تأسيس الطريقة العلاوية

أسّس الشيخ أحمد العلاوي الطريقة العلاوية حوالي سنة (1335هـ / 1914م)، فأصبح محسودا من معاصريه، ومغبوطا من إخوانه، وهم يومئذ لا يتجاوزون عدد الحواريّين عليهم السلام، أمّا الحسدة فلم تأل جهدا في تنويع العراقيل من سوء الأعمال والآراء، وانصبت عليه القواطع بصفة تكلّ لها عزائم الملوك، وقرائح النبغاء، وإرادة الزعماء، ولا سيّما وأنّ الأستاذ قداعتزل الحياة الدنيا، كما كان إبراهيم الخليل عليه السلام يوم ألقي في النار حقا: (وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهّن قال إنّي جاعلك للناس إماما / البقرة آية / 124).

عزم الأستاذ العلاوي رضي الله عنه على إفراغ وجهته إلى الله وخدمته، وعمد بصدق وثبات إلى نشر الهداية الربانيّة بين أفراد المسلمين متعدّيا تلك القواطع كلّها، وبعد مدّة أصبحت زاويته يأتيها الناس أفواجا أفواجا من كلّ فجّ عميق، وابتغاء مرضاة الله والوصول إليه: (يا أيّها الذين أمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة / المائدة آية / 35)، فكان ما أن يمرّ على أحدهم أسبوع في الخلوة حتى تتفجر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

لم تكن طريقته طريقة سلوك فقط بل كانت وسيلة كبيرة تبشّر بمبادىء الإسلام القويمة المثلى، وأسلم على يديه رجال لا يستهان بهم من كلّ الطبقات حتى إنّ أفرادا من المبشرين المسيحيّين أقرّوا بالوحدانية لله ولسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم بالرسالة، وذلك بعد حوارات مع الأستاذ، وإقناعهم بالحجّة الدامغة، ولو تمّ كتابة ذلك للزمنا مجلدا ضخما ومنها ما تمّ نشره على صفحات الجرائد.

اعتنق الإسلام كثير من الناس من مبشرين وغيرهم، وقد وجّهوا كثيرا من الأسئلة والاستفسارات إلى حضرة الأستاذ، وكانوا من مختلف الملل والنحل، وهم طائفة كبيرة وكلّهم من الأوربيّين، ولصدق اعتناقهم للإسلام ورغبتهم في العمل بتعاليمه الطيّبة الغرّاء، فطلبوا من الأستاذ أن يحرّر لهم رسالة مختصرة يستعينون بها على أداء الصلاة المكتوبة، فكتب لهم حسب ما رغبوا فيه، وسمّاها (الدليل العلميّ)، ورسم فيها صورة على كلّ هيئة من هيئات الصلاة من ركوع وسجود، وغير ذلك مما يلزم، وبالجملة فهي رسالة مفيدة، وتمّت ترجمتها إلى عدّة لغات أوروبيّة بعد استئذان الأستاذ بذلك عدّة أناس من الأوروبيّين، فكانت من أخصّ أعماله وهي جديرة بأن تذكر بين غصون صفحات تاريخه العامر.

لقد عارضه في بداية الأمر رؤساء زوايا الطريقة الدرقاويّة في الجهات المجاورة وأعلن استقلاله عن الزاوية الأم في مراكش بعد خمس سنوات، وهكذا تميّزت زاويته عن زوايا الطريقة في الجزائر، وأطلق على فرعه اسم (الطريقة العلاوية الدرقاويّة الشاذليّة)، ومن الدوافع التي دفعته ليخطو هذه الخطوة شعوره بالحاجة لأن يدخل في طريقته نظام (الخلوة) ولم يكن في ذلك أيّ تغير جذري، فإذا اعتبرنا ذكر الله الوجه الإيجابيّ أو السماويّ للتصوّف بأنواعه كافة، كان وجهه السلبيّ أو الأرضيّ هو الاعتكاف أو البعد عن كلّ ما عدا الله، ولا شكّ أنّ من أقوى المساعدات على تحقيق هذا الاعتكاف الداخلي الروحيّ بصفة دائمة الانسحاب بالجسد، وهو بشكل أو بآخر سمة من سمات المذاهب التأمليّة كلّها تقريبا، فعند الطريقة الشاذليّة وفروعها اتسم الاعتكاف بسمة الانسحاب إلى الطبيعة الخلويّة اقتداء بخلوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء، حيث اعتبر الشيخ العلاوي نظام الاعتكاف في خلوة جزءا لا يتجزأ من الطريقة، حيث وجد هذا النوع من العزلة أيسر مثالا من غيره نظرا للظروف التي كانت تكتنف أكثر أتباعه، لأنّه عانى هو نفسه في بداية الطريق من الافتقار إلى مكان خاص به، يستطيع أن يخلو فيه إلى نفسه.

