المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة - الشيخ العلاوي

المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية
لقد عقّبّ الأستاذ مترجما وشارحا لأمور ونواح عديدة كلّها تتعلّق بالدين الإسلاميّ والدعوة إليه بالحجّة والبيان الواضح، الذي لا يوجد فيه لبس بأسلوب بسيط في لفظه عميق المعنى في شرحه وتأويله ويزخر بالعلوم اللطيفة الفخيمة التي تجلب التنزّلات الرقيقة لسويداء هذا القلب الإنساني، وممّا تجدر الإشارة إليه هو كتاب (المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة)  ويبحث في أركان الإسلام الخمس، إنّه حقيقة مطابق اسمه لمسمّاه وهو يعتبر من النماذج العالية جدا في السلوك والنهج الصوفيّ المؤيد بالكتاب والسنّة.

مختصر المنح القدوسيّة في شرح المرشد المعين بطريق الصوفيّة ومن الواجب المفروض أن نقتبس بعض الفقرات منه تيمنا للفائدة ومحبّة في الله ورسوله علّ الله أن ينفع القارئ والسامع آمين يا ربّ العالمين. 

يقول الشيخ العلاوي:

حمدا لمن ظهر في بطونه وبطن في ظهوره حتى خفي من شدّة الظهور عن بصائر عباده لعظمة نوره, واضمحلّ الكلّ في حال الشهود حيث تجلّى بجبل طوره, فالأرض جميعا بقبضته, نحمده على ما أولانا من معارفه الغيبيّة, ونشكره جلّ مولانا على ما منحنا من لطائفه القلبيّة, وحبانا بمزيد التفضّل والامتنان بمرتبة التربية, ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة عبد مخلص أرشده مولاه لطريق الكمال, فأقرّ له بالربوبيّة واعترف له بالوحدانيّة المطلقة في الذات والصفات والأفعال, ونزهّه عن الأنداد والأشباه والنظر والأمثال, ونشهد أنّ سيدنا ونبيّنا ومولانا محمد روح العالم ومظهر الذات ونقطة الوجود وسرّ الكائنات, صلّى الله عليه وسلّم وأله وأصحابه الأعيان الهداة صلاة وسلاما يكونان لنا حصنا حصينا وحرزا منيعا من البلايا والآفات, يتعاقبان ويتجدّدان بتجدّد الأيام والأوقات. 
إنّه لمّا منّ الله عليّ بورود منهله المعين, ووفقني لفتح مغلفات هذا النظم العجيب, المحتوي ظاهرا أركان الدين وباطنا على مسلك من مسالك الإشارة غريب فبقيت نفوس بعض من ينتمي لهذا المشرب طامحة للبحث عن إشارته, متشوّقة لما يلوح من معاني ألفاظ عباراته, فحملتني الغبطة في هذا الفن, على أنّني لست من أهل هذا الميدان, ولا من فرسان هذا الشأن, ولكنّي اعتمدت في الدخول لهذا المدخل البعيد قول الناظم للمتن طيب الله ثراه أبياته للأميّ, وقد قدمت على المقصود بالذات مقدمتين جليلتين مفيدتين:
 
(1): المقدمة الأولى في شرف علم القوم على غيره:
اعلم إنّ هذا العلم هو أفضل العلوم, وأزليّ الفهوم, لا ينكره إلاّ من كان من بركته محروم, لكنّ العلوم من حيث هي قد يقع الاستغناء عنها في وقت ما بخلاف هذا العلم فإنّه لا يستغنى عنه في سائر الأوقات حتما, ولا يقول بالاستغناء عنه إلاّ جهول حرم لذّة الوصول, ومن جهل شيئا عاداه, ولله درّ الغزالي حيث كان يلهج ببيتي أبي الفتح البستي رحمهما الله, وهما:
 
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته *** وتطلب الربح ممّا فيه خسران
عليك بالنفس فاستكمل سعادتها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
 
فلاح لنا من هذا المرقوم أنّ هذا العلم أشرف العلوم, وشرفه بشرف المعلوم, وقدره بقدر متعلّقة, وهو متعلّق بذات القيوم.
 
قال حكيم الصوفيّة: (شتان بين من يستدل به, وبين من يستدل عليه, وكلّ علم يقع الجدال والمنازعة بين أهله, والمخالفة والتباين بين أربابه, إلاّ هذا العلم الشريف فإنّه منزّه عن المشاققة والتحريف), قال سيدي (عمر بن الفارض):
 
وكم بين حذّاق الجدال تنازع *** وما بين عشّاق الحبيب تنازع
 
قال عليه الصلاة والسلام: (القرآن بستان العارفين), وقال (ابن العربي الحاتمي) قدّس الله سرّه: (أعطيت مفاتيح القرآن العظيم), وليس هو أول من أعطي مفاتيحه, ولا هو أخرهم, وإنّما كلّ من كان له نصيب من فهم القرآن العظيم, ومن لم يكن له نصيب من هذا العلم فلا نصيب له من باطن القرآن, وإنّما حظّه بظاهر اللفظ.
 
ذكر عن الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه ما معناه: (لو شئت لوقرت أربعين وقرا من تفسير الفاتحة), وكلّ ذلك ممّا أعطي من تلويح الإشارة, ودقائق العبارة في علم الباطن, وله أن يستخرج أكثر من ذلك.
 
وإذا استقر في ذهنك أيّها القارىء اللبيب أن نقطة الباء جامعة لسائر الأحكام والرسوم والمعارف والفهوم, فمن باب أولى وأحرى الكلمة, فسلّم لأهل هذا العلم ولا تستغرب إن رأيتهم استخرجوا من المعنى الواحد معاني شتى, ومن الكلمة الواحدة كلمات جمّة, فلهم أن يستخرجوا ما شاءوا من أي شيء شاءوا, تالله لو أراد أحدهم أن يستخرج العسل من الخل لفعل: (يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ / الروم آية / 19) وكلّ ذلك دليل على ما منحهم الله من الأسرار والمعارف والأنوار, فلا تغتر يا أخي بأقوال المغرورين الذين ينقصون أولياء الله, ويخوضون في أعراضهم, ويزعمون أنّ لهم يدا عليهم, وما هم إلاّ بمنزلة الصبيان معهم, لكونهم لا يدرون من أي بحر غرفوا, ولا لأي جهة من الجهات توجّهوا, كما قال الشيخ (محي الدين بن العربي) رضي الله تعالى عنه:
 
تركنا البحار الزاخرات وراءنا *** فمن أين يدري الناس أين توجهنا
 
نقل الإمام (الغزالي) في (إحياء علوم الدين) عن بعض العارفين ما نصه: (من لم يكن له نصيب من هذا العلم أي علم الباطن, أخاف عليه سوء الخاتمة, وأدنى نصيب منه التصديق به والتسليم لأهله).
 
قال (أبو الحسن الشاذلي) رضي الله تعالى عنه: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصرّا على الكبائر وهو لا يشعر).
 
ومن الكبائر عند القوم شهود الغير, ولا يسلم من هذه البليّة إلاّ من كان متذلّلا واقفا على أبوابهم, ولو كان من العلماء المتقين والزهّاد العابدين, فتذللك يا أخي لهم لعلّك تحظى بودادهم وإلاّ صدّق بعلمهم.
 
قال (الجنيد) رضي الله تعالى عنه: (التصديق بعلمنا هذا ولاية, وإذا فاتتك المنّة في نفسك, فلا يفوتك أن تصدّق بها غيرك).
 
قال الشيخ (أبو يزيد البسطامي) رضي الله تعالى عنه: (إذا رأيت من يؤمن بالطريق فقل له يدعو لك الله فإنّه مجاب الدعوة).
 
قال (الصقلي) في كتابه (نور القلوب في العلم الموهوب): (كلّ من صدّق بهذا العلم فهو من الخاصّة, وكلّ من فهمه فهو من خاصّة الخاصّة, وكلّ من عبّر عنه وتكلّم فيه فهو النجم الذي لا يدرك, والبحر الذي لا يترك).
 
كان (الطبيب صاحب حاشية الكشاف) يقول: (لا ينبغي للعالم ولو تبحّر في العلوم حتى صار واحد أهل زمانه أن يقنع بما علمه, وإنّما الواجب عليه الاجتماع بأهل الطريق, ليدلّوه على الصراط المستقيم حتى يكون ممن يحدثهم الله في سرائرهم من شدّة صفاء بواطنهم, إلى أن قال: حتى يصير يقتبس من أنوار النبوّة).
 
