محمد بن خليفة المدني المديوني - الشهائد والفتاوي (3-01)

الشاهد الواحد من القسم الثالث في سرد جملة من شهادات أعيان الطريقة العلاوية وفقهائها. (3-01)

الشيخ محمد المدني بن خليفة بن حسين بن الحاج عمر خلف الله, 
ولد بقصيبة المديوني ولاية المنستير عام 1307 هجري الموافق لسنة 1888 ميلادية. إزدان شبابه بتعليم القرآن الكريم وبعد الحفظ وتصحيح الرواية, إنخرط في سلك طلبة جامع الزيتونة المعمور وتتلمد على مشائخ عظام وأئمة كرام منهم العلامة شيخ الإسلام الحنفي سيدي محمد بن يوسف وشيخ الإسلام المالكي سيدي بالحسن النجار والعلامة سيدي محمد طاهر بن عاشور. 

وبعد الإنتهاء من التعليم بجامعة الزيتونة, إتصل بالصوفي الأكرم المشهور بتلقين الإسم الأعظم الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي حيث يقول الشيخ المدني: "أما إجتماعنا بالأستاذ رضي الله عنه وأرضاه فقد كان في أول زيارة تشرفت به حاضرة تونس في سنة 1328 هجرة من بعث على أكمل وصف, و كنت أظن أن الأستاذ كغيره من مشائخ زماننا المدعين ولكن ما لبثت بعد إستماع تذكيره ولطيف تعبيره وصولة كلامه وسطوة معانيه وأفهامه أن قلت كما قال ابن عبد السلام مع الشاذلي: "هذا الكلام قريب العهد من رب العالمين", فعند ذلك تشرفت بالتسليم عليه والمثول بين يديه, فلقنني ورد طريقته العام بطريق المصافحة, ثم لقنني الإسم المفرد وأذنني في ذكره بكيفية خاصة بعد أن أدخلني الخلوة, ولكن ما لبثت في الذكر زمنا يسيرا حتى فتح الله على عين قلبي فحصلت على الفتح المبين ببركة الاستاذ رضي الله عنه والمنة لله, و قد بقيت في خدمته بعد الذكر نحو الثلاث سنين متفرقة منها سنة متصلة إستكتبني في تلك المدة لتئاليفه ورسائله, فكنت أستفيد منه في كل وقت وحين من أسرار التوحيد ودقائق تفسيره في القرآن العظيم ورقائق شرحه للحديث الشريف, وما سمعت منه مدة إقامتي عنده كلمة إلا فيما يعود بالنفع ظاهرا وباطنا, ثم أجازني رضي الله عنه في تلقين الورد العام والإسم المفرد الخاص لمن فيه أهلية للمزيد و تلقي أسرار التوحيد ففتح الله على كثير من الفقراء ببركة إذنه المبارك والله يزيدنا من فضله فإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء من عباده وهو على كل شيئ قدير".

رؤية العارف بالله والدّال عليه الشيخ محمد المدني القصيبي المديوني رضي الله عنه:
"لما تعلّقت بالطريقة العلاوية رأيت سيدي الشيخ الصادق النيفر القاضي بحاضرة تونس يقول لي هل تعرف سيدي الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي ؟ فقلت له نعم، هو الشيخ الذي أخذ عليه أستاذي سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة رضي الله عنهم أجمعين، وأخذت في مدحه، وبينما أنا كذلك إذ تمثّلت طيرا، وأخذني الشيخ النيفر، فرماني من وراء الحائط، وقال لي اغمض عينيك، فسيلقاك سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة رضي الله عنه، ورماني أيضا، وعندما فتحت عيني وجدت نفسي بين يدي سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة رضي الله عنه واقفا عند باب دارنا".

فامتثل الشيخ محمد المدني للإذن المطاع و نشر الطريق في عدة بقاع و قضى 49 سنة في التذكير إلى أن أتاه اليقين بأحد مستشفيات سوسة و ذلك صبيحة يوم الخميس 8 ذو القعدة 1378 هـ / 14 ماي 1959 م. رحمه الله وأرضاه وقدّس روحه.

