المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثيّة - الشيخ العلاوي

http://fr.calameo.com/read/0041679440d1d2b5e0f55
مختصر المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثيّة للشيخ أحمد العلاوي وهو ترجمة لحكم سيدي أبو مدين الغوث رضي الله عنهما.

1. المواد الغيثية الجزء1, أضغط على غلاف الكتاب


2. المواد الغيثية الجزء 2


الأسارى أسير نفس وأسير شهوة وأسير هوى

ذكر أنّ الأسارى على أقسام ثلاثة المقيّدون الأرقة لوجود الغير فهم أسير النفس وهو أحقر الأسارى لأنّ الحاكم عليه جائر لا يعفو عنه:

فليبك أسير النفس لما حلّ به *** وهل ينفع البكاء بدون النجاة

فمن كان أسيرا لنفسه يحتمل أن كلّ الطوارئ تطرأ عليه لأنّ أشرارها لا تتناهى فهي زائدة بصاحبها إلى ما لا نهاية له ومن نعتها طلب الاستقلال والخروج عن حكم الألوهيّة فهي تسعى في سلطة ذلك من كلّ الوجوه حتى إذا عدمته من وجهه فلا تسمح فيه من بقية الوجوه قال عليه الصلاة والسلام "اللهمّ رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كلّه" رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه.

ألا ترى أنّ النفس قبل أن تدخل في الإسلام تنكر وجود الألوهيّة رأسا حتى إذا انقادت وتحمّلت ثقل الإقرار بالألوهيّة قد تنكر سلطة الربوبيّة عليها ولا تخضع لذلك إلاّ بتمهيد وتدريب وإذا مالت وثبتت ونبتت في العمل لا تسمح بترك الجزاء عليه بل تقول أنا الفاعلة لذلك ولا بدّ من الجزاء وإذا كابدتها على تركه بقولك أين الإخلاص؟ قد تسمح في الجزاء ولكن لا تقطع النظر من كونها هي الفاعلة لذلك حتى إذا قلت لها أين التوحيد؟ وأين فهمك من قوله تعالى "والله خلقكم وما تعملون" الصافات آية 96, فتسمح في العلل ولا تسمح في الوجود بل تقول أنا موجودة ولو لم يبق لها إلاّ مجرد الصورة فتتعلّق بها وتتعشق ولا تسمح بانعدامها وإذا أنعم الله عليها بفنائها وتجلّى عليها تجليّا يوجب اضمحلالها وتلاشيها ومحوها من لوحة الوجود فتستريح حينئذ من دعوى الوجود لأنّ الحقّ يقوم بدلها ولكن بعد الرجوع لا تلبث إلاّ أن تقول الآن صار قولي بالله أقول ولا فخر ولم يبق لها إلاّ اللسان وحاصل الأمر أنّ شرور النفس أكثر من أن تحصى وقد صنفت فيها تصانيف حفظنا الله من شرّها.

وأمّا أسير الشهوات فهو أسير فرع من فروعها وليس هو كالأسير الأول بل تميل الشهوة به إلى الطاعة إذا وجد فيها شهوة فهو يقصدها حيث وجدها بقطع النظر عن كونها طاعة أو معصية والواقف مع شهواته في الغالب يسقط من عين ربّه فهو مطلوب بالخروج من هذا الوصف والمخالفة المعتادة ولا يرضى بالرقية إلاّ جهول قيل في هذا المعنى:

إذا طالبتك النفس يوما بشهوة *** وكان إليها للخلاف طريق

فدعها وخالف من هوت فإنّما *** هواك عدو والخلاف صديق

والعزّ كلّه في مخالفة الهــوى *** وقد ذلّ من كان إليه رفيـق

وأمّا أسير الهوى فهو أسير فرع من فروع النفس وأثر من أثارها وصاحب هذا المقام تراه يميل مع الهوى حيث مال ليس له منوال ثابت سريع التقلب في الأفعال والأحكام متخذا إلهه هواه يتبعه كيفما اعتراه "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم" الجاثية آية 23, يخشى عليه في الغالب أن يأخذه الله نكالا وهو لا يشعر لما أصابه من نشوة الهوى:

