ذكرياتي عن الشيخ العلاوي - طبيبه الخاص الدكتور مارسيل كاري 1942

http://fr.calameo.com/read/004167944df7b4e46d75d
هذه المذكرات تعكس رؤية رجل غربي (وكفرنسي مستعمر من المفروض أن يكون غير موضوعي) ولكنه للحقيقي كان غير ذلك تمامآ فهو رجل موضوعي ومتسامح وإيجابي النزعة عمومآ حيال الأخرين; على خلق رفيع ودمث الطباع بما يليق بأخلاق هذه المهنة الإنسانية (ألا وهي الطب). ولكنه في نفس الوقت كان شخصآ مؤمنآ بالله على طريقته; فبالرغم أنه ولد في بيئة مسيحية إلا أنه لا يؤمن بتعاليمها ولا مفاهيمها وتصوراتها وطقوسها وعباداتها (المختلطة بالوثنية حسب تعبيره هو نفسه في هذه المذكرات), وإكتفى من نظرته للكون بعقيدة تؤمن  بالقوة  العليا المطلقة المتمثلة بالله الخالق العظيم وتكفر بكل ما دخل على  العقائد  من تشويه ونزعات أنانية بشرية.

مارسيل كاري طبيب فرنسي فتح عيادته بحي تيجديت لمعالجة المسلمين، وكان له القبول الحسن فيه حتى استدعاه الشيخ للتعرف إليه، ولعلاجه، وكان ذلك بداية صداقة امتدت حتى وفاة الشيخ، حيث أصبح وزوجته من المقربين له ولأهله فضلا عن كونه طبيبه الخاص، ومن أحباب الطريق حين أيقن أنه ليس دجالا ولا مخادعا، واستمر في صحبته حتى توفي الشيخ عام 1934, لكن الشيخ عدة بن تونس يذكر بأنه كان يزور الشيخ ابن عليوة ويجاذبه المذاكرة في الأمور الدينية، وأن الأستاذ كان يلاطفه ويذكره حتى تمكنت محبة الإسلام من قلبه فنطق بالشهادتين هو وزوجته. لكن الطبيب ينفي إسلامه، بعد وفاة الشيخ انتقل إلى المغرب الأقصى وأصبح الرئيس الشرفي لجمعية أحباب الإسلام التي أنشأها الشيخ عدة بن تونس بعد الحرب العالمية الثانية. وقد ذكر برك أن ابن عليوة كان عند بداية دعوته مشبوها لدى الإدارة الاستعمارية، ففرضت عليه رقابة مخبريها. ولعل الدكتور مارسيل كان أحد المدسوسين عليه من قبل إدارة الشؤون الأهلية والمخابرات الفرنسية إلى أن أصبح محل ثقته ومن خواصه. و وما دام الشيخ معتل الصحة ومرضه مزمنا فمن عساه يكون أقرب للمريض من طبيبه؟

مقدمة

من إنصاف المرء الاعتراف بمزايا الرجال وخصالهم خاصة عندما يتعلق الأمر بكتابة نص تاريخي أو التعرض لدراسة شخصية ما, فإنه يصبح ساعتها أمام الأمر الواقع الذي لا محيد عنه, ويكون كذلك مطلوبا باستحضار أمانة النقل والتعرض للأحداث مهما كلفه ذلك, ولو كان الأمر على حساب عواطفه وميوله الشخصي.

ولكم عانت الأمم قاطبة من الفتن المذهبية وصراعاتها التعصبية التي أدت بها إلى الدمار, تلك الفتن التي كانت من صنع بشر نسبوا أنفسهم إلى العلم وهو منهم براء, ‏فراحوا يعلنون الحرب على كل من خالفهم وعارض تفكيرهم وكفى بالتاريخ شاهدا لمن كانت العصبية المذهبية سببا في نهايتهم.

ورجل كالشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي رضي الله عنه, الذي يستعرض الكاتب لمحة من حياته بكل أمانة وصدق, عاش للسلام حتى جعله غاية في طريقه, وكان من ضمن ما قاله للدكتور (مارسيل كاري) عن تلامذته أنهم (يلتمسون طريقهم إلى السلام الباطني) لتصفى سرائرهم من كل غل أو ضغينة اتجاه أي كان.

فالشيخ العلاوي كان يدرك بكل وعي مدى خطورة التعصب ‏المذهبي, والكاتب نفسه لما يتكلم عن الشيخ في عرض سرد حياته, تجد أن الشيء الوحيد الذي وقف أمامه مشدوها هو ذلك التسامح الناذر الذي كان يتحلى به الشيخ, فلم يدر في خلده البتة أن يعارض أحدا مهما كان مذهبه بل كان يبدي رأيه ولا يجادل إلا بالحسنى ‏عاملا بقوله تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

"وكان فهمه للإسلام يتميز بنفس التسامح واتساع الأفق ولم يكن يصر إلا على ما هو جوهري منه". ‏وأن كل من جالسه أو تحدث معه إلا ويجد فيه من الليونة وحسن الحوار وودية التبادل في الآراء ما لا يتصور في الذهن

وصاحب هذا الكتاب الدكتور (مارسيل كاري) ليعتبر بحق أصدق وأعدل شاهد يعرب بكل أمانة عن شخصية الشيخ العلاوي الفذة, خاصة وأنه ليس من أتباع الشيخ ولا ممن يتبع مذهبه, بل كل ما في الأمر أنه كان الطبيب المحبب لدى الشيخ العلاوي لما كان يتحلى به من التواضع وخفض الجناح بعيدا كل البعد عن الأنفة والكبرياء اللذان يميزانه عن كثير من الأوروبيين, خاصة تعاطفه الجياش تجاه المسلمين, الشيء الذي أدى به إلى فتح عيادة طبية بحي تجديت بمستغانم تتناسب والتقاليد الإسلامية الجزائرية حيث يقول: "ولهذا, فإن عيادتي التي أنشأتها بينهم وعملت على أن توافق هواهم وعاداتهم لاقت نجاحا ملحوظا ترامت أصداؤه إلى أذني الشيخ..."

في وقت كان هذا الدكتور يجهل حتى مجرد وجود الشيخ على حد تعبيره, وما ذلك إلا لأن الشيخ العلاوي رضي الله عنه كان قليل الشهرة إن لم نقل عدمِها عند فرنسا, لأنه لم يكن يخدم مصالحها ولا يتودد لها. ‏فالشيخ رضي الله عنه كان يمقت كل المقت السياسة والتدخل في شؤونها, وهذا مذهب أهل الله.

فالكاتب إذا كتب بكل نزاهة بعيدا عن النزاعات العاطفية والأغراض الشخصية, وأن تجد إنسانا يكتب بهذه النزاهة والموضوعية فهذا من الناذر بمكان, ‏ولنترك الحكم للقارئ الكريم ليقول كلمة المنصف الصادق فإنه ليس من رأى كمن سمع. 

ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من أولائك العاملين بمقتضى قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)strong>"


ذكريات الدكتور مارسيل كاري

تقابلت مع الشيخ العلاوي لأول مرة في ربيع عام 1920 ميلادية الموافق لـ 1338 هجرية, ولم يكن لقائي به لقاءاً ‏عارضا, فقد دعيت إلى حضرته ‏بصفتي طبيبا معالجاً. وكنت حينئذ قد بدأت قبل ذلك بشهور قليلة في مزاولة مهنة الطب في مستغانم.

ترى, أي شيء أوعز ‏للشيخ باستشارة طبيب وهو الذي قلما علق أهمية تذكر على بلايا الجسد التافهة ؟ ولِمَا اختارني أنا بالذات, وأنا النازح الغريب من بين الكثيرين ؟

ولقد عرفت الإجابة على أسئلتي هذه منه شخصيا في حينها, بعد فترة قصيرة من وصولي إلي مستغانم. و كنت قد أقمت عيادة في حي تجديت العربي وجعلتها وقفا على المسلمين دون غيرهم, حيث كنت أقدم استشاراتي الطبية نظير أجر زهيد خلال ثلاثة أيام كل أسبوع. فالمسلمون يشعرون باشمئزاز غريزي لكل مستوصف تشرف عليه الدولة الفرنسية, ولهذا فإن عيادتي التي أنشأتها بينهم, وعملت على آن توافق نفسيتهم وعاداتهم, لاقت نجاحا ملحوظا ترامت أصداؤه إلى أذني الشيخ.

واستلفتت انتباه الشيخ تلك البادرة التي بدرت عن طبيب فرنسي حديث النزوح, يختلف على ما يبدو عن معظم الأوربيين, لأنه لم يكن ينظر إلى المسلمين من علياء كبريائه بعين الاحتقار.

وتطوع مريدو الشيخ ومريديه بإخباره بدون علم مني, وبلا أدنى محاولة من جانبه, لتقصي الحقيقة عن مظهري وأعمالي وحركاتي, وطريقتي في معالجة المرضى, وموقفي المتعاطف مع المسلمين. وكان نتيجة ذلك أن أحاط الشيخ علما بكل شيء عني في الوقت الذي كنت أنا أجهل فيه حتى مجرد وجوده, ولقد استقر قراره على أن يرسل في طلبي إثر تعرضه لنوبة أنفلونزا حادة في ربيع 1920 ميلادية الموافق لـ 1338 هجرية.

