حج الأستاذ العلاوي إلى بيت الله الحرام وسياحته بالمشرق 1930م - 1348هـ /49هـ

فاتح أبريل 1930م - ذي القعدة 1348هـ
الإعلان عن قرار الشيخ العلاوي للحج 
تحقق سفر الأستاذ العلاوي إلى بيت الله الحرام بعد توفيق الله سبحانه وتعالى عل طريق المركب العمومي الذي سيخرج من الجزائر بتاريخ يوم الثلاثاء 15 أبريل 1930م, فمن أراد من الأصدقاء الاجتماع به قبل السفر فليكن قبل التاريخ بنحو اليومين, كما أنه سيمر على مدينة عنابة فيكون اجتماع أهالي تلك النواحي به هناك. أما فيما يخص إخواننا المغاربة وأهالي تلمسان ونواحيها فإن الاجتماع بهم سيقع كما تقرر بتاريخ يومي 2 و 3 من شهر أبريل بمدينة تلمسان بمناسبة الاحتفال الذي سيقع في الزاوية الجديدة هناك, والله ولي الحفظ. وقد عهد إلينا زميلنا الفاضل السيد عدة بن تونس (مدير هذه الصحيفة سابقا) بأنه سيتطوع بمراسلتنا بتقارير عن رحلتهم في طريقهم الى بيت الله حيثما حلُّوا إلى يوم عودتهم, بلَّغهم الله الأمل وجعل سفرهم سعيدا وغدوهم حميدا.


الخميس 17 أبريل 1930م, 18 ذي القعدة 1348هـ
من عنابة

أقيمت حفلة بالجزائر لتوديع الأستاذ العلاوي ومن قدموا صحبته من مستغانم وغليزان وغير ذلك بقصد أداء الفريضة. والوفود التي قدمت لتودعه من مستغانم وغليزان وتلمسان والمدية ومليانة والبليدة والذين قدموا من بلاد القبائل وغيرها من نواحي العمالة القسنطينية لتوديعه بميناء عنابة عند ركوبه من هناك السفينة التي تقله إلى جدة. وقد كان الأستاذ بزاويته بمدينة عنابة فمكث بها نحو اليوم أو اليومين لتوديع أحبابه هناك قبل ركوبه السفينة. وقد أقم الفقراء العلاويون حفلا فخما بمناسبة وفود الحجاج عليهم كما هي عادتهم مع الحجاج في كل سنة, وبالجملة فإن تفاصيل الحفل تحتاج الى بسط كلام طويل من جهة ما حواه من ضروب الأبهة وجلائل الإكرام زياد على ما دار فيه من أنواع الأذكار والتلاوة والنصائح. وتجدر الإشارة أن الأستاذ وصل الى عنابة عشية يوم الخميس 17 أبريل 1930م, 18 ذي القعدة 1348هـ, وبمعيته ثلة من الأفاضل, فتلقاه الأتباع والمحبين بالمحطة الأمر الذي غصت بها القاعة وتراكمت السيارات على هيئة تخلب الألباب, ثم ذهب مصطحبا بذلك الجمع الى الزاوية العلاوية بعنابة, وكان الجمع يتألف من أهل البلد ومن غيرهم من بقية مدن العمالة. وسيركب السفينة في اليوم التالي أي الجمعة عشية أو يوم السبت على أكثر تقدير.

الجمعة 18 أبريل 1930م, 19 ذي القعدة 1348هـ
من مدينة وهران

يبدو أن الشيخ عدة بن تونس توجه إلى وهران دون الشيخ العلاوي لأخذ السفينة واحتجاز المنزل المخصص للشيخ العلاوي والذي يبدو أنه فضَّل الركوب من مدينة عنابة, حيث ستقلع السفينة من وهران ثم تمر على الجزائر العاصمة ثم ترسو بعنابة وهي آخر محطاتها بالجزائر.

"آسيا" هو إسم السفينة التي حملت حجاج بيت الله الحرام من القطر الجزائري في هذه السنة (1348هـ - 1930م), وكانت قد أقلعت أولا من مدينة وهران لتتجه إلى بيت الله الحرام ذلك البيت المقدس الشريف والذي تربته نبتت فيها الشجرة المباركة وسماءه طلعت منه شمس الهداية وهو مهبط الوحي وبربعه مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.

ففي يوم الجمعة من مفتتح الشهر الجاري ذي القعدة كانت وفود الحجاج تملأ مدينة وهران كالكواكب الوضاءة وهي تزداد بورودهم رونقا وجمالا والناس ترنوا إليهم بعين الغبطة والاحترام وهم منتشرون في المدينة كأنهم ملائكة الرحمان لما كان يعلوهم من المهابة والإجلال. نادى منادي بالاجتماع بمقر الوالي, فهرع الحجاج ورفقائهم فعلت كلمة التكبير والتهليل ‏والصلاة والسلام على أشرف الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وربات الخدور (النساء المستَتِرات) من بعيد يولولون (يزغردن) على هيئة مؤنسة تذيب الأكباد من خشية الله. فلما اجتمعوا ونودي كل واحد باسمه لتطبيق التساريح على جوازات السفر عل أربابها فكان الامر حسب المرغوب ولم يتخلف ولا واحد من حجيج بيت الله. وبعد الفراغ من ذلك ضرب لنا موعد بالمرسى على الساعة الثالثة حيث مكان السفينة "آسيا".

‏جاءث الساعة الثالثة وظل الناس يموج بعضم فى بعض وكل منهم يزاحم الآخر بقدر ما في وسعه ليفوت صاحبه بخطوة يقترب بهما إلى الله, وكان الحاج مهما حملت عليه الظروف بأنواع إسائتها إلا رأيته القطب الثابت الذي لا يتزحزح ولا تسمع منه أكثر من قوله في الله ما لقيت.

حان وقت الرحيل, فقام ملاَّح "آسيا" الفائزة وجنوده وكلا منهم أخذ مقامه, فرفعت القوانيس وطويت السناجق ورفعت السفينة صوتها الهائل للوداع وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة إذا بالسفينة تجري بهم ‏في موج كالجبال راكعة ساجدة قاصدة بيت الله الحرام, وهناك رأيت بعض الإخوان ‏قد امتلكتهم صولة البحر المتلاطم الأمواج, فما كان منهم إلا أن صاروا ينسلون إلى مراقدهم واحدا واحدا, فناموا في عافية وهناء, ولم يتألم منهم إلا كاتب هاته السطور وبعض الأنفار, فكنا نتمثل بقول القائل: وإذا كانت النفوس كبارا, تعبت في مرادها الأجسام. حتى وصلت إلى ميناء الجزائر العاصمة.

بعد المساء توجهت السفينة الى مدينة عنابة, وكان خروجها من مدينة الجزائر على الساعة التاسعة ليلا. وأخذ الحجاج يتسابقون بأنواع القربات, فهذا يتلو كتاب الله وهذا‏ يدرس سنة رسول الله وهذا يصلي عليه وهذا يذكر مولاه, فمكثنا تلك اليلة والنهار بطوله. وعلى الساعة السادسة لاحت لنا قباب مدينة عنابة, فتنفست الحجاج الصعداء من التملل وتقلبات البحر الذي فعل فيهم في ذلك اليوم العصيب ما تفعل العقار بعقل العفيف النقي التقي.

السبت 19 أبريل 1930م, 20 ذي القعدة 1348هـ
من عنابة

في يوم السبت, وبينما السفينة تحمل في حجاج بيت الله الحرام, ودع الوافدون الشيخ العلاوي إلى السفينة بل ودعوه الى يد من لا تضيع عنده الودائع, تصحبه ان شاء الله ورفقاءه السلامة وتحفهم الكرامة, إذ أقبل جمع عظيم من تلاميذة الأستاذ المرشد الشيخ سيدي أحمد بن مصطفى العلاوي رافعين أصواتهم بذكر الله والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم بكيفية تسرق السامع وتسحر لبه من حيث لا يشعر, ولهذا كان بحقهم من عباد الله بما غصت به الأنهاج, الأمر الذي لم يقع له نظير. وعند وصولهم بساحة السفينة حلقوا حلقة وتقدم للخطابة الأستاذ المبجل الشيخ سيدي محمد المدني القصيبي وتلاه الأستاذ الشيخ سيدي محمد بن سالم بن الوناس, وقد ألقى الأول خطابا بليغا ودع به الأستاذ العلاوي وقام على إثره الثاني فتلا قصيدة في وداع الأستاذ أيضا وهناك حصل للحاضرين على العموم وللأتباع عل الخصوص تأثر شديد وشعور عميق ويومئذ كنت ترى بعينك وتحس بقلبك ما هي المحبة ومن هم رجالها البررة الأوفياء. فنادى مناديه وخرج إليه الخبير فأدخله إلى الموسى وبات ساكنا بعد حركته مطمئن البال من كل الآفات.

