علاقة الشيخ بن باديس بالتصوف وبالشيخ العلاوي

ليس صحيحا ما يشيعه بعض الجهلة ممن لا علم لهم بالتاريخ أن الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس رحمة الله عليه لم تكن له علاقة جيدة مع التصوف وأهله ومع الشيخ احمد بن مصطفى بن عليوة المستغانمي تحديدا وافتعال الخصام بين الرجليين فرية عظيمة.يكذبها التاريخ.بل ويكذبها الشيخ بن باديس نفسه الذي كتب في "أثاره" ومذكراته وسجل فيها كل زياراته الكثيرة والمتكررة للزوايا ولشيوخ الزوايا في مختلف مناطق الوطن الجزائري. ففي كتاب "آثاَرُ ابْنُ بَادِيسَ" الذي ألفه الشيخ عبد الحميد محمد بن باديس الصنهاجي (المتوفى: 1359ه) والذي حققه الدكتور عمار طالبي، ونشرته دار ومكتبة الشركة الجزائرية في طبعتها الأولى (عام 1388ه - 1968 ميلادية)، بمجلداته الأربع ذكر الشيخ بن باديس تفاصيل لقاءاته مع مشايخ التصوف وأشاد بهم وبدورهم ودور زواياهم في تربية المسلمين وتوجيههم.

وواضح جدا من كلام الشيخ بن باديس وشهادته أنه كان مؤدبا غاية الأدب والتبجيل والتقدير مع هؤلاء المشايخ و على سبيل المثال لا الحصرأذكر هنا زيارة الشيخ بن باديس التاريخية للزاوية العلوية بمستغانم ولقائه الودي مع شيخ زاويتها الشيخ أحمد بن عليوة رحمه الله تعالى في غرة رجب 1350ه - نوفمبر 1931م.

والملاحظ أن الشيخ بن باديس كان يصر على وصف شيخ الزاوية العلوية ب"سماحة الشيخ سيدي أحمد بن عليوة" كما لم يخفي الشيخ بن باديس إعجابه بفضل الشيخ العلاوي وأدابه وسجل تقديره له. واترك القارئ الكريم يتأمل كلمات الشيخ ابن باديس فقي كلمات الشيخ ما يقطع ألسنة الجهل والفتنة بين المسلمين.

جاء في الكتاب في المجلد الرابع وفي الصفحة 311 ،312،313) :
"مستغانم: قصدنا من المحطة إلى مسجد الأخ الشيخ بالقاسم ابن حلوش لما بيننا من سابق المعرفة بالمكاتبة وروابط المودة المتأكدة ولأن ابنه الشيخ مصطفى أحد مريدينا ومن أعزهم علينا فتلقيانا بالحفاوة والسرور الزائدين وأنزلنا على الرحب والسعة ومن غده دعا للعشاء معنا أعيان البلد منهم فضيلة الشيخ المفتي سيدي عبد القادر بن قارة مصطفى وسماحة الشيخ سيدي أحمد بن عليوة شيخ الطريقة المشهورة وكان هذا أول تعرفنا بحضرتهما فكان اجتماعاً حافلاً بعدد كثير من الناس، ولما انتهينا من العشاء ألقيت موعظة في المحبة والأخوة ولزوم التعاون والتفاهم على أساسهما وأن لا نجعل القليل مما نختلف فيه سبباً في قطع الكثير مما نتفق عليه، وأن الإختلاف بين العقلاء لا بد أن يكون ولكن الضار والممنوع المنع البات هو أن يؤدينا ذلك الاختلاف إلى الافتراق وذكرنا الدواء الذي يقلل من الاختلاف ويعصم من الافتراق وهم تحكيم الصريح من كتاب الله والصحيح من سنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم-. فاستحسن الشيوخ الحاضرون ذلك وحل من الجميع محل القبول، والحق يقال أن أغلب الناس ممن رأينا صاروا يشعرون بألم الافتراق وينفرون منه ويصغون إلى دعوة الوفاق والتحاب، وما افترق المجلس حتى دعانا الشيخ سيدي أحمد بن عليوة إلى العشاء عنده والشيخ الحاج الأعرج بن الأحول شيخ الطريقة القادرية إلى الغداء فلبينا دعوتهما شاكرين، فكانت حفلة الغداء في دار الشيخ سيدي الحاج الأعرج.