أسير الهوى سال معجب بحاله *** ولم يدر ما به من البعد والهجر

وقال غيره:

ولا تتبع النفس في هواهـا *** فإنّ إتباع الهوى هوان

وربّما كان صاحب الهوى يتصرّف في الشرع بهوى نفسه بدون أن يلاحظ ما وجب عليه حتى يزجّه لجّة لا نجاة له منها إلاّ إذا تداركه الله بلطفه وأنقذه من هوى نفسه وأوقفه عند ما وجب عليه وإلاّ لا يؤمن عليه لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" رواه مسلم في صحيحه.

بالمحاسبة يصل العبد إلى درجة المراقبة

المحاسبة أول درجة السائرين وبها يصل العبد إلى مكان المقرّبين ومعناها عدم استرسال النفس في ميادين المخالفة لأنّ المحاسبة تعوّق النفس عن الانهماك الكلّي فإذا تمكّن العبد في هذه الرتبة ودام عليها يصل إلى درجة المراقبة لأنّ المحاسبة تكون مع الغفلة فإذا حضرت المراقبة وهي كناية عن شهود الحقّ من وراء حجاب مع عدم الإدراك أو تقول استحضار علم الله بالعبد واستشعار إحاطة البصر بكلّ موجود فصاحب هذا المقام على كلّ حال في هيبة وأدب خارج عن المحاسبة لأنّها تكون بعد الوقوع والمراقبة تمنع العبد من الوقوع في المخالفة لما هو عليه من استشعار مطالعة الله عليه في سائر أحواله وإذا دام العبد على هذه الحالة غالبا ما تصير له المشاهدة "ومن يتقّ الله يجعل له مخرجا" الطلاق آية 2, أي فمن يتقّ الله من وراء حجاب ويخشاه بالغيب يجعل له مخرجا من سجن المكوّن إلى شهود المكوّن لصلاحيته لذلك الشأن فمحاسبة ثمّ مراقبة ثمّ مشاهدة فهذا مجموع الدين إسلام وإيمان وإحسان.

لا تعم عن نقصان نفسك فتطغى

إذا كان الإنسان لا يبال بنقصان عمره وغفل عن مرور الليالي والأنفاس المعدودة عليه لا شكّ يطغى حتى يأخذه الله أخذا وبيلا وهو لا يشعر فهو مستدرج للآخرة شيئا فشيئا دون أن يحسّ بنفسه "سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" القلم آية 44, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام "أكثروا من ذكر هادم اللذّات وهو الموت" رواه النسائي في سننه فإنّ الإنسان إذا شعر بنقصان الأنفاس وكان بصيرا بضعف الحواس فلا جرم يشتغل بما يعينه لأنّه في سير إلى الآخرة يأخذ من دنياه إلى أخراه ومن صحته إلى موته ومن عمي عن ذلك تراه كأنّه لم ينقص له شيء من حياته مع أن عمره أعز عليه من كل عزيز وقد مر أكثره وهو لا يشعر ولا ينتبه ولا يتزود للرحيل "فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" الحج آية 46.

من نسب لنفسه حالا أو مقاما فهو بعيد عن طرقات المعارف

العارف لا ينسب لنفسه حالا ولا مقاما لفنائه عن المقامات والدرجات والأحوال مالكة لأهل البداية مملوكة لأهل النهاية والعارف غني بالله وقيل إنّ العارف من قامت به المعارف لا من قام هو بها فهي تولت أمره وحاله يدلّ عليه دون أن ينسب شيئا لنفسه مشتغلا بتصحيح أحواله مع الله قاطع النظر عن الخلق لا يتصنع لأحد تاركا الحقّ ينوب عنه في شؤونه ومن قام بمقال أو حال فذلك ليس من نسبته لنفسه لأنّ النفس ذهبت مع الذاهبين قيل في هذا المعنى.