كان خروج السفينة من ميناء عنابة على الساعة الثانية عشر من يوم السبت 19 أبريل, 21 ذي القعدة متوجهة على بركة الله إلى فتحة سعيد أي "بور سعيد" وهي مسافة تستغرق ستة أيام بلياليها, فسار الحجاج عل بركة الله متجهين إلى ناحية القبلة بأبدانهم وإلى رب الكعبة بقلوبهم ذاكرين الله شاكرين له على ما هداهم, غير أن البحر كان تلك الليلة على غير هدوء, فلحق الحجاج نوع من الفتور في أبدانهم. وفي صبيحة يوم الأحد كان الحال معتدلا والبحر ساكنا فأصبح الحجيج على أتم راحة وسرور مستبشرين يتسارعون للخيرات ويحافظون على الأوقات التي كانت منتظمة يؤدونها بآذان وجماعة., وباتت الحجاج تطوف على بعضها بكؤوس الشاي والمنشدون يترنمون بأنواع الأناشيد والأذكار, فأدبر الليل وأقبل النهار وتجلى السرور وتزايد الحبور وزال العناء وانتشر الصفاء وفتحت أبواب الأنس والطرب وصارت باخرة "آسيا" في تلك الليلة المباركة تمثل رياض الجنة تمثيلا.

وقد رتبت دروس تلقى عل الحجاج في المناسك, وممن قام بذلك حضرة العلامة الشيخ سيدي الحاج بلقاسم بن كابو الوهراني وبعض الفقهاء هناك, وكانت تلك الدروس تلقى عشية. أما الأستاذ العلاوي حفظه الله فقد رتب درسا صباحا في الوعظ والإرشاد, فتلقته الأفئدة بكل ارتياح لأن كلامه كما لا يخفى على من عرفه يدخل القلوب كما قيل بدون استئذان, وكان يتقدم هذا الدرس شيئا من الأذكار والمدائح النبوية وتلاوة الذكر الحكيم, وقد كان هذا الدرس مما ابتهج به الحجيج ايما ابتهاج وحضره الجم الغفير. وعند انتهاء المواعظ يطاف بكؤرس الشاي على الحاضرين, وهكذ كنا في نعمة شاملة نتخيلها من نعم الجنة.

غير أن البحر لا يدوم على حالة واحدة, فما لبث أن عج عجاجه وكثر لجاجه واضطربت أمواجه, فكنت تراء ما بين ارتفاع وانخفاض وانبساط وانقباض, فنال الحجيج من اضطرابه ما نالهم واستمر الحال على ذلك المنوال إلى ليلة الخميس 24 من أبريل فسكن شيئا في الجملة. أما في ظرف تلك المدة فقليل من المسافرين من كان يستطيع ‏القيام, وعلى كل حال فالأمر لم يكن مهولا للغاية.

وفي حال كتابة هاته الأسطر كان يوجد في الحجاج من يستطيع أداء الفريضة جماعة, هذا من جهة, أما جهة أخرى, فعدد الحجاج لم يتجاوز حد 700 نفس وإنهم في وسع من جهة المنازل, أما أهل الرتبة الأول والثانية فإئهم عل أتم نعمة من جهة الأكل والمنزل. وأما أهل الرتبتين الثالثة والرابعة فقد لحقهم بعض الضنك من جهة المعيشة حيث إنها تصدر لهم عل غير انتظام في بعض الأحيان, أما معاملة أهل المركب وغيرهم حسنة جدا مع الحجاج لأنهم لم يلاقوا منهم ما يسؤهم حسبما شهدناه في ظرف هاته المدة, وعلى الإجمال فإن الحجاج في راحة تصحبهم السلامة إن شاء الله في الظعن والإقامة. أما أنا فمنذ مبارحتي مدينة عنابة ما فتئت صريعاً في كسر بيتي معتنقا وسادتي لا أفارقها إلا عند أداء الفريضة أو بعض اللوازم المتعين قضاءها, ولهذا لا استطيع أن أمدكم بأي خبر كان عما هو خارج السفينة, غير أني في اليوم الثاني من سفرنا أخدت راحة فخرجت على سطح السفينة فرأيت على يمينها جزيرة "بانتيليريا" وهي تابعة لصقلية وهي قطعة أرض ملقاة في وسط البحر شبيهة بسلسلة جبال يعلوها بنيان لا يتجاوز علوها الطبقة الأولى‏, وقد ترآء لي أن أهاليها تغلب عليهم البداوة في هيأتهم ومساكنهم لما يتخبله من وقوعها في البساتين وعلى ما حواليها.

ثم في اليوم الثاني مررنا بمالطة وهي الجزيرة المشهورة ذات التاريخ المعلوم, وترى من بعيد أنها مغورة في الماء لا يمسكها إلا الرحمان, ومنذ رؤيتي لهاتين القطعتين الأرضيتين ما كنت أرى بعدها مهما خرجت من بيتي إلا السماء فوقنا والماء تحتنا ولا ملجأ يومئد من الله إلا إليه.

هاج البحر بعد اليومين واستولى الفتور عل الحجيج حتى عجز الصديق عن زيارة صديقه وهو في جراره ملاصق لبيته وكانت باخرة "آسيا" على عظمتها وعلو كعبها تقلب ذات اليمين وذات الشمال كالفقاقيع على وجه الماء تعلو بها الأمواج أحيانا وترسب بها أخرى, وتغلو فتعلو فتبغي من فوقها مقعدا, وكأني بتلك الأمواج غبطتنا لما نحن فيه, فهي تريد أن تحج معنا وتزور, ولكنها تصعد على السفينة بدون رخصة فينزلونها مرغمة على الفور.

وهكذا قطعنا تلك الثلاثة أيام حسوما ما بين صحو واصطلام ولكن والمنة لله ورغم غلبة البحر وتلاطم أمواجه الغزيرة كانت السفينة معمورة بالدروس العلمية جلها في مناسك الحج وما ينبغي أن يلقن للحاج من آداب ذلك المقام المقدس وذلك الحرم الشريف. أما الأساتذة الذين كانوا يقومون بهذه المهمة, فهم الأستاذ بالقاسم بن كابو المدرس في مدينة وهران وخطيب جامع ولد قادة هناك والأستاذ العلاوي صاحب الطريقة العلاوية الميمونة والأستاذ الشيخ بالقاسم بن منيع المدرس بميلة نواحي قسنطينة والشيخ محمد بن الحاج علي الفجيجي, وهؤلاء الأساتذة الأعلام الذين كانوا يصيرون سفينتنا في بعض الأحيان مدرسة علم لا سفينة حجيج. دامت علينا هذه النعمة الشاملة إلى يوم وصولنا لفتحة "بور سعيد".

الخميس 24 أبريل 1930م, 25 ذي القعدة 1348هـ
من بور سعيد

قربت السفينة من أعتاب فتحة "بور سعيد" الهائلة النظام والبنيان فأقبل أبنائها على زواريقهم يلهجون بأنواع التحية ويدعون بالسلامة لزوار بيت الله الحرام بلسان ود ومجاملة تؤنس الزائر وتذهب عنه كرب الوحشة وتبعث فيه حياه أنس وسرور.

وهناك رأيت ثلة من الضباط جاءوا في سنبوك خاص ترتسم على جباههم سيم الحذق والشطارة, فيهم من هو مطربش وفيهم من هو متبرنط وهي هيئه تنبئ عن اختلاط الجنسين الإسلامي والإنجليزي, ثم صعدوا فوق المركب فاستقبلهم أربابه بكل حفاوة وترحيب, ثم بعد هنيهة أخذوا في فحص محلات الحجاج ولوازمها المعدة لها من مستشفى ومطبخة وهلم جرا. وقد لاحظت هذه الثلة العبقرية على رؤساء المركب عدم اهتمامهم ببعض المسائل المخلة بواجب الاعتناء بالحجيج, ولقد كان بودنا لو تتبعنا تلك الملاحظة حرفيا ونشرحها شرحا جيدا, ولكن خشيت أن نجر سبة وعارا لرجال الهيئة من أعضاء جمعية الحرمين الشريفين, وإن سمحت الظروف بذلك فسوف نوافيهم بها في السنة القادمة إن شاء الله.

