الشاهد السادس من القسم الأول في سرد طائفة من شهادات ذوي الهيئات الشرعية والمراتب الدينية الرسمية في كتاب الشهائد والفتاوي (1-06).
العلامة المفتي الوطني ورجل الدين الجليل الشيخ إدريس بن محفوظ الشريف, الدلَّسي, مفتي بنزرت, تونس.
الشهادة السادسة فيما أجاب به فضيلة الأستاذ المعظم والجهبذ الأفخم السيد إدريس بن محفوظ الشريف البكري مفتي مدينة بنزرت عمل تونس عما استشكل في بعض أنظام الشيخ قال:
"الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى اله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:
فيقول عبد ربه اللطيف إدريس بن محفوظ الشريف البكري المفتي المالكي بمدينة بنزرت, قصدت به وجه الله الكريم في الإجابة فيما ظهر لي, وان كنت قاصرا ولا مثلي من يكون يطرق الحق وله ناظرا عما اعترض به على العارف الرباني دي السر النوراني مظهر شمس الحقيقة الهادي إلى سبيل الطريقة في هذه الأزمنة التي غلب فيها لمثله الخفاء وانتشرت طرق الجهالة والغواية والجفاء حتى انه باب فضل الله الأعظم 1 والبرزخ النوري الأكرم الذي يتوصل منه إلى الخلاص من أوحال التوحيد إلى فضاء التفريد المنزه عن الإطلاق والتقييد.
ولكن نقول لهم قال الله تعالى: "وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ" سورة النمل - الآية 59, وقال "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" سورة الإسراء - الآية 81, ولأنهم قالوا الساكت على الحق كالمتكلم بالباطل, ذلك هو الأستاذ ابو العباس أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي الجزائري حرس الله كماله وبلغ في الخير آماله". انتهى...
ومن هنا شرع الشيخ إدريس في الرد إلى أن استطرد جملا من الدلائل تبرئ ساحة الشيخ بكل معنى, وفي الأخير ختم بقوله: "فكأني بقائل يقول أنت من المعتقدين في هذا الرجل, فنجيبه بقول من قال:
وما عليَّ إذا ما قلتُ معتقدي *** دعِ الجهولَ يرينا الحق بهتانا 2
وكان الفراغ من تحرير هذا الرقيم عشية يوم الخميس 15 من قعدة الحرام عام 1341هـ, 28 جوان 1923م.
_______________
- أقول مما نقل عن فضيلة الشيخ مفتي بنزرت من الخصال الحميدة التي قلَّ وجودها الآن بين أقرانه وما جبل عليه من احترامه لنسبة الله ومدافعته على أهل (لا إله إلا الله) ولا شك أنها غريزة لا توجد غالبا إلا في قوي الإيمان. ولقد بلغنا له عدة مؤلفات أغلبها في المدافعة عن أعراض المنتسبين ورسائل نذكر منها جملة في محلها. وهذا أيضا مما يفيدنا أن لفضيلة الشيخ إلماما بمذاق القوم واطلاعا تاما على حسن مقاصدهم. ومن كان بهذا الوصف يعلم يقينا أن القوم رضي الله عنهم ارسخ الناس معلومات في الشرائع الدينية وأثبت يقينا في الوعود الإلهية فيحمى جانبهم بالضرورة وإلا جري عليهم من الوعيد من نوه به فضيلة المفتي في جوابه حتى أتى بما يدل على أن الساكت على الحق كالمتكلم بالباطل, وهذا ونحوه هو الذي ألزمه أن لا يكتم ما علمه الله في هذه النازلة, فقد جمع رسالة في الذب عن حرمه الأستاذ رضي الله عنه وتبرئة ساحته وسنذكرها بمحلها, كان ذلك بمناسبة ما أُدرج في بعض القصائد النبوية وغيرها من كلام مما لا يفهم غالبا إلا بانضمامه لبعضه, فأخذها من أراد الله أن يفتن به بعض القلوب مجردة عن القرائن والدواعي بعدما أضاف لها ما استطاع من التشويهات والمعائب, كل ذلك ليظهر لخالي الذهن أن الشيخ حقيق بالانتقاد عليه, فتكون لهم اقوى ذريعة للخوض فيما هم فيه خائضون, وما أظنها بدريعة كافية في تحليل ما حرم الله, فإن عرض المسلم على المسلم حرام, ولا أولى بالتحريم من أعراض المتسببين إلى الله وأعراض العلماء بالله. انتهى...
