الشيخ العلاوي - مراتب العبادة ثلاث

قد كنا وقفنا على ما دار من الحديث واشتد من النزاع بين
الأستاذ الحافظي والشيخ ابن باديس في مراتب العبادة, وكان ابن باديس ينكر أن يوجد من بين العابدين من تكون عبادته خالصة لذات الله, لا تخوف من نار ولا لطمع في جنة, مستدلا بما فهمه من منطوق قوله تعالى من سورة الفرقان "وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ, إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)", حيث إنه تعالى ذكر من أوصاف عباد الرحمن أنهم يقولون "رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ", إذ لو كان وصف أعلى من ذلك لذكرهم به, وعلى هذا الفهم بنى إنكار لوجود من يعبد إلا لذاته لا لشيء. ثم حط بثقيل العبارة على من يقول بخلاف ذلك من سالف الأمة ونسبهم الى القول في دين الله بغير علم.

وكان حضرة الحافظي ينتصر لمن يقول أن أعلى مراتب العبادة من تكون عبادته لذاته تعالى, ويرى حضرة ابن باديس قد أخطأ خطأ فاحشا في تنقيص من مضى من محققي الأمة القائلين بالقول الأخر وقد وجه عليه شديد اللوم ومُرَّ العقاب وردَّ عليه بالحجج التي كان يراها كافية لموضوع النزاع.

غير أن حضرة ابن باديس لم يراها وافية بالغاية بل كان يصرِّح على أنه لا يوجد نص صريح في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبت هذا الزعم الأخير.

أما ما تمسك به ابن باديس فقد كان يراه صريح القرآن, وهذا ما كان يراه حضرته, وهنا انتهى الدور وختمت الرواية على ما بدأت عليه, وكل متمسك برأيه مقتنع باختياراته.

أما نحن فقد استفدنا مما جاء به حضرة ابن باديس في كتاباته مسائل... :

أولاها أن حضرته معجب بنفسه لا يرى قولا غير قوله, ولا فهما غير فهمه, ولهذا تراه يتطاول على من يقول بخلاف ذلك سواء عليه من عاصره أو من تقدم عصره كأنه المحيط بكل شيء علما, وكأنه لا يرى مدلولا لقوله تعالى (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) سورة يوسف - 76.

أما لو اكتفى بقسمته من العلم لما احتقر قسمة غيره, ولم يكفه ذلك حتى نسب الخاصة من سلفه إلى القصور والقول في دين الله بغير علم.

المسألة الثانية وهي من أهم المسائل وأعظمها, رأينا حضرته لا يتزحزح عما فهمه من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولهذا تراه يضيق الخناق ويشدد الحصار على من يقول بخلاف قوله ولو كان بيده اليمنى عصا موسى وفي الأخرى آية المسيح عليهما السلام.

المسالة الثالثة وهي من أهم المسائل وأعظمها أيضا, تبعة ما جاه به في كتاباته من صريح العبارة التي تقضي بتسوية النبيين والمرسلين بعبادة غيرهم من عامة المؤمنين, حيث يقول: "إنه ليس هناك إلا مرتبة واحدة في العبادة", والذي أدهى من هذا وأعظم هو اعتقاده أن الباعث على عبادة العابدين من المرسلين الى عامة المؤمنين هو الخوف من النار والطمع في الجنة, إذ ليس هناك من يعبد الله مخلصا لذاته, بحيث لو لم تكن هناك جنة ولا نار لما وجدنا لله عابدا على زعمه.

فمقولة كهاته لم تروى عن غير حضرة ابن باديس فيما نعلم, وكل هذا في اعتقاده يؤخذ من وصفه تعالى لعباد الرحمن أنهم "يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ, إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا" وغير هذه النصوص التى يراها تتضمن هذا المعنى. ولهذا بعثني واجب النصح أن نقدم بين يديه هاته النظرية وهي وإن لم تبلغ قوة ما قدمه الأستاذ الحافظي في الموضوع فلا تعدم حظا من الفائدة خصوصا لما جاءت بلغة غير لغة المنطق الذي كان يراه حضرته لا يقيم حجة ولا يهدي سبيلا.

وقبل أن نطرق موضوع الدليل نقدم نبذة صالحة فيما يتعلق بالآية الكريمة التي هي محل النزاع, أعني قوله تعالى "وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ".

فأقول إن هاته الآية لا تدل لا بمنطوق ولا بمفهوم على ما فهمه حضرة ابن باديس منها من كون العبادة لابد وأن تكون معللة بالخوف من النار أو الطمع في الجنة, لأنه تعالى لم يقل وعباد الرحمن الذين يعبدون الله خوفا من ناره أو طمعا في جنته, إنما ذكرهم بعد كونهم يبيتون لله سجدا وقياما يقولون في دعائهم "رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ, إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا", والدعاء عبادة مستقلة, فكأنهم مع ما هم عليه من إفراد الوجهة لله واستغراق الزمان في عبادته, لا يرون لأنفسهم حقا على الله يستوجبون به النجاة وهذا ما يقتضيه خالص العبودية.

وإذن فمن أين أخذنا كون عبادتهم كانت معللة بالخوف من النار, وإذا كان كل من استعان من شيء أو سأل الله النجاة منه تكون عبادته بقصد التوقي من ذلك الشيء, لم يوجد مخلص ولم يبق للإخلاص معنى؟

أما ما ذكره حضرة ابن باديس من عدم وجود دليل صريح يثبت كون مراتب العبادة ثلاثا, فيكفيه كون مراتب الدين ثلاثا, إسلاما وإيمانا وإحسانا, فما هي إلا مراتب في العبادة ويدله على هذا بالصراحة تقسيمه تعالى الناس على ثلاثة أقسام: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والمقربون, وإذن فما معنى هذا التقسيم والحالة أن مراتب العبادة فيما بينهم واحدة؟

واني كنت يا حضرة ابن باديس أظن أن لا يفوتك نظير هذا الفهم, ولو فاتك ذلك على التقدير مع التسليم لمن يقول به لعذرناكم في قصوركم, ولكن تجاوزتم إلى حد يفهم منه أنه لا مقرب من المقربين عندكم يعبد الله لذاته, وما نشأت عبادة العابدين إلا لعلة.