ثم كانت حفلة العشاء عند الشيخ سيدي أحمد بن عليوة حضرها من أعيان البلد ومن تلامذة الشيخ ما يناهز المائة وبالغ الشيخ في الحفاوة والإكرام وقام على خدمة ضيوفه بنفسه فملأ القلوب والعيون وأطلق الألسنة بالشكر، وبعد العشاء قرأ القارىء آيات، ثم أخذ تلامذة الشيخ في إنشاد قصائد من كلام الشيخ ابن الفارض بأصوات حسنة ترنحت لها الأجساد، ودارت في أثناء ذلك مذاكرات أدبية في معاني بعض الأبيات زادت المجلس رونقا.

ومما شاهدته من أدب الشيخ مضيفنا وأعجبت به أنه لم يتعرض أصلاً لمسألة من محل الخلاف يوجب التعرض لها على أن أبدي رأيي وأدافع عنه فكانت محادثاتنا كلها في الكثير مما هو محل اتفاق دون القليل الذي هو محل خلاف. لكن السيد أحمد بن اسماعيل صاحب مخازن الاتاي- وكان جالسا على شمالي في المجلس- شاء أن يخرق هذا السياج ويدخل في موضوع ليس حضرته- وله الاحترام- من أهل الكلام فيه فقال: "هؤلاء المفسدون الذين يسمون أنفسهم مصلحين ينكرون الولاية" فرأيت في وجه الشيخ أحمد بن عليوة الإنكار لهذا الكلام الخارج عن الدائرة ووجدت نفسي مضطراً للبيان فقلت له: "إسمع يا سيد أحمد الولاية الشرعية قد جاءت فيها آية صريحة قرآنية" وتلوت له قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ} الآية وتكلمت على شيء من معناها فمن أنكر هذه الولاية. فلفظة مفسد قليل في حقه وحقه أن يقال فيه ملحد. وأما لفظة مصلح فهي أعلى من هذا وأشرف من هذا كله، وأن المسألة ليست هنا وإنما المهم هو أن جميع علماء الإسلام من المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين وشيوخ الزهد المتقدمين تتسع صدورهم لأن يؤخذ من كلامهم ويرد إلا العامة المنتمين إلى التصوف فإنهم يأبون كل الإباء أن يسمعوا كلمة نقد أو رد في أحد من الشيوخ مع أن غير المعصوم معرض للخطأ دائما في قوله وأفعاله فكأنهم بهذا يعتقدون فيهم العصمة. وقد سئل إمام الطائفة الجنيد: أويزني الولي؟ فأطرق ثم قال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} فهذا يدلنا على ما كان عليه شيوخ الزهد من تعليم الناس بأنهم غير معصومين دفعاً لغلو الغالين وعلى أن فكرة العصمة أو ما يقرب منها موجودة في الأذهان وهي مثار مثل هذا السؤال، فلو أن إخواننا المنتمين للتصوف قبلوا أن يوزن كلام الشيوخ بميزان الكتاب والسنة مثل غيرهم من علماء الإسلام ورضوا بالرجوع الحقيقي لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} لبطل الخلاف أو قل" فرضي أهل المجلس هذا الكلام وسكت السيد أحمد بن اسماعيل وقال الشيخ سيدي أحمد هذا مما لا يخالف فيه أحد فقلت له مثلكم من يقول هذا وتكلم الشيخ المفتي بما فيه تأييد لما قلناه ثم عاد المجلس إلى الإنشاد والمذاكرات الأدبية حتى انتهت السهرة وانصرف المدعون ونحن من جملتهم شاكرين فضل حضرة الشيخ وأدبه ولطفه وعنايته كما شكرنا أدب تلامذته وعنايتهم بضيوف أستاذهم وخصوصا الشيخ عده ابن تونس تلميذ الشيخ الخاص.

أهل مستغانم أهل ذكاء وحسن نية وإقبال على العلم والشيخ مصطفى بن حلوش قائم في مسجده بالتعليم والإرشاد للعامة بدروس ليلية وساع في تحصيل رخصة من الحكومة لتعليم الصغار. وقد أضافنا فيها الشيخ ابن حلوش أبو مثوانا والشيخ الحاج بن الأعرج والشيخ أحمد بن عليوة والسيد الجيلاني التدلوتي عائلة دين وفضل وعمل، ولو اتسعت المدة لكنا تشرفنا بكثير غيرهم منهم صاحب الفضيل.

علاقة الشيخ بن باديس بالتصوف وبالشيخ العلاوي المستغانمي تحديدا بقلم الدكتور فرعون حمو.

تعليقات