مفتاح الشهود في مظاهر الوجود - الشيخ العلاوي

http://fr.calameo.com/read/004167944eed7a15fe6d0

مختصر الكتاب... حمدا لمن نور بصائر العارفين بالشهود والعيان حتى شاهدوا غوامض الجبروت في ظواهر الأكوان، وكشف لهم الحقّ عن حقائق ما يكون والذي كان، وكسا قلوبهم حلّة الإيمان والإيقان، أحمـده جلّ شأنه على معرفته الجامعة لنواميس العرفان، وأشهد أن لا إله إلاّ الله الواحد في أزليّته وما زال، المتصف في ذاته بالكبير المتعال، المنزّه في عظمته عن الشبيه والمثال، المتقدّس في أحديّته عن الصور والأشكال، إنّما تقع الأشكال لمن فيه الأشكال، وتضرب الأمثال لمن له مثل في ذاته ومثال، وأمّا الظاهر الذي لم يثبت مع ظهوره صورة ولا خيال. فهل يكون للحسّ معه من مجال، إذ لو كان مع ظهوره ظاهر لما اتصف بالصمدانيّة والجلال، جلّت عظمته أن تتكيّف بالكيف أو تضرب لها الأمثال، كيف تتكيف بالكيف والكيف في حقّه محال وأشهد أنّ سيدنا ومولانا (محمد) مظهر الجمال، ومنتهى المجد وذروة الكمال، شهادة عبد مخلص في حبّه صادق في ودّه، واثق ل (محمد) بعهده صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله، وأهل نصرته ما دامت البواطن تنهل من ورده، والظواهر متمسّكة بشرعه، قائمة بأمره. 

أمّا بعد فإنّي وضعت هذا السرّ اللطيف، والأمر المنيف، في هذا الكتاب الشريف، ورتبته على مباحث أذكر فيها من عجائب الموجودات ما يبهر العقول في الدلالة على عظمة الذات بكيفيّة تسهل لمن تدبّره وبعين الرضى لاحظه وأبصره وسميته: (مفتاح الشهود في مظاهر الوجود)، وإنّي مرتجي الله أن يكون نافعا لي وللمسلمين ويرشدني وإياهم إلى مقام اليقين.

إنّ الداعي لذلك أمر غيبي، كان يهجم على قلبي فيمنعني أن أجول فيما سوى العلويّات، وتارة يأخذ بمجامع قلبي إلى مقتضى الذات المقدسّة، وكانت الواردات والمعارف تترادف علي في كلّ مقام بما لا تسعه الأفهام، وكنت عنها أتلهى ولا أعتمد مقتضاها إلى أن تغلّبت عليّ وفي الفؤاد تحكّمت، فعلمت من نفسي التقصير، واعتقدت أنّي في هذا المقام أسير فألقيت لها الانقياد، وسلّمت لله فيما أراد بعدما التجأت إلى وليّنا الكبير وأستاذنا الشهير قدوتي في طريق الله سيدي وأستاذي (محمد بن الحبيب البوزيدي) الشريف المستغانمي فأشار علي بهذا الكتاب، وأن لا نأتي فيه بأعجب العجاب، مشيرا كما قيل: (حدثوا الناس على قدر عقولهم)، متمثّلا بقول ابن الفارض رضي الله عنه:

فثمّ وراء النقل علم يدقّ عن *** مدارك غايات العقول السليمة

فعملت بإشارته وتذكرت إنّ الحقّ يجري على ألسنة علماء كلّ زمان بما يليق بأهله لما في التنزيل المعوّل عليه: (وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه / إبراهيم آيـــة / 4)، ولا يخفى ما في ذلك من الحكمة (إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها) رواه أبو داود في سنّنه، حسب الإمكان والدهور حسبما جاء بمقالة لسيدي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوه من الفجور)، والمقصد الأهم المحافظة على عقائد الدين، والله متولينا وهو يتولّى الصالحين.

هذا بعض ممّا قاله الأستاذ رضي الله عنه في مقدمة كتابه: (مفتاح الشهود في مظاهر الوجود)، ولقد ورد في هذا الكتاب أربعة وعشرون مبحثا، وسنذكر مختصرا لبعض هذه المباحث.

المبحث الأول: وفيه ما يفيد الاستغراق في عظمة الله من الكلام على الحضرة الأحديّة
أقول: إنّ الأحديّة قد تكلّم فيها المتكلّمون وعبّر عنها المعبّرون ولم يستوفوا ولو أقل القليل من حقائقها، وهم مقصّرون من وجوه كثيرة وإنّي أشدّ تقصيرا منهم، لأنّ حقيقتها لا تدرك بلفظ ولا إشارة ولا بتصريح ولا بعبارة جلّت عن العبارة وتنزّهت عن الإشارة كيف يشار بالحدوث إلى القدم أم كيف يشبه الوجود بالعدم فالمقام الذي يقتضي بطون الأسماء والصفات كيف يشار إليه بالمكوّنات التي هي متلاشية باعتبار ذات الذات التي لا ذات مع تلك الذات، ذات مجرّدة ونفس مفردة، لا تقبل نقصانا ولا زيادة أمر مجيد وكنز غميض بحر لا موج فيه ولا فسحة لديه لا يمين ولا شمال، ولا كيف ولا مثال وما أحسن قول القائل حيث قال:لا عين تبصره، لا حد يحصره، لا وصف يحضره، من ذا ينادمه، كلّت عبارته، ضاعت إشارته، هدّت عمارته، قلب يصادمه. هذا المقام قبل التجلّي وأمّا بعد فتسمّى في الاصطلاح بالواحديّة، وهو المبحث الآتي.