نقل (النووي) في (شرح المهذب عن الشافعي) رضي الله عنهما أنّه قال: (استفدت من الصوفيّة في مجالستهم كلمتين قولهم الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك, وقولهم إن لم تشغل نفسك بالخير أشغلتك بالشر), وقد قال الشيخ (الشعراني) رضي الله عنه: (فانظر كيف نقل الشافعي ذلك عن الصوفيّة من دون غيرهم).
 
(2): المقدمة الثانية في بيان فهم القوم من اللفظ الواحد معاني مختلفة:
اعلم إنّ القوم لا يفهمون مخاطبة الخلق لهم إلاّ عن الله, وذلك يقتضيه مقامهم لا يستعملونه في أنفسهم, فلا تستغرب يا أخي من فهمهم الكلمة الواحدة الموضوعة على معنى مخصوص آخر, فإنّ ذلك عندهم من أشرف المقامات, وأعظم الدرجات, لكونهم يفهمون الأمور عن الله, وقد أجمع أهل الله على أنّ الفهم عن الله على قدر مقام العبد عند الله, ولم يختلفوا في أنّ الكلمة الواحدة الدالّة على معنى مخصوص قد يفهم منها العبد معاني كثيرة لا تحصى, وربّما الكلمة يكون ظاهرها قبيحا, ويستفيد منها العارف أمرا مليحا, أمّا على وجه التصريح وأمّا على وجه التلويح, فإنّ القوم وإن اشتركوا مع غيرهم في ظاهر اللفظ, فإنّهم مختلفون في القصد, كما أنّهم اشتركوا في المشهود واختلفوا في الشهود, واشتركوا في المسموع, واختلفوا في الأسماع, قال تعالى: (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل / الرعد آية / 4).
 
فسبحان من هداهم وقربهم إليه, واجتباهم حتى صاروا يأخذون أحكامهم وأفعالهم من مولاهم فسمعوا ما لم يسمعه الخلق, وأبصروا ما لم يبصره الخلق, فأجسامهم عندنا وأرواحهم عند الملك الحقّ, وكما قال بعضهم:
 
فؤادي عند محبوبي مقيم *** يناجيه وعندكم لساني
 
قال الإمام (الجيلي) في (عينيته) المشهورة:
 
إذا زمزمت ورقاء على غصن بانة *** وجاوبها قمريّ على الأيك ساجع
فأذني لم تسمع سوى نغمة الهوى *** ومنكم فإنّي لا من الطير سامع
 
فإذا كان هؤلاء القوم يستخرجون الجدّ من الهزل, فكيف لا يستخرجون الجدّ, من الجدّ, بل لهم ذلك لكونهم لا يقفون عند ظاهر الألفاظ, وإنّما ينظرون إلى المعاني الدالّة على المراد, ولا يلتفتون للحن ولا للإعراب, بل يأخذون المعاني من حيث وجدوها, فهم ناظرون لإشارة الأرواح, غافلون عما يتلفظ به اللسان, تراهم مع الله في كلّ حال وشأن, مع انّه كلّ يوم هو في شأن, ما اتخذ الله وليّا جاهلا إلاّ علّمه, وابتداء التعليم به ثمّ بأحكامه, وأمّا بقيّة العلوم فليست شرطا في صحّة الولاية وإنّما هي شرط كمال وذلك كالنحو والصرف, والمعاني والبيان, وعلم اللغة, حيث من لم تغنه معرفة الله, فذلك هو الشقي.
 
قال سيدي (أحمد بن عجيبة) رضي الله عنه: (إصلاح اللسان دون إصلاح القلب فسق وضلال, وإصلاح القلب دون إصلاح اللسان كمال دون كمال, وإصلاح القلب واللسان كمال الكمال).
 
قال الفقيه (ميمون) رحمة الله عليه: (أقبح كلّ قبيح أن يتعلّم الإنسان نحو اللسان ويعلّمه, ولا يتعلّم نحو القلب ويعلّمه, مع أنّه محلّ نظر الربّ, فإذا كان نحو اللسان مع نحو الجنان كان صاحبهما في أمان, ولا يخشى عليه الخسارة والخذلان, يوم وقوفه بين يدي الرحمن, لأنّ الله تبارك وتعالى لا يثيب العباد على إعرابهم, وإنّما يثيبهم على قلوبهم.
 
الخلائق مخاطبون بظاهر الشرع ما عدا الصوفيّة, فإنّهم مخاطبون بظاهر الشرع وباطنه, قال شيخ شيوخنا مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه: (ما عرفنا من النحو إلاّ إعراب قوله تعالى: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله / النور آية / 32), إنّ حرف شرط, ويغنهم جواب الشرط, والمقصود بالغنى الغنى الأكبر فيكون خطابه للمتوجهين على طريق أهل الإشارة.
 
وعن بعضهم أنّه رأى النبيّ عليه الصلاة والسلام في منامه فقال له: (يا رسول الله إنّي متطفل في هذا العلم, فقال: اقرأ كلام القوم, فإنّ المتطفل على هذا العلم هو الوليّ, وأمّا العامل به فهو النجم الذي لا يدرك), فمن أجل علوّ مقامهم, وإشراف رتبهم وفهمهم الأمور التي لا يدركها أحد إلاّ بمجالستهم والتذلّل على أعتابهم, أردت أن أبين بعض ما يأخذونه من الفقه وغيره بالإشارة التي تناسبهم مع أخذهم لظاهره والعمل به, والتديّن بأحكامه, ولا نفهم من أخذهم باطن الألفاظ أن يتركوا ما يقتضيه الظاهر حاشاهم من ذلك, بل يأخذون ما لا يقدر أن يأخذ به غيرهم من العزائم وسيرتهم في ذلك مشهورة, ولا يناقض هذا أقوال بعض أهل الجذب الغالب عليهم الحال, لكونهم ناقصين عن درجات الكمال, وأمّا الكمّل فأقوالهم مشهورة في عدم انفكاك الحقيقة عن الشريعة, أو العكس منها قولهم: (الحقيقة عين, والشريعة أمرها), ومنها قولهم: (من تحقّق ولم يتشرّع فقد تزندق, ومن تشرع ولم يتحقق فقد تفسق, ومن جمع بينهما فقد تحقق), ومنها قولهم: (الحقيقة باطنة في الشريعة كبطون الزبد في اللبن فبمخض اللبن يظهر الزبد), ويقال: (أنّ الحقيقة شجرة والشريعة أغصانها), ويكفي في هذا ما قيل: (الشريعة مقالي, والطريقة أفعالي, والحقيقة حالي), وإذا كان هذا وصفه عليه الصلاة والسلام فكيف يتأخر عن هذا المقام مثل هؤلاء القوم, قد زيّنوا ظاهرهم بالشرع وجمّلوا باطنهم بالجمع, وأخذوا من الشرع ما لا يقتضيه الطبع, ولا يسبق إليه السمع, فمن أجل ذلك صار جميع ما يفهمونه عن الله في سائر أحوالهم مأخوذا من الكتاب والسنّة, (وقلّما تجد قولا من أقوالهم في الشريعة إلاّ ولهم فيه جميع مراتب الشريعة كالإسلام والإيمان والإحسان, وإن شئت قلت الشريعة والطريقة والحقيقة بخلاف ما عداهم فإنّهم لا يأخذون من القول سوى الظاهر من غير التفات لما له في الباطن من الأسرار القدسيّة والمعاني الغيبيّة, ولهذا احتجب عنهم ما كان عليه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نظرهم لباطن الأشياء لما وقف الناس مع ظاهرها, وقد مدحهم عليه الصلاة والسلام بقوله: ( سيروا هذا جمدان سبق المفردون, قالوا: ما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) رواه الإمام أحمد في مسنده.
 
إنّ المريد إذا حصل له الفناء والاستغراق في الاسم المفرد (الله) يخرج به عن نفسه, وعن دائرة حسّه ولم يبق له إلاّ الاسم ممتزجا بدمه ولحمه, فإذا قام به وإذا تكلّم فيه.
 
قال (الشبلي) رضي الله عنه: (كنت سائحا في بريّة فإذا بجارية مصفرة اللون مغبرة الثياب وهي ناهضة بأسرع مشي, فقلت: رفقا على نفسك يا أمة الله, فقالت: هو, هو, فقلت لها: من أين أتيت؟ فقالت: من هو, فقلت لها: ما اسمك؟ فقالت: هو, فقلت: ماذا تريدين بقولك هو؟ الله تريدين, فصعقت صعقة حين سمعت اسم الله, ففاضت منها نفسها رحمة الله عليها, وعلى أمثالها, والله أرجو أن ينظّمنا في سلك الذاكرين بمنّه وكرمه).
 