ومنذ أول لقائي به داخلني شعور بأنّي في حضرة شخصيّة غير عاديّة. كانت الحجرةْ التي أُدْخِلْتُ إليها, مثل غيرها من الحُجُرَاتِ في بُيُوتِ المسلمين, عاريةً من الأثاث ولم يكن بها سوى صندوقين (عَرَفْتُ فيما بعدْ أنهما كانا يحويان كتباً و مخطوطات). والأرضية كانت مغطاةً بالسجَّاد والحصائر وفي ركن من الحجرة جلس الشيخ على سريرٍ مفروش على الأرضِ مباشرةً مستندا بظهره إلى بعض المساند معتدلا في جلسته متربعا, وقد ألقى يديه على ركبتيه, كان في جلسته ساكنا سكون القديسين لأبعد الحدود ولكن ينتابنا شعور أنها جلسة طبيعية.

أول ما راعني فيه هو ‏‏وجه الشبه بينه وبين المسيح حسب ما اعتدنا رؤيته على اللوحات التعبيرية. فملابسه قريبة الشبه إن لم تكن مطابقة تماما لتلك التي لا بد وان المسيح اعتاد أن يرتديها, وذك الغطاء الأبيض من النسيج الدقيق جدا الذي وضعه على رأسه والذي يكتنف وجهه, منظره بوجه عام وكل شيء فيه كان يتمر على دعم هذا الشبه وإظهار هذا التطابق. وخطر لي أن المسيح لا بد أنه كان كذلك وهو يستقبل تلامذته فترة إقامته عند مارتا ومريم العذراء.

وأوقفتني الدهشة والحيرة للحظة عند عتبة الدار, كما أنّه هو بدوره ثَبَّتَ بصره على وجهي, ولكن في نظرة تائهة, ثمّ بتر السكون بدعوته لي بالدخول, مستخدما كلمات الترحيب المعتادة.

وكان سيدي محمد ("بن برنو" ابن أخته) يعمل مترجما له, ذلك لأن الشيخ على الرغم من فهمه وإتقانه الجيد للفرنسية, كان يجد بعض الصعوبة في التحدث بها, بل كان يتظاهر بجهله التام لها في حضرة الغرباء. وطلبت منه خفا لأغطي به حذائي حتى لا أدنس السجَّاد والحصائر, ولكنه أجاب بأن هذا ليس ضروريا البتة, وأحضر لي كرسيّا لأجلس عليه. ونظرا أن هذا بدا غريبا, بل مضحكا في الظروف المحيطة, فقد رفضته مفضلا الجلوس على أحد المساند, فتبسّم الشيخ في خفية, وشعرت بهذا أنّي قد استحوذت على عطفه ورضاه بهذه أللفتة البسيطة.<br />‏كان الشيخ رقيق الصوت, رنته منخفضة, لا يتكلم إلا قليلا, وفي جُمَلٍ قصيرة, وكان كلّ من حوله يصغون إليه في هدوء, وكانوا رهن كلمة منه أو إشارة. وأحسست حينها أنّه محاطا بأعمق آيات التبجيل.

ونظرا لعلمي بعادات المسلمين وأحوالهم, و‏إدراكي الكامل بأني أتعامل مع شخصية غير عادية, فإنني حرصت على عدم الدخول مباشرة في الموضوع الذي استدعيت لأجله. وتركته يسألني بواسطة (سيدي محمد) عن إقامتي بمستغانم, وعن السبب الذي من أجله نزحت إلى هناك, ‏وعن المصاعب التي صادفتني, وعن مدى ارتياحي لما وصلت إليه أموري. ‏في هذه الأثناء, أحضر أحد التلاميذ صينية كبيرة من النحاس عليها بعض الكعك والشاي تنبعث منه رائحة النعناع, ولم يتناول الشيخ شيئا بل دعاني إلى شرب الشاي ثم نطق بالبسملة نيابة عني عندما هممت برفع الفنجان إلى شفتي.

ولم يبادر الشيخ أن يتحدث معي في شأن صحته إلا بعد انتهاء ‏مراسم الاستضافة, ثم أخبرني بأنه لم يرسل في طلبي لأصف له دواء لحالته كما قيل لي, سوف يتناول بكل تأكيد الدواء لو أنني رأيت أن ذلك ضروريا ومفيدا, وحتى لو اعتقدت أن هذا سوف يعمل على تحسين صحته. ولكنه لم تكن له أيه رغبة قوية في هذا. كان يريد أن يعرف بكل بساطة ما إذا كان ذلك المرض الذي ألَّم به منذ أيام قليلة مرض خطير من عدمه. وقد اعتمد علي في أن أصارحه وألا اخفي عنه أي شيء فيما يتعلق بحالته,أما ما عدا ذلك فقد كان في نظر الشيخ قليل الأهمية أو معدومها.

وازداد لذلك شغفي واهتمامي بالشيخ, أن يوجد مريض لم يفتنه العلاج والتطبيب, فهذا أمر نادر حقا, ولكن أن يوجد مريض لا يشعر برغبة ذاتيّة في تحسين حالته, وكلّ ما يريده هو أن يعرف موقفه من المرض ليس إلاّ, فهذا ما يفوق في ندرته أي شيء آخر.

وشرعت في فحص مريضي بدقة, بينما هو مستسلم لفحصي بقناعة بالغة. وكانت ثقته تزداد فيّ كلّما ازددت دقّة ووعي في فحصه. كان نحيفا للغاية بدرجة تحمل على الظن أن الحياة في كيانه الواهن كآلة تعمل بسرعة بطيئة, على أنه لم يكن هناك ‏خطرا شديدا عليه.

الشخص الوحيد الذي حضر عملية الفحص هو (سيدي محمد) الذي وقف وسط الحجرة وقد أولانا ظهره ونكس رأسه في أسى واحترام, لا يرى شيئا مما يحدث, وكان يترجم لي الأسئلة والأجوبة.

وبعد أن فرغت من الكشف عليه, عاد الشيخ إلى جلسته السابقة, وتمّ إحضار المزيد من الشاي. ‏ثمّ أوضحت للشيخ أنّه مصاب بنوبة أنفلونزا حادة نسبيا, ولكن ليس هنالك خطرا عليه, وأنّ أعضاءه الرئيسيّة تعمل بانتظام, وأنه من ‏المحتمل أن تتلاشى كل متاعبه تلقائيا في غضون أيام قليلة على الرغم من توقع حدوث مضاعفات له, إلا إن إمكان حدوث هذه المضاعفات في مثل حالته يستوجب مراقبة المرض عن قرب, وأنّه يتعين عليّ أن أمر عليه ثانية من باب الحيطة.

ثمّ أعقبت مبديا رأيي في أنّ نحافته أمر يدعو إلى الانزعاج, مقترحا عليه أن يضيف كميّة الأكل التي اعتاد تناولها كلّ يوم. وكنت قد عرفت قبل ذلك أنّ غذاءه اليوميّ لم يكن يتعدّى لترا من اللبن وبَعْضَ حَبَّاتِ الثَمْرِ الجَّاف مع قطعة أو قطعتين من الموز ‏وقليلا من الشاي. 

وأبدى الشيخ ارتياحه لنتيجة فحصي, وشكرني بوقار, معتذرا عما سببه لي من متاعب. وأخبرني أنّه يمكن لي زيارته مرّة أخرى في أي وقت شئت, ومتى وجدت ضرورة لذلك. أمّا فيما يتعلق بطعامه فإنّ وجهة نظره في هذا الأمر كانت تختلف عن وجهة نظري, ذلك أنه كان يعتبر الأكل إلزاما وتكليفا, وكان يسعى جاهدا إلى خفض ما يتناوله من طعام إلى أقل قدر ممكن.

(إضافة على حاشية الكتاب): يقول ابن عبد الباري الحسني وهو أحد مريدو الشيخ, أنه سأله ذات مرة: لما لا يأكل سوى هذا القدر الضئيل من الطعام ؟ فأجابه الشيخ : إن ذلك مما نجده في نفسي من عدم الدعاية للأكل وليس هو عن تزهد مني كما يظنه بعض الفقراء, وإن كان لا يعجبني التحكم الشره لأتباعنا واستثنائهم بتلوين الأطعمة وما هو على هذا القبيل. (الشهائد صفحة 611 ‏هامش رقم 2).

وأوضحت له أنه إن لم يأكل القدر الكافي من الطعام فإنه سيشهد ضعفا متزايدا, وستقل تبعا لذلك مناعته ضد الأمراض. وبما أنني كنت أعرف سلفا أنه قلما علق أهمية تذكر على مثل هذه الأمور, فقد أفصحت له إن أراد أن العيش طويلا أو على الأقل المحافظة على رمق نفسه, فإنه يتعين عليه أن يحني هامته لمطالب الطبيعة مهما بلغت مضايقاتها.