- يظهر في اعتراف فضيلة الشيخ المفتي بصحة دعوى الأستاذ في طريق الله والخصيص على أنه باب من أبواب الله مما أستفاده من عبارات الأستاذ في مؤلفاته التي كان يستغرق الأوقات في مطالعتها, فاستدل بذلك على مكانته وانه أولى بالالتجاء إليه في هذا الشأن, لانهم نصوا, رضي الله عنهم, على أن التعبير بقدر التنوير, ولا يستطيع التمييز بين عباراتهم إلا من كان مستشرفا على مقامهم, أما من سواهم فإنهم ينادون من مكان بعيد, واني رأيت ما من حبر من أهل وقتنا ألهمه الله لصحبة هذا الأستاذ إلا وكان سببه الاطلاع على عباراته وحسن سبكه في مؤلفاته, ولو أخذت في سرد أسماء المشار إليهم لطال الذكر, وسنذكر بعضهم في الأصل, وقوله وكأني بقائل يقول يظهر من هذا أن فضيلة الشيخ على أتم اعتقاد في الأستاذ, والذي زاد في يقينه حسبما بلغني زيادة على ما أستفاده من مؤلفاته, اجتماعه ببعض من خاصة أتباعه, فاستفاد منهم من بعد الفحص في السير والأخلاق ما زاده اعتقاد كمال الخصوصية في الأستاذ وطريقه, وهكذا يجب على كل من تبين له الحق أن يعمل به, بارك الله لنا في هذا الكاتب وفي أمثاله._______________
ترجمة الشيخ إدريس بن محفوظ
العالم الفقيه, المدرس وشيخ الطريقة الشاذلية. له باع طويل في العلوم التي تلقن بالجامع الأعظم, اشتغل مدرسا بجامح الزيتونة ومصححا في دار الطباعة الرسمية بتونس, ويعد الشيخ إدريس بن محفوظ بن الحاج أحمد الشريف من أبرز أعلام الفكر والإصلاح ببنزرت.
ولد بحي المنزه بالمدينة العتيقة سنة 1866م كفله جده الحاج احمد بعد سنة من وفاة والده ثم عمه الفقيه الحاج محمد الشريف حتى بلغ سن التعليم التحق بالكتاب ليحفظ القرآن الكريم ثم جامع الزيتونة لينهل من العلم ما لذّ وطاب ليحرز على شهادة التطويع سنة 1895م. ويمضي بعدها سبعة أعوام بين جامع الزيتونة كمدرس والمطبعة الرسمية كمصحح ويعود سنة 1920 الى مسقط رأسه بنزرت ليدرس بجوامعها (بن عبد الرحمان, وجامع الكبير) ونظرا لثقة الجميع به وبتوصية من الزعيم محمد الحبيب بوقطفة أوكلت له إمامتي (الخميس والجمعة) بجامع الكبير سنة 1921م.
تألم الفقيد الشيخ إدريس كثيرا لصدور أوامر وقوانين من المستعمر الفرنسي لتمكين الدخلاء من الاستيلاء على شؤون البلاد ومن اغتصاب خيرات الشعب والانفراد بأجهزة الحكم وفي المقابل ارتاح كثيرا لمحاولات المثقفين آنذاك للإبقاء على الشخصية التونسية أمثال: علي باش حامبه وأخيه محمد والدكتور علي الحامي والشيخ عبد العزيز الثعالبي وحبيب بورقيبة كما بلغته بطولات المناضلين ضد المستعمر بالعاصمة نذكر منها واقعة الزلاج والمحاكمة الصورية للشهيد المنوبي الجرجار وأيضا حوادث مقاطعة "الترام" التي وقعت يوم 17 فيفري 1912م.
وآلمته مواقف بعض رجال الدين الذين سخرتهم السلط الفرنسية لإحباط إضراب مقاطعة «الترام". وعاش الثورة الشعبية في الجنوب التي دامت أربعة أعوام (1915م - 1919م) والمعروفة بثورة "خليفة بن عسكر" التي تكبد فيها المستعمر الفرنسي خسائر فادحة, وفي أخريات حياته دفعته وطنيته للتشهير بانعقاد المؤتمر الأفخارستي بتونس فيما بين 7 و11 ماي 1930م وكذلك الأحكام الجائرة على الدكتور محمد علي وجماعته.
يعد الشيخ إدريس كاتبا بارعا, وشاعرا قويا, وصحفيا قديرا وخطيبا بارعا, من مؤلفاته:
- تحرير البيان في الرفق بالحيوان
- مطالع الأنوار في حكم الاحتكار
- تبيان الإجمال في مقاصد الاحتلال
- تنوير الألباب في علم الحساب
- الحدائق الزاهرة الغصون في ذكر آبائي إلى النبي الكريم
- بلوغ المرام في أباء النبي عليه السلام
- الإفادة في خوارق العادة
- حلية الفكر السامع في تحقيق الفعل المضارع
- النثر الرائق في علم الوثائق
- لطائف الإشارات في أحوال الكائنات
- الدر النفيس في شعر إدريس الشريف (ديوان شعر)
أما مقالاته ورسائله لم يبلغ منها إلا النزر اليسير وهي تمتاز بمتانة السبك
وحسن التنسيق. ولا تزال عديد الفضاءات الحضارية والثقافية والشعبية بمدينة بنزرت
تحمل اسمه على غرار الشارع الرئيس المنتصب بقلب البياصة فضلا على المعلم الاثري
بدار الثقافة الشيخ إدريس وبعض المؤسسات التربوية التي تحرص على نشأة الأجيال,
رحمه الله وجعل الجنة مثواه, آمين .
- ترجمه أحمد بسكر في أعلام الفكر الجزائري ج1, ص 188.
تعليقات
إرسال تعليق