ثمّ قال رضي الله عنه:
 
صلّ وسلّم على محمد *** وآله وصحبه والمقتدي
 
فالصلاة عند القوم معناها التجلّي الإلهيّ, وهذا لا يقع إلاّ لأنبيائه وخواص أوليائه, اللّهم إلاّ بالتبعية لكونه مقاما شريفا لا يناله إلاّ خواص أهل التعريف, والصلاة بمعنى التجلّي إن كانت من الله وإلاّ فهي بمعنى الدعاء, فإذا قلت اللّهم صلّ على محمد وعلى آله كأنّك تقول اللّهم تجلّ على محمد, وعلى آله, ويقول بعض الصالحين: (لي وقت لا يسعني فيه غير ربي), وحاصل الأمر أنّ الصلاة من الله على عباده هي غاية عطفه عليهم, وغاية قربهم منه, فإذا حصلت لأحدهم حصل له الكلّ, وبها يخرج الله أولياءه من قيد أنفسهم إلى مشاهدة ربّهم, وذلك بقوله تعالى: (هو الذي يصلّي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور / الأحزاب آية / 43), أي يخرجكم من ظلمات الكون إلى نور المكوّن, أو من قيد الاغيار إلى فضاء الأسرار, ولهذا يقال بأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينتفع بالصلاة عليه, نعم ينتفع بها, ولم يحل له الجنان والزخارف بدونها (وجوه يومئذ ناضرة, إلى ربّها ناظرة / القيامة آية / 22, 23), هذا معنى الصلاة والله أعلم, وأمّا السلام من الله على عباده فبمعنى الأمان والثبات, وإذا أراد الله تبارك وتعالى صيانة من يصلّي عليهم, وصيانة غيرهم بسببهم أعقب الصلاة بالسلام عليهم, فعند ذلك تسكن روعتهم ويستقيم سيرهم ويصير ظاهرهم مع الخلق وباطنهم مع الحق جامعين بين الضدين, عالمين بأحكام المقامين, وهؤلاء ورثة الأنبياء, وعلى هذا المقام الشريف يعبّرون بالسكر والصحو والفناء والبقاء, وغير ذلك من اصطلاحاتهم, فالسكر كناية عن الصلاة من الله عليهم, والسلام كناية عن الصحو بعد استغراقهم في مشاهدة ربّهم, وحاصل الأمر أنّ الصلاة من الله على أحبابه كناية عن الوصول, كما أنّ اللعنة على أعدائه كناية عن البعد والانقطاع.
 
إنّ القوم لا ينفع معهم إلاّ الصدق والاعتقاد, ولهذا قال بعضهم (طريقتنا مبنيّة على النيّة والتصديق لا على البحث والتدقيق), فينبغي للعاقل أن ينظر لنفسه بعين التقصير, فعقل القوم ليس كعقل العموم, فكيف تقيسه على ما عندك من العلوم, إذ علمهم لا يتوقف على عادة ولا على رسوم, بل عقلهم جامع لسائر العلوم.
 
إنّ ظهور الحقّ لأوليائه صار عندهم لا يقبل النفي بحال, قال الإمام (الشافعي) رضي الله عنه: (قوي عليّ الشهود مدّة, فسألت الله أن يستره عني, فهتف بي هاتف: لو سألته بما سأله به أنبياؤه وأصفياؤه ومحمد حبيبه ما فعل, ولكن اسأله أن يقويّك عليه, فقواني والحمد لله).
 
يقول (ابن عطاء الله السكندري) في (الحكم العطائية): (الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته), هذا معنى الجائز عندهم, والله أعلم, ثمّ قسّم كلا من: الجائز والواجب والمستحيل إلى ضروري ونظري, فالضروري هو الذي يدركه العارف بغير تأمل, والنظري هو الذي يدركه بعد التأمل لدقته, فمثال الواجب الضروري إثبات الوحدانية لله, فإنّ العارف يدركها بلا تأمل ولا تخيل, ومثال الواجب النظري كإثبات القدرة مع وجود القادر, فهذا لا يثبت لأحدهم حالة استغراقه في عظمة الذات إلاّ بعد التأمل, لأنّ ظهور الذات يقتضي بطون الأسماء والصفات, ومن تحقق بعظمة الذات لا يمكن له أن يثبت شيئا زائدا على الذات, لعدم تحيّزها وشدّة ظهورها, ومثال المستحيل النظري كمنع رؤية الحقّ فيما سوى هذا المظهر, بحيث أن يريد العارف أن يراه خارج العالم فهذا مستحيل لكنّه نظري, ولهذا لما سأل موسى عليه السلام الرؤية من الله في غير هذا المظهر أجابه بقوله: (لن تراني), لأنّي لست خارج العالم, ولست داخله ولا منفصلا عنه, ولا متصلا به, فأنا الكلّ منك, مالك عني غافل.
 
وعليه فينبغي للعارف إذا عرف الله بالذات والصفات, واستغرق في الشهود أن لا يخرج بمعرفته عن الحدود, بل يكون راسخا جامعا ظاهره مع الحدود, وباطنه مع الشهود, لا يحجبه قربه عن جمعه, ولا جمعه عن فرقه, وتكون الحقيقة في باطنه مشهودة, والشريعة على ظاهره موجودة, وهذا مقام شريف, فيه تفاوت أهل التعريف, فهو أعزّ من الكبريت الأحمر, ولا يجمع بين هاتين الحالتين إلاّ من كان له مقام بالغ, وعقل جامع.
 
وحاصل الأمر أنّ الكلّ مفتقرا لله افتقارا ذاتيّا بحيث لا وجود له إلاّ بوجود موجده, ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف أوصافه من أوصاف ربّه, لما قيل تحقق بأوصافك يمدّك الله بأوصافه, حتى إذا فتحت بصيرتك أيّها المريد, ونظرت فيما يجب لله وما يجب لنفسك وجدت نفسك عدما محضا, كأن لم تكن شيئا مذكورا, فطهّر سريرتك وتحقّق بأوصافك.
قال رضي الله عنه:
 
يجب لله الوجود والقدم *** كذا البقاء والغنى المطلق عمّ
وخلقه لخلقه بلا مثال *** ووحدة الذات ووصف والفعال
وقدرة إرادة علم حياة *** سمع كلام بصر ذي واجبات
 
فالله سبحانه وتعالى يجب في حقّه الوجود, والوجود هو عين الموجود, والمراد به الوجود المطلق الذي لا يتحيّز ولا يتعدّد ولا يتميّز, وإنّ هذا الوجود لا يقبل الانتفاء في بصائر العارفين, كما إنّ الحسّ لا يقبل الانتفاء في أبصار المحجوبين, ولهذا يطرأ ظهور الوجود المطلق على الصوفيّ, فيغرق في التعظيم, فحينئذ يسلم نفسه لذلك الوجود ويتحقق بأن ليس مع ذلك الوجود لا عدم ولا وجود, وحاصل الأمر إنّ الوجود هو نفس الذات, والقدم صفة نافية وجود الأوليّة, كما إنّ البقاء ينفي عن الله وجود الآخريّة, إنّ الذات غنيّة عن سائر الممكنات, بل حتى عن الصفات فهي قائمة بنفسها لا تفتقر لغيرها.
 
وممّا يجب لله أيضا الوحدانية في الذات والصفات والأفعال, إذ هو ليس بمركب ولا متعدد, ولهذا قال الوحدانية في الذات والصفات خشية منه على السامع أن يتوهم حيث يسمع بوجود الصفات وبقدّمها فيعتقد تعدد القدماء تعالى الله عن ذلك, هذا معنى الوحدانيّة في الذات والصفات, وأمّا الوحدانيّة في الفعل فهو أنّه لا يمكن أن يكون فعلا مع فعل الله سبحانه وتعالى, إنّ القوم انقسموا إلى ثلاثة أقسام, القسم الأول: يرى أنّه لا فاعل إلاّ الله ويتحقّق بمعنى الوحدانيّة في الأفعال عن طريق الكشف, لا من طريق الاعتقاد, ويرى أنّ الفاعل واحد, والقسم الثاني: يتحقّق بحقيقة الوحدانيّة في الصفات, وعندما يحصل له هذا الإطلاع على الوحدانيّة في الصفات يجد لا سميعا ولا بصيرا ولا حيّا ولا متكلّما ولا قادرا ولا مريدا ولا عالما إلاّ الله, ويراعي الصفات في سائر المكونات من طريق العيان, لا من طريق البرهان, والقسم الثالث: هم الذين تحقّقوا بحقائق الوحدانيّة في الذات, فحجبوا عما سوى ذلك من المكونات, وذلك لما اكتشفوا عن عظمة الذات ولم يجدوا هنالك فسحة تظهر فيها المكونات, قالوا لا موجود في الحقيقة إلاّ الله حيث فقدوا ما سواه فهؤلاء هم الذاتيون والعارفون الموحدون وما سواهم محجوبون وغافلون لم يذوقوا طعم التوحيد ولا استنشقوا رائحة التفريد, وإنّما سمعوا بالتوحيد, وحيث طرق أسماعهم ظنوا أنّهم موحدون, كلا, وإنّما هم مبعدون عن الحقّ ومنقطعون.
 