المبحث الثاني: في الكلام على الحضرة الواحديّة
أقول: إنّ الواحديّة عين الحضرة الأحديّة لا غير إلاّ من حيث التجلّي، فإنّها تستلزم ظهور الأسماء والصفات التي تقتضي شيئا زائدا على الذات ألاّ وهو التعلّق ولا زائد باعتبار التحقّق، وما كان إلاّ الذي كان لأنّها لا تقبل الزيادة كما أنّها لا تقبل النقصان كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان الأمر حيث التعلّق لكي يظهر الخالق والمخلوق فإنّه تعالى أثبت الشيء وهو لا شيء، الشيء مفقود في صورة موجود فإيّاك أن يقع بصرك على الموجودات، فتتوّهم أنّه وقع على وجودها لذاتها وهنا زاغت الأبصار إلاّ من كان بصره حديدا، وتحقّق أنّ البصر لا يتعلّق بالمفقود فعلم يقينا أنّه وقع على وجود موجد الأشياء لا على الأشياء نفسها، لأنّ الأشياء من ذواتها العدم والحدوث لا يثبت مع القدم، نعم، تضاربت الأسماء والصفات لتعلّقاتها على وفق مراد الذات، فكلّ يطلب ما تقتضيه حقيقته والحقّ قادر على أن ينزّل الأسماء منازلها، فتجلّى لكلّ اسم بما يقتضيه تجلّيا منه إليه فتفرّعت الموجودات عن الأسماء والصفات، والكلّ راجع للذات وإلى الله تصير الأمور، قدّر الأشياء سبحانه في سابق علمه ثمّ أفرغ عليها من وجوده مع أنّ الوجود لا يثبت لغيره وكما يقول سيدنا أبو مدين الغوث رضي الله عنه:

من لا وجود لذاته من ذاته *** فوجوده لولاه عين محال

والمعنى: (كلّ شيء هالك إلاّ وجهه / القصص آية / 88)، والهالك اسم فاعل شامل غير مختص بزمان دون آخر والضمير في قوله: (وجهه)، يحتمل رجوعه إلى (الشيء)، ووجه الشيء وجه من وجوهه تعالى بدليل (فأينما تولوا فثمّ وجه الله / البقرة آية / 1 15)، هذا هو المعوّل عليه على ما يقتضيه التوحيد الخاص الخالص والله وليّ التوفيـق.

المبحث الثالث: في الكلام على ابتداء خلق المخلوقات
فأقول: من المعلوم أنّ حقيقة الأشياء واحدة، وإن افترقت في نظرنا بدليل قوله تعالى: (يوم نطوي السماء كطيّ السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده / الأنبياء آيـة / 104)، فهذا ابتداؤها ومآلها وهكذا فيما يظهر الآن لمن أمعن النظر ودقّق الفكر (ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفس واحدة / لقمان آية / 28)، وهذه النفس الواحدة هي التي تنفّس بها الوجود المطلق وظهر الحقّ بالخلق، والمعنى أنّه تدلّى من القدس الإلهيّ فيض فتشكّل بالأزمنة والأماكن، ولهذا نهينا عن سب الزمان لما يروى: (أنّه هو الدهر والدهر هو الله)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بالهيبة فذابت واضطربت ثمّ ثار منها دخان بتسليط النار)، وعلى هاته الجوهرة كلّ يعبّر بما اصطلح عليه، أمّا القوم فيعبّرون عنها بالقبضة النورانيّة قلت: ولمّا نظر لها الحقّ ببصر الهيبة والجلال، وتجلّى عليها تجليّا يوجب الاضمحلال حتى خللتها نار الجلال من خشيته فتنفست دخانا من هيبته، فكانت سماء بقدرته فسواهنّ سبع سماوات وأخذت الحكمة الإلهيّة في تدريج الموجودات إلى أن تمّ نظام العوالم على وفق مراد الله، وممّا يظهر أن سائر الأفلاك والمراكز والسّماوات خلقت من الدخان كما تقدّم، ثمّ استوى إلى السماء وهي دخان وانفردت السماء بالذكر من باب الاكتفاء ثمّ أمر تعالى الأجرام على اختلافها أن تأخذ مراكزها وأفلاكها فامتثلت أمر ربّها وكيف لا وقد قال: (فقال لها وللأرض ءإتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين/ فصلـت آية / 1 1)، فتبارك الله أحسن الخالقين.

المبحث الرابع: فيما ورد في عدد العوالم
أقول: كثرة العوالم لا تحصى وعددها لا يستقصى فهي جند الله الأعظــم (وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو/ المدثر آية / 3 1)، إلاّ أنّه جاء في الخبر ما يدل على الحصر أنّ لله ثمانية عشر ألف عالم كعالمكم هذا قيل إنّ الدنيا والأخرى عالم واحد ولعلّ المراد بالحصر المبالغة في الكثرة، لأنّه ورد في بعض الأحاديث ما يزيد لى هذا العدد وعلى كلّ فينبغي للعاقل أن يمعن النظر ويعتبر فيما حواه الأثر قال تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار/ الحشر آية / 2)، وما مدحت الأفكار إلاّ لانتخاب الجواهر والأسرار وورد أنّ تفكّر ساعة أفضل من عبادة سنة، وقد ذكر الغزالي رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أصحابه ذات يوم وهم يتفكّرون فقال: (ما لكم لا تتكلّمون فقالوا نتفكر في خلق الله عزّ وجلّ قال: فكذلك فافعلوا تفكّروا في خلقه ولا تتفكّروا فيه فإنّ بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها بياضها وبياضها نورها مسيرة الشمس فيها أربعون يوما بها خلق من خلق الله عزّ وجلّ لم يعصوا الله طرفة عين، قالوا يا رسول الله: فأين الشيطان منهم ؟، فقال: لا يدرون خلق الشيطان أم لا، فقالوا: من أولاد آدم؟، قال: لا يدرون خلق آدم أم لا) ذكره الغزالي في (جواهر القرآن)، وفي هذا الحديث ما يدلّ على اتساع ملك الله عزّ وجلّ وعظيم سلطانه.

وفيه أيضا ما يدلّ على أنّ العوالم السابقة خارجة عن عالمنا هذا، بل لا خبرة لهم به (لكلّ امريء منهم يومئذ شأن يغنيه / عبس آية / 37)، وعليه فمن اعتقد أنّ العوالم جميعها منحصرة في هاته الكرة الأرضيّة فقد عظمت في نظره عظمة صدّته عن عظمة الله حيث لم يلتفت لما عند الله في الخارج عن هذا العالم، قال عليه الصلاة والسلام: (إنّ لله ملكا لو قيل له التقم السّماوات السبع والأرضين بلقمة لفعل تسبيحة سبحانك حيث كنت) نقله في (روح البيان).