ورجحت أن كلامي هذا أثر فيه تأثيرا كبيرا, ذلك أنه ظل صامتا لفترة من الوقت, ثم لوَّح بيده معتصما من الموقف وقال بابتسامة لطيفة: "الله يسهل".

ثم اعتدل الشيخ في جلسته وأخذ نفس الجلسة عند أول دخولي, تشع من عينيه نفس النظرة الحالمة. انسحبت بانتباه حاملا انطباعاتي التي لم تزل محفوظة في ذاكرتي, رغم مرور عشرين عاما وكأنه حدث بالأمس.

أفضت في شرح تفاصيل زيارتي هذه للشيخ, لأنني أعتقد يقيناً أن الطريقة المثلى لإبراز شخصيته هي أن أبدأ بنقل انطباعاتي عنه عند أول لقائي به. وإن ما يجعل انطباعاتي هذه جديرة بالاعتماد هو أنني لم ألم بشيء البتة عن الشيخ قبل هذه المرة.

وحاولت من جهتي أن أعرف شيئا من أمر هذا الشخص العجيب, ولكن لا أحدا (من الفرنسيين) لم يستطع أن يخبرني بشيء على وجه الخصوص, فالأوروبيون في شمال إفريقيا يجهلون جهلا تاما مدى تأثير الإسلام على أهله بدرجة تجعلهم ينظرون إلى كل شيخ تربية أو ولي صالح على أنه مشعوذ لا وزن له ولا أهمية إلا بقدر ما يمكن أن يكون له من نفوذ سياسي. ولما كان شيخنا هذا لا يتمتع بهذا النفوذ المذكور, تراهم وقد باتوا على جهل تام بأمره.

وفضلا عن ذلك, فإنني بدأت, بعد أن فكرت في الأمر ملياً, وتساءلت حينها ما إذا كنت ضحية خيالي, فذاك الوجه المسيحي ونغمة صوته الهادئة واللطيفة ‏وأخلاقه الكريمة, يمكن أنها مارست علي تأثيرا ايجابيا, ‏سمحت لي مناسبة افتراض روحانية ربما لم تكن موجودة...."

ربما كانت جلسته تلك عن طوع إرادته مخضعة لتدبير ما, ‏وتحت هذا المظهر الذي يبدو وكأنه يحجب شيئا معين أو ربما ليس هناك أي شيء. ‏ولكن بالمقابل ظهر لي في غاية البساطة ‏والطبيعية بحيث تمادى أول انطباعي والذي تأكد لي بعد ذلك.

ذهبت لأعوده في اليوم التالي ولمدة أيام أخرى إلى أن شفي من مرضه. وفي كل زيارة أقوم بها, أجده كسابق عهدي به ساكنا على الجلسة ذاتها وفي نفس المكان, ولم تهجره نظراته الحالمة, ولا تلك الابتسامة الباهتة على شفتيه. بدا لي وكأنه لم يتحرك ولو شبرا واحدا من ذلك الموضع الذي تركته عليه في اليوم السابق, كان كالنصب الذي لا يلقي بالاً إلى الزمن الذي يمر من حوله.

ومع كلّ زيارة لي, كان يزيد في الترحيب بي, وازدادت مع ذلك ثقته بي. وعلى الرغم من أن حديثي معه كان محدودا وعاما في موضوعاته ذلك إذا ما استثنينا الاستفسارات الطبية. ثم إن قناعتي تزايدت مع مرور الأيام في أن هذا الرجل الذي أراه  أمامي ليس بدجال أو مخادع.

وسرعان ما ربطت بيننا أواصر الصداقة حتى أنّني عندما أعلمته أنّ زياراتي له كطبيب لم تعد ضروريّة البتّة, أجابني بأنّه سعيد بمعرفتي, وأنّه سيكون من دواعي سروره أن أمرّ عليه من وقت لآخر, ومتى سمحت لي الفرصة لذلك.

وكان هذه فاتحة صداقة بيننا امتدت حتى وفاة الشيخ في عام 1934 ميلادية الموافق لـ 1353 هجرية, حيث كنت أراه مرة في كل أسبوع على الأقل طيلة أربعة عشر عاماً. وأحياناً كثيرةً كنت أذهب إليه لأنعم بالحديث معه, وأحيانا أخرى كان يرسل في طلبي لأفحص أحد أفراد أسرته. ‏ولكنني في أغلب الأحيان كنت أذهب إليه لأن حالته الصحية الموعزة كانت تتطلب حاجة دائمة لرعايتي.

وشيئا فشيئا أصبحت أنا وزوجتي من المقربين إليه ومن أسرته. وبعد فترة انتهى بهم الأمر إلى اعتبارنا من أفراد العائلة على أن هذا تمّ بالتدريج وبطريقة لا تكاد تلاحظ.

لما قابلت الشيخ أول مرة, لم تكن الزاوية الحالية قد ‏شُيِّدَتْ بعد, حيث قامت جماعة من مريديه بشراء الأرض وقدمتها هدية إلى الشيخ. كما أن الأساس كان قد تم وضعه, إلا أن ما وقع عام 1914 ميلادية الموافق لـ 1332 هجرية من اضطرابات, أوقف العمل بالمشروع إلى أن استأنف مرة أخرى عام  1920 ميلادية الموافق لـ 1338 هجرية.

أما الطريقة التي بنيت بها الزاوية المذكورة فهي طريقة بليغة وذات دلالة, حيث لم يكن هناك مهندس معماري بالمعنى العادي للكلمة أو ‏رئيس بنائين, وجميع العمال كانوا من المريدين المتطوعين. وكان الشيخ نفسه هو المهندس والمشرف على المشروع, ولا يعنى هذا أنه وضع تصميما أو عالج ذلك بالرسم الهندسي. كان يكفي أن يعبر ببساطة عما يريد ليعي البناءون مراده.

ولم يكن جميع هؤلاء من أبناء المنطقة, فقد وفد الكثيرون منهم من مراكش ومن منطقة الريف بالمغرب, بينما أتى البعض الآخر من تونس. جميعهم أتوا بمحض اختيارهم, قد كان يكفي أن تتطاير الأنباء عن قرب استئناف العمل في الزاوية ليبدأ مريدو الشيخ في شمال إفريقيا زحفهم على دفعات, بعضها من البنائين والبعض الآخر من النجارين وغيرهم من قطاع الحجارة وعمال التراحيل, إلى غير هؤلاء.... وقد حمل كل منهم بعض الزاد في منديله وسلك طريقه إلى تلك البلدة البعيدة حيث يعيش شيخه ليضع تحت تصرفه عمل يديه. ولم يكن هؤلاء ليقبلوا أجرا على عملهم, كل ما في الأمر أنهم كانوا يقيمون في خيام أعدت لهم والطعامُ مَكْفُولٌ لهم كذلك. ثم إن الشيخ كان يجمعهم مع حلول المساء, ولمدة ساعة قبل صلاة العشاء فيلقنهم تعاليمه الروحية, فكان ذلك لهم خير جزاء على عملهم.

وكان عملهم لمدة شهرين وفي بعض الأحيان لثلاثة أشهر, ثم يعودون إلى ديارهم فرحين بما أسهموا به من جهد في هذا المشروع, فرحين بما اكتسبوه من سكينة وإيمان متزايد. ثم تأتي جماعة أخرى لتأخذ مكانهم ويرحلوا بدورهم هم الآخرين وتحل محلهم جماعة أخرى تحترق شوقا إلى العمل وهكذا.... ولم ينقطع سيل المتطوعين, حيث لم يواجه المشروع أي نقص في الأيدي العاملة. واستمر الحال على هذا المنوال لمدة عامين, تم بنهايتهما ذلك البنيان الشامخ.

ومما أظهره هؤلاء الأشخاص من تفان جَلِّيٍ وَبَسِيطٍ في آنٍ واحدٍ, قد كان سبب الفضل فيما شعروا به من سعادة باطنية عامرة. من الواضح أن العالم لم يزل به بعض المخلصين من هم على استعداد لأن يضحوا بكل عزيز لديهم من أَجْلِ مَثَلٍ أعلى يَنْشُدُونَهْ. فقد شهد النصف الأول من القرن العشرين فورة حماسة دينية كتلك التي أقامت كاتدرائيات العصور الوسطى, فمما لا شك فيه أن بناءها كان قد جرى على نفس النمط, وكنت شخصيا سعيدا جدا أن أكون شاهد عيان, مبهورا بكل ما حدث.

يخطر ببالي أن في الوقت الحاضر, ولو في أوطاننا, حيث الأنانية مهيمنة, يوجد أشخاص مجهولين ذوي إرادة حسنة, هم على استعداد ليقدموا أنفسهم للتضحية إذا لزم الأمر إلى من هو على استعداد لتربية أنفسهم وإشراق قلوبهم بالأنوار القُدْسِيَّة ويدفعهم, على حسب هِمَّتِهِمْ, إلى غايتهم المنشودة أو على الأقل الاستمتاع بإلهامات رحمانية.