بدأت السفينة سيرها في الفتحه على الساعه 9:30 ليلا فما خرجت منها إلا الساعة الثانية نهارا, حيث يوجد على يمينها القصور العالية ذات البنيان الشامخ المرصوص وهي المسماة بـ "فتحة سويس". أما ما كنا نشاهده على يمينها صباحا فلم يزد على بعض الأشجار من النخيل والسرول والصنوبر وشيء من الفلاحة لا يذكر لقلته. أما ما كنا نشاهده على يسارها فصحراء بعدها صحراء تعلوها جبال من رمال بعضها فوق بعض.

والذي يهمنا ذكره أن مسلمو هذه التربة الطيبة يبتهجون كثيرا بالقاصدين الى بيت الله الحرام, فإننا مهما مررنا بمسلم أو مسلمة إلا ورأيته يخفق بيديه ويتلو بلسانه "على السلامة يا حاج" مع تكرير مستمر إلى أن يغيب عنهم الزائر, وهي خصلة لا محالة تشعر بقوة الإيمان كانت تتخلل تلك القوائم الطاهرة ورأفة إسلامية كانت تجذب تلك الأرواح لتحيي إخوانها قولا وفعلا.

في مساء يوم الجمعة دخلنا البحر الأحمر وشرعنا في المسير, والبحر على غاية من الهدوء, والحجاج على أتم راحة محلقين على ظهر السفينة على الأرائك متكئين, كل منهم مشتغل بما يعنيه من أنواع القروبات وكيفية التعبد بتلك البقاع المقدسة.

الأحد 27 أبريل 1930م, 28 ذي القعدة 1348هـ
الإحرام بميقات رابغ

وفي مساء يوم الأحد اقتربنا من "ميقات رابغ" وهي الجهة التي يحرم منها كافة إخواننا المغاربة (المغرب الكبير) الذين يأتون البيت الحرام عن طريق البحر, وفي ذلك اليوم المبارك كنت ترى الحجاج كسرب الحمام الأبيض تعلو الوجوه سيمة الخشبة والخنوع والخضوع وإفراد الوجهة لله عز وجل, متجردين عن المحيط والمخيط وألسنتهم تردد عند كل حركة من قيام وقعود وغير ذلك: "لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمه لك والملك, لا شريك لك". وبالجملة فهي حالة حسناء نغبطهم عليها ملائكة الرحمن.

الثلاثاء 29 أبريل 1930م, 30 من ذي القعدة 1348هـ
الوصول إلى جدة

وفي يوم الثلاثاء رفعت السفينة لواء الدولة السعودية على الديار الإسلامية بمدينة جدة نظرا أن هذه المدينة لم يكن لها ميناء يصلح لكنف البواخر ويقيها عنفوان الرياح العاصفة, ولهذا ترى البواخر ترسو عن بعد من مدينة جدة بنحو ثلاثة كيلومتر تقريبا, ثم ينزل الركاب على السنابيك إلى المدينة.

نزل الحجاج على تلك السنابيك تتهلل جباههم سرورا وابتهاجا والهواء الطلق يعبث بأمواج البحر والسنابيك تميل له ميلا. وكنت لا تسمع كلما مال السنبوك إلا ضجة تعلو بها الأصوات: "لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك" ممتزجة بابتسامة حلوة تنبئ عما كان يتخلل تلك الأفئدة الممنونة بتجليات السعادة.  وعند نزولهم استقبلهم رجل من طرف الحكومة ومعه جماعة عليهم سيم الفضل والإحسان فرحبوا بالحجاج بهذه الصيغة بتكرير مستمر: "أهلا بكم يا وفد الله", وفي الحين نفسه سألونا هل أخذ منا صاحب السنبوك شيئا من قبل أجرة النزول أم لا, فكان جوابنا لا, رفقا ورحمة بصاحب السنبوك, أما والحقيقة فنعم.

ثم ذهب بحقائبنا وزادنا إلى إدارة التفتيش, وذهب بنا إلى أداء أجرة النزول مرة ثانية, فمروا بنا في مأزق وطلبوا منا 15 فرنكا فرنساويا غير القرش السعودي, وللعلم فإن القرش السعودي يقدر بـ 50 سنتيما فرنساويا ويتفرع عنه أربعة هلالات وهو الصرف الأخير الذي لا يقبل انقساما في صرف الحكومة السعودية. وفي ذلك المأزق وجدنا وكلاء المطوفين جالسين ذات اليمين وذات الشمال, ويسألون كل حاج عند مروره بهم: "من هو مطوفك", وبما أننا كنا جماعة واحدة صرحنا باسم مطوف واحد, فأخَذَنَا وَكيله ومال بذلك ناحية من ذلك المكان وأخذ أسماءنا وأسماء بلداننا, ثم ذهب معنا ليأخذ حقائبنا وما معها من زاد, واستقر بنا النوى ببيت المطوِّف وهو بيت من أرفع البيوتات بنيانا وأجملها منظرا في مدينة جدة.

أقمنا بجدة يومين وتجولنا في أرجائها الفسيحة فوجدناها بلدة طيبة ذات تجارة مقنعة, ولم تكن التجارة تلك بمناسبة موسم الحج بل هي دائمة الحركة التجارية حتى في غير أيام الموسم هناك. شاهدنا بأعيننا ما هي نعمة الإسلام وفضله على أبنائه من طهارة وعفاف, فهيهات أن ترى مؤمنة متبرجة في الطريق أو مؤمنا تعبث به يد الضلال, والذي يجدر بنا ذكره هنا هو أننا مررنا ذات يوم بإدارة المحافظة فوجدنا على يمين بابها عدة صور شمسية لأشخاص معلقة على جدرانها وتحت كل صورة إسم صاحبها, وتلك الصور هي لمجرمين الذين قُطِّعَتْ ألسنتهم لِسَبِّهِمْ الدِّينْ وأيديهم لأجل السرقة ثم أبعدوا من البلاد الإسلامية, فقطع دابر الفجرة الفاسقين وجراثيم من المفسدة, وهو عمل جليل قامت به الحكومة السعودية فكانت نتيجته أن صار الحجاز المثل الأعلى في مسألة الأمن على النفس والمال.

الخميس 1 مايو 1930م, 2 ذي الحجة 1348هـ
نحو مكة المكرمة

وفي اليوم الثاني من ذي الحجة ركبنا متن السيارة متجهين الى المسجد الحرام, فما كاد قرص الشمس يغرب حتى كنا في متسع الفيافي نجد أطرافها ميلا فميلا, وبينما نحن كذلك إذ عبرت بنا السيارة في بحر من الرمال, وصرنا مهما سرنا فيه ذراعا إلى الأمام إلا ورسبت بنا السيارة إلى الأسفل شبرا, فما قطعنا بعض الخطوات على تلك الحالة حتى انفجرت العجلة وفاض نَفَسُهَا وسكنت حركتها, والظلمات قد علا بعضها فوق بعض ولم يبقى إلا بصيص الكواكب. نزل السائق والركاب معه والأسف قد أخذ من الجميع مأخذه, فما انفككنا من تلك الورطة إلا بعد تدمير وزفير فنفير, ثم امتطينا السيارة مرة ثانية وأخذت في المسير تميس بدون فوانيس في تلك المفازة المترامية الأطراف.

وعلى الساعة العاشرة ليلا دخلنا محطة من محطات السيارات المعدة من طرف الحكومة لمثل هذه الحوادث, وهناك تكلم السائق مع شركته تليفونيا ليستنجدها في النازلة, فما هي إلا ساعة ونصف إذ بالسيارة مستنيرة الفوانيس تقبل علينا, ثم جددنا السير من جديد وما قطعنا 15 ميلا حتى انفجرت العجلة الثانية في بقعة بعيدة عن المحطات, والذي سائني بوجه خاص هو أن السيارات تمر بنا واحدة بعد الأخرى ونحن في حاجة لنجدتهم ولم يعنا ولا واحد منهم حتى أننا ألحقنا التعب الكبير, ولو لم نكن ممن لهم الماما بفن السيارات (الميكانيكا) لما استطاع السائق أن يدخلها بنا مكة في تلك الليلة الظلماء, وقد دخلناها ولكن بعد العناء الشديد.

دخلنا مكة المكرمة فجر يوم الجمعة فوجدنا مطوفنا في انتظارنا ولم يبقى لصلاة الفجر إلا القليل من الوقت, وفي الحين نفسه ذهب بنا إلى منزله فتناولنا وجبة العشاء وذهب بنا أيضا إلى أداء طواف القدوم, فطفنا وصلينا الصبح بالمسجد الحرام ثم سعينا ورجعنا إلى منزل المطوف لنأخذ شيئا من الراحة, فاسترحنا ذلك اليوم بتمامه ثم انتقلنا بعد ذلك إلى إدارة السفير الفرنساوي وبها كانت إقامتنا مدة مكوتنا في مكة المكرمة.

