سي أحمد بن عليوة بقلم عبد الكريم جوصو (مقتطفات من كتابه "صراط الله")

طويل القامة, منتصب القوام, كنت أُمعن النظر في الشيخ, وهو أيضًا كان يُحدّق بي, تلاقت نظراتنا. يبلغ سي أحمد بن عليوة من العمر ستة وخمسون عامًا (1924), له رأسٌ جميلٌ يُشبه رأس المسيح المُفعَمٌ بالألم والحنان. تتميّز لحيته الطويلة بسوادها على الذقن وبيضاء على الخدين. وجهه النحيل, الزاهد, يحمل تعبيرا متغطرسا ومنغلقا. بمجرد أن يرفع جفنتيه, تظهر عينان ضاحكتان, وتنفرج شفتاه الممتلئتان بابتسامةٍ رقيقةٍ للغاية, الرجل الذي يتحدث يختلف تمامًا عن الرجل الصامت, تتدفق الكلمات من فمه بانسيابية, ومن وقتٍ لآخر يقطع كلامه بعبارة "ياك هاكا سيدي؟" (والتي تعني أليس هكذا سيدي؟ باحثًا عن الموافقة). ثم, عندما يتوقف عن الكلام, تتجمد الابتسامة فجأةً, وينغلق الوجه في نفس الوقت الذي تنخفض فيه الجفون, ويعود القناع إلى صلابته الكهنوتية. 

أُقيم الاحتفال السنوي للعلويين في الفترة من 12  إلى 15 سبتمبر 1924, ووصل الحجاج "الفقراء" من كل مكان, وكان عددهم ثلاثة آلاف نفس. نُصبت خيامٌ في أرضٍ شاسعة, تُقابل الزاوية, يتكدّس تحتها الفقراء في مجموعاتٍ: هنا أهل تلمسان وبونة (عنابة), وهناك أهل وهران, ومن بعدهم أهل الشلف... كانت جميع المدن والقرى مُمثّلة. خلال الأيام الثلاثة التي استمر فيها الاحتفال, كان الشيخ مشغولاً للغاية, ولكن عندما غادر آخر الحجاج, تمكّن من تخصيص معظم وقته لنا. 

كان الشيخ يمرّ بين المجموعات بصحبتي ومرافقي جعفر الطيار, يتوقف هنا وهناك, ويجد لكلّ شخصٍ كلمةً طيبة. كانت جميع العيون مُركّزة على الشيخ وعلى مرافقيه اللذين كان يُعاملهما علانيةً كأصدقاء, وقد انعكس علينا الحبّ الذي يكنّه له الفقراء العلويون. 

في أيامنا هذه, تُدار معظم الطرق الصوفية من قِبل أشخاص لا يفكرون إلا في الحصول على الرفاهية المادية بسهولة. يسعون وراء الامتيازات الحكومية, ويُقدّمون في المقابل بعض المعلومات, "يُقدّمون خدمات". إن لهؤلاء الأشخاص المؤسف عليهم, مصالح مشتركة مع علماء المساجد الذين وقعوا تحت التأثير الوهابي. يدّعي هذان الأخيران, بدافع الغيرة على امتيازاتهم, أن علم الباطن لا يستند إلى أي أساسٍ, ويُعلنون أنه مُخالف للدين ويُقرّرون أن علم الظاهر وحده هو المذهب الصحيح. لذلك عندما يظهر, على نحوٍ غير عادي, شيخٌ مُرشدٌ مثل الشيخ الحالي للعلويين, يصرخ الجميع ضده وضد أتباعه, ويبذلون قصارى جهدهم لتشويه سمعته ومحاربته: "إنه مُفسد". 

في الواقع, لا يهتم سي أحمد بن عليوة بالسياسة, ولا يسعى وراء التشريفات والظهور, ويبقى مُستقلًا, ولا يطلب من أتباعه أي اشتراكاتٍ مالية سنويا ويرفض حتى هداياهم. إنه صوفيّ مُطّلعٌ للغاية يكتفي بإعداد أرواح فقرائه لمصائرهم المستقبلية, لتلك العودة التي أشار إليها القرآن: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (البقرة, 156). 

إن العقل الأكثر صفاءً سيكون عاجزًا عن اكتشاف الطريق الذي يؤدي إلى أعلى المقامات, القلب وحده هو الذي بقدرته الوصول إليها, والقلب هو الذي يضع عليه شيخنا المحبوب يديه المباركة. تشهد العديد من الشهادات على أنه بفضل تذكيره, تمَّ توطيد الأمن بين جماعات كاملة, كانت في الواقع أوكارًا للمجرمين, وتحول الآن جميع سكانها إلى أشخاص شرفاء غير قادرين على ارتكاب أدنى خطيئة. 