إنّ الخلوة هي عبارة عن غرفة ينقطع فيها المريد مدّة من الأيام، ولا عمل له فيها سوى أن يردد بلا انقطاع ليل نهار لفظ الجلالة (الله)، وفي كلّ مرّة يمدّ صوته بالمقطع الأخير (آه) ومن الأفضل أن يكون قد ردّد شهادة (لا إله إلاّ الله) آلاف المرّات قبل دخول الخلوة. ومن الأولى أن يصوم النهار أثناء الخلوة، ويبقي الكشف والفتوح ووقته عائدا إلى الله سبحانه وتعالى حتى تتكلّل مساعي الذاكر بالفلاح، وبالرغم من العوائق والعراقيل التي كانت تعترض طريق الشيخ العلاوي، حيث ضرب رضي الله عنه في الفقر بسهم وافر، حتى كان يضطر أحيانا إلى بيع أدوات منزله إذ كان يربأ بنفسه أن يسأل أصحابه شيئا، ولم يشعر هؤلاء أنّه يعاني من ضيق ذات اليد، ولقد تقاطر عليه أتباع جدد من بينهم: رئيس أو رئيسان لزاويتين ومعهما أتباعهما، وكذلك جاءه سبط من أسباط مولاي العربيّ الدرقاوي نفسه من الزاوية الأم في مراكش، وانضوى تحت رايته واسمه (محمد بن الطيّب الدرقاوي)، وممّا كتبه هذا السبط في رسالة: (ورأيت من أخلاقه وأخلاق أتباعه ما ألزمني صحبته، فاستأذنته في ذكر الاسم الأعظم تشوّقا منّي إلى تحصيل ما عسى أن يكون سببا في فتح بصيرتي، لأنّه لم يكن لي شيء قبل ذلك إلاّ مجرد النسبة، وكنت أسمع من أسلافنا أنّهم كانوا يعتمدون في الطريق التحصيل لا مجرد الانتساب، وبعدما اشتغلت بذكر الاسم حسب الكيفيّة التي أمرت بها ظهر لي ما ألزمني بالاستمرار، فلم تمرّ مدّة حتى كنت من العارفين بالله والحمد لله ….، ولو خدمته مملوكا إلى الأبد ما وفيت بعشر العشر من حقّه، وبالجملة إنّ الأمر الذي كان ألزم الجدّ الكبير بمتابعة سيدي مولاي علي الجمل رضي الله عنه هو الذي ألزمني الآن بمتابعة الشيخ سيدي أحمد بن عليوة المستغانميّ رضي الله عنهم أجمعين …، وبهذه المناسبة لم ألتفت لمن عاتبني على صحبة الأستاذ من أقاربي حيث أنّهم لا يعلمون).

إنّ سبب تسمية الطريقة (بالطريقة العلاوية) وشهرتها به مع أنّها كانت تعرف من قبل بالدرقاويّة غربا، وبالشاذليّة شرقا لما لها من المزيّة، وظهور الفائدة، ومن المعلوم أنّه ما من شيخ سميّت الطريقة باسمه ورجع نسبها إليه إلاّ وله من الفتح الإلهيّ والمشرب النبويّ ما عمّ القريب والبعيد ممن كان له قلب من معاصريه، أو ألقى السمع وهو شهيد، وظهرت على أيديهم من الفتوحات ما يشهد التاريخ لها، وكثر أتباعهم المفتوح عليهم الذين تجاوز عددهم الألوف، وانتشروا في كلّ النواحي للدلالة على الله في الطريقة الخاصّة بهم، وللأستاذ المشار إليه من ذلك أوفر نصيب بما أنّه ظهر في هذه الطريق المؤسس لهما رضوان الله عليه بصولة خارقة، وأسلوب غريب في استخراج الدقائق الغامضة، والرقائق الفائقة والحقائق النورانيّة من بدائع المعارف الإلهيّة والنتائج الربانيّة ما تشهد لها الأذواق السالمة، والعقول الكاملة، ولصاحبها بسمو المقام ورفعة منصبه في المعروفة والافهام، زيادة عن مهارته بعلاج النفوس والأمراض القلبيّة، وإصلاح الأحوال الظاهريّة والباطنيّة بكيفية تناسب الطباع، وتطابق العقول كلّ على مشربه واختلاف فهمه كيف لا وقد ظهر فضله على تلامذته، وأغلبهم مفتوح عليه، ففي مدّة قصيرة انتشرت طريقته في جلّ البقاع، وتداولت مؤلفاته التي رنّت بها الأسماع في سائر الأصقاع، واهتدى خلق كثير على يديه، وصار الناس يقصدونه أفواجا أفواجا من كلّ بلاد، ابتغاء الفتح والدخول في الخلوة، والاغتراف من بحر حقائقه الفائضة، والاكتراع من حياض معارفه المتدفقة، فعمّت بركاته العباد، وانتفع بسرّه الحاضر والباد، حتى الكافرون انقادوا للإسلام، وسلكوا على يديه سبيل الرشاد بما أمدّه الله من صولة التذكير وشدّة التأثير مع حسن التعبير والملاطفة في الكلام المناسب للأفهام، ولو أتينا بما انفرد به من جميل السجايا وحسن الدراية لاحتجنا حينئذ إلى ملء دفاتر، ومؤلفاته أعدل شاهد، وفي ذلك ما يغنينا عن الإطناب علاوة على ما ظهر على يديه من الفتوحات المديديّة والكرامات العديدة.