الأربعاء 21 مايو 1930م, 22 ذي الحجة 1348هـ
احتراق السفينة"آسيا"

دمر حريق في ميناء جدة سفينة "آسيا" وكان على متنها 1500 إلى 1700 حاج , مما أدى إلى وفاة 162 شخص, ووردت آخر الأنباء بأن السفينة كانت تتهيأ لحمل بعض الحجاج الصوماليين إلى بلادهم. وقد وجهت الحكومة الفرنسية باخرة أخرى لتنقل الحجاج الجزائريين إلى ديارهم بعد آداءهم فريضة الحج. ووردنا كتاب من صديقنا الفاضل الشيخ الحاج سعيد سيف أحمد اليماني, مقدم الشيخ العلاوي باليمن وأحد تجارها بعدن يصف فيه حال الحجاج ساعة احتراق السفينة "آسيا" التي كانوا على ظهرها يريدون التوجه الى جيبوتي. وقد أثنى على جلالة الملك ابن سعود لاهتمامه بأمرهم وعينايته بهم وعلى الأستاذ ابن عليوة كذلك, وقال في رسالته تلك بعد كلام: "صعدنا على السفينة متوجهين إلى عدن, وكان عدد الركاب 1700 يماني, وكان انتهاء ركوب الركاب وقت صلاة العصر, وعندما صلينا المغرب على ظهر السفينة, إذ بالنار ملتهبة في خزان الدهن, وسرت منه الى بقية الأمكنة على مواد غازية سهلة الالتهاب. وقد هموا بإطفاء النار فلم يفلحوا, حيث كلما رموها بالماء من جهة ازداد التهابها وبسرعة مدهشة من جهة أخرى, ولما أدركوا عسر الخلاص, ولات حين مناص, هرب النصارى ربان السفينة ونجوا بأنفسهم. أما الركاب اليمانيون فقد انحصروا في وسط السفينة وأمامها, لو رأيتهم وهم على حالة يرثى لها بين باك ومستغيث. وداموا على هذه الحال من ذلك الوقت الى الساعة العاشرة ليلا, لا من ينقذهم ولا من يرحمهم.

واتفق في تلك الليل وصول جلالة الملك ابن السعود من مكة الى جدة, ولما طرق سمعه نبأ الحادث أعطى الإذن لإنجاد الحجاج, فأقبلت زوارق الإنجاد نحونا مسرعة من بواخر الميناء, فكنت في تلك الساعة المظلمة ترى الركاب بين متعلق بحبال الفلك ورامي نفسه في البحر مستجيرا من الحرق بالغرق, فالذي يعرف السباحة نجى والذي لا يعرفها غرق ولا حول ولا قوه الا بالله العلي العظيم. وداموا في إنقاذ الخلائق حتى الساعه 1:00 ليلا, ثم أركبونا باخرة أخرى من بواخر الهنود, وهناك تفكر كل أخ أخاه وكل صاحب صاحبه.

وكنت أول من نزل من السفينة إلى البحر, وكانت لي خبرة في السباحة, فنجاني الله وجميع الإخوان الذين هم رفقائي وعددنا آنذاك 33 شخص استشهد منا 3 غرقا وهم السيد علي يحيى المحاوي من عدن والأخ عبده حيدر من بلدة الشيخ عثمان والسيد حيدر ثابت من جزيرة ميمون باليمن. وعندما تنفس الصبح أقبلت نحونا الزوارق السعودية وأنزلونا من السفينة فأخذنا جلالة الأمير ابن سعود في ضيافته. فنزلنا من السفينة الهندية ونحن حفاة عراة ما نملك شيئا من النقود لأن جميع ما معنا ذهب ضحية الحرق والغرق, ومكثنا في حامية عسكرية لجلالة الملك نأكل ونشرب من عنده.

ولما علم بنا جناب الأستاذ الفاضل والهمام الكامل سيدي الشيخ أحمد بن عليوة بالحادثة (ربما من طرف الشيخ سيف بن أحمد حاجب), أقبل نحونا وكان جنابه يريد التوجه إلى بيروت ومكث معنا بعض الوقت, وعنذ عزمه على الانصراف أدخل يده في جيبه وأخرج 1000 فرنك فرنسي وقال لي: "خذ هذا القدر الضعيف واستعن به أنت ورفقائك", فقبلت منه وجلا شاكرا, فجازاه الله عن إحسانه الجزاء الأوفى.

وفي ثاني يوم أركبونا جميعا نحن اليمنيين باخرة أخرى مع ما نحتاج إليه من الزاد, كل ذلك من جلالة الملك ابن سعود, حتى وصلنا الى وطننا ولله الحمد. هذا وإني أشكر جلالة الملك ابن سعود المعظم رجل العدل على عنايته بالحجاج وبسطه الأمن في الحجاز بصفة لم تعهد من قبل, فنسأل الله أن يؤيده ويديم ملكه مادام ناصر للدين والحمد لله رب العالمين",اه.

وكان برفقة الشيخ سعيد سيف, الشيخ سيف بن أحمد حاجب, إلا أن هذا الأخير قرر إتمام طريقه إلى مكة. وفي يوم عرفة أقبل الشيخ سيف باحثاً عن الشيخ العلاوي بين الخيام التي نُصبت هناك, وبينما هو على تلك الحالة من البحث, أبصر شعاع نور يقوده إلى خيمة شبيهة بتلك التي رآها في المنام في الليلة السابقة لعرفة, فوجد الشيخ سيف شيخه العلاوي الذي كان في انتظاره, فما أن وصل باب الخيمة حتى فاتحه الشيخ العلاوي بالترحيب قائلا له: "أهلاً بمفتاح اليمن", وبلمحة اللقيا جاد له بالسر وأوصله إلى الله في لمح البصر. وفي نهاية الحج أراد الشيخ سيف مرافقة الشيخ العلاوي إلى الجزائر, إلا أن الشيخ العلاوي أمره بالعودة إلى اليمن لنشر الطريقة مجازا بالإرشاد والدلالة على الله.

أواخر جوان 1930م, أواخر ذي الحجة 1348هـ
من دمشق الشام

وصل الأستاذ دمشق الشام على أحسن حال وقد تلقاه علماء دمشق وصلحائها بما يليق بجنابه من الحفاوة والتكريم.

للأسف فاتنا ما هو جدير بالنشر عن سياحة الأستاذ العلاوي أبقاه الله, ونحن نعلم أنها لم تخلو من فوائد تفيد قراء البلاغ على العموم وأتباع الأستاذ على الخصوص, ولكن ما باليد حيلة إذا كان رفقاء الأستاذ الذين هم أولى بالمحافظة على ما يجري في تلك السياحة الميمونة, وهم على علم من أننا أحوج إلى ما يصلنا من عندهم, ولكن ومع الأسف إنهم لم يواصلونا إلا بالقليل من القليل إلى أن أصبحنا أجهل الناس بما جرى ودار في تلك الأيام, ولولا أن بعض صحف الشام أطلعتنا على شيء في الجملة لفاتنا جميع فوائد تنقلاته وترحاله.

نقلت جريدة الشعب الدمشقية تحت عنوان "قدوم عالم جليل" ما نصه: "وصل مؤخرا إلى دمشق حضرة العالم الجليل الأستاذ الشهير أحمد بن مصطفى العلاوي المستعانمي يصحبه صديقه عدة بن تونس المدير السابق لجريدة البلاغ الجزائري التي تصدر في الجزائر, وقد خَّفَ لزيارته علماء دمشق وأدباؤها واستقبلوه بالحفاوة والتكريم سيما والقادم الكريم من المتطلعين بالوقوف على الأحاديث النبوية الشريفة وايضاح ما أشكل من كلام القوم, وقد أخذ حضرة القادم برَّدِ الزيارات لزائريه, فزاره سماحة المحدث الأكبر الأستاذ الشيخ بدر الدين الحسني في داره العامرة وتذاكرا طويلا فيما يعود على المسلمين بالنفع والخير, وقد لبى حضرة القادم دعوة قرية كفر سوسة, فقصد إليها مع فريق من علماء دمشق وقد أكرمهم الأهالي كل الإكرام, وكذلك لبى دعوة الدرمانيين حيث ذهب إلى درما يرافقه فريق كبير من العلماء في طليعتهم المحدث المحترم الأستاذ السيد مكي الكتاني وضيفه الشريف الحاج السيد عبد الله القاسمي الشيخ توفيق الأيوبى الأنصارى الحسني الشامى والعلامة الفقيه الشيخ الشريف العربي الزرهوني والأديب الأستاذ الشيخ عبد الجليل الدِّرَّا والفقيه مفتي المالكية سيدي المبارك نجل المرشد الكبير المربي العظيم الشيخ الطيب ابن المبارك والفقيه الأديب الشيخ محمد الزروق وفريق من أهل العلم والفضل.