فالقدرة حجاب القادر, والإرادة حجاب المريد, والعلم حجاب العالم, والحياة حجاب الحيّ, والسمع حجاب السامع, والبصر حجاب البصير, والكلام حجاب المتكلّم, فإنّ صفات المعاني حجاب عن مصدرها, فمن وقف مع الأفعال, احتجب عن شهود الصفات, ومن وقف مع شهود الصفات, احتجب عن شهود الذات, ومن عرف الذات لم ير سواها في سائر الذوات, ويقول: ما احتجبت الذات إلاّ بالذات, فالقدرة احتجبت بالمظاهر, والإرادة احتجبت بالخواطر, والكلام احتجب بتنوع دلالته مع الحروف والأصوات, والحياة احتجبت بعدم مفارقتها للذات, والسمع والبصر احتجبا من شدّة ظهورهما في المكونات, والعلم احتجب لشدّة إحاطته وشموله بالمعلومات.
 
ثمّ اعلم أنّ هذه الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام, لكلّ قسم منها عالم يخصّه فالسمع والبصر والكلام عالمهم عالم الناسوت, والقدرة والإرادة والعلم عالمها الملكوت, والحياة عالمها عالم الجبروت, وكلّهم لا ينفصلون عن الذات لإحاطتها وتنزيهها عن الجهات.
 
ويجب على المكلّف معرفة الرسل عليهم الصلاة والسلام, وملازمة الأدب معهم, ولو مع استغراقه في الشهود والتغلغل في المعرفة لا ينبغي له أن يتعدى طورها أو يدعي ما ليس له كأن يزعم أنّه حصل ما حصل للأنبياء وما أشبه, وإن كانت الحضرة الإلهيّة منتهاهم, والتجلّي الإلهيّ مطلوبهم, ففي ذلك التجلّي تفاوت فليس هو في كلّ شخص كما عند الآخر, ولا على قانون واحد, ولا على كيفية مطرّدة, بل البصائر فيه متفاوتة, وأسرار الخلق في ذلك متباينة من كثير, وقليل فهو يتجلّى لكلّ شخص على قدر طاقته, وعلى قدر ما تسعه حوصلته من تجلّي الجمال القدسيّ الذي لا تدرك له غاية, ولا يوقف له على حدّ ولا نهاية, وإذا عرفت هذا فاعلم أنّ الذي في مرتبته صلّى الله عليه وسلّم من تجليّات الأسماء والصفات والحقائق لا مطمع لأحد إلاّ من أكابر أولي العزم من مرتبته, وإنّ الذي في مرتبة أولي العزم لا مطمع لأحد من الصديقين في مرتبته, وإذا كان الأمر كذلك, وعرفت هذا بالتفصيل فاعلم إنّ الشطحات التي صدرت عن أكابر العارفين ممّا يوهم, أو يقتضي أن لهم تفوّقا وعلوا على مرتبة الأنبياء والمرسلين يأتي الجواب عنها, ومثال ذلك قول: (أبي يزيد البسطامي) رضي الله تعالى عنه (خضنا بحرا وقفت الأنبياء بساحله), وقول الشيخ (عبد القادر الجيلاني) رضي الله تعالى عنه: (معاشر الأنبياء أوتيتم لقبا وأوتينا ما لم تؤتوه).
 
إنّ العقل شرط من شروط التكليف, والمكلّف يعاقب على ترك الأدب بخلاف ما إذا كان مغلوبا عليه, وصدر منه كلام ككلام المتقدمين في الذكر فلا ملامة عليه, وأمّا إذا كان صاحيا فلا يمكن أن يتلفظ بمثل ذلك الكلام, لأنّ كلّ عارف يعلم من نفسه أنّه بعيد عن رتبة النبوّة لما يجد من التقصير لنفسه في سائر الأمور بخلاف الأنبياء, فإنّهم فطروا على الطاعة, والعصمة تساعدهم, وإن كان الأولياء لهم الحفظ, والحفظ يكون مع الولاية لا قبلها بخلاف العامّة, فإنّها تكون قبل النبوة وبعدها, ولهذا وجبت في حقّهم هذه الصفات التي لا تجب في حقّ غيرهم, فأولها الصدق, وثانيها الأمانة وحفظها واجب على الأنبياء وخواص الأولياء وقلّ من يحمل أثقالها ويكتم أسرارها ما عدا هؤلاء الرجال المذكورين, قال تعالى (إنّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوما جهولا / الأحزاب آية / 72), وكذلك يجب في حقّ الرسل عليهم الصلاة والسلام التبليغ, وهو أن يبلغ الرسول كلّ ما أمره الله عزّ وجلّ بتبليغه, ولا يكتم منه شيئا, ولا يخاف في الله لومة لائم, ولو تحقق الهلاك من الخلق وعدم إجابتهم له, فإنّه لا يبالي بذلك ويبلّغ رسالة ربّه بخلاف الوليّ, فإنّه ربما يقع منه سكوت عن الأمر المنهيّ عنه, إمّا يؤديه لذلك السكوت مراعاة للقدر, أو قلّة العزم لأنّه مقصّر بالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
 
إنّ المعجزة مصدّقة للأنبياء في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم, وهي قائمة مقام تصديق الحقّ عزّ وجلّ لأنبيائه, إنّ المعجزة تكون شرطا في صحّة النبوّة بخلاف الكرامة, فإنّها ليست شرطا في صحّة الولاية, أمّا العارفون بالله فهم الراسخون في الشهود ولا يحتاجونها, لعلمهم بصحة أحوالهم وغيبتهم في شهود ربّهم, ولهذا قال صاحب الحكم العطائيّة رضي الله عنه: (ربّما وجدها أهل البداية في بدايتهم, وفقدها أهل النهاية في نهايتهم).
 
إنّ جواز ظهور الأعراض البشريّة عليهم وقوعها بهم, ومشاهدة ظهورها عليهم عند أهل زمانهم من أكل وشرب وجوع وموت, وإذاية الخلق لهم لكن ذلك حدّه ظاهر البشريّة, وحكمة ظهوره تلك الأعراض عليهم تسترا من ظهور الخصوصيّة, قال حكيم الصوفيّة: (سبحان من ستر سرّ الخصوصيّة بأوصاف البشريّة).
 
(3): شهادة التوحيد:
إنّ الإخبار بلا إله إلاّ الله محمد رسول الله يجمع كلّ المعاني, والمراد بالمعاني كلّ ظاهر وباطن وغائب وحاضر, أو تقول كلّ محسوس وموهوم ومجهول ومعلوم أو تقول كلّ موجود ومعدوم, والحاصل أنّ لا إله إلاّ الله أحاطت وكان الله بكلّ شيء محيطا لا غاية له (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مددا / الكهف آية / 109).
 
وإذا تحققت أنّ لا إله إلاّ الله أحاطت بكلّ المعاني, وأنّ الكلّ منطو ومندرج في ماهيتها لا بدّ أن تقول: ما من شيء إلاّ حقيقته لا إله إلاّ الله, فالعارف لا يكون عارفا إلاّ إذا عرف الله من كلّ الوجوه (فأينما تولوا فثمّ وجه الله / البقرة آية / 115).
 
إنّ لا إله إلاّ الله يندرج تحت لفظها الوجود بأسره أي الوجود الكلّي, والوجود الجزئي, أو تقول وجود الحق ووجود الخلق, فيدخل وجود الخلق تحت لا إله, والمعنى أنّ كلّ ما خلا الله باطل أي منفي لا إثبات له, ويدخل وجود الحق تحت قولنا إلاّ الله, فكلّ المساوي تدخل تحت الشقّ الأول, كما إنّ المحامد تدخل تحت الشق الثاني, وهو الأول والآخر, وإذا فهمت هذا تعرف حقيقة الجمال والجلال والجامع بين ذلك هو الكمال, وليس ذلك إلاّ الذات في تسمية أشرف العبيد, وهو قولنا محمد رسول الله, فاجتمعت الكلمات الثلاث في هذا اللفظ الشريف, وهي (الرسالة المحمديّة, والألوهيّة) فيتحصل من هذا أنّ لفظ محمد رسول الله اجتمعت فيه العوالم الثلاث (الملك, الملكوت, والجبروت), فلفظ محمد كناية عن الملك وهو ما ظهر من حواس الكائنات, ولفظ الرسالة كناية عن الملكوت أي ما بطن في الكون من أسرار المعاني, وهو واسطة بين الحدوث والقدم المعبّر عنه بالروح الأمين, ولفظ الألوهيّة كناية عن الجبروت, وهو البحر الذي تدّفق منه الحسّ والمعنى, وكلّ من الحسّ والمعنى شيء, والحقّ ليس كمثله شيء, فإنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم من حيث ظاهره نقطة من طين, ومن حيث باطنه خليفة ربّ العالمين.
 