هذه الفكرة هي التي ربطتني بالإنسانية مع تقديري الضعيف لها, غير أن التاريخ بَيَّنَ لنا, ومهما كانت بوادر الروحانية معتبرة ‏ولها روعتها وجمالها, لها أيضا انحرافاتها وأخطارها, وإذا كان ما هو غير مضر ويعود بالنفع يكون أيضا ما هو مصدر مصائب ‏حقيقية, وعلى كل حال, فالأمر متعلق بصاحب الأمر إذا كان حكيما وحقيقيا بكل معنى الكلمة فلا ينتج إلا الخير, ولكن من الممكن أن يكون أيضا هو الدجال بنفسه.

ولما انتهى العمل بالزاوية, أبدى الفقراء رغبتهم في إقامة حفل كبير بمناسبة افتتاحها, فوافق الشيخ بعد أن شعر بأنه لاَ بُدَّ مِنْهْ.

وكنت حينئذ قد عرفت الشيخ بما يكفي لأن أصارحه برأيي في أعماله, فأبديت دهشتي لموافقته على إقامة هذا الاحتفال الذي لا يليق بعادته ولا يتفق وما عرف من ميل إلى العزلة وإنكار الذات.

وكان قد استغنى عن استعمال ابن أخيه كمترجم في محادثتنا الخاصة, ومع ذلك كان سيدي محمد في متناول يده بصفة تكاد تكون دائمة عند اجتماعنا. وكنا نتحدث عادة بالفرنسية, ولم يكن سيدي محمد ليتدخل إلا إذا وجد الشيخ نفسه عاجزا عن إبداء رأي معين له باللغة المذكورة.

وعندما عبرت له عن دهشتي من موافقته للحفل, هز كتفيه هزة خفيفة وقال كلاما بهذا المعنى (لست أجدني الآن قادرا ‏على تذكر كلماته بالحرف الواحد) :

- "أنت محق فيما تفكر فيه, فهذه أشياء تافهة لا لزوم لها. ولكن يجب على المرء أن يتقبل الناس كما هم, فليس كل إنسان قادر على أن يجد منعته وسلواه في التأمل والعقل الخالص, فهؤلاء إلى حاجة من آن لآخر ليجتمعوا مع غيرهم حتى ينتابهم الشعور بأن هناك ‏آخرين غيرهم يشاركونهم أفكارهم, وهذا هو كل مطلبهم  في الوقت الحاضر. هذا فضلا عن أن احتفالهم يختلف عن غيره من احتفالات المسلمين الأخرى التي لا بد وأنك قد شاهدت بعضا منها, حيث تطلق الأعيرة النارية وتستعرض ركوب الخيل إلى غير ذلك من الألعاب المختلفة والموائد المتخمة... فتلامذتي يفهمون ‏العيد على أنه ابتهاج روحاني وهو بكل بساطة ليس إلا اجتماع لتبادل الأفكار وتأدية صلاة الجماعة."

وزال عني حينئذ شعور النشاز لما نظرت إلى فكرة العيد من هذه الزاوية. وإذا حكمنا على الاحتفال بعدد من حضره من مريدو ‏الشيخ, نجد أنه حقق نجاحا ملحوظا, فقد أتى هؤلاء جميعا من كل فج ومن طبقات اجتماعية مختلفة. وكنت قد توقعت, استنادا إلى ما سبق للشيخ أن أفضى به لي, أن يستغل المُتَفَقْيِهُونْ والمتحذلقون فرصة الاحتفال هذه ليخوضوا في مشاكل العقيدة العويصة ويستعرضوا قدراتهم على حل الألغاز والنكات.

ولقد اتضح لي صدق ظني عندما قام سيدي محمد بترجمة بعض المقتطفات من الخطب الافتتاحية خاصة تلك التي ألقاها مريدو الشيخ من الشباب, على أن هذا لم يكن أهم ما بالحفل, بل كان المسنون من مريديه, الذين لم ينبسوا ببنت شفة, بل أستغرقهم تأمل مهيب. وراعني على الأخص سكان المناطق الجبلية من أهل الريف, وهم أبسط مريدو الشيخ وأكثرهم تواضعا, هؤلاء الذين اقتضتهم مسيرتهم هذه شهرا كاملا يمشون على الأقدام, من نجع إلى نجع, تذكى جذوة حماسهم تلك الأشواق القلبية التي كانت تتأجج من مهجهم البسيطة. ‏رحلوا من ديارهم يحدوهم حماس شبيه (وإن لم يكن التشبيه في محله) بحماس تلك الطلائع الأولى الباحثة عن الذهب, إلا أنهم لم يهاجروا مثلهم بحتا عن مغانم زائلة, بل كان مطلبهم روحانيا, وكانوا على ثقة أنهم غير مخدوعين وأن مسعاهم لن يخيب. ولقد راقبتهم في سكونهم وصمتهم يتنفسون عبير الجو المحيط بهم وكأنهم غارقين في بحر الذات الإلهية لمجرد وجودهم في هذا المكان الذي تحتويهم قدسيته بعد أن تحقق مرادهم, وقفوا في حضرة الله وهم مستبشرين, راضين بقدرهم المحظوظ.

ومن جهة أخرى, وبعد ساعات من الصمت الرهيب, شرع مريدو الشيخ في إنشاد مطول لقصائد دينية. ثم بعد مدة من الزمن انقسموا إلى حلقات حيث مسك كل منهم بيد أخيه وبدؤوا في التمايل الأفقي ببطء إلى الأمام وإلى الخلف, مرددين مع كل حركة اسم (الله), وكان يصاحبهم في هذه الأثناء إيقاع بطيء نسبيا يصدر عن شخص يتوسط الحلقة يقوم بدور رئيسها, و كان صوته يعلو على كل من حوله, بينما يواصل بعضهم الإنشاد الذي يزداد علوا وقوة, فتزداد معه شيئا فشيئا سرعة الإيقاع التي يستحيل معها التمايل الأفقي البطيء إلى الإمام وإلى الخلف, فتتحول إلى حركة عمودية في شكل إطلال وتدني. وسرعان ما يأخذ كل من تجمعوا, في حلقة من حلقات الذكر هذه, في التنفس بصعوبة وتتحشرج أصواتهم, ‏ويجري الوقت بسرعة وتعنف حركاتهم من إطلال وتدني وتغدو عنيفة تشنجية ‏ويصير اسم (الهم) مجرد نفس يتردد في هاء الهوية. ‏ويستمر الرفع على هذا القدر من الشدة والعنف حتى يصير تنفسهم نفسا واحدا ثم شيئا فشيئا يكون غير مسموع بالمرة, وهنا يسقط بعضهم إلى الأرض في حالة إرهاق ظاهر.

ومن الجلي أن هذه التمرينات الشبيهة برقصات الدراويش المولوية, كان يقصد بها إحداث حالة روحانية معينة, ولكني عجبت للعلاقة التي يمكن أن تكون بين هده الحركات الخشنة البدائية وما عليه الشيخ من نبل ورقة.

ثمّ كيف طبقت شهرة الشيخ كلّ هذه الآفاق؟ فلم تكن هنالك دعاية منظمّة, كما إنّ مريدو الشيخ لم يحاولوا على الإطلاق تجنيد أشياع جدد له, وما يزال لهم إلى يومنا هذا في كل مدينة أو قرية عددا منهم في زواياهم الصغيرة المنعزلة والتي يشرف على كل منها مقدم أو مندوب أولاه الشيخ ثقته. وجميع هذه الجماعات المتآخية كانت تتحاشى كل نشاط خارجي, وكأنهم قد صمموا على ألا يدعوا غريبا يشاركهم أسرارهم, ‏ومع ذلك يزداد نفوذ الشيخ مع الأيام بقوة ويقبل مريدون من كلّ حدب وصوب يلتمسون الانضمام إلى الطريقة وأخذ العهد عن الشيخ.

وذات يوم تفوهت أمام الشيخ بما يعبّر عن دهشتي بكلّ هذا, فأجابني قائلا:

- "إنّ كلّ من يأتي إليّ هنا يشغله التفكير في الله."

ثمّ أردف مُعَقِّباً بكلماتٍ جديرةٍ بالإنجيل :

- "إنّهم يتلمسون طريقهم إلى السلام الباطني."

ولا أجرؤ على مناقشته في ذلك اليوم أكثر من هذا حتى لا أبدو متطفلا ثرثارا, على أني تحققت أن هناك ثمة علاقة ما بين ما قاله لي في ذلك الوقت وبين ما سبق أن سمعت من ابتهالات شُغِفْتُ بها.

كثيراً ما كنت أسمع في أثناء حديثي مع الشيخ لفظ الجلالة (الله) ينطلق من الخلوة وهي ركن منعزل في الزاوية في صوت طويل رنان....

- "اَلْـــــــــــلَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهْ...".