وهنا ظهر لي أن نلقي عليكم بعض أسئلة بسيطة وهي أنكم ضرورة تعتقدون بتقدم وجود بعض المخلوقات على وجود الجنة والنار خصوصا ملائكة الله وما لم نعلمه من خلق الله, وتعتقدون أن العبودية منوطة بخلق كل مخلوق, وإذن فما رتبة أولئك السابقين في العبادة, والحالة أنها لم تكن نار تبعثهم على العبادة, وهل كانوا مفرغي الذمة من العبادة؟ وهل الله لم يكن أهلا لأن يُعْبَدَ لذاته؟ تعالى الله عن ذلك.

ثم أسألكم سؤالا ثانيا, إنه لما صدرت بشارة أهل بدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونهم لا يذنبون وإذا أذنبوا لا ذنب عليهم, فهل بلغك عن أحدهم أنه اقترف ذنبا بصراحة وتخلى عن عبادة الله حيث لم يبق للنار فيه حظ, وما هي رتبتهم إذ ذاك في العبادة كانت يا ترى؟

ثم أسألك سؤالا ثالثا وهو أبسط الأسئلة وأوضحها, قد ثبت في صريح الشرع أنه تعالى غفر لنبيه صلى الله عليه وسلم ما تقدم وما تأخر, فزاد في العبادة وتقوى في المجاهدة إلى أن تورمت قدماه, فقيل له في ذلك, فقال "أفلا أكون عبدا شكورا", فأي باعث بعثه على ذلك يا ترى؟ فهل الخوف من النار وقد انطوى بساط الخوف منها على ما يظهر ببشارة الله له؟ وهل كانت عبادته من قبل أيضا معللة بالخوف من النار؟ لا, لا, ما هكذا يكون الفهم يا حضرة ابن باديس فإنك قد اتهمت سائر المخلصين بكون عبادتهم كانت معللة بالخوف من النار بحيث أنه لو لم تكن نار هنالك لما رأينا من بينهم عابدا ولا راكعا ولا ساجدا, برأهم الله من ذلك, أعني بأن يكون الغرض هو الحامل لهم على العبادة.

وكأني بك ياحضرة ابن باديس لم تقف على كون العبادة المعللة بغرض من الأغراض هي أصل من أصول الشرك وإلا لما نسبت لهم ذلك؟

ذكر الامام السنوسي صاحب العقائد في مقدمته المطبوعة على جامع (عقيدة) صغرى الصّغرى التي جعلها في التنبيه على أصول الكفر السبعة وأصول الشرك الثمانية, أن شرك الأغراض أصل من أصول الكفر وبعد ما عرفه من كونه هو العمل لغير امتثال لأمر الله تعالى بل لمجرد نيل محمدة أو صرف مذمة وما هو من هذا القبيل أعقبه بما لفظه قال: "ونحو ذلك العمل لمجرد الظفر بالحور والقصور ونعيم الجنان والسلامة من النيران والسبب الحامل لذلك نسيان توحيد المولى تبارك وتعالى", انتهى من المتن مع بعض ألفاظ شارحه, فتأمل...

أما الخوف والرجاء فإنه منوط بالعبودية, لكنهما لم يكونا علة أبدا ولا شرطا في وجود عبادة الأصفياء وهما لازمان للمقربين ولو لم تكن جنة ولا نار, قال عليه الصلاة والسلام "إني لأقربكم الى الله وأشدكم منه خشية", فخشيته من الله عليه الصلاة والسلام لذاته لا لمجرد ناره, وهذا ما نراه وحق أن تروه أنتم أيضا صالحا بمقام المقربين, فلتثبت ساعة يا حضرة الشيخ وتردد النظر فيما كتبناه فلربما يظهر لكم ما يرشدكم إلى أن مراتب العبادة متفاوتة, إذ بعيد أن تقاس مرتبتي ومرتبتك في العبادة على مرتبته عليه الصلاة والسلام.

والى هنا انتهى الحديث...

ثم قال حضرة الكاتب (الشيخ العلاوي): قد كنت اجتمعت مع بعض متصوفة العصر فتجاذبنا الحديث عن مراتب العبادة الثلاثة فقال حضرة الصوفي:

إن ما أثبته المحققون من كون مراتب العبادة ثلاثة هو جري منهم على ما يقتضيه الفهم العام وإلا فمراتب العبادة تتعدد بتعدد نفوس المتعبدين.

فقلت له: كيف ذلك؟

فقال حضرة الصوفي: إن تجليه تعالى للمصلين أو العابدين في صلواتهم يختلف باختلاف إفراد وجهتهم لله تعالى, فهو لا يتجلى لأحد بما يتجلى به للأخر, وأسرار الخلق مع الله متفاوتة من جهة الشعور والقوة والضعف. وبالجملة فإن المراتب في العبادة تتفاوت بتفاوت إفراد الوجهة لله عز وجل, بناءًا على أن "لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا" حسبما أخبر به التنزيل, في سورة البقرة آية 148.

ولما سمعت هذا الحديث قلت: سبحان من خص من شاء بما شاء, ثم شكرته على هاته الفائدة, وأن مع قصور فهمي عن الإحاطة بها.


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري - مراتب العبادة ثلاث, العدد 210 بتاريخ 12-05-1931

تعليقات