ثمّ اعلم أنّ الرسول هذا هو المعبّر عنه بالبرزخ المشار إليه في الآية بقوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان, بينهما برزخ لا يبغيان / الرحمن آية / 19, 20), إذ لولا برزخ الرسالة لاختل الوجود وانطوى العابد في وجود المعبود, لأنّك إذا حذفت رسول من قولنا محمد رسول الله صار المعنى محمد الله, وذلك لا يعقل وحذف البرزخ من الاختلال, وسبب هلاك النصارى بحذف الواسطة, وهو الروح من قولنا عيسى روح الله فقالوا عيسى هو الله, فأجابت الألوهيّة (لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم / المائدة آية / 17), وحاصل الأمر أنّ المعنى لا يتمّ, والنفع لا يعمّ إلاّ بثبوت الذات والصفات والأفعال, وقد تقدّم لك أنّ ذلك يؤخذ من قولك محمدا رسول الله, وهذا بعض ما يتعلّق بكلمتي الشهادة من حيث المعنى, أمّا ما يتعلق بكلمة التوحيد من جهة الإعراب تقول: لا نافية للجنس تعمل على أن تنصب اسم ذاكرها على مقتضى العبوديّة وترفع خبره في عالم الحريّة, ومعناها لا موجود على الإطلاق إلاّ الله, وقولنا نافية للجنس أي للغير, أو تقول لما سوى الله في الجملة, لأنّ العارفين إذا قال أحدهم لا إله إلاّ الله فلا يجد إلاّ الله حقيقة لا مجازا, فالقوم نفوا وجود الغير واستراحوا ودخلوا حصن الله وما برحوا, وأنت ما زلت تنفي منذ خلقت إلى أن تموت يموت المرء على ما عاش عليه, ولو صحّ لك النفي لصحّ لك الإثبات, من أشرقت بدايته أشرقت نهايته, يا هذا ألا تصحب طبيبا يعلّمك كيفية المحو, لكي تمحو ما سوى الله في الجملة, ثمّ ينهض بك لحضرة الصحو فلا تجد إلاّ الله تعالى, فحينئذ تعيش بالله, وتموت بالله, وتحشر مع أحباء الله, وتسكن في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وكلّ ذلك بذكرك, ومعرفتك لا إله إلاّ الله, فيا ليتك عرفت معرفة الخواص قبل أن تعرف ما أنت عليه, ألا تنفي الجميع على يد شيخ في الحقيقة بارع حتى لا يبقى لك ما سوى الله شهودا وعيانا لا على نعت الإيمان والإيقان, فليس الخبر كالعيان , فالعارفون عرفوا لا إله إلاّ الله, وتحقّقت نسبتهم إلى الله ظاهرا وباطنا, واشتغلوا بالذكر, وتغلغلوا بالفكر, فوجدوا لا إله إلاّ الله حاوية لكلّ سرّ, جامعة لكلّ خير, فمن الذكر: ما هو مجهول, ومنه ما هو معلوم, فالذكر المجهول: هو ما صدر من الفرق الضّالة, والمعقول ما صدر من الموحدين, والكلّ مجتمع في كلمة الإخلاص, وهو النفي بدون إثبات, فكان ذلك لا يعقل بأنّه ذكر إلاّ إذا ضمّ للشق الثاني الذي هو الإثبات, وإن كان هنا معنى خافيا عن المخلوقات يؤخذ من قوله تعالى (ولكن لا تفقهون تسبيحهم / الإسراء آية / 44).
 
أخبر رحمه الله أنّ صاحب هذا الفن لا يتم له الرسوخ إلاّ بالقواعد الآتي ذكرها وهي خمس وإن ترك منها قاعدة اختل له النظام وأشرف على الاضمحلال والانعدام, ثم ذكر أنّ الشهادتين شرط في الجملة والمراد بهما المشاهدتان بأن تكون حاصلة لصاحب هذا المقام مشاهدة للحقّ عزّ وجلّ على نعت المكاشفة, ثمّ حصلت له مشاهدة ثانية للحضرة المحمديّة حتى تمكّن منها, وصار متخلّقا بأخلاقها ظاهرا وباطنا, فأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم الباطنة مشاهدة الألوهيّة وأخلاقه الظاهرة المحافظة على مصالح البشريّة (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين / الأنبياء آية / 107), فمن تغلغل في هذين المقامين, فقد حاز رتبة لا مزيد عنها, لأنّه قويّ في الجانبين راسخ في الجهتين, فتحصل من أن هذين المقامين شرطان في الأركان الباقية إذ لو لم تكن للعارف مشاهدة على أي شيء يضع ما بعدها فلهذا عطف ما بعدها من القواعد.
 
(4): كتاب الصلاة:
إنّ الصلاة هي أشرف القربات, ومنتهى الدرجات فهي منقولة من الصلة, والصلة هي ما يربط بين الشيء والشيء, ولا شكّ أنّ الصلاة هي الصلة بين العبد وربّه, وعنها يعبرون بالوصول, وإذا وصل العبد إلى ربّه, فقد تمكّن بصلاة الاتصال التي لا فصل بعدها, كما قال بعضهم رحمة الله تعالى عليه:
 
ومنذ وصلوا ما رجعوا *** ومنذ سجدوا ما رفعوا
 
وقد تطرّق الشيخ قبل ذلك إلى كتاب الطهارة وما يتعلّق به من (أنواع المياه, فرائض الوضوء وسننه ومستحباته, مكروهات الوضوء, نواقض الوضوء, الاستبراء من الخبث والاستجمار, فرائض الغسل وسنّنه ومستحباته, الطهارة الكبرى من الحدث والحيض والنفاس, التيمم وفرائضه وسنّنه, ونواقض التيمم) وشرح فيها شرحا قيّما وافيا فيه كلّ أنواع الفوائد والخير.
 
وحاصل الأمر أن هذه الصلاة هي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (حبّب إليّ من الدنيا النساء والطيب وجعل قرّة عيني في الصلاة) رواه النسائي في سننه والإمام أحمد في مسنده, وعليه فهذه الصلاة هي قرّة أعين النبيّين ومنتهى غاية العارفين فكل من حصل له بعض من تلك الصلاة, فقد حصل له الكلّ وما زال مطلب العارفين ولسان الموحدين واشتياق المريدين يتزايد لهذه الرتبة إلى أن يبلغ الكتاب أجله, فالعارفون بالله هم الذين حلّت لهم هذه الصلاة, وأمّا ما سواهم لا خبرة لهم بل لا تخطر في أفكارهم, لعدم معرفتهم لها فمن جهل شيئا عاداه, وقد دخلت جماعة من العلماء على بعض العارفين بالله في مصر على نيّة الاعتراض, فقال لهم العارف: هل فيكم من صلّى يا علماء؟ فتعجبوا من قوله, وقالوا: هل فينا من ترك الصلاة ؟ فقال لهم: أنتم الذين استثناكم الحقّ عزّ وجلّ في قوله (إنّ الإنسان خلق هلوعا, إذا مسّه الشرّ جزوعا, وإذا مسّه الخير منوعا, إلاّ المصلين, الذين هم على صلاتهم دائمون / المعارج آية / من 19 - 23) فسكتوا لعدم معرفتهم بهذه الصلاة لأنّها سرّ من أسرار الله يختص الله بها من يشاء ويهدي بها من ينيب, وقد قيل: لا يحلّ لامريء أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه, وخصوصا في هذا الشأن العظيم والأمر المهم الذي قلّ من يدريه, والكلّ لا خبرة لهم به إلاّ المصلين الذين هم على صلاتهم يحافظون والذين هم عن اللغو معرضون, وكلّ ما سوى الله فهو لغو عند العارفين بالله, وهؤلاء هم الذين عرفوا هذه الصلاة وشروطها وأتوا بالفرائض وسننها.
 
