداد جلا
والحرف ما زاد شيئا في المداد *** ولم ينقصه شيئا ولكن فصل الجملا
وما تغيّر بالحرف المداد وهل  *** مع المداد وجود للحـرف إلاّ
وأين ما كان حرف لم يزل معه *** مداده فأعقل الأمثال ممتثلا

والمعنى أنّه ليس شيء هناك ظاهر في نفس الحروف سوى ذات النقطة المعبّر عنها بالمداد المطلق من أجل ما تضمنته من استهلاك سائر الحروف في حقيقتها قبل التجلّي وبعده, إذ ليس للحـرف وجود في الخارج ولو بعد التجلّي إلاّ نفس المداد, فالحروف كائنة بكينونة النقطة لا باستقلالها من استهلاك سائر الكتب في نفس الكلام, واستهلاك الكلام في نفس الكلمة, واستهلاك الكلمة في نفس الحرف, والمعنى أنّه يلزم من عدم الحرف عدم الكلمة, ومن عدم الكلمة عدم الكلام, ومن عدم الكلام عدم الكتاب إذ لا وجود للكلمة إلاّ بوجود الحرف إمّا لفظا وإمّا خطا والتفصيل فـرع الإجمال (يمح الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب  الرعد ‏,آية‏ 39).

جاءت النقطة على خلاف ما في الحروف (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشورى ‏,آية‏ 11), فلهذا لا يقع عليها حدّ التعريف كما يقع على غيرها من الحروف, فهي منزّهة عن كلّ ما يوجد في الحرف من طول أو قصر واحتداب فلا تعقل بما يعقل به الحرف رسما ولفظا فبينونتها من الحرف معقولة وكينونتها فيـه مجهولة إلاّ لمن كان بصره حديد (أو ألقى السمع وهو شهيد  ق ‏,آية‏ 37), وإن كانت الحروف من صفتها فحقيقا لا تحيط الصفة بالذات, والمعنى إنّها لا تخص بما تخص به الذات من جميع الوجوه, فالذات مختصة بالتنزيه والصفة قائمة بالتشبيه وإن كان التشبيه هو عين التنزيه من حيث وحدة المداد, لأنّ الحروف تشابهت ببعضها, والتشبيه لا يناقض تنزيه المداد في نفسه, ولا يناقض وحدته الموجودة في كلّ حرف, فلهذا كان التشبيه عين التنزيه حيث تشبه المداد بنفسه لنفسه: (وهو الذي فـي السماء إله وفي الأرض إله  الزخرف ‏,آية‏ 84), فكيفما كان وحيثما كان فهو إله, ولا يمنعك ما تراه في أرض التشبيه عمّا هو عليه في سماء التنزيه, فكلّ من التنزيه والتشبيه: (فأينما تولوا فثمّ وجه الله  البقرة ‏,آية‏ 115), وهذا من حيث الوصف العام المتدفق من فياض النقطة على افتقار الحروف.

وأمّا وصفها الخاص اللازم لكنهها الغيب فهو لا يمكن ظهوره في الحروف بحال, فالحرف لا يحمل شيئا من لوازم النقطة لا في الصفة ولا في المعنى ألا ترى أنّك إذا رسمت بعضا من الحروف الهجائية كما هنـا (أ ب ت ث) فإنّك تجد لكلّ حرف حرفا آخر مماثلا له, فالباء تماثلها التاء مثلا, ثمّ إذا أردت النطق بحرف من هاته الحروف تجد له مخرجا في النطق يخصّه, وليس للنقطة مخرج خصوصي حتى أنّك إذا رسمتها كما هنا تجد صورتها مباينة لجميع الحروف, وإذا أردت التلفظ بحقيقتها فإنّك تقول النقطة فيجنح بك اللفظ إلى حروف ليست من ذاتها وهي النون والقاف والطاء والتاء فاتضح لنا أنّ النقطة معناها لا تحويه الألفاظ, فكنه ذات البارىء جلّ شأنه ليس له لفظ يفصح عن ماهيته, ومـن أجل هذا كلّما تكلّم عارف بكلام يريد به التنزيه أو نقول البيان الكلّي لأوصاف الذات يبرز مباينـا لقصده لضيق العبارة (وما قدروا الله حقّ قدره  الأنعام ‏,آية‏ 91), وربّما تبرز الكلمة لتقترب من التشبيه أو التعطيل, وليس مقصود العارف إلاّ التوحيد المحض,ألا ترى أنّ المتلفظ بالنقطة هل أراد التلفظ بها أم بالحروف الثلاثة (أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت  الرعد ‏,آية‏ 33), ولولا قيوميتّه لم ير موجود قائم البنية لذاته بهذا الاعتبار وبذلك أيضا اتسعت دائرة الكلمات فكانت لا نه‏,آية‏ لها (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثلـه مددا  الكهف ,آية‏ 109), وكيف ينفد من لا نفاد له, وهذه الكلمات هي المتجليّة بسائر الكلام (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه النساء ‏,آية‏ 171), أي تجلّى بها إلى مريم (فتمثّل لها بشـرا سويا  مريم ‏,آية‏ 17), فكلّ كلام مفرع عن الكلمة, فالكلمة كن‏,آية‏ عن تجليه بنفسه لنفسه, والكلام كن‏,آية‏ عن تجليه بخلقه لخلقه, فالكلام فرع الكلمة, والكلمة فرع الحروف, والحروف فـرع النقطة, والنقطة هي السرّ المحيط بالجميع (وكان الله بكلّ شيء محيطا  النساء ‏,آية‏ 12).

وعليـه إذا جرّدت الحرف من النقطة لم تجد شيئا, ووجدت الله عنده وتعرف حينئذ أنّ النقطة هي الظاهـرة بكلّ شكل ومبنى وصورة ومعنى, كانت النقطة في عمائها الأول حين لا فصل ولا وصل ولا بعد ولا قبل ولا عرض ولا طول, وكلّ الحروف مستهلكة في كنهّها الغيبيّ كما تقدم كما كانت الكتب مستهلكة في الحروف على اختلاف مدلولاتها, واستهلاك الكتب في الحروف يشعر به كلّ من له أدنى شعور إذ لو فتشت الكتاب لم تجد فيه ظاهرا على صفحاته حاملا لمعانيه غير الثمانية وعشرين حرفا فهي المتجليّة بكلّ لفظ ومعنى, تتلّون بالألفاظ المختلفة والمعاني المتباينة إلى (إنّا نحن نرث الأرض وما عليها  مريم ‏,آية‏ 40), (ألا إلى الله تصير الأمور  الشورى ‏,آية‏ 53), فتصير الحروف إلى مركزها الأصليّ حين لا شيء إلاّ ذات النقطة, ثمّ اعلم: أنّ النقطة كانت في عمائها حالة استهـلاك الحروف في ذاتها, وكان لسان كلّ حرف يطلب ما تقتضيه حقيقته من طول وقصر وعمق وغير ذلك, وهكذا تحرّكت دواعي الكلام على وفق ما تقتضيه أوصاف النقطة الكامنة في ذاتها. تم من إنشاءه يوم 12 من شعبان 1344 هـ الموافق لـ 24 فبراير 1926 م.

  الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد


واجهة الطبعة الأولى لكتاب الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد, ألف من طرف الشيخ العلاوي سنة 1910 وصدرت الطبعة الأولى منه سنة 1913.


تعليقات