وقد تليت في الحفلة التي أقامها الدرمانيون سيرة المولد النبوي الشريف من تأليف الأستاذ سيدي محمد بن جعفر الكتاني, وقد كانت المدة التي أقامها حضرة القادم حافلة بالفوائد العظيمة يسودها السرور التام. وقد عاد إلى دمشق فحضر اجتماع أتباعه في زاوية العلاويين, وكان فيها جمع غفير من علماء المدينة وقد أقيمت الأذكار قياما وقعودا, وألقيت النصائح النبوية على الطريقة الشاذلية, وخَتَمَ الحفل العلامة المحدث الشيخ محمد هاشم بن رشيد الخطيب الحسني بتلاوة آيات من كتاب الله العزيز, ثم تكلم الأستاذ العلاوي ذاكرا فيه نصائح في العثرة النبوية, فطاف بها الأستاذ على المجمتمعين وهم في غاية السرور يرتلون الصلوات على صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم. ولما علم الجميع بعزم القادم الكريم على السفر الى بيت المقدس يوم الإثنين لزيارة المسجد الأقصى الشريف ومنها يقصد الى غزة لزيارة أصدقائه الكثيرين هناك, ودعوه وداعا حارا في تلك الحفلة, وكذلك ودعه فريق كبير عند السفر حتى امتطى السيارة, وقد غادر دمشق مرفوقا بالسلامة والكل يلهج بالثناء عليه والإعجاب بعلمه الغزير.

وها نحن الآن ننقل نبذة لقراء البلاغ كنا وقفنا عليها في رصيفتنا الدمشقية الغراء شاكرين حسن اعتنائهم بالموضوع حيث جاء في عدد 178 وتحت عنوان "قدوم عالم كبير من الغرب" ما نصه: شرَّف عاصمة بني أمية الأستاذ الكبير والعالم النحرير فضيلة الشيخ أحمد بن عليوة الجزائري بعد أن أدى فريضة الحج وقد استقبله أهالي دمشق في محطة البرامكة على اختلاف طبقاتهم, وكانت وفود العلماء ومشايخ الطرق في مقدمة الجمهور, وقد خرج قسم كبير من بيروت ورﻳّﺎق والزيداني على سبيل المسابقة للإجتماع بسماحته. وكان يوما عظيما جرى لاستقباله اعترافا بفضله وعلمه وزهده وورعه. والأستاذ من عظماء مشايخ الطرق وشيخ الطريقة الشاذلية وهو يرأس 50 زاوية في الجزائر والمغرب وكل زاوية تضم عددا وافرا ليس بقليل, وقد طاف سماحته في أنحاء سوريا وزار المتاحف العربية والآثار القديمة ودار الصناعات.

وكنت تجد خلفه عددا كبيرا ناكسين رؤوسهم في الأرض بكل احترام وآداب ووقار,  وكان الأستاذ يمتطي السيارة الخصوصية المعدة له وتسير في مقدم السيارات في شوارع دمشق وكنت تجد الناس يركضون في الطرقات ويقبلون أذياله ويطلبون منه الدعاء فقابلهم بوجهه البشوش بكل لطف ويدعو لهم. وقد زار سماحته زاوية الشاذلية في سوق ساروجة في مسجد الشامية ليلة الجمعة, وكانت الزاوية تغص بالرجال والأولاد, وفي نهاية الذكر الشريف توافد القوم لأخذ الطريقة منه وكان هو يجيزهم فردا فردا.

ثم زار الأستاذ مدرسة الناشئة العربية بعد العصر مع عدد كبير من العلماء الأفاضل, وقد اديرت كؤوس المرطبات على الحاضرين وطاف بعد غرف المدرسة وتفقد شؤونها وانظمتها وقوانينها وشكر القائمين بها, وخابرت المدرسة بواسطة الهاتف أحد المصورين ليحضر ويأخذ رسم الأستاذ الجليل لأن هذه فرصة عظيمة وكنز لا يعوض, ولكن وللأسف الشديد عارض بعض السادة الجزائريين من طائفته أخذ الرسم, فتكدرنا جدا معارضتهم التي لا تنطبق على أساس متين, وقد سررنا جدا بتشريف الأستاذ وتكدرنا في نفس الوقت من معارضة هؤلاء. وفي 12 جويلية غادرنا مع حاشيته إلى القدس الشريف, وربما يعود الى دمشق, فعلى الطائر الميمون" اه.

وقد جاء في مجلة المناهج الدمشقية في عددها المرقوم 4 و 5 أنه اجتمع مديرها المحترم بالأستاذ العلاوي في تقرير تحت عنوان "الأستاذ المربي الكبير الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي في دمشق" وجاء فيها مايلي: زراني يوما صديقي السيد عبد الغني القادري فأخبرني بقدوم عالم جليل من الجزائر وقد اجتمع به قبل ببضع سنوات بباريس (1926م) وأخبرني أن له زاوية روحية هناك فسررت جدا من هذا الخبر وقلت لا زال المثل اللاتيني المشهور ساري بصدق حتى اليوم: "النور مطلعه الشرق".

فذهبنا إلى زيارته مساءً فلاقيناه وتكلمنا معه نحو ساعة, وهو رجل طويل القامة, نحيف الجسم, ينوف عن الخمسين من العمر, حسن المعشر, بديع البيان, حُرَّ الفكر, طويل الباع في علم أدب النفس, وذي اطلاع واسع على روح العصر وتقدم الحضارة الإنسانية, وهَمُّهُ تنوير القلوب وإرشاد النفوس إلى ما فيه نجاحها ونجاتها.

فتطرق في غضون حديثه إلى التصوف فقال: "التصوف عبارة عن الفكر الراقي الجوَّال الطامح إلى العلو وكشف الحقائق. والصوفي لا يقف عند التقاليد والصيغ اللفظية بل هو ينظر إلى ما وراء الألفاظ والعبارات, وإنما ضل من ضل من أهل المذاهب والأديان لأنهم أخذوا العبارات على ظاهرها".

ثم سأله شخص عن شطحات الصوفية فقال مجاوبا: "إن الكلمات التي تحتوي على الشطحات ما هي إلا كلمات قالها قائلها في غير حالة الصحو, بل هي حالة التجلي الرباني والوجد الروحاني, وهم يعنون بها في المعنى الظاهري ولا يمكننا أن ننكر عليهم بها, وقد استعمل الشرع ألفاظا لا يراد بها ظاهرها, وكما جاء في حديث (وَمَا يَزالُ عَبْدِي يتقرَّبُ إِلى بالنَّوافِل حَتَّى أُحِبَّه, فَإِذا أَحبَبْتُه كُنْتُ سمعهُ الَّذي يسْمعُ بِهِ, وبَصره الَّذِي يُبصِرُ بِهِ, ويدَهُ الَّتي يَبْطِش بِهَا ورِجلَهُ الَّتِي يمْشِي بِهَا)". ثم قال في مجلس آخر: "كل العلوم تُطْلَبُ لتَكون وسيلة لغيرها وأما التصوف فيُطْلَبُ لذاته".

ثم استطَّر المحرر في نفس العدد المذكور جملا للأستاذ العلاوي عند كلامه على الإنسان الكامل فقال: وَضَّحَ الأستاذ الكبير الشيخ أحمد العلاوي المستغاني هذا المطلب في كتابه (الأبحاث العلاوية) بصورة رائعة وخلاصته: أن الإنسان لا يصير كاملا إلا إذا تدرج في الرقي بالتخلص من الإنقياد الحاصر في المادية والأجسام النامية والأجسام الحيوانية كما جعل العقل السليم رائده إلا أن العقل قد يخطئ أيضا لأنه لا يمكن أن يدرك بواطن الأمور ولأن الشهوات تستولي عليه, فلذلك يجب على الإنسان أن يتبع طريق الكاملين من الرجال حتى يتسنى له بلوغ درجات الكمال" اه.