المبحث الخامس: في قوله تعالى: إنّ السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما/ الأنبياء آيـــــة / 30
وفيه ما يشعر بمجانسة الأرض لنجوم السماء تقدّم ما يدلّ على أنّ الموجودات قبل تشتتها وانفصالها كانت في جوهرة بيضاء، ولمّا وقع عليها التجلّي الأول وانفصل البعض من الكلّ تعدّدت الأجرام، وانتشرت على صفحات الوجود حسب (تقدير العزيز العليم)، ومن ذلك السّماوات السبع وما حوته من الأجرام فإنّها أخذت حظّها من الكرسيّ كغيرها (وسع كرسيّه السّماوات والأرض / البقرة آية / 255)، ولنأت ببعض ما يتعلّق بها من جهة انفصالها عن بعضها وغير ذلك، فأقول: لا يخفى على العاقل أنّ السّماوات والأرض كانتا رتقا أي مجتمعة جواهر وأعراضا ولطافة وكثافة شيء واحد، ثمّ فتقت فكانت وردة كالدهان ليعتبر أولو الأذهان قال تعالى: (إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب / أل عمران آية / 190)، وإذا علمنا من جهة النقل أنّ سائر أجرام العالم كانت مجتمعة مثل الأرض والنجوم والشمس والقمر فلا نستبعد حينئذ كون الأرض من جنس الكواكب العلويّة، وذلك لوجود المناسبة واتحاد النشأة في قوله تعالى: (كانتا رتقا ففتقناهما)، قال في (روح البيان)، الفتق الانفصال بين المتصلين وهو ضدّ الرتق أي ففصلنا وفرقنا إحداهما عن الأخرى، وإذا صحّ عندك الاتصال في أول النشأة بين الأرض والكواكب فما المانع إن قلنا بمجانسة الأرض لها بعد الانفصال ولعلّ المانع ما تراه من ضياء الكواكب المباين لصلابة الأرض فاستبعدت التجانس بينهم.

المبحث السادس: في قوله تعالى الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن / الطلاق آيــة / 12
تعيّن بيان ما يتعلّق بالأراضي السبع وبيان مواقعها بين السّماوات لأنّ النصّ الصريح دلّ على وجودها كما دلّ على وجود السماوات السبع قال تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن / الطلاق آية / 12)، وإنّي لا أرى في التنزيل ما يدلّ صراحة على الارضين السبع غير هاته الآية، وإن ذكرت مجملة فهي في غاية البيان المستفاد من تشبيهها بالسّماوات ووجه الشبه بينهما هو تسلّط الخلق عليهما واستواء العدد في كلّ منهما ويستفاد أيضا من قوله تعالى: (يتنزّل الأمر بينهن / الطلاق آية / 12)، انفصال الأرضين عن بعضهما، والمعنى أنّ كلّ أرض مستقلّة بنفسها كما هو قول الجمهور من أهل السنّة بقطع النظر عمن اعتاد الجحود واتخذ معتقده قصص اليهود، فإنّه لا يكاد يفقه حديثا إنّما يذكر أولو الألباب، قال في روح البيان باختصار: إنّ ما بين كلّ أرض من الأرضين السبع كما بين السماء والأرض، وفي كلّ أرض خلق من خلق الله، وعبّر القرطبي عن هذا القول بالأصح، قلت: لأنّه المنصوص عليه في عدّة أحاديث، ومنها ما نقل في (روح البيان) أيضا من حديث طويل عن أبي هريرة رضي الله عنه آخره أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: (هل اتدرون ما تحتكم؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنّها الأرض، ثمّ قال: فإنّ تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمس مائة سنة، ثمّ قال: والذي نفس محمد بيده لو أنّكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله، ثمّ قرأ : هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكلّ شيء عليم / الحديد / آية / 3 ) رواه الترمذي في سننه، فاستفدنا من ذلك ما استفدناه من طباق السّماوات فكما أنّ لكلّ سماء محلا كذلك لكلّ أرض لها مستقرّ، وملكه تعالى أوسع لو كانوا يعلمون وهذا ما ذكره البخاري وغيره عن كعب أنّه حلف بالذي فلق البحر لموسى أنّ صهيبا حدّثه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم ير قرية يريد دخولها إلاّ قال حين يراها: (اللّهم ربّ السّماوات السبع وما أظلت وربّ الأرضين وما أقلت الخ الحديث …) رواه الترمذي في سننه، فدلّ على أنّ كلّ أرض لها استقلال.

وإذا فهمت ما صرحت به الأذكار فاجعله سلما، لتتوصل به إلى سماء الأفكار، قال تعالى: ( فاعتبروا ياأولي الأبصار/ الحشر آية / 2)، فبطون الحقائق في الشرائع كبطون الزبدة في اللبن فبالأخص يظهر ما خفي، وإلاّ فما فائدة النقول إذا لم تصاحبها العقول وخلاصة الكلام دائرة على ما تقدّم من قوله تعالى: (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن / الطلاق آية / 12)، والمعنى أنّ كلّ أرض تماثلها سماء لتحصل المقابلة والتزاوج بينهما لأنّ حكمته تقتضي من كلّ شيء زوجين اثنين (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكرون / الذاريات آية / 49)، فكما خلق سماء وسوّاها خلق منها زوجها لقوله: (والأرض بعد ذلك دحاها / النازعات آية / 30)، أي في دائرة سمائها، وهكذا كلّ أرض أرساها وأخرج منها ماءها ومرعاها متاعا لما فوقها، ولهذا قلنا كلّ أرض محتاجة لسماء ليتنزّل الأمر بينهن، وستفهم إن شاء الله ما أجملناه أن استصحب فكرا سليما مع ما سنذكره من المعارج التمثيليّة، أقول: ثبت فيما سبق أنّ السماء محيطة بالأرض من كلّ ناحية إحاطة الجوزاء بلبها، والأرض ممسوكة فيما بين ذلك والمسافة التي هي بين السماء والأرض من جهة العلو فهي كذلك من جهة الأسفل، أو نقول من الجهات الست فاستحضر هاته الهيئة في خيالك يتبدى لك أنّ جرم الأرض معلّق بين ذلك لا ممسك له إلاّ الله، ثمّ انفصل عنه وتنح إلى الأرض السفلى واستحضر كأنّك هناك مستقر، ثمّ ارجع البصر إلى المحل الذي تدليت منه، والحالة أنّ ما بينك وبينه خمسمائة عام فهل ترى فيما يصل إليه بصرك من فتور كلا (ثمّ ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير/ الملك آية / 4)، والمعنى إنّك لا ترى إلاّ الجو مستويا، ولا ترى من جرم الأرض إلاّ كما ترى الآن أحد الكواكب بسبب ما لها من الضياء، وإلاّ فلا ترى رأسا لبعد المسافة، وعليه فلا تحصل حينئذ إلاّ على رؤية السماء مرصّعة بالكواكب كعادتها والأرض جوهرة من جواهرها، لأنّ بعد المسافة يصير الأجرام مستوية المنازل، وإن اختلفت مواقعها.

