محمد بن الهاشمي

هو العارف بالله والدال عليه الشيخ محمد بن أحمد بن الهاشمي بن عبد الرحمن التلمساني أصلاً، الدمشقي سكناً، الشاذلي العلوي طريقة. ولد سماحة الأستاذ المرشد الكبير سيدي محمد بن الهاشمي قدس الله روحه من أبوين صالحين، كلاهما من آل بيت النبوة، يرجع نسبهما إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، يوم السبت 22 شوال 1298 هـ في مدينة سبدة التابعة لمدينة تلمسان، وهي من أشهر المدن الجزائرية. وكان والده من علمائها وقاضيا فيها، فلما توفي ترك أولادا صغارا، والشيخ أكبرهم سنا.
 
بقي الشيخ مدة من الزمن ملازما للعلماء، قد انتظم في سلكهم جادا في الازدياد من العلم، ثم هاجر مع شيخه محمد بن يلس إلى بلاد الشام فارا من ظلم الاستعمار الفرنسي، الذي منع الشعب الجزائري من حضور حلقات العلماء وتوجيههم. وكانت هجرتهما في 20 رمضان سنة 1329 هـ عن طريق طنجة ومرسيليا، متوجهين غلى بلاد الشام. فمكثا في دمشق أياما قلائل، وعملت الحكومة التركية على تفريق جميع المغاربة الجزائريين، وكان نصيبه رحمه الله أن ذهب إلى تركيا وأقام في أضنة، وبقي شيخه ابن يلس في دمشق. وعاد بعد سنتين إلى دمشق ، فالتقى بشيخه ابن يلس وصحبه ولازمه.

وفي بلاد الشام تابع أخذ العلم عن اكابر علمائها. ومن اشهرهم المحدث الكبير بدر الدين الحسني، والشيخ امين سويد، والشيخ جعفر الكتاني، والشيخ نجيب كيوان، والشيخ توفيق اليوبي، والشيخ محمود العطار وأخذ عنه علم أصول الفقه، والشيخ محمد بن يوسف المعروف بالكافي وأخذ عنه الفقه المالكي، وقد اجازه أشياخه رحمهم الله بالعلوم العقلية والنقلية.

أما من ناحية التصوف فقد أذن له شيخه محمد بن يلس بالورد العام لما رأى من تفوقه على تلامذته، من حيث العلم والمعرفة والنصح لهم وخدمتهم.
 
ولما سافر المرشد الكبير الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي من الجزائر لأداء فريضة الحج، أتى بعدها لدمشق في ربيع 1930-1348هـ، ونزل في بيت أحد كبار أولياء وصلحاء دمشق وهو الشيخ أبو كمال الشميساتي رحمه الله في سوق ساروجة قرب جامع الورد, وذكر له أنه جاء ليقدم الشيخ محمد بن الهاشمي التلمساني كخليفة له في المشرق, فسمع بذلك الشيخ الهاشمي فاختبأ تواضعا وهربا من تحمل الأمانة وبعث لشيخه بأن يقدم العلامة الكبير الشيخ محمد هاشم الخطيب, وكان من كبار العارفين بالله وكونه سوريا وابن البلد والشيخ الهاشمي نزيل مهاجر, فقال له الشيخ العلاوي: "أنا أجيزك وأنت تجيز من تريد, نحن أعلم بمن نقدم ومن يخلفنا", لأن الشيخ جاء لدمشق بأمانة عليه تسليمها قبل الوفاة. وعندما تسلم الشيخ الهاشمي الخلافة بالمشرق (...), طلب منه الشيخ محمد هاشم الخطيب دخول الخلوة, فقال له الشيخ الهاشمي: مثلك يطلب دخول الخلوة؟؟ ولعلم الشيخ هاشم الخطيب بفضل الهاشمي ومزيته وما أفيض عليه تلك الليلة من شيخه العلاوي عرف أنه بحاجة لذلك, فقال له: نعم يا سيدي!!. وعندما دخل عليه الشيخ الهاشمي للمذاكرة, قال له الشيخ هاشم: أرأيت لو عُرِضَت لي المكونات؟؟ فقال له: اصرفها بلا إله الا الله. وفي المذاكرة الثانية: قال الشيخ هاشم: أرأيت لو عُرِضَت لي الحضرة المحمدية؟؟ قال له الشيخ الهاشمي: تلك حضرة أحدية, كان الله ولا شيء معه ولا محل لأحد من الخلق فيها. فخرج الشيخ هاشم الخطيب طربا نشوانا متبخترا بين إخوانه وتلاميذه من شدة ما ذاق من المعاني والفتوحات, رضي الله عنهم جميعا وحققنا الله بما أفاض عليهم آمين.(1)

أخلاقه وسيرته
كان رحمه الله تعالى متخلقا بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، متابعا له في جميع أقواله وأحواله واخلاقه وأفعاله، فقد نال الوراثة الكاملة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وكان متواضعا حتى اشتهر بذلك ولم يسبقه احد من رجال عصره في تواضعه.