ومع ذلك, لم يتخلّ الله عن عبده الفقير ليقودني إليه. لما كنت أبحث عن الشيخ المربي, لم أوفق للعثور عليه, ولما دعوت الله, أرسل لي تلميذه المفضل (محمد بن عبد الباري المعروف بمحمد العيد) وكلفه بمهمة إرشادي إليه. وها أنا ذا عند قدميه, لم أشعر قط بأحاسيس بهذه الكثافة, لم أشعر قط بأنني مغمور بهذا القدر من اللطف, بهذا القدر من الحب.

كنا نذهب يوميًا للانضمام إلى الشيخ على شاطئ البحر, عند سفح جرف, في مكان كان يبني فيه منزلًا صغيرًا ليكون مقر إقامته الصيفية. كان الشيخ يأتي لملاقاتنا, ويقودنا إلى خيمة نصبها بالقرب من موقع البناء, كنا نجلس على سجاد, وكان يُقدَّم لنا الشاي المنكه بالنعناع, كما كان يُقدَّم لنا شرائح حمراء من البطيخ.

كان سي أحمد بن عليوة يحدثنا عن معلمه البوزيدي, ويروي لنا تفاصيل لقاءه به. كان وقتها شابًا منتميًا إلى الطريقة العيساوية, وبعد أن توقف عن الانخراط فيها, استمر مع ذلك, للتسلية, في ترويض الثعابين. في أحد الأيام, وجد الشيخ البوزيدي أمامه وتحدث إليه هكذا: "قيل لي إنك تروض جميع الزواحف, سأكون فضوليا لأُرى موهبتك". فأجابه الشاب أحمد: "لا شيء أسهل من ذلك, غدًا سأذهب للبحث عن ثعبان في الجبل وسأجعله يؤدي حركات أمامك". جاء بالفعل في اليوم التالي مع أفعى صغيرة وجعلها تعمل أمام الشيخ البوزيدي الذي قال له معترفا يموهبته: "هذا شيء رائع, لكن الأفعى التي أتيت بها صغيرة, هل يمكنك ترويض ثعبان أكبر منها؟", فرد عليه قائلا: "الحجم لا يهم, أنا أتولى ترويض جميع الثعابين, مهما كانت كبيرة", فاستأنف الشيخ البوزيدي: "ومع ذلك, هناك واحد, وحش حقيقي, سيكون من الصعب عليك التغلب عليه. هل تريدني أن أسميه لك؟ إنه نفسك التي بين جنبيك, هي التي يجب ترويضها, هي أهواؤك التي يجب أن تتغلب عليها. أنت تعلم أن هناك نوعين من الجهاد, الصغير والكبير... الأول هو القتال الذي نخوضه ضد الكفار, والثاني هو جهاد النفس". 

تابع الشيخ قائلا: "منذ ذلك اليوم, اتخذني الشيخ البوزيدي كتلميذ, وهذا ما علمني إياه: "العالم اللامتناهي أو عالم الإطلاق (بالمعنى الصوفي) الذي نتخيله خارجا عنا, فهو عكس ذلك, إنه عالم خارجي وفي نفس الوقت هو موجود بذاتنا. في الحقيقة لا يوجد سوى عالم واحد, هو هذا. ما نعتبره العالم المحسوس (عالم الشهود) العالم المحدود أو الزمني, هو مجرد مجموعة من الحجب التي تخفي العالم الحقيقي. هذه الحجب هي حواسنا التي لا تُمَكِّن لنا الرؤية الحقيقة للأشياء, بل بالعكس, إنها تمنعنا من الرؤية الكاملة وتقلصها, أعيننا حجاب عن البصر الحقيقي, وآذاننا حجاب عن السمع الحقيقي وكذلك حجب الحواس الأخرى. لإدراك وجود العالم الحقيقي, فمن الضروري إزالة هذه الحجب التي هي الحواس, يجب إزالتها كلها..., كإغماض العينين, سد الأذنين, الامتناع عن الذوق, عن الشم, عن اللمس, فماذا يبقي من الإنسان إذا؟ يبقى شعاع طفيف يبدو له على أنه صفاء وجدانه, هذا الشعاع يبقى ضعيفا بسبب الحجب التي ذكرناها, ولكن هناك تواصل بينه وبين النور العظيم لعالم الإطلاق, وفي هذا الشعاع نفسه تتم للقلب, للنفس, للروح, وللعقل الرؤية.