ولا يجزي المصلّي استحضار ما سوى هاتين الصفتين اللتين هما العظمة والكبرياء, لأنّ كلّ ما سوى العظمة والكبرياء ربّما يقتضي وجود الغيريّة, وإن كان المصلّي ملاحظا للغير فإنّه لم يدخل حرمات الصلاة, ولهذا لا يجزيه قوله: الله أجلّ بأن يستحضر الجلال أو القدرة أو ما سوى ذلك من الصفات, وكما ينبغي للمصلّي استحضار الكبرياء, كذلك يطلب منه التلّفظ بها ليكون جامعا بين قلب ولسان وأمّا إن كان له قلب بلا لسان فهذا يكفيه ما هو عليه من شهود الرحمن, وقد يضيق الصدر ولا ينطق اللسان, قال بعض الصالحين رضي الله عنهم: (من عرف الله كلّ لسانه) وحاصل الأمر أنّ صلاة القوم جلّت عن فهم العموم.
 
لقد بيّن الشيخ العلاوي ست عشرة فريضة للصلاة, وكما هو مبين بالمنظومة أعلاه, فقد قال في الفريضة الخامسة وهي القيام لها: (أي القيام بحقّ المناجاة بأن يناجي الله عزّ وجلّ بكلامه الذي ارتضاه لنفسه ولا يصحّ للمصلّي أن يناجيه بكلام غيره وذلك لا يقع لعدم وجود الغير في حضرة الله الخاصّة, وعليه إذا كان الكلام كلام الله يكون الحقّ عزّ وجلّ في هذه الحضرة الخاصّة هو المتكلّم مع نفسه بنفسه, لأنّ العبد الذي كان موجودا قبل دخوله لهذه الحضرة قد فني عند دخوله إليها واضمحلّ وتلاشى وذهب ذهابا كليّا, وقد تقدّم قول بعضهم في هذا المعنى:
 
خرجت في حين من بعد الفنا *** ومن هنا بقيت بلا أنا *** ومن أنا يا أنا إلاّ أنا
 
أمّا الفريضة الثامنة, وهي السجود وهي منتهى المقصود من المصلّي لكونه عبارة عن انحطاطه من درجات الوجود إلى أسفل العدم, وهذا الانحطاط هو المسمّى عند القوم بمحو الذات في الذات, وغاية قرب المصلّي من ربّه حالة سجوده, ومن هنا خاطب الحقّ عزّ وجلّ صاحب هذا المقام بقوله: (واسجد واقترب / العلق آية / 19), قال عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم في صحيحه, والإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه, أي حالة كونه ساجدا, فإذا حصلت للمصلّي رتبة السجود وفني عن الوجود يسجد ثانيا للفناء عن ذلك الفناء, فلهذا يسجد ليكون سجوده عين الرفع منه الذي هو عبارة عن البقاء, فيفنى أولا عن نفسه وعن ما سوى الله في الجملة, ثمّ يفنى عن ذلك الفناء ليكون بقاؤه بالله, فإذا حصل له الفناء والاضمحلال في عظمة الله عزّ وجلّ فيفنى حينئذ إلاّ أنّه يبقى هو بلا هو, وذلك لأنّه يكون ساجدا في نظر الحقّ رافعا في نظر الخلق, فانيا من حيث الأحديّة باقيا من حيث الواحديّة, فسجود العارفين سجود متصل ووصولهم غير منفصل, فهذا من حيث قرب العبد من ربّه حتى يصير معربا عن ذات الحق لأنّ ذاته لغيبته في شهوده, وكلّ ما يقع لهم في حال دخولهم لهذه الحضرة السنيّة فمقتضاه اضمحلال المكونات وبطلانها في نظره, كما قال بعضهم:
 
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلبا خاليا فتمّكنا
 
ولهذا ينبغي لصاحب هذا المقام أن يتكلّم مع الخلق بلسانهم, وهو المراد بقوله السلام عليكم, وهذه فريضة عليه, وعلى كلّ حال هو مطلوب بالرجوع لعالم الحكمة والقيام بحقوق الأسماء, فلهذا يأتي بالسلام عليكم كأنّ معه جمعا غفيرا مع أنّه منفرد في صلاته, فيكون سلامه على نفسه بنفسه (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها / فصلت آية / 46), ويروى أنّ المصلّي إذا قال السلام عليكم حالة خروجه من الصلاة, وكان مع الحقّ تقول الملائكة: السلام عليكم ورحمة الله, وإذا كان مع نفسه ترمى صلاته عليه ويرجع مذموما مدحورا, فلهذا ينبغي له أن يكون متوسطا في المقام, وخير الأمور أوسطها, وقد يقال: (عاش من عرف قدره وجلس دونه).
 
أمّا الخامسة عشرة فهي متابعة الإمام وهو المرشد في طريق الله الدالّ عليه, فينبغي لصاحب السير أن يتبع إمامه في الإحرام, وهو الدخول إلى حضرة الله إذا أدخله, وكذلك يتبعه في السلام وهو الرجوع للخلق, والتمسّك بأذيال الشريعة المحمديّة, وإن لم يتبعه بأن زج به في حضرة الحقّ, ولم يتبعه أو خرج به إلى الحضرة المحمديّة, ولم يساعده فصلاته باطلة لكن هذا مع الشعور وإلاّ فلا تبطل, لأنّ فاقد الشعور صلاته تجبر.
 
أمّا السادسة عشرة, نيّة الاقتداء: وهذه النيّة تطلب من مريد الدخول على الله أن ينوي الاقتداء بإمامه, وهو الأستاذ الدّال على الله في جميع الأمور الدينيّة والدنيويّة بأن لا يعترض عليه بقلبه ولا بلسانه, ولا يتهاون بأمره ويدور معه من حيث دار ويسير معه حيث سار, ولا ينبغي الانبرام عليه ولو بقدر يسير لكون الإمام شافعا في المقتدي به, ثمّ اعلم أنّ الإمام وهو الدّال كذلك ينوي الإمامة أن ينوي بأنّه دّال على الله وإن لم يجد من يقتدي به ليحصل له فضل الجماعة, ويكون يوم القيامة من الداعين إلى الله لكن هذا إن كان له إذن من الله ورسوله وهو المعبّر عنه بإمام الراتب, وإن لم يجد من يتبعه في توجهه إلى الله عزّ وجلّ فعليه أن ينوي الإمامة ليحصل له فضل الجماعة, وعلى الله الكمال وليأمر بالمعروف, ولينه عن المنكر: (كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر / آل عمران آية / 110), وعليه فلا تجب النيّة على الإمام الدّال على الله إلاّ في أربعة مواضع, وهي قول المصنف: (نيّته اقتداء كذا الإمام في خوف, وجمع جمعة, ومستخلف) ويقول في الذي تجب فيه النيّة على الإمام صلاة الجمعة بخلاف صلاة الجماعة, لأنّ الجماعة كناية عن التكلّم في حضرة الأسماء والصفات, وهذا المقام لا يحتاج للمرشد أن ينوي فيه بأنّه إمام, أو بأنّ له مزيّة على غيره, لأنّ التكلّم فيه مباح لعامّة العارفين بخلاف صلاة الجمعة التي هي كناية عن التكلّم في هوية الحقّ أي غيب الذات المقدّسة التي لا يمكن لها ظهور في هذا العالم إلاّ على منوال آخر لأنّ الهويّة مأخوذة من لفظه (هو الذي ……) هو إشارة للغائب وهي في حقه تعالى إشارة إلى كنه الذات المقّدسة التي لا يمكن أنّ مجالها في المكونات, كما قال بعضهم:
 
إنّ الهوية ذات الواحد *** ومن المحال ظهورها في المشاهد
فكأنّها نعت وقد وقعت على *** شأن البطون وما لدى من جاحد
 
وحاصل الأمر أنّ الكلام مع الخلق في هذا المحل ممنوع إلاّ على من توافرت فيه شروط الإمامة, واستحق التقدّم لصلاة الجمعة على غيره, فينبغي له أن ينوي أنّه إمام, ويعلم أنّ هناك من هو يقتدي به في ذلك الكلام, ويحذر غاية الحذر لأنّه إذا لم يستحضر بأنّ هناك من هو مقتد به ربّما تكلّم بكلام يكون فتنة على عوام العارفين لأنّ في العارفين عوامّا وخواصّا لقوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض / البقرة آية / 253).
 