خلّفت أهلي ونفسي حقّا تركتها *** وكنت لنور الحقّ بالحقّ سارع

وكلّ ما جاء على ألسنة العارفين من نسبة الأحوال والمقامات تصريحا أو تلميحا راجع للحقّ لا لأنفسهم والله مطلّع على أسرارهم ولو نسبوا شيئا من ذلك لأنفسهم لسقطوا من عين الله وحاشاهم من ذلك فلهذا كان العارف يقول ولا يبالي بما يقول لأنّه يتكلّم على لسان الحقّ لا على لسانه ومعرب عن ذات الحقّ لا عن ذاته.

من تحقق بالعبوديّة نظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الافتراء

العبوديّة مقام شريف ومن تحقّق بها رجع على نفسه باللوم واتهمها في أعمالها وأحوالها وأقوالها وكانت عنده "وإن تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها" الأنعام آية 70 ولهذا قال ينظر أفعاله بعين الرياء وأحواله بعين الدعوى وأقواله بعين الافتراء فإنّ النفس وإن عدلت كلّ العدل لا تخلو أن تنسب شيئا من الفعل إليها وفي ذلك دعوى وافتراء ولا يخفى ما فيه من المناقضة للعبوديّة والتجاسر على الملك الحقّ قال تعالى "والله خلقكم وما تعملون الصافات آية 96, وكفاك من الإحسان أيّها العبد أن جعلك أهلا لذلك الشأن فارجع على نفسك وارجمها في دعواها وإيّاك والركون لما تحدّثك به فالعبوديّة لا تكون خالصة حتى تطهر من الدعاوى والرياء والافتراء وهو مقام شريف فمن حقّقه لا يطلب سواه.

قال في الحكم العطائية مطلب العارفين من ربّهم الصدق في العبوديّة والقيام بحقوق الربوبيّة ولا مقام عندهم أشرف من العبوديّة فمن حصل عليه فقد حصل على المنّة العظيمة لما قيل متى جعلك في الظاهر ممتثلا لأمره ورزقك في الباطن الاستسلام لقهره فقد أعظم عليك المنّة وهذه حقيقة الاستقامة الممدوحين أهلها في قوله تعالى "إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثمّ استقاموا" فصلت آية 30, أي الذين تحقّقوا بوحدانية الإله كشفا وعيانا ثمّ استقاموا على ظاهر الشرع الشريف فكانت لهم كرامة عظيمة وفي هذا المعنى يقال قراط من الاستقامة خير من ألف كرامة لأنّ الكرامة بلا استقامة إنّما هي استدراج أو نقول إهانة ولمّا كان المقام شريفا ولا بدّ من الحرص والمحافظة عليه.

آفات الخلق سوء الظن

أي آفات الخلق وسبب قطيعتهم سوء ظنّهم بالله وبالخلق إذ لو أحسنوا الظنّ في العباد وخصوصا أولياء الله الصالحين لوجدوا من يأخذ بيدهم وينقذهم من غفلتهم وما هم عليه من قيد النفوس وأمّا سوء الظنّ بالله والعياذ بالله فهو مما يوجب طرد العبد من باب مولاه لقوله عزّ من قائل في بعض كلامه القدسيّ أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ عبدي بي ما يشاء فمن لا يظنّ به خيرا فلا يجازيه إلاّ بظنّه "وذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين" فصلت آية 23.

فعليك أيّها المريد بحسن الظنّ فإنّه من أشرف الخصال لما يروى في الخــبر خصلتان ليس فوقهما في الخير خصلة حسن الظنّ بالله وحسن الظنّ بعباد الله والعكس بالعكس وإن كان لا بدّ أن تسوء الظنّ فسوءه بنفسك واتهمها في معاملتها ولا تقبل منها صرفا ولا عدلا.