من بين ما بلغنا من مذاكرات الشيخ العلاوي بدمشق, ما قاله الشيخ نوح حميم كلر نقلا عن الشيخ عبد الرحمن الشاغوري الذي كان حينئذ لا يزال في العشرينات من عمره وكان قد أخذ الطريقة الشاذلية من الشيخ محمد الهاشمي ممثل الشيخ أحمد العلاوي لاحقا في دمشق. يقول الشيخ الشاغوري: قدم الشيخ العلاوي إلى مسجد رابعة الشامية وبعد صلاة المغرب ألقى درسًا ذاكرنا فيه عن أهمية الذكر, ونظرت حينئذ بارتياب إلى جوارب الشيخ, وكانت من صنع فرنسي وليست من صنع محلي جزائري محض, فقلت في نفسي: أنظر إلى تلك الجوارب, ومن المفروض أن يكون هذا الرجل شيخًا؟ ثم بدأ يتحدث عن حكمة من حكم الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري: "لا تَتْرُكِ الذِّكْرَ لِعَدَمِ حُضورِكَ مَعَ اللهِ فيهِ, لِأَنَّ غَفْلَتَكَ عَنْ وُجودِ ذِكْرهِ أَشَدُّ مِنْ غَفْلتِكَ في وُجودِ ذِكْرِهِ, فَعَسى أَنْ يَرْفَعَكَ مِنْ ذِكْرٍ مَعَ وُجودِ غَفْلةٍ إلى ذِكْرٍ مَعَ وُجودِ يَقَظَةٍ, وَمِنْ ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ يَقَظَةٍ إلى ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ حُضورٍ, وَمِنْ ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ حُضورٍ إلى ذِكِرٍ مَعَ وُجودِ غَيْبَةٍ عَمّا سِوَى المَذْكورِ, {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}", (سورة إبراهيم, الآية 20), وكان تعليقه شيئًا آخر... (يُحَيِّرُ الأذهان ويذهل العقول ويُحَرِّك القلوب ويَرْفَعُ الهِمَمْ). فلما فرغ وحانت صلاة العشاء, ابتسمت وقلت لنفسي: هذا الشيخ له أن يلبس أي نوع من الجوارب ما شاء.

نقل الشيخ عبد الله محمد عكور مايلي: في تلك الأيام تلقى الشيخ العلاوي دعوة من أحد العلماء, ودعى هذا العالم جمعا كبيرا من علماء سوريا احتفاءً بالشيخ العلاوي, فأحب أحد العلماء سماع بشارة من الشيخ فقال له: يا سيدي نريد أن نسمع بشارة من جنابكم! فقال الشيخ العلاوي: أبشروا, من رآني ومن رأى من رآني الى يوم القيامة دخل الجنة. ففرح العلماء لهذه البشارة فرحا كبيرا حيث كانوا معتقدين لأولياء الله ولم يناقشوا في هذا أبدا. ولكن فيما بعد أنكر بعض الجهلة على الشيخ العلاوي قوله قائلا: هذا رسول الله وهو أفضل من الشيخ العلاوي رآه أبو جهل ولم يفلح فكيف يكون هذا؟ فأجاب الشيخ رحمه الله: - أبو جهل لم ير النبي صلى الله عليه وسلم, إنما رأى يتيم أبي طالب ولو رآه صلى الله عليه وسلم لم تحرقه النار, أي إنه لم يره بالتعظيم والإكرام واعتقاد أنه رسول الله, ولو رآه بهذا المعنى لم تحرقه النار, ولكنه رآه باحتقار واعتقاد أنه يتيم أبي طالب, فلم تنفعه تلك الرؤية, ولو رآه بالعين التي رآه فيها أبو بكر لكان مؤمنا.

ويقول الشيخ الفيتوري: في أثناء سياحتنا وصلنا إلى دمشق ووجدت الفقراء هناك يتحدثون عن شيخ قدم من الجزائر يدعى الشيخ أحمد بن عليوة وكان مقيما آنذاك عند الشيخ الهاشمي التلمساني رضي الله عنهما وهو من أجَّل مشايخ سوريا في ذلك الوقت, فصممت على مقابلته والذهاب إليه, و بالفعل ذهبت إلى مقر إقامته عند الشيخ الهاشمي فوجدت كثيرا من المشايخ والفقراء يطلبون الإذن في الدخول عليه فاستأذنت مثلهم للدخول عليه فدخلت وسلمت عليه ولاحظت في أثناء سلامي أنه مسك يدي وسلَّم علَّي أكثر من باقي الفقراء ونظر في عيني نظرة وابتسم ثم أخد جمع من الفقراء في التسليم عليه أيضا. بعد هذا اللقاء أخذ الشيخ الفيتوري العهد على الأستاذ وقال الشيخ العلاوي للشيخ الهاشمي: "يا سيدي الهاشمي هذا المريد يخُّصني أنا على طول, وضرب يده على صدره, وأنا ما جئت لهذه الديار إلا من أجل فقير مثل هذا يبحث عن روحه." ثم قال الشيخ العلاوي لمريده الفيتوري بعد أن لقنه الأوراد وأدخله الخلوة: "إنك احترقت شوقا, لن تطول في خلوتك.", فمكث ثلاثة أيام بلياليها. ثم أذن له الشيخ العلاوي بعد ذلك بالإرشاد والدلالة على الله قائلا: "يا بني أرجع إلى أهلك والمقام الذي تصل إليه ذاكر فيه اهلك."

يقول الشيخ عبد الرحمن الشاغوري في درس له مسجل في سنة 1978م, 1398هـ, في اربد أنه لما قدم الشيخ أحمد العلاوي إلى دمشق بعد أداءه فريضة الحج, نزل في بيت أحد كبار أولياء وصلحاء دمشق وهو الشيخ أبو كمال الشميساتي رحمه الله في سوق ساروجة قرب جامع الورد, وذكر له أنه جاء ليقدم الشيخ محمد بن الهاشمي التلمساني كخليفة له في المشرق, فسمع بذلك الشيخ الهاشمي فاختبأ تواضعا وهربا من تحمل الأمانة وبعث لشيخه بأن يقدم العلامة الكبير الشيخ محمد هاشم الخطيب, وكان من كبار العارفين بالله وكونه سوريا وابن البلد والشيخ الهاشمي نزيل مهاجر, فقال له الشيخ العلاوي: "أنا أجيزك وأنت تجيز من تريد, نحن أعلم بمن نقدم ومن يخلفنا", لأن الشيخ جاء لدمشق بأمانة عليه تسليمها قبل الوفاة.

يقول الدكتور محمد معتز السبيني: إن أثر الشيخ بن عليوة بدمشق الشام عميق وعظيم, فمعلوم أن الشيخ ساح في بلاد المغرب العربي والأستانة وأدى فريضة الحج, وفي أثناء ذهابه إلى الحج يمَّم نحو دمشق وأحدث فيها مجداً وخلَّف فيها علماً, كما أنه وصل بها صديقاً (الشيخ محمد بن الهاشمي التلمساني) كان لذلك ثمارا يانعة قطفت وما زال الغدق مستمرأ إلى اليوم.

إن المتأمل ليعجب ويتساءل إذا كان أثر ابن عليوة قدس الله سرَّه, بدمشق في هذا الدخول الخاطف والمرور العابر, فكيف لو قصد دمشق واتخذها دار هجرة ومحل إقامة إذن لكان هناك كلام آخر ورأي مختلف. وصل الشيخ ابن عليوة دمشق عقب عودته من الحج ويصل الى محطة الحجاز فيهرع العلماء والأعيان والطلاب والفقراء من الصوفية لاستقباله وفي مقدمتهم طلاب الشيخ محمد بن يلَّس التلمساني وعلى رأسهم الشيخ محمد بن الهاشمي التلمساني وعدد من مشايخ آل الخطيب. وقد طلب كثيرون نزول الشيخ العلاوي عندهم ولكنه امتنع شاكرا حتى إذا فرغ من السلام على الجميع التفت وقال أين الشيخ محمد الهاشمي, وكان الشيخ الهاشمي واقفا مع صاحبه الوفي أبي عادل الشميساتي الذي ينقذه من ورطة استقبال الشيخ الجزائري كونه كان لا يملك إلا غرفة واحدة, ويذهب ابن عليوة الى بيت عادل الشميسلتي الذي يقع في حي سوق "ساروجا" بجوار جامع الورد.

إن الأجواء في دمشق الشام كانت مهيأة لاستقبال رجل طبّقت شهرته في أرجائها ووصل اسمه الى أسماعها قبل أن يشخص إليها بنفسه ويحل فيها بشخصه, وفي هذه الرحلة يجيز الشيخ العلاوي الشيخ محمد الهاشمي بالإرشاد والدلالة على الله ويعلن أنه خليفته في دمشق, ولكن كان الشيخ الهاشمي يرى من مصلحة الطريقة أن يكون الشيخ محمد هاشم الخطيب هو المجاز والمستخلف في ذلك لكونه من أبناء البلد وهو غريب نزيل, فيمتنع الشيخ ابن عليوة بقوله "أنا أجيزك وأنت تجيز من تريد".