ثمّ اعلم أنّ هذا الستر يجب مع الذكر والقدرة, وأمّا إذا كان صاحب هذا المقام مغلوبا عليه أي عادما القدرة على الكتمان فلا تبطل صلاته ولا ينقطع سيره لكونه معذورا لأنّ العقل الذي يميّز به الشواهد ويعطيه تفصيل المراتب والمقامات غاب عنه واضمحل, وبتلاشي العقل يتلاشى التكليف, وعليه ففاقد الشعور أي المغلوب عليه لا يشترط في حقّه الستر, وقد قيل إنّ (بشر الحافي) رضي الله عنه عاش حافيا حتى مات على تلك الحالة, فقيل له ألا تشتري نعلا؟ فقال لهم: لا نرضى أن نغيّر الحال الذي دخلت به على الله, وعليه فلا يطلب من الواصل بعد وصوله إلاّ الأدب في حضرة الله عزّ وجلّ, ولمّا تكلّم المصنف على ستر العورة بأنّه يجب مع الذكر والقدرة دون العجز والنسيان تكلّم هنا على مقصد العارفين وبقية العاشقين التي تطاولت إليها أعناق الطالبين وعبّروا عنها بأسماء لا تحصى واصطلاحات لا تستقصى, فمنهم: من صرّح, ومنهم: من لوّح, وحيث كان التصريح لأرباب الشطحات والتلويح لأصحاب المقامات.
 
لمّا ذكر أنّ الستر واجب تشوّفت نفوس العارفين إلى حدّ الستر وما يباح للعارف إفشاؤه من أسرار الحريّة (أخبر أنّ الحريّة هي ضدّ العبوديّة لها شأن لا يجوز كشفها بحال ما عدا الوجه والكفين), لكن هذا بين الأجانب الذين هم من وراء حجاب, أمّا الواصلون فقد كشفت لهم عما لا ينبغي انكشافه لغيرهم, وأمّا المحجوبون فلا يجوز انكشافها أمام أحدهم ما عدا الوجه والكفين, والمراد بهما انكشاف بعض الصفات, ليقع لهم تشوف للذات, لأنّ العاشق كلّما رأى من معشوقه طرفا إزداد شوقا إلى أن يصل للغاية.
 
فلمّا كانت النفس تتشوّف للحريّة وتطلب الترقي للمراتب السنيّة, مع إنّ الوصول للحريّة له قوانين وشروط مخصوصة, فذكر المصنف من شروط وجوبها أي شروط وجوب الوصول إليها النقاء من الدم, حيث شبّه النفس الأمّارة بالمرأة الحائضة لكون الحائضة يعتزلها زوجها حالة الحيض لقوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض / البقرة آية / 222), فكذلك يطلب من صاحب النفس الأمارة أن يعتزلها حالة الحيض أي يجانبها ولا يقربها حتى تطهر, فما دام صاحب هذه النفس يعلم من نفسه أنّها تميل إلى الشهوات بطبعها أو عاداتها, أو يبرز منها وصف رديء مخالف للشرع وهو المشبه بدم الحيض بل هو أخبث منه فلا يقربها لأنّها ملطخة بنجاسة المعصيّة ولا يعمل بعملها ولا يلتفت لقولها بل يجانبها مجانبة العدو, وإذا تطهّرت بعد نجاستها فله أن يقبل عليها ولا يعرض عنها لقوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن / البقرة آية / 187), وكلمّا اعتراها ذلك الوصف المذموم ينبغي لصاحبها أن يعتزلها حتى تطهر طهارة تدوم وتبقى, وتلك الطهارة لها أوصاف, وكما ذكر المصنّف, ولمّا يتمّ طهرها ويستقيم سيرها فلا تطلب الحريّة قبل أوانها بل تنتظر الوقت الذي يدعوها فيه الحقّ عزّ وجلّ إلى الدخول, فلا تطلب الدخول قبل أن يأذن لها حتى إذا ناداها: (يا أيّتها النفس المطمئنّة, ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة, فادخلي في عبادي وادخلي جنتي / الفجر آية / من 27 - 30), فينبغي لها أن تقول: (وقل ربّي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق / الإسراء آية / 80), أي أدخلني بصدق لحضرتك, وأخرجني بصدق لخلقك, فإذا صحّ لها هذا فلتطب نفسا وتقرّ عينا قد بلغت المنى وارتاحت من التعب والعنا.
 
إنّ هويات الحقّ هي غيب الذات التي لا يمكن ظهورها في المكونات, والهويّة مأخوذة من ضمير هو المستعمل للغائب, وحيث كانت الغيبة لا تحصل للعارف إلاّ في غيب بالذات, وبعد أن يقوم المستغرق من وسط الهويّة ويرجع إلى مظهر الشهادة أن يحافظ ويرسخ في المقامات الثلاثة, ويتمسّك بها ظاهرها إسلام وإيمان وإحسان, وباطنها استسلام وإيقان وعيان, وعلى كلّ حال يطلب منه أن يرجع لبدايته من حيث العمل, أمّا إذا توالت عليه أسرار المشاهدة وأنوار الجمال واستولى مالك المشاهدة على مملوك المجاهدة ولم يمكنه حينئذ الجمع بين المتناقضين, والضدان لا يجتمعان, وعليه فليسلك سبيل المشاهدة ويترك ما خلاه, وعليه فليرجع لسيرته ويحافظ عليها, وعلى تلك المواصلة أشد المحافظة من سائر الصلوات لكونها هي الصلاة الوسطى التي قال الله فيها: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى / البقرة آية / 238), ثمّ اعلم أنّ صاحب هذا المقام هو في أشرف المقامات ومن شاهد المنازل لا يرضى بمشاهدة الغير.
 
إنّه يجب على طالب السير إلى الله أن يفارق خلان السوء, ويجانبهم ما أمكنه وخصوصا حالة فنائه, إذ هو في ذلك الوقت مطلوب بالفناء عن نفسه فكيف بأبناء جنسه لذا ينبغي له أن يعتزلهم, والاعتزال عن الخلق شرط في الدخول على الحقّ: (فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له / مريم آية / 49), وقد قيل من لم يستوحش من الخلق لم يأنس بالحقّ, فاترك يا أخي كلّ رفيق غير الرفيق الأعلى, فكن معه وراع أدبه ظاهرا وباطنا, لأنّك مهما أسأت الأدب معه باطنا إلاّ وعوقبت باطنا, ومهما أسأت الأدب ظاهرا إلاّ وعوقبت ظاهرا, فأدبك في الظاهر من حيث اسمه الظاهر, وأدبك في الباطن من حيث اسمه الباطن.
 
ينبغي من مريد الدخول على الله في أول ابتدائه أن يرفع يديه عند التكبير أي حالة وقوفه مع الله, والمراد برفع اليدين من مريد الوصول أن لا يكتم انتسابه إلى الطريق ولا يخفيها عند الدخول إليها, بل ينبغي إظهار توجهه إلى الله حتى يعرفه بذلك الخاص والعام, ولا يستحي بنسبته فينقطع عن ربّه.
 
إنّ العارف كان قبل سجوده قائما وموجودا فصار بعد سجوده فانيا ومفقودا, فني بنفسه وبقي بربّه, فهؤلاء هم الرجال, وأمّا ما سواهم فأطفال صدقوا الله في المعاملة فكفاهم بالمواصلة, ولولا انتصابهم ما صحّ اقترابهم.
 
إنّ المريد في ابتدائه إذا حصلت له إرادة مع شيخه فهو مردود من حينه, وأمّا إذا حصلت له بعد انتهائه فيكون عاصيا لربّه هذا مع شيخه, وأماّ إذا حصلت له إرادة مع الحقّ عزّ وجلّ بحيث أراد أن يريد مع المريد الحقيقي فيكون كالمرتد في طريقه, لكنّ حصول الإرادة مع عدم المشاهدة.
 
كذلك قلب العارف لا يتنوّر إلاّ عند قرب الحبيب وكلّ من لاحت عليه الأنوار يعلم أنّ الحبيب قرب دخوله الدار, وأي صبح أفضل على القلب من صبح الحبيب إذا قرب.
 
فهذا وقت طلوع شمس الحقيقة على سحاب الخليقة وقت شروقها بنور ربّها, أرض النفوس بطلعة شمس حضرة القدوس, وقت اجتماع الفرع بالأصل, والفصل بالوصل فهذا هو الوقت وما سواه مقت, ولمّا كان ظهور الحقّ لا يحصل إلاّ عند زوال الخلق كما إنّ الظهر لا يكون إلاّ عند وقت الزوال, فكذلك الظهر الحقيقي لا يحصل للعارف إلاّ عند خمود نفس الخليقة وزوالها من حيث هي, ولمّا كان المريد من جنس الخليقة فلا بدّ من زواله وعليه فلا يكون ظهور الحقّ عليه, وإنّما يكون ظهوره بنفسه لنفسه, ويكون الحقّ هو المتنعم في ظهوره بذاته وصفاته لا غير, ولهذا لا يتكلّم العارف في هذا المقام إلاّ بما تستحقه الوحدانيّة من الانفراد, وحاصل الأمر أنّ العارف مظهر اللطائف فمن حيث البعد هو نقطة من طين, ومن حيث القرب هو خليفة ربّ العالمين, وكلمّا ظهر عليه وصف من هذه الأوصاف يتغيّر حاله بتغير ذلك الوصف, كما إنّ الأرض يتغيّر حالها بقربها من الشمس وبعدها عنها, وكذلك العارف يتغيّر وصفه باعتبار قرب الحقّ منه وبعده عنه.
 