إنّ الذكر بالاسم الأعظم, الاسم المطلق "الله", هو كحركة ذهاب وإياب تؤكد التواصل الأكثر اكتمالاً حتى يتم التجانس بين أنوار الوعي والوميض المبهر لعالم الإطلاق. وعندها, يمكن لوعينا, من خلال الذكر, أن يتدفق بطريقة ما, وينتشر في عالم الإطلاق ويندمج معه إلى درجة أن الإنسان يدرك أن عالم الإطلاق وحده هو الوجود بعينه, وأنّه هو, الإنسان الواعي, لا وجود له إلا في صفة حجاب. وبمجرد أن تتحقق هذه الحالة, كل أنوار عالم الإطلاق يمكن لها إذا أن تخترق روح الصوفي وتجعله يشاهد التدبير الإلهي ..., فيحق له أن يقول: ... الله! إنّ العمل الذي يتعين عليه متابعته دقيق للغاية, حساس للغاية, بحيث من الضروري أن يكون العقل متحرراً من جميع أنواع الانشغالات وأن يبقى القلب فارغاً". 

هكذا كان شيخنا يتحدث حتى وقت صلاة المغرب. عندما اختفى قرص الشمس الأحمر في البحر, أطلق أحد الفقراء نداء الصلاة. ترك جميع العمال عملهم وقمنا بدورنا للالتحاق بهم, اصطففنا على حصير خشن, خلف الشيخ الذي أمَّ بنا. 

أخبرني الشيخ بهذا النحو: "لقد تقدمتَ بما فيه الكفاية في طريق المعرفة, لم يبقَ لك إلا أن تحصل على الاستنارة, أي توسيع الوعي الذي سيسمح لك بإدراك ما اكتسبته عقلياً من خلال قلبك. ولهذا عليك أن تستعد للدخول في "الخلوة". فسألته: "ما هي "الخلوة"؟, فقال: "الخلوة, هي غرفة أضع فيها المريد بعد أن أقسم لي ألا يتركها, إذا لزم الأمر, لمدة أربعين يومًا, ووظيفته الوحيدة هي أن يكرر, دون توقف, ليلا ونهارا, الاسم الأعظم بالمد والتعظيم حتى نفاد النفس. ولكن قبل ذلك عليه أن يقرأ صيغة الشهادة خمسة وسبعين ألف مرة, ويصوم في النهار ولا يفطر إلا في المساء" فسألته: "كم من الوقت يبقى محبوساً؟" قال: "بعض الفقراء يتحصلون على الفتح بصفة مفاجئة بعد بضع دقائق من الذكر, وهناك آخرون يستغرق الأمر معهم عدة أيام, وآخرين عدة أسابيع. أعرف شخصيا فقيرًا استغرق ثمانية أشهر, كل صباح كان يعود إلى الخلوة ويقول لي: "قلبي ما زال قاسياً", وفي النهاية تمت مكافأة جهوده". 

تمت مغادرتي زاوية الشيخ بعد بضعة أيام. عندما جاءوا ليخبروني أن الوقت قد حان, نهضتُ لأودع الشيخ الذي كنتُ أتحدث معه. نهض هو الآخر وقال لي: "لن نفترق بعد, سأرافقك قليلاً حتى لا يتعب الحصان, سنمشي حتى تخرج السيارة من الرمال وتصل إلى الطريق".عندما خرجنا من الرمال, توقفنا ومدّ الشيخ يده لي. 

الآن وقد استعدتُ, عن بُعد, الخلوة التي قضيتها في مستغانم, أجد أن تعاليم الشيخ هي الأبسط, ولكن أيضاً الأكثر يقيناً من بين تلك التي تلقيتها. بالمقابل, للوصول إلى الآب, يمر المسيحيون عبر الإبن ويمرّ الثيوصوفيون عبر الكلمة, فخير الدين (محمد باي) نفسه, نصحني بالتمسك بالنبي محمد صلى الله عليه و سلم ليوصلني إلى الله. 

شيخ العلاوية لا يقترح أي وسيط, فبطريقته, كل فرد لديه القدرة على العروج إلى أعلى المقامات السامية, وتتمثل هذه الطريقة ببساطة في تكرار إسم: الله! الله! مع الطريقة العلاوية, يركز العقل دون جهد على الكلمة التي ينطقها اللسان: فبترديد الاسم الأعظم, وإبقائه باستمرار على اللسان, ورسمه بأحرف عملاقة في القلب, يسير سالك عالم الإطلاق على "صراط الله". 

 

عبد الكريم غوستاف هنري جوصو (مقتطفات من كتابه "صراط الله").
ترجمة حصرية (درويش العلاوي)

تعليقات