قال المصنف رحمه الله:

ولا ترى العيب إلاّ فيك معتقدا *** عيبا بدا بيّننا لكنّه استترا

لكلّ شيء آفات وآفات الصوفيّة متابعة الهوى

نعم الصوفيّ لا يتمّ له مقام المعرفة إلاّ إذا خلصت نفسه من شوائبها المذمومة وتحلّت بالحلل المحمودة وهذه طريقة مسلوكة لكلّ من كان له نصيب من التصوّف غير أنّ العارف قد يتخلص من كلّ ذميمة ويتعذّر عليه التخلّص من الهوى بعد الخروج عنه فكلّ من وقع به ما وقع وانقطع ورجع ذلك بسبب متابعته الهوى ولهذا لا يؤمن على الصوفيّ إلاّ إذا لم يبق له هوى ويكون هواه متبعا لمرضاة الله وسبب وجود الهوى بعد إقلاعه وجود بقية النفس في بعض الكمائن وعدم تصحيح مقام الفناء لما قيل من كان فناؤه مشوبا كان بقاؤه مشوبا ولا يسلم صاحب هذا الحال من وجود الخلل لبقية المرض فيجب على المريد أن يصحّح مقام الفناء حتى يستكمل فيه ويجهد جهده لكي يتخلّى من كلّ وصف مذموم مناقض لعبوديتّه لما قيل في هذا المعنى:

يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته *** وتطلب الربح ممّا فيه خسران

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها *** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

ليس الشأن أن تقتل نفسك لأنّها في الغالب لا تموت إنّما الشأن أن تملكها وتستعبدها وتجعلها مطيّتك تسيّرها حيث شئت لا حيث شاءت فمن كان حكيما يهذّب نفوس أتباعه من المريدين حتى يكون هواهم تابعا لمرضاته ومن لم يهذّب نفسه بعيد عنه أن يهذّب نفوس الآخرين قال سلطان العاشقين في هذا المعنى:

فنفسي كانت لوّامة مـــني أطعها *** عصت أو أعصي كانت مطيتي

فأوردتها ما الموت أيسر بعضه *** وأتبعتها كيما تكون مريحتي

فعاودت ومهما حملتها تحملت *** منّي وإن خفّفت عنها تأذن

لا طريق أوصل إلى الحقّ من متابعة الرسول في أحكامه

فلا طريق أولى إلى الله أيّها المريد إلاّ بمتابعة رسوله عليه الصلاة والسلام فهو باب الله الأعظم وصراطه الأقوم "وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه" الأنعام آية 153, ولبعضهم في هذا المعنى:

كل من يهوى ولا يهوى *** الرسول كيف يعبأ به

هو باب الله ما ثمّ *** وصـول إلاّ من بابه

ثمّ اعلم أنّ الوصول إلى الله هو وصول إلى العلم به وذلك موجود في الشرع وليس خارجا عنه وما منعنا عن ذلك إلاّ عدم اجتهادنا واعتنائنا بما أخبر به الشارع وترك التدبّر في الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة لأنّ الحقيقة باطنة في الشريعة بطون الكنز في المعدن أو الزبد في اللبن ولا يظهر الزبد إلاّ بخضّ اللبن.

ولهذا أمرنا الحق سبحانه وتعالى بالتدبر في الآيات القرآنيّة والعمل بمقتضاها قال وهو أصدق القائلين أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها محمد آية 24 ولولا الحجاب المانع لأدركنا كلّ ما نحتاجه من غوامض الكتاب والسنّة ولكن جرت حكمة الله بالوسائط والوسائل "يأيّها الذين أمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة" المائدة آية 35.