وكان يعامل كما يحب ان يعاملوه. وكان يحب ان يخدم إخوانه بنفسه، فيأتي الزائر، وياتي التلميذ فيبيت عنده فيقدم له الطعام، ويحمل له الفراش مع ضعف جسمه. وكم جئناه في منتصف الليل، وطرقنا بابه، فيفتح لنا الباب وهو بيثابه التي يقابل بها الناس، كأنه جندي مستعد. فما رأيناه في ثوب نوم أبداً .

وكان حليما لايغضب إلا لله. حدث أن جاءه رجل من دمشق إلى بيته وأخذ يتهجم عليه، ويتهكم به، ويتكلم بكلمات يقشعر لها جلد المسلم، ولكن الشيخ رضي الله عنه لم يزد على قوله له : الله يجزيك الخير ، إنك تبين عيوبنا، وسوف نترك ذلك ونتحلى بالأخلاق الفاضلة. وما ان طال المقام بالرجل إلا وأقبل على الشيخ ، يقبل قدميه ويديه ، ويطلب المعذرة منه.

وكان كريما لايرد سائلا. وكم رأينا أشخاصا يأتون إليه فيعطيهم ويكرمهم، ولاسيما في مواسم الخير؛ حيث يأتي الناس لبيته وترى موائد الطعام يأتيها الناس أفواجا أفواجا يأكلون منها ، ولاتزال ابتسامته في وجهه، وقد بلغ من كرمه انه بنى داره التي في حي المهاجرين بدمشق قسمين: قسم لأهله ، وقسم لمريديه وتلاميذه.

وكان من صفاته رضي الله عنه واسع الصدر وتحمل المشقة والتوجيه، وشدة الصبر مع بشاشة الوجه؛ حتى إني استغربت مرة صبره فقال لي : ياسيدي إن مشربنا هذا جمالي. وكان يأتي إليه الرجل العاصي فلايرى إلا البشاشة من وجهه وسعة الصدر، وكم تاب على يديه عصاة منحرفون ، فانقلبوا بفضل صحبته مؤمنين عارفين بالله تعالى.

حدث أنه كان سائرا في الطريق بعد انتهاء الدرس ، فمر به سكران ؛ فماكان من الشيخ رحمه الله تعالى إلا أن ازال الغبار عن وجهه ، ودعا له ونصحه ، وفي اليوم التالي كان ذلك السكران أول رجل يحضر درس الشيخ ، وتاب بعد ذلك وحسنت توبته.

وكان رحمه الله تعالى يهتم بأحوال المسلمين ويتألم لما يصيبهم، وكان يحضر جمعية العلماء التي قام في الجامع الأموي، يبحث في أمور المسلمين ويحذر من تفرقتهم، وقد طبع رسالة تبين سبب التفرقة وضررها، وفائدة الاجتماع على الله والاعتصام بحبل الله سماها القول الفصل القويم في بيان المراد من وصية الحكيم.

وكان رحمه الله يكره الاستعمار بكل أساليبه، ويبحث في توجيهه عن مدى صلة الحوادث مع الاستعمار وكيفية الخلاص من ذلك. ولما ندبت الحكومة الشعب إلى التدرب على الرماية، ونظمت المقاومة الشعبية، سارع الشيخ لتسجيل اسمه بالمقاومة الشعبية، فكان يتدرب على أنواع الأسلحة مع ضعف جسمه ونحوله وكبر سنه. وبهذا ضرب للشعب المثل الأعلى لقوة الإيمان والعقيدة والجهاد في سبيل الله، وذكرنا بمن قبله من المرشدين الكمل الذين جاهدوا الاستعمار وحاربوه؛ امثال عمر المختار والسنوسي وعبدالقادر الجزائري. وماالمجاهدون الذين قاموا في المغرب، لإخراج الاستعمار وأذنابهم إلا الصوفية. وكان رحمه الله تعالى حسن السيرة والمعاملة، مما جعل الناس يقبلون عليه ويأخذون عنه التصوف الحقيقي ، حتى قيل "لم يشتهر الهاشمي بعلمه مع كونه عالما، ولم يشتهر بكراماته مع مع ان له كرامات كثيرة، ولكنه اشتهر بأخلاقه، وتواضعه، ومعرفته بالله تعالى".