مايو, جوان 1930م, ذي الحجة 1348, محرم 1349هـ
من الفالوجة

قد تشرف أهالي الفالوجة بقدوم السيد المحترم الشيخ محمد بن عيمور الهلالي الأزهري الجزائري من أتباع الشيخ العلاوي والذي صار له في قلب كل من رآه أعظم منزل, ومكت ليلتين ضيفا مكرما ما بين الفقراء على ذكر ومذاكرة, وقد دخل في بيعته جمع من الأهالي, ثم غادرها إلى غزة وصدور أهاليها مثلجة من إرشاداته الجذابة, نفع الله به المسلمين.

الخميس 16 مايو 1930م, 16 ذي الحجة 1348هـ
من غزة

وصلت إلى السيد الهلالي بغزة برقية من فضيلة الأستاذ العلاوي يخبره بقدومه لزيارة القدس الشريف, وليس في المبالغة في شيئ إن قلنا إن جميع الأهالي ينتظرون قدوم سعادته بفارغ الصبر, نسأل الله أن يمتع الأمه بمحبته دنيا وأخرى. والزاوية العلاوية التي بغزّة والتي تعمر بأهل البلدة من أفراد الطائفة العلاوية, وهم جماعة من خيرة أهل البلد, كان سبب فتح هذه الزاوية الشيخ الهلالي حيث كان قد هاجر في طلب العلم إلى الأزهر الشريف العامر, غير أنّه قبل انقطاعه إلى القراءة, ذهب ليصل الرحم الروحيّ مع اخوة له في النسبة, فكان من نتيجة زيارته فتح زاوية ببلاد غزّة هاشم, وقد وقع عليه إقبال كبير من أهلها, فمكث بين ظهرانيهم مدّة تردّد فيها على عدّة قرى من القرى القريبة من غزّة, فكانت وطأته مباركة, حيثما حلّ وأينما ارتحل.

أوائل شهر جوان 1930م, أوائل شهر محرم 1349هـ
من القدس الشريف

نأسف لافتقادنا لأدنى معلومة عن زيارة الشيخ العلاوي للقدس الشريف ما عدا أنه نزل في بيت أحد الإخوان العلويين السيد الحاج المهدي, وأن الشيخ مصطفى بن عبد السلام الفيلالي الشهير بالقدسي اجتمع بحضرة الأستاذ العلاوي في بيت المقدس, وكذلك الشيخ حسين بن محمد بن سليمان الفالوجي المكنّى بأبي سردانة الذي أجازه الشيخ العلاوي في إعطاء الأوراد العامّة من النسبة.

الخميس 12 جوان 1930م, 15 محرم 1349هـ
من الفالوجة

يقول المراسل لجريدة البلاغ مايلي: حظيت بمقابلة العارف بالله سيدي الشيخ أحمد العلاوي الجزائري وفي معيته ثلاثة أنفار تشرفت بمعرفه أحدهم وهو سيدي الفاضل الشيخ عدة بن تونس في القدس الشريف حيث نزل في بيت أحد الإخوان العلويين سيدي الحاج المهدي, وبعد أداء فريضة العصر زاره صاحب الفضيلة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى يصحبه أحد أعضاء المجلس زعيم غزة الحاج سعيد أفندي الشوَّا ووفد من العلماء.

الجمعة 13 جوان 1930م, 16 محرم 1349هـ
من غزة

أقلعنا إلى غزة فشرف الأستاذ في الزاوية العلاوية وبدأ أداء فريضة العصر, ثم ألقى جنابه مذاكرة دينية, ثم توجه الى الدار التي أعدها السادة العلاوية لقدوم حضرته وهي دار أخينا في الله السيد عبد الرحمن العاني.

السبت 14 جوان 1930م, 17 محرم 1349هـ
وفي ثاني يوم أقيمت لسيادة الأستاذ حفلة تكريم في الزاوية المذكورة حيث كانت غاصة بالحاضرين, فألقى لفيف من العلماء والأدباء خطب الترحيب والتهاني نثرا ونظما (يضيق النطاق عنها وربما تنشرها البلاغ في أعدادها الآتية) بقدوم هذا السيد العظيم.

الأحد 15 جوان 1930م, 18 محرم 1349هـ
وفي ثالث يوم أقيمت له حفلة رسمية في جماعة من العلماء والأعيان, مرموقا بعين الإجلال, بأمر من المجلس الإسلامي الأعلى في مسجد غزة الكبير المسجد العمري المبارك والتي حضرها جميع العلماء ورجال المحكمة الشرعية ورئيس محكمة الصلح وكبار الدوائر. وبعد أداء مكتوبة العصر افتتحت الحفلة بآي من القرآن الحكيم, ورغم ما كان عليه الأستاذ من ضعف البدن فقد اقترحوا عليه أن يلقي عليهم درسا, وما كاد يستوي على منصته حتى اكتظ المسجد بالجماهير فتكلم عن الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعَاطُفِهِمْ, مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى) وبعد الفراغ من درسه أعجب به الجميع وأخذ بمجامع قلوب الحاضرين في هذا اليوم المشهود الذي يكل اللسان عن وصفه, وألقيت في الثناء عليه الخطب والقصائد, ترحيبا به, وتقديرا لما استخرجه من اللألىء المكنونة في قوله عليه الصلاة والسلام.

وبالجملة فقد مكث الأستاذ أربعة أيام صرفها في ذكر ومذاكرة مع أعاظم المذكورين وهم على أتم خضوع وأكمل أدب مع الإعتقاد العاري عن الإنتقاد. وكثيرا ما ناب عن جنابه في الإرشاد الشيخ ولي الله سيدي الشيخ عدة (بن تونس) حيث جذب قلوب المستمعين بحكمه الدالة على طول باعه وكثرة اطلاعه.

يقول الكاتب القدير والأديب الشهير الشيخ مصطفى بسيسو الكيالي المحامي الشرعي بغزة بفلسطين: لقد سعدت غزة ورفلت في ثياب المجد والفخار وتاهت وفاخرت غيرها من بقية سائر الأقطار بتشريف الأستاذ الكبير السيد أحمد العلاوي بلدتنا غزة هاشم وزار بعد البلاد الفلسطينية كالقدس ويافا, وقد وقع له من الإقبال والاحترام وتعظيم كبار القوم وأعيان العلماء والوجهاء عند مقابلته وزيارته ما لا يكاد يحصيه القلم.

أما غزه فقد انتظره سادتها وعظماءها قبل تشريفه وبعد مجيئه بادروا بزيارته والسلام عليه, فرأوا فيه رجلا عالما وصوفيا محققا ذا بصيرة وَقَّادَة ورأي سديد حازم, ومحيا جذاب ولفظ رقيق, سريع الخاطر, حاضر الدهن, كلماته مثمرة وأقواله مفيدة نَيِّرَة, فما رآه أحد إلا وأحبه وأقبل بكليته عليه. وقد كانت المدة التي اقامها ثلاثة أيام تقريبا معمورة بالمذاكرات العلمية والمحاضرات والتلاوة والأذكار. وكان المكان المعد له (دار ندوة) للعلماء والوجهاء والفقهاء. وقد أقبل الناس على زيارته والتبرك وأخذ العهد عليه. وقد ألقى في المسجد الكبير بغزة كلمة كان لها تأثير في القلوب والأفئدة, فعرف القوم كيف أن المسلم للمسلم كالبنيان وأنه كالجسم الواحد إذا تألم عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى. والحقيقة أن ذلك الحديث معلوم لكثير من الناس ولكن كيفية الإلقاء والإخلاص في الوعظ لا يتيسران لكل واحد. ولقد زار الأستاذ بعد من زاره, ومن جملتهم كاتب هذه الأسطر.

وحينما أراد السفر ودَّعه على المحطة جمع غفير من سادة غزة وفضلائها, فكان الناس يفدون عليه زرافات ووحدانا, بعضهم مودعا والآخر مُسَلِّماً أو مصافحاً أو متبركاً وآخذا العهد عليه أو يقدم أولاده الصغار لينالوا بعض الدعوات الخيرية.

وبالجملة فقد كان ذلك اليوم مشهودا في غزة يكاد يكون هو الوحيد. وتكاد تكون الأيام عقيمة بمثله وأن بعض البلدان كـ يافا متعطشة تواقة للأستاذ ولمن له بهم صلة أو أمرا وعلاقة أو بعث له بعهد وطريقة. وفقنا الله لفهم كلام الله وسنة رسوله والعمل بموجبهما وفهم كلام السادة الصوفية والشرب من الكأسين الحقيقة والشريعة وخدمة البلاد والعباد بما فيه الخير إنه سمع مجيب.