هذان شرطان لازمان في الدخول على الله:

الشرط الأول الوسيلة وهي صحبة الشيخ العارف بالمسالك

الشرط الثاني التقوى وهي متابعة الرسول في أقواله وأفعاله

كثرة الطعام وكثرة المنام وكثرة الكلام تقسي القلب

فكلّ فعل يقتضي الغفلة فهو من أجزائها لأنّ كثرة الطعام والمنام والكلام من الأشياء المذمومة شرعا خصوصا في طريق القوم فإنّهم جعلوا رضي الله عنهم أساس طريقتهم على تقليل كلّ من ذلك لأجل استنارة الباطن وتحليه بالمعارف الإلهيّة لأنّ القلب مهما ترادفت عليه الشهوات الباطنيّة وغيرها ممّا يكدر حاله إلاّ وتحوط به القساوة.

وفضل الجوع وقلّة الكلام والنوم نتائجها معلومة في طريق القوم وقد صنفت في ذلك تصانيف ودونت في فضائلها دواوين فمن ذلك ما جاء في ذمّ الشبع وكما قيل إنّ الله لا ينظر إلى جوف مليء من الطعام.

كان عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يأكلون إلاّ عن فاقة لما في الحديث الشريف عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ فاطمة رضي الله عنها ناولت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كسرة من خبز شعير فقال هذا أول طعام أكله أبوك من ثلاثة أيام رواه الإمام أحمد في مسنده فانظر بارك الله فيك إلى ما احتوى عليه هذا الحديث الشريف ولو أنّ الشبع محمود لما كان افتخاره صلّى الله عليه وسلّم بالجوع.

قال عليه الصلاة والسلام "إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدمّ وأنّي خشيت أن يلقي في قلوبكما شيئا أو قال شرا" رواه أبو داود في سننه وقد قيل لمّا خلق الله عزّ وجلّ الخلق جعل العلم والحكمة في الجوع وجعل الجنّة والمعصيّة في الشبع قال سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه قوّة المريد الصادق الجوع وشرابه الدموع فهذا حال الصديقين وكان يقول مولانا العربي رضي الله عنه فقراء هذا الزمان يأكل أحدهم ما يحمل البعير ويشرب قدر ماء الغدير ويقول الشيخ ما فيه خير فلعنة الله على الكاذبين.

وأمّا فضل السهر وذمّ النوم معلوم بالضرورة عند العموم فضلا فيما ذهب إليه القـوم وصرحت به السنة المطهرة وممّا يروى أيضا عنه أنّه كان صلّى الله عليه وسلّم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال يا أيّها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه رواه الترمذي في سننه وكفى فيما يروى عنه أنّه قام الليل حتى تورمت قدماه.

وقيل إنّ الإمام الجنيد رضي الله عنه لما مات رآه بعض أصحابه في المنام فقــال ما فعل الله بك ؟ قال طارت تلك الإشارات وطاحت تلك العبارات وغابت تلك العلوم واندرست تلك الرسوم وما نفعنا إلاّ ركيعات كنّا نركعها في السحور فإن كان هذا الإمام مع شرفه وعلوّ مرتبته لم يفتر عن قيام الليل بل قال ما نفعني إلاّ ركيعات فكيف بمن عداه ؟

وعن ذي النون المصري رضي الله عنه أنّه قال لقيت في بعض سواحل الشام امرأة فقلت لها من أين أقبلت؟ قالت من عند أقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع فقلت وأين تريدين ؟ قالت أريد رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فقلت صفيهم لي فقالت:

قوم هممهم بالله قد علقــت *** فما لهم همم تسمو إلى أحد

فمطلب القوم مولاهم وسيدهم *** يا حسن مطلبهم للواحد الصمد

وأمّا ما جاء من الفضل في قلّة الكلام فشهرته لا تخفى وكفى ما قيل لو كان الكلام من فضّة لكان الصمت من ذهب وقوله عليه الصلاة والسلام "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

كانوا عليهم تمام الرضى والرضوان لا يتكلمون إلاّ بذكر الله أو فيما يقرّبهم إلى الله خشية منهم أن يقعوا في المحذور لما قيل من كثر كلامـــه كثرت آثامه.