وما من أرض إلاّ ولها فلك سّماوي، أو نقول مستقرّا علميّا بالنسبة لمن تحبّه، والله يعلم مستقرّها والراسخون في العلم وعليه فيكون مستقرّها بالنسبة لها فلكا، وبالنسبة لمن تحتها سماء حيث ترى عقدة في مستوى الآفاق ومن هنا وهكذا ما تحتها من الأرضين فكلّ أرض مدحوّة في سمائها إلى منتهى السبع سماوات، ويشهد لهذا ما تقدّم من أنّ ما بين السماء والأرض من جهة الأسفل مساو لما بينهما من جهة الأعلى إلى خمسمائة عام، وهاته المسافة هي التي ثبتت فيما بين الأرض والأرض السفلى في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولمّا اتحدت المسافة لزم اتحاد الجرمين أي جرم الأرض السفلي مع جرم السماء من جهة الأسفل، وعليه فتكون الأرض ملتصقة على صفحات السماء، ولا مانع حينئذ من أن يكون هو مستقرّها، أو يكون فلكا لها، ومن المعلوم أنّ لكلّ جرم مستقرا وجاذبيّة تمنعه من السقوط وهي وظيفة الأفلاك السّماويّة والمحيطات الدوريّة، وإذا تعذّر عليك إدراك ما أشرنا إليه فدونك معراجا لتتوصل به، وذلك أنّه تقدّم لك ما يدلّ على أنّ السماء محيطة بالأرض ممّا يمنعك من أن تدرك الشق الأسفل منها، ولعلك تقول جرم الأرض، فأقول: نعم، هو الذي سدّ عليك ما يمكن إدراكه من الشق الأسفل من السماء، وعليه لو قدرنا زوال جرم الأرض من مكانه والله قادر على إزالته فمن المتعيّن أن يقع بصرك على ماهية السماء من جهة الأسفل، وإذا تعلّق بها البصر فماذا يرى منها ؟، فهل يرى أكثر ممّا يراه الآن من جهة العلو، كلا، إنّما يرى الكلّ سماء حيثما سار ولا يرى في الأرض السفلي التي هي تماثل السماء في بعد المسافة إلاّ كما يرى الآن من أحد الكواكب بالنسبة لما لها من الضياء المكتسب من مقابلة الشمس لها كما تقدّم في غيرها من الأجرام السّماويّة، وإذا كانت كذلك فلا محالة تكون مختصة بسمائها، وهكذا غيرها من الأرضين السبع باختصار.

المبحث السابع: فيما يتعلق بالشمس من جهة كبر الجرم والحركة، وغير ذلك
أقول: إنّ الشمس هي روح الهيئة الفلكيّة المتقدّمة في الذكر باعتبار ما لها من التصرّفات في جزئياتها أي في الأجرام المنفصلة عنها جاءت وسط الدائرة بمنزلة القلب من الجسد، ولهذا سميت بالعين لتستمدّ منها الأجرام المختصة بدائرتها كما هو في أرضنا إذ لو سترت عنا الشمس بالمرّة لجاءت الأزفة وانشق القمر فوجودها شرط في استمرار الوجود سنّة الله قد خلت من قبل قال تعالى: (ليوم تشخص فيه الأبصار/ إبراهيم آية / 42)، وتنفجّر فيه البحار (إذا الشمس كورت , وإذا النجوم انكدرت / التكوير آية / 1، 2)، وهو بعض ما يتوقع بسبب تكويرها أي ذهاب نورها فذكر أنّ النجوم تنكدر والبحار تتفجر فهي كالروح إذا زالت من البدن تتعطّل الحواس، وهذا البعض من خصائصها، وأمّا ما يتعلّق بعظمتها فتقدر على سبيل التقريب، وإلاّ فالأمر غريب جاء في أقوال أهل السنّة ما يفيدنا أنّ المبالغة أي من كونها تعدل بالأرض أضعافا مضاعفة، فعظمته للشمس من غرائب الموجودات ومن ذلك لو أنّ جرم الأرض سقط بسرعة على جرمها لم تتأجج منه ولا يثير شيئا من هيأتها، إنّما تقول: هـــل من مزيد ؟.

ثمّ اعلم أنّ هيئة الشمس تحتوي على غرائب مدهشة يكلّ عنها التعبير، بعدت مسافة الشمس بعدا لا يحتمل التحديد وكفاها أنّها في السماء الرابعة فأين موقعها منّا لو تأملناه ؟ فشتان، الشمس في عين حمئة ليس هو غروبا بالفعل، ولهذا قال الله تعالى: (وجدها تغرب في عين حمئة / الكهف آية / 86)، ولم يقل: فإذا هي أو ما يفيد تحقيق وقوع الفعل، والمعنى والله أعلم وجدها حسبما توصل إليه نظره كأنّها تغرب في عين حمئة على حد قولك كنت في البلد الفلانيّة، فوجدت الشمس تغرب في البحر وعليه فغروبها في عين حمئة مجاز وكيف وقد تقدّم في أقوال أهل السنّة السليمة من الطعن لأنّ الشمس تعدل الأرض أضعافا مضاعفة، قال الرازي: وما قاله أهل الأخبار من أنّ الشمس تغرب حقيقة في عين من عيون الأرض، فكلامه على خلاف اليقين، وكلام الله مبرأ من هذه التهمة نقله في (الحصون الحميديّة).