وكان رحمه الله تعالى إذا حضرت مجلسه، شعرت كأنك في روضة من رياض الجنة؛ لأن مجلسه ليس فيه مايشوبه من المكدرات والمنكرات. فكان رحمه الله تعالى يتحاشى أن يذكر في حضرته رجل من غير المسلمين وينقص. ولايحب ان يذكر في مجلسه الفساق وغيرهم، ويقول عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة.

وبقي رحمه الله دائبا في جهاده مستقيما في توجيهه للمسلمين وإخراجهم مما وقعوا فيه من الضلال والزيغ. فقد كانت حلقاته العلمية متوالية من الصباح حتى المساء؛ ولاسيما علم التوحيد الذي هو من أصول الدين فيبين العقائد الفاسدة والإلحادية، مع بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، والرجوع إلى الله تعالى؛ والتعلق به دون سواه.

نشاطه في الدعوة والإرشاد
كان بيته قبلة للعلماء والمتعلمين والزوار، لايضجر من مقابلتهم، ويقيم -مع ضعف جسمه- حلقات منتظمة دورية للعلم والذكر في المساجد والبيوت، ويطوف في مساجد دمشق يجمع الناس على العلم وذكرالله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يزل مثابراً على همته ونشاطه ودعوته حتى ايامه الأخيرة.


تتلمذ على يديه نخبة طيبة صالحة من العلماء وطلاب العلم، ومن مختلف طبقات الأمة يهتدون بإرشاداته، ويغترفون من علومه، ويقتبسون من إيمانه ومعارفه الذوقية، ويرجعون إليه في أمورهم. وقد أذن للمستفيدين منهم بالدعوة والإرشاد، وبذا انتشرت هذه الطاقة الروحية في دمشق وحلب وفي مختلف المدن السورية والبلدان الإسلامية.

مؤلفاته
مفتاح الجنة شرح عقيدة اهل السنة. الرسالة الموسومة بعقيدة اهل السنة مع نظمها. البحث الجامع والبرق اللامع والغيث الهامع فيما يتعلق بالصنعة والصانع. الرسالة الموسومة بسبيل السعادة في معنى كلمتي الشهادة مع نظمها. الدرة البهية. الحل السديد لما استشكله المريد من جواز الأخذ عن مرشدين. القول الفصل القويم في بيان المراد من وصية الحكيم. شرح شطرنج العارفين للشيخ محي الدين بن عربي رحمه الله. الأجوبة العشرة. شرح نظم عقيدة اهل السنة. وغير ذلك من الرسائل.


وقد أخذ التصوف عن سيدي الهاشمي رحمه الله تعالى كثير من العلماء وغيرهم لايعلم عددهم إلا الله.

وهكذا قضى الشيخ الهاشمي حياته في جهاد وتعليم، يربي النفوس، ويزكي القلوب الراغبة في التعرف على مولاها، لايعتريه ملل ولاكسل. واستقامته على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وحالاً، ووصيته في آخر حياته: "عليكم بالكتاب والسنة" تشهد له بكمال وراثته.

وهكذا رحل الشيخ الكبير إلى رضوان الله تعالى وقربه يوم الثلاثاء 12 من رجب 1381 هـ الموافق 19 كانون الول 1961 م، وصُلي عليه بالجامع الموي، ثم شيعته دمشق تحمله على الأكتف إلى مقبرة الدحداح، حيث ووري مثواه وهو معروف ومُزار. ولئن وارى القبر جسده الطاهر الكريم، فما وارى علمه وفضله ومعارفه وماأسدى للناس من معروف وإحسان، فلمثل هذا فليعمل العاملون. وهذا من بعض سيرته الكريمة، وماقدمناه غيضٌ من فيض ونقطة من بحر، وإلا فسيرة العارفين منطوية في تلامذتهم‘ ومن أين للإنسان ان يحيط بما تكنه صدورهم وأسرارهم؟

وفي مثله قال القائل:
إن تســل أين قبور العظما فعلى الأفواه أوفي النفس


وبمثل هذه الشخصيات الحية نقتدي وبمثلهم نتشبه:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشــبه بالكرام فلاح


وقد قيل:
موت التقي حياة لاانقطاع لها قد مات قوم وهم في الناس أحياء

المصدر: عبدالقادر عيسى رحمه الله من كتابه حقائق عن التصوف
(1) الشيخ عبد الرحمن الشاغوري في درس له مسجل في سنة 1978م, 1398هـ في اربد.

تعليقات