إذا سلا القلب عن الشهوات فهو معافى

القلب له مرض خفيّ ودليله وجود ميوله للمحبوبات النفسانيّة حتى إذا تسلّى عــن ذلك وتنزّه وتطهّر من وجود الشهوات البهيميّة كان ذلك دليلا على صحّته من العلل النفسانيّة والخواطر الشيطانيّة وتعينه صلاحيته لحمل الأسرار وتجليات الأنوار وما دام فيه شيء من ذلك فهو غير معافى فيحتاج إلى طبيب يعالجه حتى يصحّ من مرضه ويتوجه إلى ربّه وإلاّ فالحجاب أولى به.

من لم يستعن بالله على نفسه صرعته

النفس أشدّ على المريد من سبعين شيطانا بل هي أم الشياطين وغابتهم ومنشأهم فمن أراد أن يتخلّص منها بفهمه ومخالفته صرعته إذا لم يستعن بالله عليها لأنّه لا يمكن الفراغ من مساوئها وهي كلّها مساوئ أو تقول كحبّة البصل إذا أردت تقشيرها تجدها كلّها قشورا فلها من المساوي ما لله من الكمالات فعنصر مساوئها لا ينفد ولهذا قال في الحكم العطائيّة لو أنّك لا تصل إليه إلاّ بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك لا تصل إليه أبدا ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ونعتك بنعته فوصلك إليه بما منه إليك لا بما منك إليه فيا لها من حكمة قد قصد فيها عما في الضمير لأنّ محو دعاوى النفس شرط في الوصول وإذا كان الأمر لذلك لن يصل العبد إلى الله لأنّ دعاويها لا تنفك ومساوئها لا تتناهى.

قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه لن يصل الوليّ إلى الله ومعه شهوة من شهواته أو تدبير من تدبيراته ولن يطيق المريد على محو ما ذكرناه إلاّ إذا استعان بالله على نفسه وإلاّ صرعته ومثل المريد مع نفسه كمن مرّت عليه نحو تسعين سنة من عمره وهو في المعاصي والمخالفة وترك الفرائض من صلاة وصيام وحجّ وزكاة ؟ فإذا أراد الرجوع إلى الله فهل يتمكن له أن يقضي ما فاته على الترتيب من قضاء وكفارة وغير ذلك في بقية الحياة؟ كلا فإنّها لا تسعه وليس عليه إلاّ أن يرجع لله بقلبه كدخول الكافر للإسلام بقوله لا إله إلاّ الله ويشتغل بالله اشتغالا كليّا لأنّه إذا التفت لما فات فإنّه يقطعه عن الله ويعوّقه عن التوجه إليه والوقوف معه.

قيل في الحكم العطائية لا يعظم عندك ذنب عظمة تصدك عن الله فهذا صاحب المخالفة المحظورة عند وجود التوبة يتعذّر عليه أن يقضي ما فاته مع أنّ المخالفة قد تمّت عند رجوعه إلى الله فكيف بصاحب مساوى النفس التي لا نفاد لها في المستقبل فهل يمكنه أن يحصر مساوئها وتحيلاتها ؟

وحاصل الأمر أنّ المريد ينبغي له حالة اشتغاله بالله أن يترك كلّ فعل صدر منه في السابق محمودا كان أو مذموما ويشتغل بالله على وفق ما دلّه عليه المرشد ولا يرى لنفسه عملا حتى إذا تحقق التجاؤه إلى الله فلا جرم يأخذ الله بيده بما منه إليه لا بما من العبد إلى الله وإنّ طاعته لا تقربه من الله شبرا ومعصيته لا تؤخره ذراعا "والله ولي المتقين" الجاثية آية 19.

تعليقات