المبحث الثامن: فيما يتعلّق بحركة الأرض وما ينشأ عنها
أقول: كلّ عاقل يعلم حال الأرض، وما هي عليه من ترادف الأزمنة وتعاقب الفصول واختلاف الليالي والأيام، وفي الغالب يشعر بوجود السبب الذي هو القرب من الشمس والبعد عنها بدون ما يعترض لكيفيّة ذلك، وغاية ما يعتقد أنّ الشمس تتدلّى للأرض تارة وترتفع عنها أخرى، وتشرق فيها تارة وتغيب عنها أخرى ويخيّل كلّ حركة للشمس بدون ما تشاركها الأرض في شيء من ذلك، وهذا ما يتبادره الفكر العام، وإنّي أقول: إذا تصوّرت الحركة في جرم الشمس الذي هو من أعظم العلويّات فلا مانع من أن تتصور في الأرض والحالة أنها صالحة لذلك، والحاصل أن الأرض لا تتغيّر ظروفها الزمانيّة من فصول وغيرها إلاّ بتغير موقعها من الشمس، وهكذا يغيّر الله بها كلّما غيّرت بنفسها فبحركتها وتكويرها تتعاقب قطع الزمان عليها، وبيان ذلك أنّ الأرض لها حركتان تعتبر نتيجتهما: حركة يوميّة وحركة سنويّة، فالحركة اليوميّة حركة تكوير، والحركة السنويّة حركة مسير، وبحركة التكوير ينشأ الليل والنهار، ولهذا قال تعالى: (يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل / الزمر آية / 5)، فهي دائما بهذه الحركة بين ليل ونهار أي فأحد شقيّها ليل والآخر نهار، وهكذا (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلّ في فلك يسبحون / يس آية / 40)، والتنوين في قوله (وكلّ)، يشهد بدخول الأرض مع الشمس والقمر في الحكم المسلّط عليهما الذي هو السبح، لأنّه عوّض عن مضاف إليه يقدر جميعا أي كلّهم، وبهذا التقدير تدخل الأرض في حيّز المقدّر ويعود الضمير على مذكور من طريق المجاز المرسل فيما يتعلّق بالأرض أي من باب ذكر الشيء واردة محلّه بقرينة، لأنّ السبح لا يتصوّر في الليل والنهار لانتفاء جوهريتهما إنّما هو متعلّق بالأرض التي محل لهما، فالشمس دائما آخذة بشق من الأرض من الجنوب إلى الشمال فهي مقسومة بين ليل ونهار، وهكذا يكوّر الليل على النهار بتكوير الأرض أمام الشمس ومقسومة من وسطها حسب خط الاستواء بين فصلين ما بين الصيف والشتاء، وأمّا ما بين الربيع والخريف والمعنى إذا كان الصيف في الجهة الشماليّة التي هي النصف الأعلى منها، يكون الشتاء في الجهة الجنوبيّة، وهي النصف الأسفل من الأرض، وإذا كان الخريف في الجهة الشماليّة يكون الربيع في الجنوب، وأمّا خط الاستواء فلا تتغيّر فيه الأحوال غالبا لكونه مقابلا للشمس دائما، وسبب ذلك أنّ الأرض في سيرها تميل أحيانا وتستقيم أحيانا فإذا مالت إلى الشمس بالجهة الشماليّة تظهر الشمس لجهة الشمال أكثر منها في الجنوب وتبقى كذلك إلى منتهى الفصل أي ثلاثة أشهر، وتكون الشمس فيها في غاية الحرارة كما تكون متباعدة عن الجهة الجنوبيّة، وتكون في غاية البرودة وهاته الصورة هي التي يكون فيها الصيف في جهة الشمال والشتاء في جهة الجنوب، ثمّ تعتدل الأرض أي تستقيم أمّا الشمس في سيرها، فتأخذ الشمس في شقّها من الجنوب إلى الشمال خطا مستقيما، ويحدث الخريف في جهة الشمال والربيع في جهة الجنوب، ويستوي الليل والنهار إلى أن تتمّ ثلاثة أشهر، فتأخذ كعادتها في الميل بالتدريج إلى أن تتأخر الجهة الشمالية عن الشمس، وتبرز لها من جهة الجنوب، فيقع الصيف فيها والشتاء في الشمال وهكذا إلى أن يتمّ الفصل، فتستقيم فيكون الربيع في جهة الشمال والخريف في جهة الجنوب وتتمّ دائرة الفلك السنويّة التي هي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما، وهذا من جهة حركة المسير، وأمّا حركة التكوير المسمّاة بالحركة اليوميّة فإنّها تتمّ في أربع وعشرين ساعة ما بين ليل ونهار، لأنّ الأرض مع ميلانها تارة واستقامتها تارة أخرى تدور في نفسها دور الرحى، ومن كان على ظهرها يكشف على جرم الشمس كلّما مرّت جهته بالشمس، ويظهر له أنّ الشمس قد طلعت عليه ولم يشعر بدوران الأرض لخفائه ومثله كمن ركب سفينة لا يشعر بسيره إذا كان في الأسفل إلاّ إذا رفع رأسه إلى الخارج، أو نقول: كمن ركب العربة أي القطار الحديديّ يرى الجبال تمرّ مرّ السحاب، وهو مستقر والمخيّل لحركة الجبال حركة مركبه، وهكذا حال من على الأرض يرى سائر الأجرام السّماويّة سائرة في شموس وكواكب وأقمار والأرض هامدة مع أنّ لها حقا في المسير فما في الوجود مستقر (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب / النمل آية / 88)، أي يوم يكشف عنك غطاؤك ترى الجبال التي كنت تحسبها جامدة والحال أنّها (تمرّ مرّ السحاب صنع الله الذي أتقن كلّ شيء / النمل آيــة / 88).