كلمة كصرخة اليائس وابتهال المجذوب, يطلقها أحد مريدو الشيخ من خلوته, غارق في تأملاته. صرخة تتجاوب أصداؤها لفترة, ثمّ يعمّ السكون.

وانهالت إلى ذاكرتي هذه الفقرات من مزامير داوود.

- من الأعماق, أناديك يا إلهي. ‏من الأصقاع السحيقة أناديك يا إلهي عندما يلمّ بي الكرب, فقدني إلى صخرة النجاة.

هكذا كانت ابتهالاتهم, صرخة تطلقها روح معذّبة إلى الله في عليائه.

ولم يحالفني الصواب فيما ذهبت إليه, ذلك لأنّي عندما سألت الشيخ عن معنى ما سمعناه أجابني قائلا:

- "هذا مريد يبتهل إلى الله أن يعينه في تأملاته."

- "وهل لي أن أعرف الغرض من تأملاته ؟"

- "لكي يفني ذاته في ذات الله."

- "وهل ينجح جميع تلامذتك في هذا ؟"

- "لا ! فنادرا ما ينجح واحد منهم في ذلك, إنّ هذا واقفٌ على القلّةِ النادرة."

- " وما مصير أولئك الذين فشلوا؟ ألا يصيبهم اليأس والقنوط ؟"

- " كلا ! إنّهم دائما يرقون إلى درجة من السموّ تكفي لأن ينعموا على الأقلّ بذلك السلام الباطني."

السلام الباطني... ‏تلك الكلمة التي غالبا ما كان يكررها, ويكمن فيها بلا شك سر نفاذ الأفكار والأوهام المتشعبة, فمن ذا الذي لا يطمع بطريقة أو بأخرى في ذلك السلام الباطني ؟ ‏وهذا أيضا يرتبط مع كلمة المسيح حيث قال لبطرس: "من ذا الذي يشغل بالك ؟" إشارة إلى الله تعالى.

وقد اعتاد الشيخ أن يستقبلني ما دام بصحة جيدة, ‏ما عاد في فصل الشتاء, في موضع شبيه بالشرفة يقع عند طرف حديقة صغيرة تحيط بها جدران مرتفعة تذكر المرء بتلك الرسومات التي تزخر بها المخطوطات الفارسية.

وهنالك وفي ذلك المكان الهادئ, بعيدا عن ضجيج الشارع, وبين خفيف أوراق الأشجار وأغاريد الطيور, كنّا نجلس لنتبادل الآراء تتخللها من وقت لآخر فترات طويلة من الصمت. ‏وكما يحدث بين الأشخاص الذين يفهم كل منهم الآخر وتربط بينهم أواصر المودة القوية, فإن كلينا لم يكن يهتم بما يستغرقنا من صمت, بل كانت تلزمه في بعض الأحيان ملاحظة معينة تستدعى التفكير والتأمل. هذا فضلا عن أن الشيخ لم يسرف قط في الكلام, وعليه, فإننا لم نشعر بحاجة إلى الكلام إلا ما إذا كان لدينا ما نود فعلا قوله.

واندهش الشيخ في بادئ الأمر لمعرفتي بالإسلام رغم ضآلتها, فقد كنت على علمٍ, على الأقل بمبادئ الإسلام وأركانه الأساسية. ‏كما أنني كنت على علمٍ, شيء ما, بحياة الرسول محمد وبتاريخ الخلفاء الأوائل في خطوطه العريضة. أضف إلى هذا أنني لم أكن جاهلاً جهلاً تاماً بأمر الكعبة وبئر زمزم وقت رحلة إسماعيل مع أمه هاجر إلى وادي مكة. وكل هذه الأمور بسيطة بالنسبة لي, إلا أن جهل الأوروبيين لها جعل الشيخ لا يخفي عني دهشته لمعرفتي بها.

وأدهشني بدوري ما كان عليه الشيخ من اتساع أفقه وتسامحه, وكنت سمعت من قبل ذلك أنّ جميع المسلمين متعصبين لا يبدو منهم إلاّ الاحتقار لكلّ أجنبيّ لا يدين بدينهم.

فقال لي الشيخ:

- "إنّ الله خصّ ثلاثة رسل بوصيّة هم: موسى, عيسى ومحمد, عليهم الصلاة والسلام."

واستنتج الشيخ من ذلك أنّ الإسلام أكملْ العقائد الثلاثة, لأنّ رسالته هي أحدث الرسالات, إلاّ أنّه أضاف قائلا :

- "إنّ المسيحيّة واليهوديّة أيضا ديانتان منزلتان."

وكان فهمه للإسلام يتميّز بنفس التسامح واتساع الأفق, ولم يكن يصر إلاّ على ما هو جوهريّ منه, وقد اعتاد أن يقول:

- "يكفي للمسلم الحقّ أن يتمسّك بخمس : أن يؤمن بالله, وأن يشهد أنّ محمدا خاتم رسله, وأن يؤدي فروض الصلوات الخمس, وأن يؤتي الزكاة, وأن يصوم شهر رمضان, وأن يحج إلى البيت بمكة".

وكنت أُقَدِّرُ على ‏وجه الخصوص في الشيخ عزوفه عن محاولة استمالة أو كسب أنصار جدد للإسلام. كنت ألقي إليه أسئلتي فيجيبني معبرا عن رأيه, غير أنه لم يكن يهتم كثيرا بما يمكن أن يكون لرأيه من تأثير علي. وليس فقط أنه لم يحاول أدنى محاولة أن يجعلني اعتنق الإسلام, بل أنّه ظلّ لفترة طويلة غير مكترث بالمرّة بأمر عقيدتي الدينيّة, وكان ‏هذا أيضا من مميزاته ا‏لخاصة. وقد اعتاد أن يعبّر عن رأيه في هذا الصدد فيقول:

- "إنّ من يحتاج إلي يسعى إليّ, فَلِمَ أحاول استمالة الآخرين ؟ إنّ هؤلاء لا يكترثون للقضايا الكبرى الجديرة باهتمامهم, بل تراهم ينصرفون عنها."

وهكذا لم ‏تختلف محادثاتنا كثيرا عن تلك الحوارات التي ‏يمكن أن تجري بين جارين من خلال سور يفصل بين حديقتيهما.

وَلَكِنْ حَدَثَ أَنّْ تَعَرَّضَتْ أرائي الخاصة للمناقشة ذات يوم, فدفعه هذا إلى أن يختبر محاوره قليلا. ربما فكر في هذا من قبل ولم يكن يعرف من أين يبدأ حديثه. وكان فقط يتحين الفرصة المتاحة.

وواتته الفرصة عندما بدأنا نتناقش ما أدخله الزنوج المسلمين من عادات إفريقية على الإسلام, فترى هؤلاء يسيرون في الشوارع  في أوقات معينة من السنة وأمامهم عجل توجوا هامته بالزهور ‏والشرائط الملونة, بينما تقرع من حولهم الطبول والدفوف ويصاحب موكبهم الرقص والمدائح وأصوات الصاج المصنوع من النحاس, وكنا في هذا الوقت ‏نعيش إحدى هذه المناسبات, وهناك ‏حيث جلسنا على الشرفة عند ذلك الطرف الهادئ من الحديقة, ترامت إلى مسامعنا أصوات بعيدة لأحد هذه المواكب.

ولا أدري لمَ عقدتُ مقارنة بين ‏هذه الاحتفالات وبين مثيلاتها عند المسيحيين الكاثوليك, وأضفت بأن هذا ليس إلا نوعاً من الوثنية تماماً, كما أ‏ن القربان المقدس ليس إلا نوعاً من الشعوذة, إلا إذا نظرنا للأمر من ناحية دلالته الرمزية. فقال الشيخ :

- "ولكنها رغم كل ذلك فهي ديانتك."

فأجبته : 

- "هذا صحيح إلى حدٍّ ما, فقد عمدت عندما كنت رضيعا ألقم ثدي والدتي, إلا أنه ليس هناك ‏ما يربطني بها بخلاف ذلك."

- "وما هي ديانتك إذاً ؟"

- "ليست لي ديانة."

وشمل المكان سكونا, أعقبه الشيخ بقوله : 

- "إن هذا لشيء غريب..."

- "وما وجه الغرابة فيه ؟" 

- "لأن أمثالك ممن لا دين لهم يتخذون موقفا عدائيا من كل الديانات, وأنت لا يبدو عليك هذا."

- "إنك على حق فيما تقوله, إلا أن هؤلاء لم يتخلوا عن إرثهم الديني المتعصب, فظلوا على ما ‏هم فيه من قلقٍ نفسِيٍ ولم يجدوا في فقدانهم لإيمانهم أي أ‏ثرٍ لذلك السلام الباطني الذي تتحدث عنه, بل ما حدث هو العكس." 

- "وأنت... هل وجدته ؟"

- "نعم وجدته, ذلك لأني تتبعت الأمور إلى أبعد غاياتها, كما أني أقدر كل شيء حق قدره وأعمل على أن أضعه في المكان اللائق به." 