ملحق

كان والده من أتباع الصادق الصحراوي، حفظ القرآن في سن الثانية عشر من عمره، ثم تابع دروسه مدة عامين في المدرسة القرآنية بالمنستير، وفي مدة انتسابه لجامع الزيتونة التقى بالشيخ ابن عليوة عند مروره بتونس وقد أذن له بالإرشاد في ديسمبر1911. تجرد محمد المدني بزاوية مستغانم كاتبا للشيخ مدة سنتين متتاليتين ثم أجازه الشيخ أحمد العلوي في تلقين الورد العام والاسم الخاص المفرد، وتلقين أسرار التوحيد، كما أذن له في نشر الطريقة بالقطر التونسي. وكان حينها حديث السن فكبر عليه أن يقوم بدعوة النسبة، فقال لأستاذه مازلت صغيرا على هذا الشأن. فرد عليه الأستاذ: (يا سيدي محمد المدني الذي قلنا له هو صغير فهو صغير و إن كان كبيرا, و الذي قلنا له هو كبير فهو كبير و إن كان صغيرا...) ولما وصل إلى بلده وجد نفسه من بين قومه كبيرا، وأصبحت له عدة زوايا انتسبت له فيما بعد.

الإجازة العلوية الشاذلية

يقول الفقير إلى ربه عبده أحمد بن مصطفى بن عليوة المستغانمي

"حمدا لربنا على ما اولانا من الكرم جل ثناؤه, يتزايد بتواصل النعم العبد من مولاه, و أشكره على الباقيات الصالحات, في هاته الملة ملة إبراهيم حنيفا التي إستلزمت بقاء هاته الطائفة التي سقاها ربها من لذيذ لطائفه طائفة المحققين المخبر عنها في حديث سيد المرسلين "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" فيا سعادة من تمسك بأذيالهم و يا فوز من إعتمد عليهم, فشرب من مناهلهم بشرط الإتصال بهم, فحذف الواسطة إختلال و السير بدون دليل مظنة الضلال, فإذا كانت الواسطة مطلوبة فالإجازة إذن مشروعة و مرغوبة و هي على قسمين: قلبية ولفظية.

فالقلبية هي التي خوطب بها صلى الله عليه و سلم في قوله "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء"و اللفظية هي المشار لها بقوله "يا يحيى خذ الكتاب بقوة" و لا بد و أن تتقدم عليها الإجازة القلبية, وقد أخبر عن تقدمها في قوله "وأتيناه الحكم صبيا"فهذه إجازة العارفين الذين لهم لسان صدق في الآخرين, هذا أيها الفقير الفاني, المنتسب الرباني محمد بن خليفة بن الحاج عمر المشهور بالمدني, وقد عاشرتنا أياما فأزال الله عنك حجبا و أوهاما, و إستفدت منا بقدر ما لك من الرغبة فينا و عليه فيجب عليك أن تفيد إخوانك من العبيد, لأنه مهما إستفاد الإنسان إلا و يجب عليه أن يفيد إذ لا حل للإنسان أن يكتب ما أعطيه من العلم السديد, فهذه رتبة الإرشاد تطلبك بكل الإجتهاد, فارشد من إسترشدك وصل من قطعك, فإنا أجزناك في الطريقة الشاذلية الإجازة اللفظية تعضيدا لما تقدم لك من الإجازة القلبية.

وعليك بمحبة ربك, فالله ينزل عبده حيث أنزله العبد من نفسه, فأرجو الله لك دوام الوداد, وأعلم أن المدد يكون بقدر الإستعداد ولا يخفاك ما عرفته من سيرتنا فاتبع أحسنه و لا تقتدي بتقصيرنا في الإرشاد, فقد كان أستاذنا سيدي محمد البوزيدي يسهر الليالي العديدة لنفع العباد, و اتبع سيرة اسلافنا و من اخذنا عنه طريقتنا فإنك متصل بهم ما دمت على سيرتهم, فحافظ بارك الله فيك على ودهم و عهدهم فالله يحفظك و هو خير حفظا و هو أرحم الراحمين, و في الختام أسال الله العظيم بجاه نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة و أزكى التسليم أن يحفظنا فيما منحنا و يوفقنا لما أمرنا.