وعليه فالدورة المسمّاة بالحركة اليوميّة تستلزم وجود سائر الأوقات على وجه الأرض في آن واحد، لأنّ الشمس لم تزل ظاهرة والأرض تدور أمامها دور الرحى كما تقدّم والجهة المقابلة لها في ضياء تام والأخرى بعكسها، وكلّما دارت إلاّ والنهار يطرأ على الليل فيدمغه من جهة والليل ينعطف عليه من الأخرى، وكلّ آخذ بشق من الأرض إلى منتهى الزمان وبهذه الكيفيّة توجد كلّ الأوقات على وجه الأرض كما تقدّم من الطلوع إلى الغروب، كذلك من الغروب إلى الطلوع فمهما كان الطلوع في ناحية كان الغروب في مقابلها والزوال من جهة والسحر من الأخرى، وهكذا فيما بين ذلك من الساعات والدقائق ليلا ونهارا، ومن جهة وجود الليل والنهار على ظهر البسيطة في آن واحد هو قول الجمهور من علمائنا ومن ذلك ما ذكره إمام الحرمين حيث قال: لا خلاف في أنّ الشمس تغيب عن قوم وتشرق عند آخرين، والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين وعند خط الاستواء يكون الليل والنهار مستويين، والأرض مدوّرة، والله أعلم بما وراء ذلك.

المبحث التاسع: فيما يتعلّق بالقمر من حيث ذاته وحركته
أقول: إنّ القمر يتعلّق به الكلام من وجوه كثيرة بعضها أقرب للفهم من بعض، والمتعذّر من ذلك ما يتعلّق بحركته ونقصانه وزيادته، أمّا ما يتعلّق بذاته من كونه جرما كثيفا، وإنّ ضيائه مكتسب من الشمس عند المقابلة، فلا يبعد عن الإدراك لمن تأمله ومن جهة ما يتعلّق بحجمه قيل: إنّه أصغر من الأرض بنحو تسعة وأربعين جزءا، وهو أقرب إلينا من الشمس بنحو أربعمائة مرّة تقريبا.

ومن المعلوم أنّ القمر هو جرم كثيف مظلم، وأنّ نوره مكتسب من نور الشمس كغيره من الكواكب السيارة، وإذا ثبتت كثافته فلا مانع من مشابهته الأرض في صلابته إن لم نقل هو قطعة انفصلت عنها حسبما قيل، نعم قد ثبت فيما قدمناه ما يدلّ على اجتماع سائر الأجرام في أول النشأة، وعليه فلزم انفصال البعض عن البعض والشاهد قوله تعالى: (كانتا رتقا ففتقناهما / الأنبياء آية / 30)، وعليه فلا مستنكر في كونه منفصلا عن الأرض حيث ثبت الاتصال، وبالنسبة للقمر فالأرض أكمل منه في عدّة وجوه حتى لو فرضنا من ينتقل بنسبه لنا، وفي الغالب تنعدم بنيته لكون مقابلة القمر للشمس ليست على هيئة مقابلة الأرض لها لعدم دوران القمر في نفسه، فالشمس تظهر في شق القمر نصف الشهر، ثمّ تغيب عنه إلى الشق الأخرى، وتكون مدّة الشهر عندنا بمنزلة السنة عند أهل القمر مقسومة بين صيف وشتاء لا غير، فمدّة النهار عندهم التي هي أربعة عشر يوما وبعض يوم تكون صيفا، وهكذا مدّة الليل وتكون شتاء فالشمس تغيب عن أحد شقيها أربعة عشر يوما وبعض يوم إلاّ أنّ ذلك الشق المظلم يكون قريبا من النهار عندنا في الضياء، بسبب ما يشرق عليه من نور الأرض عند مقابلتها للشمس، وعليه فتكون الأرض عند أهل القمر بمنزلة القمر عندنا إلاّ أنّ نور الأرض أعظم من نور القمر بسبب كبر الجرم بنسبتها للقمر، فإنّها تعدل بها نحو الخمسين مرّة على سبيل التقريب وعليه فالأرض تظهر لمن هو في الخارج كما تظهر القمر عندنا، وإذا أردت أن ترى كيفيّة ظهور الأرض بضيائها على نصف القمر المظلم فانظر أول الشهر عند الغروب فتجد الشمس شارقة في نصف القمر المقابل لجهة الشمال، ويظهر لنا من ذلك الشق القدر المسمّى بالهلال وأكثر الضياء يكون غائبا في الأعلى منه، وفي ذلك الشق يكون النهار لأهل القمر والشق الآخر المقابل لنا يظهر بضياء تتمّ به دائرة الهلال، فيقال إنّ الهلال رأيناه بالدائرة، فذلك الضياء الخفيف يكون بسبب مقابلة الأرض له، وعلى هذا فإنّ الأرض تشرق على القمر من جهة والقمر يشرق على الأرض من الأخرى، ثمّ أقول: إنّ جرم القمر هو كروي أي مستدير كما نراه ليلة البدر ونراه أيضا أول الشهر حسبما قدمناه، والشمس دائما مشرقة في النصف منه كما هو في أرضنا، وسبب نقصانه وزيادته في نظرنا عدم إدراكنا الشق المقابل للشمس في بعض الأحيان، لأنّ القمر يكون قريبا من الشمس في أول الشهر، ويكون في الشق المقابل لجهة الشمال يميل إلى العلو، ولا يمكن لنا إدراك ما ظهرت فيه الشمس إلاّ القدر المسمّى بالهلال كما قدمناه وما دام القمر ينفصل عن الشمس إلى جهة المشرق إلاّ فالأبصار تتوصل إلى ما تعذّر عليها من قبل، وهكذا حكمة الله فيه من حيث نقصانه وزيادته، وأمّا ما يتعلّق به من جهة حركته التي هي دورته بالأرض، فنقول: هي الحركة المعتبرة وإن كانت له حركة أخرى يتبع بها الأرض في سيرها فلا نتعرّض لها لعدم التوقف عليها من حيث الزيادة والنقصان وغير ذلك ففلكه المعتبر هو دورته بالأرض ويقطع هاته الدورة في ثمانية وعشرين يوما ونصف يوم وهاته المدّة هي المسمّاة بالشهر.