فتفكر الشيخ لبعض الوقت ثم قال :

- "وهذا غريبٌ أيضاً." 

- "ماذا...؟" 

- "غريبٌ أن تصل إلى هذا المفهوم عن طريق آخر غير طريق العقيدة." 

- "أي عقيدة ؟"

بدرت عن الشيخ حركة غامضة استغرقته على إثرها حالة من التأمل المهيب, وأدركت عدم رغبته في إطالة الحديث, فانسحبت. 

وداخلني شعور منذ تلك اللحظة أن اهتمام الشيخ بأمري أخد يزداد. وحتى اللحظة المذكورة لم تكن صداقتنا تتعدى حدود الصداقة العارضة رغم ما كانت تتسم به علاقتنا من مودة وألفة. ‏فعلى الرغم من أنه كان يراني صاحبا جميل العشرة وأحبني لذلك, إلا أني بقيت مع ذلك أجنبيا متنائيا بعض الشيء. وكانت قد مرت سنين عدة قبل ذلك لم أكن فيها بالنسبة له سوى نديم وجليس عابر, لا يراهن عليه كذاك المسافر الذي يلتقي به المرء في رحلة ما, كرفيقَ سويعاتٍ يرضى بها أن يلازمه جزءا من الطريق لما عليه من أدب وكياسة, ثم ما يلبث أن ينساه بعد ذلك. ‏ثم بعد ذلك اتخذت محادثاتنا لنفسها طابعا مجردا.

وإني اليوم لأستشعر من كل قلبي الندم لعدم تدوين تلك الحوارات الرائعة لما كانت تزخر بمعان دقيقة ‏والتي أعترف الآن أنها كانت تصلح لأن تكون وثيقة أعتز بها كما يمكن أن يعتز بها غيري, غير أني في ذلك الوقت, لم أعلق عليها ‏تلك الأهمية التي اكتسبتها في ذاكرتي بمرور الوقت. ‏وعليه, فإني لن أستطيع أن أقدم سوى لمحات خاطفة من مقابلاتنا وأسلط الضوء على نقطة أو نقطتين تعلقت بذاكرتي مما جرى بيننا من حديث خلالها.

وفي أحيان كثيرة كان حوارنا يقتصر على بعض الملاحظات التي تتخللها فترات صمت طويل, وفي أحيان أخرى كان الحديث بيننا يقوم أساسا علي ما أقدمه من توضيحات من وجهة نظري بناءاً على طلب الشيخ الذي صار الآن هو من يوجه الأسئلة. ولم يكن بيننا أي جدال قط, لأن محادثاتنا لم تتخذ أي ‏طابع من المساجلات ‏التي يحاول كل طرف إقناع الآخر بصحة وجهة نطره, بل بالعكس, كان حديثنا ينطوي في تبادل الآراء والمشاركة فيها ليس إلَّا.

وهكذا, عرفت كيف أشرح له موقفي من الدين حيث قلت له: 

- "إنّه لمّا كان كلّ فرد منّا يقلقه لغز وجوده ومستقبله, فإنّنا نحاول, كلّ على طريقته, إيجاد التعليل الذي يرضينا ويريّح ضمائرنا, وإنّه ما دامت الأديان تقدّم لمعظم الناس حلا يرضيهم, فأي حقّ لي في إقلاق راحة هؤلاء الذين وجدوا في الدين تلك السكينة النفسية التي ينشدونها, هذا فضلا عن أنّه مهما اختلفت الوسائل, وتعدّدت الطرق فإنّ من ينشد هدوء البال من البشر, يجد نفسه مضطرا لأنّ يتخذ من عقيدة ما نقطة بداية له. حتى طريق العلم, وهو الطريق الذي سرت أنا فيه, نجده يقوم أساسا على عدد من الافتراضات, التي يعتبرها الناس من البديهيّات التي لا تقبل النقاش, هذا بالرغم من أنّ لا أحدا يستطيع في واقع الأمر وفي الوقت الحاضر إثبات صحتها, وأينما نظر الإنسان فثمّة عنصر من الإيمان, كبيراً كان أو صغيراً. الحقّ الوحيد هو ما يعتبره المرء حقاً, كلّ واحد منّا يسلك الطريق الذي يوافق هواه, فإذا وجد فيه بغيته, دلّ هذا على أنّ طريقه هو الطريق السوي له, والطرق كلّها متساوية."

وهنا استوقفني الشيخ قائلا :

- "لا, ليست جميعها متساوية"

لم أتفوه بكلمة, وانتظرت توضيحه الذي جاء فيه : 

 - "هي متساوية لو أنّك تقصد بذلك راحة النفس, إلاّ أنّ في ذلك درجات متباينة, فبعضهم يكفيه النذر البسيط, ليرتاح فؤاده, بينما يجد بعضهم الآخر في الدين ضالته, وهناك من يطلب أكثر من هذا, فلا يكفي أن ينعم براحة البال بل هناك تلك الراحة الكبرى التي يرافقها سكون الروح..."

- "وماذا عن الدين ؟"

- "إنّ الدين بالنسبة لهؤلاء ليس إلاّ نقطة البداية."

- "وهل يوجد ما هو فوق الدين ؟"

- "فوق الدين توجد العقيدة."

وكنت قد سمعته قبل ذلك يستعمل كثيراً كلمة (العقيدة), ولكنّني كنت كلّما سألته عن معناها يحجم عن الإجابة, فحاولت مرّة أخرى على استحياء, وسألته:

- "أي عقيدة ؟"

فرَّد عليَّ هذه المرّة, قائلا: 

- " إنّها وسيلة الوصول إلى ذات الله."

- "وما تلك الوسيلة ؟"

فغمرني بابتسامة تفيض بالشفقة فقال:

- "ولِمَ أخبرك ما دمت لا تميل إلى الاستفادة منها ؟ لو أنّك أتيت إليّ كواحد من مريدي لما بخلت عليك بالإجابة, ولكن أي فائدة ترجى من إشباع فُضُولَ كَسُولٍ لِلْمَعْرِفَة." 

واندهش الشيخ كثيرا لاستطاعتي أن أعيش في هدوء وسكينة استنادا منّي على أنّ نهايتي هي الفناء التام الذي لا بعث بعده, ذلك لأنه كان قد أدرك مدى إخلاصي. وشيئا فشيئا عندما كان يرجع إلى نفس الموضوع بين فترة وأخرى تمكنتُ من أن أُدْخِلَ    في روعه أنّ سكينتي مبعثها التواضع لا الكبرياء, وإنّ قلق الإنسان ينبع أساسا من رغبته في الخلود بعد الموت مهما كلفه ذلك من شطط, وأنّ السكينة لن توافينا إلاّ إذا تخلّصنا كليّا من هذه الرغبة في الخلود. وُجِدَ العالم قبلي, وسيبقى موجودا بعدي, ولم تكن ‏الحياة بالنسبة لي أكثر من تسلية, لا أعلم لِمَ وكيف دُعِيْتُ إليها, تسلية لم أدرك معناها, هذا لو كان لها فعلا أي معنى, على أن هذه التسلية لم تكن تخلو تماما من طرافة, وهذا هو السبب أنّي فضلت أن أوجّه بصري نحو الطبيعة بدلا من أن أوجهه شطر الأفكار المجرّدة, وعندما يصبح لزاما علي أن أهجر هذه التسلية فإني ‏سأفعل ذلك أ‏سفا لأني وجدت فيها ما يشوقني, ولكن هذا كله بلا شك سينتهي بضجري, هذا فضلا عن أني في جميع الحالات غير مخير, وماذا يهم لما تُدَّسُ نملة فالعالم يستمر في الحياة وكأن شيئا لم يحدث البتة.

فقال الشيخ : 

- "إنّ ما تقوله يصدق بلا شكّ على الجسد, ولكن ماذا عن الروح ؟"

- "حقا, هنالك الروح أيضا, التي هي وعينا أو إدراكنا لذاتنا, لكنّها لم تولد معنا,فقد نمت بنمو إحساساتنا الجسديّة, ونحن إنّما اكتسبناها على مراحل, وبالتدرج, تبعا لزيادة معرفتنا, نمت الروح مع الجسد, وكبرت معه, ونضجت بنضجه, فهي كمجموع الأفكار المكتسبة, ولطالما فشلتُ في أن أقنع نفسي أنّه يمكن لها أن تُعَمَّرَ بعد ذلك الجسد الذي تدين له بوجودها."

ومرّت فترة صمت طويلة خرج الشيخ على إثرها من تأملاته قائلا : 

- "هل تريد أن تعرف ما يُعْوِزُّكَ ؟"

- "نعم, ماذا ؟"

- "أن تصبح واحدا منا لترى الحقّ جلّ جلاله, أنت تُعْوِزُّكَ الرغبة في أن ترتفع بروحك إلى ما فوق مستوى ذاتك, وهذا ما لا يمكن علاجه بدون ذلك." 