اللهم بحق نبيك الأكرم و رسولك الأعظم خير من تأخر و تقدم, أسألك أن تهيأ له الصراط المستقيم, فإننا أوقفناه ببابك يحببك للخلق و يحبب الخلق إليك, فإفسح اللهم له معرفتك و أحففه بجنود نصرتك و أدخله في حيز منعتك و أحفظ من تعلق به بفضل الدخول لحضرتك و كن يا مولانا سمعه و بصره و يده و رجله و أفنه يا ربنا عن وجوده في وجودك حتى لا يبقى له و به إلا ما هو لك و بك, آمين بحرمة سيد المرسلين و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

كتب عن إذن الأستاذ رضي الله عنه بلفظه فإنك ترى أسفله إثر ختمه نفعنا الله و جمبع المسلمين آمين, و كتب في الحادي عشر من ذي الحجة عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. أحمد بن عليوة"

شجرة الأكوان للشيخ سيدي محمد بن خليفة المدني.

اللهم صلّ وسلّم على أصل شجرة الأكوان المتفرّع من نوره ما يكون وما كان، بحر نورك المنزّه عن التّحديد المبرّأ عن ربقة الإطلاق والتقييد، عين كلّ الأعيان، المتدفّق من أصل النقطة الأزلية، المتجلّي بما هو ظاهر لسائر البرية، الذي برزت للعيان حقائقه المحمّدية، الفرع الزّاهر الزّاهي بل الأصل الباهر الإلاهي، فيض الأماكن والأزمان، وينبوع المعاني والعرفان، فهو جنان والأنام أثماره، أو روض وبروق الخلق أنواره، بل هو سماء الوجود أضاءت في ليل الأكوان بدوره وأقماره.

صلّى الله عليه وسلم ما انتشر على لوح الوجود سرّ الألوان وانفلق من عالم الجبروت لطائف الملكوت وكثائف الأعيان، نسألك ببطون ذاتك عن الشهود وظهور آياتك للوجود أن تجعل في الصلاة قرّة عيني كي يتحقّق جمعي ويزول بيني، وتثبت في شهود العين بدلا عن غيني، ونسألك بوحدانيتك أن تصلّي على التّنزّل الأول والظهور الثاني، قبضة نورك الأزلي وسرّ سائر الأوان.

اللهم صلّ وسلّم على مرآة الحقائق مصباح نورك الممتدّ ضياؤه إلى أجزاء الخلائق، من تجلّيت عليه بلا فاصل ولا فارق حتى قلت: "إنّ الذين يبايعونك إنّما يبايعون الله" فاسبل اللهم عليّ حلّة سناه وحلية بهاه كي يسقى "عدمي بماء وجوده وتنتعش روحي بعذب موروده فينطوي في حضوري غيبي فأقول كقوله: "لي وقت لا يسعني فيه إلاّ ربّي.

وصلّ وسلّم عليه عدد فيضك الرحماني المتدفّق من عالم الجبروت على هذا العالم الفاني، فقلت: "الرحمان على العرش استوى" فاختفى عدم الخلق في وجودك وانطوى، فقلنا: لا موجود غيرك وما في الشهود إلاّ برّك وخيرك، فأحجب اللهم بصائرنا عن العدم وكحّل أبصارنا بنور القدم وأوقد لنا نور التّوحيد من شجرة "فأينما تولّوا فثمّ وجه الله" حتى لا نرضى بصحبة غيرك ولا نراه.

الصلاة والسلام عليك يا نور الوجود وعين الوجود ومفتاح الشهود، أيها المظهر الأتمّ والنور الأكمل الأعمّ، يا من أسري بك إلى سدرة المنتهى حتى كنت قاب قوسين أو أدنى، فانطوى ليل البشرية في نهار تلك الذّات العلية، فأوحى إليك ما أوحى وانبعثت إلينا أشعّة ذلك النّهار وأشرقت على عدمنا الشموس منك والأقمار، فوجودنا وجودك وشهودنا شهودك، ونحمد الله حمدا يليق بجماله ونشكره شكرا يناسب إنعامه وإفضاله، ونصلّي ونسلّم على الخلفاء في الشريعة والأحكام المطهّرة المنيعة، وعلى جميع الآل والأصحاب الأولى غرفوا من بحر حقائقه الواسعة الرفيعة وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى أزواجه أمّهات المؤمنين وذرّيته وأتباعه إلى يوم الدين والحمد لله ربّ العالمين.

تعليقات