ثمّ اعلم سير القمر هو من المغرب إلى المشرق دائما قاصدا الصعود إلى قبلة السماء إلى أن يتمّ نصف الدائرة من الفلك في أربعة عشر يوما وبعض يوم، كما تقدّم فيأخذ في الانعطاف على الشمس من جهة المشرق بتدريج إلى أن يطوى في شعاع الشمس، فتتمّ دائرة الفلك، ولمّا ينفصل عنها من جهة المغرب إلى المشرق فيظهر لنا ذلك القدر المضيء عند الغروب حسبما تقدّم، وعليه فسير القمر هو على عكس ما يتعلّق به البصر العمومي، لأنّ الرؤية العامّة تدرك انتقال القمر من المشرق إلى المغرب، وأنّ دورته بالأرض تتمّ في يوم وليلة، والحالة أنّ الهيئة الحاصلة فيما تعلّق به البصر متوقعة من دوران الأرض كما تقدّم في الشمس، فكلّما دارت الأرض دورتها اليوميّة يكشف أهل منكبها الغربي مثلا على جرم القمر حالة قربه من الشمس، فلا يدركون منه إلاّ قدرا يسيرا، وأمّا غروبه في كلّ ليلة فهو واقع من التفات جهة الغرب مع أنّه هو الذي مال عنه إلى جهة أخرى، وأمّا الهلال فهو قاصد الصعود دائما كما تقدّم وقدر مسيره بين يوم وليلة هو ذلك الانتقال المرئي لنا إي القدر الذي نجده تباعد به عن الدرجة التي كان فيها بالأمس، وعليه فالقمر دائما مقابل للأرض كما هو في الشمس، وإن كان سكان مناكب الأرض يرونه تارة، ويحتجب عنهم أخرى كلّما مرّت جهتهم بجرمه محور دوران الأرض في نفسها من اليمين إلى الشمال، والمعنى لا يحصل إلاّ بتدقيق النظر مع استحضار الهيئة الحسيّة في الفكر وإلاّ فالأمر متعذّر؟؟، بداهة، ولهذا قال تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام: (يسئلونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للناس والحج / البقرة آية / 189).

المبحث العاشــر: فيما يتعلّق بسبب الكسوف والخسوف
فالشمس منذ خلقت لم ينقض شيء من نورها فانطماسها مؤخر إلى يوم تطوى فيه السماء، وعليه فاستتار نور الشمس هو واقع في نظرنا، وسببه حلول القمر بيننا وبين جرم الشمس، وقد تقدّم فيما مضى ما يدلّ على أنّ القمر لا يماثل جرم الأرض في الكثافة، ومن المعلوم أنّ القمر يمرّ أسفل الشمس في سيرها، وفي آخر الشهر تبادل المادة الواصلة من عين الشمس إلى جرم الأرض، ولهذا ينطوي الهلال في شعاع الشمس قدر اليوم أو اكثر إلى أن ينفصل والقاعدة مطردة، إلاّ أنّه تارة يمرّ في عين المادة نفسها فيستر عنا ما نراه من الشمس من أجل كثافته، فإذا رأيناه في ذلك الوقت فلا ترى إلاّ سوادا مستديرا منطبعا في عين الشمس وليس هو إلاّ جرم القمر حالة مروره أسفل الشمس.

وإليك الهيئة المجتمعة في الأجرام الثلاثة تقريبا، فمن كان في النصف المضيء من الأرض يرى جرم القمر منطبعا في عين الشمس حسبما تقدّم، وعند انفصاله عنها تكتسب الأرض شعاعا حسبما كانت عليه، والذي يشعرنا بسبب الكسوف هو ما نراه في ذلك الحال من أن سوادا مستديرا يطرق عين الشمس من جهة المشرق، وينفصل عنها من جهة المغرب بعدما يمرّ في وسطها إذا كان الكسوف تاما بمعنى أنّ مرور القمر كان من تحت عين الشمس فيما يحدّ نظرنا، وعلى هذا فالكسوف لا يقع إلاّ في آخر الشهر من أجل أنّ القمر لا يجتمع مع الشمس في السير إلاّ في ذلك الوقت، ثمّ اعلم أنّه كلّما وقع الكسوف عندنا يقع الخسوف عند أهل القمر أي يستتر النور المعار إليها من الأرض بسبب حلول القمر بين ذلك، وعليه فلا ترى الأرض عند أهل القمر إلاّ جسما مظلما كما ترى القمر عندنا حال الخسوف إلى أن ينفصل القمر عن الشمس، فتعود الأرض لما كانت عليه والله أعلــم.

وأمّا ما يتعلّق بخسوف القمر، فأقول: إنّه يقع بسبب حلول الأرض بينه وبين النور الممتد إليه من عين الشمس، فيرى على ما هو عليه في الحقيقة أي جسما مظلما إلى أن ينفصل المانع والأمر سهل لمن تأمله واستحضر وجود الهيئة الحاصلة بين الأجرام الثلاثة في وسط الشهر وذلك أنّ الشمس تكون بالمغرب والقمر بالمشرق ومن المعلوم أنّ الأرض تكون بين ذلك حسبما يدركه البصر العام.

فهكذا تكون الأجرام الثلاثة على نسق واحد، فوجود المقابلة حاصل ضرورة، وقد تقدّم ما يدلّ على أنّ نور القمر مكتسب من نور الشمس، فإذا انقطعت المادة الواصلة من الشمس إلى القمر فجرم الأرض يرى القمر حينئذ على صفته الأصلية ما دام جرم الأرض لم ينفصل عن المادة فإذا وقع الانفصال تفيض أنوار الشمس على القمر كعادتها وهي قاعدة مسلّمة، لأنّ الكسوف يحصل بسبب دوران الأرض كلّ سنة مرّة من أجل الأرض تحوّل بين الجرمين إلاّ في ذلك الوقت، وأمّا في أول الشهر وفي آخره فيكون القمر قريبا من الشمس في السير فلا يمكن حلول الأرض بين ذلك، وكلّ من نظر في ذات القمر حالة الخسوف يجد خيالا مستديرا مرسوما في وسطه، وذلك هو خيال الأرض حالة مروره، وهذا إذا وقع الخسوف غير تام، وأمّا إذا وقع تامّا فلا يرى شيء من ذلك، ثمّ أقول كلّما وقع الخسوف عندنا يكون الكسوف للشمس عند أهل القمر بسبب انطباع جرم الأرض في عين الشمس كما ينطبع جرم القمر في عين الشمس وقت الكسوف عندنا، وعليه فالكسوف يكون عندنا بسبب مرور القمر تحت جرم الشمس، والكسوف يكون عند أهل القمر بسبب مرور الأرض تحت جرم الشمس، وكلّما وقع الخسوف عندنا يكون الكسوف عندهم، وكلّما وقع الكسوف عندهم يكون الخسوف عندنا، والله أعلم، ثمّ اعلم أنّ القمر لا يستر عين الشمس بالتمام، لصغره بالنسبة إلى الشمس إنّما يستر حظنا منها لهذا يقع الكسوف في جهة من الأرض دون بقيّة الجهات وقد يقع تاما في جهة دون أخرى.