وسألني ذات يوم بصراحة تامة:

- "هل تؤمن بالله ؟"

- "نعم....إذا كنت تعني بقولك هذا المبدأ المبهم الذي يتوقف عليه كل شيء والذي يضفي بلا شك على الوجود معناه."

وبدا عليه أنه اقتنع بإجابتي, فأردفت قائلا:

- "غير أن المبدأ المذكور بعيد المنال وصعب الإدراك, وإنه ليدهشني أن أجد كثيرا ممن يدعون التمسك بأهداب الدين بل ويعتقدون أنهم فعلا متدينون ويؤمنون بخلودهم في ذات الله, أراهم رغم كل هذا يُعَلِّقُونَ أهمية كبرى على وجودهم الدنيوي, فهم ليسوا منطقيين ولا صادقين مع أنفسهم. فلو أني وثقت من الحياة بعد الموت لَأَضْحَتْ هذه الحياة في نظري قَفْراٌ من كل ما يشدني إليها ولأصبحت غير عابئ بها بالمرة, أعيش بقية عمري أترقب الحياة الآخرة, ولكنت مثل مريديك, أكرس جل نفسي للتأمل."

ونظر إلي الشيخ برهة كأنه يقرأ أفكاري, ثم قابلت عيناه عيناي في نظرة نافذة تجاوزتهما إلى أعماقي وقال عَلَى مَهْلٍ :

- "من المؤسف حقاً أن لا تدع روحك تسمو إلى أعلى من ذاتك, ولكنك مهما قلت ومهما تخيلت, فأنت أقرب إلى الله مما تظن."

عندما نطق الشيخ بهذه الكلمات, كان يضرب في طريق الوفاة, فقد أنهكه ما قام به من حج لبيت الله الحرام, تلك الحجة التي كان يصر على تأديتها قبل وفاته والتي اتبعها بزيارة لفلسطين وسوريا. كان نحيفا للغاية ولكن عقله لم يزل نشيطا. 

وفي نفس الوقت توفي سيدي محمد (ابن أخته) الذي كان يشغل وظيفة المُقَدَّمْ, وخلفه في عمله صهره المتزوج من ابنة أخته, سيدي عدة بن تونس. كان الشيخ ينزله من نفسه منزلة كبرى من الحب والإعزاز. ‏ولم يخفي سيدي عدة قلقه عني, ومنه عرفت أن الشيخ أخد يُسَلِّمُ نفسه إلى حالات من التأمل, لم يكن يخرج منها إلا كرها, وأنه لا يأكل شيئا في واقع الأمر على الرغم من أني عنفت الشيخ واستعطفته, إلا إنه لم يزد إلى أن جاد علي بظل ابتسامة وقال برقة : 

- "وما الفائدة ؟ إن الساعة دانية."

ولم يكن عندي ما أجيب به عليه. 

وبدا الفقراء ينظرون إلي نظرةً خاصة, أدركت من خلالها أنهم يحاولون أن يستشفوا رأيي عن صحة الشيخ, وقليلا ما كنت أراهم في العادة, ‏ولكنهم كانوا على علم بأمري مما أظهره الشيخ حيالي من صداقة التي كان لها كل الفضل فيما خصصوني به من طيبة وحسن معاملة, ولكنهم ‏مع ذلك ظلوا متعالين بعض الشيء, والذي قارب بيننا, شعورهم بآن سَيِّدَهُمْ في خطرٍ مُحْدَقْ. وكنت أُطَمْئِنُهُمْ بابتسامة مني, فقد كنت على ثقة في واقع الأمر من أن الشيخ سيبقى متمسكا بالحياة ما دامت ‏به ذرة من قوة, ولا يعني هذا أنه كان على استعداد لأن يجتهد في سبيل استبقاءه على قيد الحياة, ولكنه عوَّد جسده على أن يقتنع بالقليل من الطعام, حتى أعضائه ظلت تعمل بسرعة منخفضة. وكنت أعرف أنه سيظل يعيش على ذلك النذر البسيط من القوة الجسمية التي ما كانت لتكفي أي إنسان آخر كل هذه المدة, وأنه سيعمل على أن يأتي على آخر نقطة من الزيت في مصباح حياته, ذلك المصباح الذي عمل على أن يمسي نوره خافقا حتى اسْتَحَالَ قَبَسًا مِنَ الضَوْءِ حِينَ تَلُّفُهُ ظُلْمَةُ اللَّيْلْ.

وكان الشيخ يعرف ذلك مثلي تماما, ‏ونادرا ما كان يُقَدِّمُنِي إلى أحد من مريديه إلا إذا كان أوروبيا, وكان هؤلاء في حقيقة الأمر يأتون لزيارة الشيخ من وقت لآخر, غير أن علاقتي بهم كانت محدودة. وبما أني كنت غريبا عن طريقتهم جاهلا بأسرارها, فإني لم أتحدت لغتهم المعنوية, وشعرت بأنه سيكون تطفلا مني أن أسألهم عما دفعهم إلى أخذ هذا الطريق. وكان من بين هؤلاء شخصيات مرموقة مثل ذلك الفنان الفرنسي المعروف (عبد الكريم غوستاف جوسو) الذي لم أتوقع أبدا أن أتعرف عليه بهذه المصادفة. ولما انضم الفنان المذكور إلى الطريقة اتخذ من لباس المسلمين ثيابا له, وقد لاق اللباس العربي عليه حتى أن المرء ليخطئ فيظنه شيخنا من شيوخ المسلمين. وقضى الفنان ثمانية أيام في الزاوية بصحبة عضو من ‏هيئة المحكمة بتونس (جعفر أوجين طيار) وسيدة (مريم سيرينو), وكلاهما كانا مثله من أبناء الطريقة ومحبوبين للغاية. <

وكان هناك إلى جانب هؤلاء أمريكي مفلس لا يعرف أحدا كيف وصل إلى مستغانم, أصابه المرض بعد فترة مجيئه وأُرْسِلَ إلى المستشفى ومنه أعيذَ إلى بلاده.

كان هنالك أيضا من المسلمين ممن لا ينتمون إلى الطريقة ويسألونني عن صحة الشيخ, فكنت أحضى إذًا بثقة كاملة عندهم, لأنني كنت أخفض جناحي لهم غير متعال ولا متنازل مثل ما يتظاهر به الأوروبيون حسب اعتيادهم بهم, ومع ‏ذلك لم أظهر لهم ألفة في غير محلها عكس ما يظن البعض, أنه يلزم استعمالها لاسترضائهم, وفي كلتا ‏الحالتين كان الجواب من المسلمين عدم مراعاتهم لهم. أما الحال المعتبر عندهم والأَلْيَقْ أن يبقى المرء في موضعه ويحافظ على قدره ‏ويكلمهم ‏بدون تكبر ولا فَظاظة فِي الْكَلاَمِ ويعرف كيف يًظْهِرُ وَدَّهُ وصداقته لهم بدون أن ‏يكون أليفاً, حيث أن هذا اللطف يشعرون به ويتأثرون له كثيرا, فهناك من الموظفين الفرنسيين ممن لم يساعدهم الحظ, عاشوا تجربة مُرَّة في هذا الموضوع.

فهذه مسألة عدم اللياقة من طرف الأوروبيين وعدم الكياسة أيضا. يُضَافُ إلى ذلك جهلهم التام بدين الإسلام وهو الشيء الذي جعل التفاهم معدوما بين الطرفين, فالأوروبي يجرح عواطف المسلم بدون أن يشعر هو بذلك, وحتى إن أراد أن يظهر الصداقة لهم فهو مسيء بظنه أنه يتفوق عليهم وكذلك بملاحظاته في غير محلها.

لم يكن هناك نفور ولكن عدم التفاهم الناشئ عن الجهل بالآخر. فلكي يكون التقارب ممكنا يلزم على الأوروبي أن يجعل في ذهنه أن للمسلمين تقاليد وعادات متمسكين بها, تقاليد محترمة مثل ما لنا نحن الآخرين, وبلا شك هي أقدم من تقاليدنا بكثير. ‏فإذا وقع انتقادها أو الاستهزاء بها أو الضحك أمام مُضِيفِنَا المسلم, فهذا يدُّل على سوء الأدب. فالمُزَارْ إذا لم يقل شيئا فهو لا محالة يظهر له أنه شذوذ فقط إلا أنه ولحسن الحظ يعتقد أنه يوجد ما هو أكثر شذوذا. وأما من جهة المسلمين على العموم يظهر عليهم أنهم على جانب عظيم من الاهتمام بالتحفظ ورفع الهمة. 

لاحظت دوما في الأعياد الرسمية الرؤساء المسلمين الذين لبوا الدعوة للحضور أنهم على سلوك ‏حسن يُشَرِّفُهُمْ. وبالعكس, ففي الاستقبالات اللاتي ينظمها أولائك الرؤساء, أتيح لي رؤية نساء الموظفين الفرنسيين يرفعن أصواتهن بالسخرية مما يجعلن أنفسهن أضحوكة, يتحركن, ينبشن بعضهن بعضا بلا مبالاة, يضحكن ضحك ازدراء عند‏ما يشاهدن ما يفاجئ عقولهن الحقيرة العصفورية كَقِصَارِ العقول, فإن تصرفاً كهذا لا يقبلن أن يشاهدنه في بيوتهن. انزعجت كثيرا من هذه المشاهد حتى اتخذت موقفا ألَّا أجيب كل دعوة عند شخصيات مسلمة يحضرها أوروبيون. 