الإثنين 16 جوان 1930م, 19 محرم 1349هـ
وفي اليوم الرابع اجتمعت أهالي غزة وجموع الضواحي منهم العلماء وأبناء النسبة لوداع الأستاذ حيث جميعهم بايعوه وانخرطوا في نسبته. والحاصل صار له يوم مشهود تعجز الأقلام عن وصفه.

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما *** قد حدثوك فما رأى كمن سمع

ثم امتطى الأستاذ القطار وانصرف الجمع وهو آسف على فراق هذا السيد الجليل الذي لم يسمح العصر بمثاله, متع الله المسلمين بحياته إنه على ما يشاء قدير.

الثلاثاء 24 جوان 1930م, 27 محرم 1349هـ
من يافا

وفي يوم الثلاثاء 27 من شهر محرم, اجتمع وفد عظيم جله من السادة العلاويين على ميناء يافا لوداع الأستاذ حيث هناك السفينة "كندا" في انتظاره التي سترسو بميناء بيروت قبل أن تنطلق نحو مرسيليا, صحبته السلامة.

الخميس 26 جوان 1930م, 29 محرم 1349هـ
عودة السيد صالح بن دمراد

ومن جهه أخرى قدم من الديار الحجازية هذا الأسبوع جناب الفاضل الوجيه السيد الحاج صالح بن دمراد التلمساني التاجر الشهير بغليزان والذي رافق الأستاذ العلاوي إلى بيت الله الحرام, وقد استعجل لمآربه, فخلف رفقائه في بيروت وعجل أوبته. وقد اجتمعنا به وبإخوانه الذين أتوا للعاصمة لملاقته بالعاصمة ليلة, ثم توجه إلى بلدته تصحبه السلامة وتلحقه الكرامة.

الأحد 29 جوان 1930م, 2 صفر 1349هـ
من مرسيليا (فرنسا)

حل الأستاذ العلاوي بمرسيليا قادما من بيروت بعد الحج إلى بيت الله الحرام بتاريخ 29 جوان بصحبة جماعة منهم السيد الحاج الغوثي بن أباجي التلمساني وابنه السيد الحاج عبد المجيد ومدير البلاغ السابق السيد عدة بن تونس, وقد احتفل بقدوم الأستاذ خلق كثير وجمع غفير, وكان أكثر المحتفلين به أبناء اليمن ومكث بها نحو اليومين, ثم ودَّعوه ورفقاءه مصحوبين بالسلامة والسلام, فامتطى ومن معه السفينة (لاموريسيار) لشركة ترانس أتلانتيك.

الأربعاء 2 جويلية 1930م, 5 صفر 1349هـ
عودته إلى الجزائر
وصل فضيلة الأستاذ المحترم الشيخ أحمد بن عليوة إلى الجزائر العاصمة من حجه الميمون وسياحته المباركة يوم الأربعاء 2 جويلية, 5 صفر على الساعه 1:00 بعد الظهر. نزل الأستاذ ورفيقه السيد عدة بن تونس من السفينة القادمة من مرسيليا, وكان في انتظارهما جمع كبير من أهل النسبة العلاوية وبعض الأفاضل من تلمسان ومستغانم والعاصمة.

وبعد أن نزل الأستاذ من السفينة خفقت القلوب فرحا وتهللت الوجوه بشرا وحيوه تحية ودادية صادقة ثم ركب وركبوا سيارات قاصدين محل الأستاذ في "سانت أوجان". وهناك توافدت عليه جموع كثيرة من مختلف النواحي من الأتباع وغيرهم لتهنئته وتحيته, وأقيم حفل بمناسبة رجوعه من الديار المقدسة, واستمر الحال على هذا المنوال إلى مساء يوم الجمعة حيث ودعهم الأستاذ وسار قاصدا أهله بمستغانم. وكان في الحسبان أن حضرته يمكث أكثر من أسبوع في الجزائر, لذلك كان في أملنا أن نخصص مع فضيلته جلسة نسأله عما شاهده في رحلته هذه من الإصلاحات الحيوية في الحجاز وغيره, ولعل حضرته سيشتغل بشيئ من ذلك على قراء "البلاغ" في المستقبل إن شاء الله.

أما بقية الحجاج الذين جاءوا في السفينة التي خلفت "آسيا" المحترقة على غير طريق مرسيليا فكان وصولهم صباح يوم الجمعة الماضية. وقبل نزولهم ذهب لرؤيتهم كثير من أقاربهم وأصدقائهم الذين كانوا في انتظارهم, وقد ذهب إليهم أيضا مدير هذه الصحيفة مع بعض أفاضل عنابة على مراكب بحرية صغيرة, ولقد لاحظنا على وجه الحجاج أثر التعب, والذي يدعو للأسف أن السفينة الحاملة لهم لم تكن من اللياقة كما كان في الحسبان, فقد سمعنا منهم شكاوى مما لحقهم من التعب بسبب إهمال النظام اللازم داخل السفينة, زد إلى ذلك النظافة التي لم تكن مستوفرة على الوجه الذي ينبغي أن تكون عليه, ولا شك أن اللوم في هذا كله يتوجه إلى أولي الأمر لعدم عنايتهم بشؤون الحجاج. فإلى ذلك نلفت نظر أولي الأمر من الحكام فيما يأتي من سني الحج كم نلفت نظر أعيان المسلمين ونوابهم إلى هذه المسألة ليعطوها حقها من عناية خاصة فيما يأتي وليوقفوا الحكومة لتكون على بصيرة من كل ما هو ضروري للحجاج حتى لا يقع أي تقصير يلحق الحاج بمضرة ولتتكفل لهم بما يوفر لهم راحة في سفرهرم وسلامة في أبدانهم إلى أن يعودوا لأوطانهم, وبهذا يكونون قد قاموا بواجبهم على الوجه الأوفى مستوجبين عليه شكرا منهم لهم.

يقول الشيخ الخضر عمروش: زرت من الحجاج الأستاذ المرشد صاحب الفضيله الشيخ سيدي أحمد بن مصطفى العلاوي بزاويته المعمورة بحضيرة مستغانم فوجدت فيها عدة وفود جاءت لتهنئته بسلامة الإياب من الحرمين الشريفين. أما أهالي بلدته فما فتأت منذ إقامتي عنده تتردد عليه صباحا ومساء بمناسبة ما لحقه من الوعك وهو أمر يعرب لك عما في الأفئدة الطاهرة من الاحترام والعطفة الودية نحو حضرة الأستاذ. أما جنابه فلقد كان يقابل كلامتهم بما يليق به من حفاوة وإكرام رغم ما كان يساوره من الألم الشديد من حين إلى آخر حتى يكاد في بعض الأوقات لا يسمح له بالقعود في فراشه وهو يتكلف القيام لزائريه, صان الله تلكم الشمائل الكريمة. هكذا كانت حالتهو أما الآن فقد انهزمت جيوش تلك العسرة المؤلمة وأصبح الأستاذ, زاد الله في عافيته, يتراوح شفاءه شيئا فشيئا, بهذا استبشر أصدقاءه الكثيرون, شاكرين فضل الله وإحسانه الجزيل داعين الله له بالبقاء لصالح هذه الأمة إنه على ذلك لقدير وبالإجابة جدير.

يقول مكاتبنا عن الحجاج عندنا في هذه السنة جلهم لا زال متوعكا وعلى الأخص المرشد سيدي أحمد بن مصطفى العلاوي, فهو الآن على فراش العلاج يزوره الطبيب كل يوم, صان الله تلكم الشمائل الكريمة وحفظ الأمة في تلك الذات العاملة. زرته بمحله المعمور فوجدت عنده خلقا كثيرا تتألف أفراده من أصدقائه من نوازع شتى يتخللهم بعض أفراد من طلبة العلم عرفت منهم الأستاذ الشيخ عبد القادر بن سودة الفاسي والشيخ محمود الصنهاجي والشيخ الحبيب بن عبد المالك المفتي بالديار الوهرانية ومفتي الديار المستغانمية الشيخ عبد القادر بن قارة مصطفى والشيخ بلقاسم السايح والشيخ القاضي بمستغانم الشيخ القاضي بغليزان والشيخ علي موسى العقبي والشيخ أحمد الرايسي نائب البلاغ.

 

جمع وإحصاء وكتابة وترتيب:
درويش العلاوي, غفر الله له.

السبت 5 نوفمير 2022م, 11 ربيع الثاني 1444هـ

المراجع:
- جريدة البلاغ الجزائري من رقم 159 إلى رقم 179
- بعض الإضافات الموثقة من مصدر موقعنا (أحباب الشيخ أحمد العلاوي)


تعليقات