المبحث الحادي عشر: فيما يتعلّق بالميعـــاد

لما كان أول الكتاب للإيجاد لزم أن يكون آخره للميعاد، فأقول وعلى الله الاعتماد إنّ ما يتعلّق بالكون من جهة الانقراض جاء موقوفا على الإيجاد، فمدّة عمر الأرض موقوفة والله أعلم على نفاد المواد فيما يرجع لسكانها من جهة الانتفاع، فمتى تخلّت عمّا فيها جاءها الخراب قال تعالى: (وإذا الأرض مدّت , وألقت ما فيها وتخلّت , وأذنت لربها وحقت / الانشقاق آية / من 3 - 5)، وقال أيضا: (إذا زلزلت الأرض زلزالـــها, وأخرجت الأرض أثقالها , وقال الإنسان مالها , يومئذ تحدّث أخبـارها , بأنّ ربّك أوحى لها / الزلزلة آية / من 1- 5)، فدلّ على أنّ الأرض لا ينتهي أجلها إلاّ إذا تخلّت عمّا فيها، ولا تظنّ أنّ الدنيا هي في أحسن حالا بالنسبة لما كانت عليه، نعم، هي كذلك من جهة الظاهر لا باعتبار ما هي عليه في نفس الأمر من جهة الباطن، فهي إلى الهرم أقرب فأكثر ما كان في باطنها برز على ظاهرها: فعمران الظاهر دليل على خراب الباطن حتى إذا نفد ما هنالك جاءت الساعة، ولا بدّ من النفاد لأنّ مجموع المتناهي متناه، وإذا فهمت هذا فلا تستبعد حينئذ وجود الغاية لهذا العالم وتقول لا بدّ من يوم يختلّ فيه نظام الأرض وتتعطل فيه حركاتها، وسبب تعطيل الحركة تظهر الشمس من مغربها وتتفجّر نار منها على خلاف العادة من جهة الباطن جاء في الحديث إنّ من علامات الساعة: (وآخر ذلك تخرج نار من جهة اليمن من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر) رواه أبو داود في سننه، وكلّ هذا دالّ على أن تلقي جميع ما فيها غير أنّ مدّة حياتها لم تتعيّن، قال تعالى لنبيّه على حذف القول: (وأن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون / الأنبياء آية / 109)، أي إنّي لا أعلم متى تكون الساعة مع أنّي على يقين من وجودها ومع هذا ما من نبيّ إلاّ ويقول بقربها ويحذّر أمّته من وقوعها، وتكون قريبة من وجهة وبعيدة من الأخرى فبعيدة باعتبار الحياة العامّة التي لم تقيّد بإنسان دون آخر فإنّها تتضمّن دهورا مديدة وقرونا عديدة، جاء في الحديث إنّ الدنيا خاطبت آدم قائلة: (جئتني وقد انتهى شبابي)، فأين مدّة شبابها إذا كان مجيء آدم بعد انقضائه، وكم مرّت سنون من بعد آدم والحالة أنّها ترى كأنّها في أول زمانها، وأمّا قرب الساعة المتعين به الإيمان الذي جاء به الأثر، وصريح القرآن راجع للإنسان في خاصّة نفسه، قال تعالى: (وما أمر الساعة إلاّ كلمح البصر أو هو أقرب / النحل آية / 77)، فدلّ على هذا أنّ الساعة أقرب شيء للإنسان إذ ليس بينه وبينها إلاّ مفارقة جسده.

والحاصل أنّ ما بين الإنسان والبعث إلاّ مدّة حياته فهي للإيجاد والأخرى للميعاد، وكما قال الصالحون: (من مات قامت قيامته)، فلا تتخيّل المدّة التي تمرّ على أهل الدنيا بتمامها هي التي تمرّ على آدم مثلا، فزمان الدنيا ظرف لأهلها إذ لو سألت من مات من عهد آدم عليه السلام إلى يوم البعث كم لبثت لقال: لبثت يوما أو بعض يوم، فتجد مدّة من مات في أول الدنيا، ومن مات في آخرها سواء بهذا الاعتبار فمدّة الدنيا لا تعقل لأهل الآخرة، وإذا فهمت هذا علمت قرب البعث وبعده، ولذلك الإشارة في قوله تعالى: (إنّهم يرونه بعيدا , ونراه قريبا / المعارج آيـة / 6، 7)، أي يرونه بعيدا باعتبار الحياة العامّة، ونراه قريبا باعتبار خاصّة الإنسان في نفسه، والعجب كلّ العجب ممّن ينكر الطوارىء التي جاءت فيما بعد الموت وهو ما يطرأ عليه في الدنيا ما يقرب منها في نومه، لأنّه أقرب الأشياء لأحوال الآخرة، وكلّ إنسان يدرك حالة النوم، وما يطرأ عليه من النعم والنقم في حالة غائبا فيها عن جسده مع أنّه في قيد من جهته ألا ترى لو تجرّد عنه تجريدا كليّا فمن المعلوم يدرك أكثر ممّا كان عليه، لأنّ في الخروج عن البدن يقظة كليّة، وكما قال الصالحون: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)، وقال تعالى: (فكشفنا عنك غطاؤك فبصرك اليوم حديد / ق آية / 22)، وليس هو إلاّ التجرّد من الحسّ وعليه فإنّ الميعاد أقرب للإنسان من الإيجاد إذ ليس بين الناس والبعث إلاّ مجرّد نوم باستقلال، وهي المعبّر عنها بمدّة البرزخ فإذا هم قيام ينظرون، فكان بهذا الاعتبار منوطا بليلة القبر، والله أعلم بما في نفس الأمر.

تعليقات