فمن بين هؤلاء, أحدهم ينتسب إلى الطبقة السامية, قال لي يوما وهو يحدثني عن الشيخ:

- "يظهر أنه تعلم في صغره حرفة صناعة الأحذية, وهو في الحقيقة عمل يشرفه, فكيف لك أن تهتم بصحبة هذا الحَذَّاءْ القديم ؟" 

فقلت له :

- "أنسيتَ؟ أنسيتَ أنَّ المسيح كان يمارس حرفة النجارة ؟ أنت المسيحي تتحدث مثل المنافقين."

فذهب الرجل دون أن يزيد كلمة.

ولنعد إلى شيخنا, فعلى الرغم من اقترابه من الشيخوخة ونحوله المزمن وإصابته بمرض الرّبو, كان يتابع في تربية تلامذته واستقبال تلاميذَ جُدُدْ و الحديثَ معهم. ولكن لضعف القوى كان لا يطيل حضوره بَيْنَهُمْ. ضَعُفَ قَلْبَهُو, وَأَصْبَحَتْ نبضاتُهُ غيرَ منتظمةْ.. . . ولاقيت صعوبة كبرى في إقناعه بضرورة تعاطي المنبهات اللازمة لإعادة النشاط إلى قلبه الواهن. ولحسن الحظ, فان ما قدمته إليه من جُرَعٍ طفيفةٍ كان كافيا لأن يؤثر في كائن عضوي لم يتعرض من قبل لإفسادٍ يَجُرُّ المريض إلى عادة تعاطي الأدوية بكثرة.

وهزَّنا في عام 1932 ميلادية الموافق لـ 1350 هجرية, خبر تَعَّرُضِهِ لنوبة قلبية خفيفة اسْتُدْعِيْتُ في إثرها على عجل. فلما وصلت إليه كان نبض قلبه لا يكاد أن يُسمع, وبدا عليه أنه فقد كل وعي بما حوله. واستطعت بحقنه في الوريد أن أعيده إلى وعيه, عندئذ فتح عينيه ونظر إليَّ معاتبا وهو يقول : 

- "لم فعلت هذا ؟ كان ينبغي أن تدعني أرحل, فمن العبث استبقائي, أي فائدة ترجى من ذلك ؟"

- "إذا كنت بجانبك فهذا لأن الله شاء ذلك. وما شاء الله ذلك إلا لكي أقوم بواجبي نحوك ‏كطبيب." 

- فقال :

- "حسنا, إن شاء الله." 

وبقيت معه بعض الوقت أراقب نبضه مخافة أن يتعرض لنكسة, ولم أفارقه إلا بعد أن بدا عليه أنه اجتاز نقطة الخطر البالغ. بعد هذا الإنذار, تتابعت إنذارات أُخرى, ومع ذلك, ضل الشيخ على قيد الحياة يكبو ثم ينهض قرابة عامين أخريين. وكان إذا تحسنت صحته نسبيا عاد إلى مزاولة نشاطه المعتاد وكأن شيئا لم يحدث, إلا أنه كان يبدو عليه دائما أنه يترقب بصبر ولهفة نهايته المحتومة. 

ولم تكن حياته الباطنية الجياشة لتكشف عن ذاتها إلا من خلال تعابير وجهه. وبدا جسده وكأنه دعامة متآكلة توشك في كل لحظة أن تستحيل رمادا تذروه الرياح. 

وفي صباح أحد الأيام, دعاني الشيخ, لم يبدو في حالة سيئة كالأيام السابقة, ولكنه قال لي: 

- "هذا هو اليوم. أَعِدْنِي ألاَّ تفعلَ شيئا, واتْرُك الأمورَ تنقضي." 

أوضحتُ له أَنَّه لا يبدُو لي أكثرَ سوءا من أمس, ‏ولكنه أصر :

- "أعرف أنَّهُ هذا هُوَّ اليوم, ومن الضروري, أن تتركَني أنتَقِلُ إلى الرفيق الأعلى." 

تَرَكْتُهُ وأنا كُلِّيِ إعجاب. لكن كنت على شيءٍ من الرَيْبِ من ذلك. لأَنِّيِ شاهدتُ ذلك مرارا, عندما يكاد يفقد الحياة ثم تَرْجِعُ إليه. ‏وهكذا سيكون هذا اليوم مثل المرات السابقة.

ولكن الصورة اختلفت تماما عند عودتي عصر ذلك ا‏ليوم, كان يتنفس بصعوبة ولم أستطع عد نبضه. ولما ‏شعر بي فتح عينيه وعرفني, فتمتم قائلا: 

- "ها أنا ذا أنتقل أخيرا إلى جناب الرفيق الأعلى." 

ثم أطبق على يدي في وهن و أغمض عينيه. كان هذا هو الوداع الأخير. وعرفت أنه لم يعد لي ‏مكان هناك, فقد أصبح منذ تلك اللحظة مِلْكاً لمريديه الذين كانوا ينتظرون في خلفية المكان. وانسحبت مخبرا سيدي عدة أني رأيت الشيخ لآخر مرة. ثم أني عرفت ذلك للمساء أن الشيخ قضى بعد ساعتين من ذهابي في رفق ‏وبلا ضجة تذكر, يحيط به مريديه ممن كانوا يقيمون بالزاوية. ‏وهكذا, استهلكت مشكاة الشيخ كل ما تبَقَى لها من زيت حياته. 

حاولت هنا أن أقدم فكرة عامة عن الشيخ العلاوي. وإنني على يقين أن هذه الرواية ينقصها الكثير, غير أني حرصت على ألَّا أسرد شيئا لا أثق بصحته تمام الثقة. وبعض الملاحظات التي استشهدت بها في عرض مذكراتي هي نفس الكلمات التي نطق بها الشيخ بالحرف الواحد. وهناك ملاحظات أخرى لا أستطيع أن أجزم إن كان الشيخ استعمل نفس التعبير الذي سقته, إلا أني أستطيع القول بأن المعنى العام لكلماته لم تخرج عما ذكرت في الملاحظات المذكورة. ولقد كان من السهل علي زخرفة وتنميق هذه المذكرات ولكنني فضلت أن أركن إلى ما تعيه ذاكرتي من معلومات جافة أثق بصحتها. 

وإني لأشعر أن هذا العمل سيساعد على إبراز شخصية الشيخ وجعلها أكثر وضوحا وصدقا. هذا فضلا عن أن شهادتي لشخصية الشيخ اتسمت بالموضوعية وعدم التحيز, وخلت من كل ما يمكن أن يلجا إليه مريدو الشيخ من تنميق وخلع هالة معينة على شخصيته, وهي صورة كافية في ذاتها, وربما اِستَمَدَّتْ بعض قوتها من شخص الشاهد الذي يعتبر واحدا من الكفار. ولقد تحاشيت أن أقحم أي تقويم شخصي لمذهب الشيخ خشية أن يكون رأيي في مثل هذه المسائل غير موضوعي. ذلك أن كل ما قصدته هو أن أعرض انطباعاتي عن الشيخ كما عرفته, لا أن أناقش أفكاره. وإنني أعرف جيدا أن المذهب المذكور, مذهب خاص, وبما أنني لم أنتمي إلى طريقة الشيخ فإن أفكاري عنه لا بد وأن تكون غامضة ومشوشة. وربما تبسم بعض مريدو الشيخ وخاصته عند قراءتهم لبعض انطباعاتي هذه, ولكنهم سيشكرون إخلاصي وما استطعت ذكره بكل بساطة وبصراحة وفية. ومن المؤكد أنهم سيلاحظون كذلك ‏أنني لم أستعمل قط كلمة الإيمان في روايتي, وإنني لأتذكر يوم قلت للشيخ إن ما يمنعني من أن أرقى بروحي إلى ما فوق ذاتي هو بلا شك ضعف إيماني, فأجابني بقوله: 

- "إن الإيمان لا بد منه للأديان, ولكنه ليس ضروريا بالنسبة لؤلئك الذين يتوصلون إلى تحقيق ذاتهم في ذات الهم, عندئذ يستغنون عن التصديق أو الإيمان أو الإيقان, لا حاجة لهم به لمَّا يروا الحق جلا وعلا."


طنجة مايو 1942

مرسل كاري


مقتبس من كتاب: الشيخ أحمد العلوي, الصوفي المستغانمي الجزائري, للدكتور مارتن لنجز(أبو بكر سراج الدين) : الطبعة الأولى, بيروت 1973.
مراجعة النص : درويش العلاوي.

الدكتور مارسيل كاري

تعليقات