حلف الزمان ليأتين بمثله *** حنثت يمينك يا زمان فكفر

وقد صرّح رضي الله عنه بهذا الظهور في أول تصدّره للإرشاد في بعض كلامه، يشير إلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشرّه بذلك، فقال: 

بشرني بدر البدور ** بالنصر مع الظهور ** محبنا في سرور ** محفوفا بلطف الله
والله لقد قال         ** بأفصح المقال        ** نصرناك في الملا ** أنت في أمان الله 

فبلغت هذه الدعوة بعض الناس وقالوا له: إنّها دعوة تحتاج إلى بيّنة، فقال له الأستاذ: كفاها من بينة لأنّي قلتها، والحالة كما تراني في غاية القلّة من الأتباع والمستقبل كشّاف، وسيشهد بصدقها إن شاء الله، فجاءت هذه البشارة حسبما أخبر به فلم تمر مدّة حتّى انتشرت طريقته في القرى والأمصار، وتداولت مؤلفاته في الأقطار، ولهجت بذكره الكبار والصغار، وكثر أتباعه وما من محل إلاّ وتجد فيه من يدلّ على الله من أهل هذه الطريق ممن أذن لهم الأستاذ في التلقين فقلّما تخلو منهم ناحية إلاّ ويعلم الله ما في المستقبل، فسبحان من أيده بروح قدسه وأسبل عليه من بهاء ستره ولطائف أنسه حلّة الرضا والقبول .

إنّ كلّ شيخ دعا لله سبحانه وتعالى على الوجه الخاص إمّا بطريق الاستقلال، أو بالمتابعة إلاّ وسنده محقّق الاتصال بالحضرة المحمديّة من حيث التلقين، وأخذ العهد إذ ذلك شرط لازم في الدلالة على الله، لترتبط قلوب المريدين به وبالمشايخ إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ليحصل الأخذ عنه على خطه من النور النبويّ الساري الممتد من المركز العالي الواصل طرفه لذلك الأستاذ، فيأخذ من تلك الأضواء المنبعثة أشعتها النافذة على سطح ذلك السلك المملوء مصابيح قدر زجاجة قلبه وصفاء لبّه، فإنّ ذلك شبيه بالسلك الكهربائيّ فمن مسكت زجاجته به، واتصلت بالمحبّة والانقياد سرى فيه من ذلك النور بقدر ما له من الاستعداد وهذا هو سرّ ارتباط المريد بشيخه، وليعتبر النقطة التي هو مركوز فيها إذ الكلّ غائب عن بصره زيادة عن النور الساري فيه منها إذ لا يتأتى ذلك له إلاّ بواسطتها، وليعتبرها غاية الاعتبار أن كانت النقطة على ما هي عليه وحصل النفع بعد ارتباطه بها وإلاّ فحكمه كمن لم يرتبط، وما زال في قيد الحجاب في الظلمات إذ ما بويعت المشايخ إلاّ لأجل حصول المقصود الذي حقّ أن تلتفت إليه الأنظار، وتنفق في طلبه الأعمار، وعليه فإن حصل الآخذ لذلك على النتيجة المطلوبة والضالة المنشودة بعد جده واجتهاده في طريق الله بما أمر. 


المصدر: من  كتاب الدرّة البهيّة في أوراد الطائفة العلاوية لجامعه الشيخ عدّة بن تونس رضي الله عنه.

تعليقات