الشيخ العلاوي - ليس من شان الأفكار أن تندفع مع كل تيار

نعني بهذا العنوان ما يخص الأفكار العظيمة الراسية, البعيدة المرمى, التي تختار لنفسها أن تكون عاملة إن اشتدت العواصف, غير معمول فيها, فهي لا تعمل فيها معاول الأهواء, ولا تيارات الإغواء, فتلك الأفكار هي التي يعتمدها المجتمع الجنسي أو النوعي في المحافظة على ميزته بين الأجناس والأنواع, حتى لا تصبح أثرا بعد عين, شأن الضعيف مع القوي, والصغير مع الكبير, وهي سنة ثابتة, وطبيعة راسخة يثبتها التاريخ.

فكم توركت العناصر على بعضها, وكم دمجت الأمم في مثلها, وكم, وكم ... وما ثبتت ميزة أمة وتعشقت صبغتها مع مرور الدهور, وتلون العصور, إلا بفضل مفكريها ورجال زعامتها الذين يسهرون الليالي, ويضمأون الأيام, سعيا منهم وراء ايجاد ما عساه يصلح لحفظ كيان الأمة من جهة نفسيتها, آدابا وأخلاقا, ولغة ومعتقدا, ذلك شأنهم مهما اشتدت العواصف وعظمت الكوارث.

وليس العجب ممن اندثر من الأمم الضعيفة كيف اندثر, إنما العجب كل العجب ممن ثبتت ذاتيتها مع ضعفها من أول نشوئها إلى يومنا هذا, ولكن هذا العجب يندفع مهما علمنا أن في كل أمة سادة, وفي كل عصر قادة, الأمر الذي لا يفقد نظيره مجتمعنا الإسلامي ضرورة, وإلى أولئك القادة تتجه الأبصار, وتحدق الأنظار, وعليهم تعلق الآمال, آمال الأمة فيما يحفظ كيانها من السقوط وشرفها من الهبوط.

ونحن نعلم أن موقف أولئك الزعماء أمام تيارات العصر المتلاطمة, التي اصبحت الأمة تحت تأثيراتها, هو أحرج من موقف الجندي في ساعة الوغى إذا اشتد الوطيس, يحتاج إلى شجاعة تامة, ومهارة نادرة تفوق حد التصور.

على أن ما دهم الأمة فجائيا لم يكن من نوع واحد, ولا من جهة فقط, أو من جهتين, حتى يتيسر للزعيم ان يأخذ احتياطه لدفعه بكل سهولة ريثما ينسحب ذيله أو يقضي الله ما يشاء ويحكم ما يريده, ولكن الأمر جاء على حد قول القائل : "ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث... ورابع".

وملخص ما نستطيع التعبير عنه هو أن العنصر العربي تورك على العنصر الغربي(1), لا بقوته فحسب, بل بأخلاقه وتعاليمه ومدنيته وخزعبلاته, وكل ما من شأنه أن يخلب الأنظار أو نقول يمحو الآثار. ولم يقتصر ذلك على ما ظهر من الماديات, بل تعدى لأخلاق الأمة ومعتقداتها, وهو الأمر الذي يبعث على الحيرة ويقضي بالفشل على بعض مفكري الأمة وزعمائها. لولا أن شأن الزعيم أن يكون زعيما كيفما كان الحال, وأولئك الذين أشرنا لهم في صدر المقال من كونهم لا يندفعون مع كل تيار, فتجدهم على سفن الصدق ومتون الإخلاص, يحاولون اجتياز بحر تتلاطم أمواجه وتتصادم تياراته ظلمات بعضها فوق بعض, إما يقطعونه سعداء أو يموتون شهداء, يعتقدون أن الموت له شأن أفضل من عيش مهان.

أما موقف زعمائنا الذي ينبغي أن يكونوا عليه الآن, فهو المحافظة على نفسية الأمة وعقائدها, فأمتنا ظلت عربية مسلمة, وتبقى عربية مسلمة, لها أخلاقها وعقائدها, كما لكل أمة أخلاقها وعقائدها.

وليس من العار إذا احتفظت أمة بشرفها, وإنما العار إذا نحن حاولنا أن نبدل شرفنا لنيل شرف غيرنا, فهنالك العار وهناك الشنار. في حال أن الشرف أشبه شيء بالعرض اللازم لجوهره لا ينتقل لغيره, فالمحاول أن يكتسب شرفه من شرف غيره, كالباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه. فليتق الله ربه من يريد أن يمتهن شرف أمته أو يلعب بسمعتها, فإني رأيت شرف الأمة الآن يتقاطر من أقلام كتابها.


(1). في الأصل "الشرقي" وهذا ينافي محتوى المقال.


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري - ليس من شأن الأفكار أن تندفع في كل تيار, العدد 144 بتاريخ  19 جمادى الثاني 1348هـ, 22-11-1929
.

تعليقات