إنّ الموت هنا منقسم إلى قسمين: (موت عامّة, وموت خاصّة), وكلّ منهما يتضمن رؤية الحقّ للمؤمن, إلاّ أنّ موت العامّة يتضمن الرؤية التقيديّة, وذلك في وقت دون وقت ونتيجتها لا تظهر إلاّ في الجنّة, وموت الخاصّة الرؤية المطلقة أي لا تختص بوقت دون آخر, فلهذا كانت نتيجتها عاجلة غير آجلة أي حصلت نتيجته التي هي رؤية الحقّ في الدنيا قبل الآخرة بأبصارهم, فمن أراد أن يحظى بهذه الخصوصيّة فليسرع للموت قبل أن يموت كما قيل في الأثر: (موتوا قبل أن تموتوا), فمن تحقّقت له هذه الميتة فتحقّق له الفوت, سئل (أبو يزيد البسطامي) رضي الله عنه عن نفسه, فقال: (أبو يزيد ذهب مع الذاهبين, مات لا ردّه الله), وحاصل الأمر أنّهم ملوك في صورة مماليك, ثمّ اعلم أنّ هذه الميتة الحسيّة لا تحصل إلاّ بواسطة ملك الموت, فكذلك ميتة الخاصّة لا تحصل إلاّ بواسطة أستاذ عارف يقبض أرواح المريدين, حتى ولو اجتمعت عليه أهل السّماوات والأرضين, وطلبوا منه الدخول على الله لقبض أرواحهم, وجمعهم بمولاهم في ذلك الوقت لا غير, لكن يشترط فيها رضاء مريد الموت أي بأن يكون راضيا بفنائه وذهابه, وإن لم يرض بذلك فلا طاقة للعارف أن يجمع المريد مع ربّه, لكونه لم يرض بلقاء الله عزّ وجلّ, حيث من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه, والمراد بهذا الموت على طريق الإشارة لأنّ كما بعدها حياة وتنعم بمشاهدة الذات.
 
وحاصل الأمر عندما سلم المريد نفسه إلى شيخه لكي يجمعه على مولاه, فحينئذ يجب عليه أن يدخله على الله بأربع فرائض, وهي التي تحصل بها هذه الميتة, وينطوي بها وجود المريد, التكبير أربعا والمراد منه أن يلقي الأستاذ على أسماع مريده وجوه الوجود الأربعة وذلك (الأولية, الأخريّة, الظهور, والبطون) في دفعة واحدة ويقطع له الحجج, ويسد له الفرج ويتبين قوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن / الحديد آية / 3), حتى إذا انطبقت هذه الوجوه الأربعة, ولم يجد فسحة لديه من حيث عدم الفراغ فتزهق حينئذ روحه ويضمحلّ جسمه, وذلك لمّا تنعدم عنده الجهات بحيث لا يجد مقدار الأنملة فارغا من هذه الوجوه الأربعة أينما توجه, ولو لنفسه يجدها وجها من تلك الوجوه, لقول الله عزّ وجلّ: (فأينما تولوا فثمّ وجه الله / البقرة آية / 115).
 
كما ينبغي للشيخ أن يحبّبه لله عزّ وجلّ بالدعاء الصالح والاستغفار, لكون الدعاء من الفرائض, أي فليدع له بلسان التضرّع والخضوع, كقوله: (إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته), ويلحّ في الدعاء ما استطاع, وحاصل الأمر يطلب منه أن يجبّبه له بأي وجه كان, وهكذا حتى يقبله ويسبل عليه رضاه, ولا يقبله الحقّ عزّ وجلّ إلاّ إذا كان للشيخ نيّة جازمة لكونها من الفرائض, وذلك أن يجزم بقلبه ويقطع, ويظنّ ظنّا بالغا بأنّ الله يقبله لقوله عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن الحقّ في حديث طويل: (أنا عند حسن ظنّ عبدي بي) رواه الإمام أحمد في مسنده, والترمذي وابن ماجة والدارمي في سننهم, وإن كان شاكا في عدم القبول فإنّ الله لا يقبله, ولمّا يتحقق دخول ذلك الميت على الله وينزع الشيخ من التكلّم في عظمة الله, فيطلب منه أن يشرع حينئذ في الخروج من ذلك المقام إلى غيره, وهو الجمع بين المقامين المعبّر عنه بالسلام, أي يطلب منه الإسراع للأخذ بالظاهر كما كان مستغرقا بالباطن.
 
إنّ الوتر هو غاية القربة, ومنتهى الرغبة من بلوغ المريد إلى منتهى غوامض التوحيد, فهو غاية لا مزيد عليها, فلهذا كان بالنسبة للصلوات آخرا لحيازته المفاخر, قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا) رواه مسلم في صحيحه, والإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه, ثمّ اعلم أنّ الوتر حقيقة هو كناية عن غيبيّة الألوهيّة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي من الليل حتى يكون آخر صلاته وترا) رواه مسلم في صحيحه, ولا يتحقّق بهذه الحقيقة إلاّ خواص أهل الطريقة لأنّ غاية ما يبلغ العارف إلى مجال الألوهيّة أي الذات المستحقّة للربوبيّة, ولا يطلب كنه الذات وحقيقتها لما يؤديه ذلك إلى الاستهلاك التام, وإنّما غايته المشاهدة ومن هنا ابتدأ خواص المحققين فكان سير الأولين لله, وسير الآخرين في الله: (كلا نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظورا / الإسراء آية / 20).
 
وقد تزاحمت همّة العارفين إلى مقام عجزت عنه خواص المحققين, وكيف لا يعجزون عند مقام وقفت دونه الخواص والعوام, وقد يطرأ هذا الحال على خاصّة الخاصّة من الكمّل, فيخرجهم عن سائر الأحوال لكونه وقتا يقتضي انطواء سائر التجليّات من الأسماء والصفات فضلا عن المكونات لحصول الغيبة في بطون الذات, التي لا ذوات مع تلك الذات, ذات مجرّدة, ونفس مفردة, أمر مجيد, وكنز غميض, بحر لا موج فيه, ولا فسحة لديه, لا يمين ولا شمال, ولا كيف ولا مثال.
 
ففي هذا المقام تكلّ العبارات, وتضيع الإشارات, وتخشع الأصوات: (لا يتكلّمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صوابا / النبأ آية / 38), وكيف يتكلّم من لم يجد كلاما إذ الكلام ممنوع على أهل هذا المقام والذي أعطاهم ذلك مبالغتهم في التوحيد وغوصهم في ميادين التفريد, فاستخرجوا من ذلك البحر الراكض والكنز الغامض أقوالا لا تقتضي تعطيل النعوت, فلهذا استحبّوا السكوت, فهم في كلل ورهبة وجلال وغلبة دعاهم ذلك إلى الفناء عن الحقّ كما أفناهم أولا عن الخلق, فهم في حضرة مستوية الطرفين من نفي وإثبات, وحياة وممات, فإفشاء الحقائق بالنسبة لهؤلاء تشريع, ولهذا قال الإنسان الكامل رحمه الله بعد أن أفشى في كتابه ما لا ينبغي إفشاؤه بقوله:
 
فثمّ أمور ليس يمكن كشفها *** بها قلدتني عنها قلائد الشرائع
 
فتحصل من هذا أنّ للعارفين أسرارا لا تمرّ على الأفكار, كما قال سلطان العاشقين رحمه الله:
 
فثمّ وراء النقل علم يدق عن *** مدارك غاية العقول السليمة
تلقيته مني وعني أخذته *** ونفسي كانت لعطائي ممدتي
 
فكذلك قلب العارف له مادة من جانب حضرة القدوس ساطعة في مرآته كسطوع الشمس في شكل القمر, بل أكثر وأظهر كما قيل في هذا المعنى:
 
إنّ شمس النهار تغرب ليلا *** وشمس القلوب ليست تغيب
 
اللهم إلاّ إذا حال بينها وبين القلب حائل, إي من بينها جرم النفوس ووقع المرور في عين المادة كما تقدّم, فيستتر نور الشمس بوجود تكدّر النفس, فيظلم حينئذ الفؤاد وتنقطع عنه المعارف والإمداد ويستبدل مكان اللطائف بالكثائف والحقائق بالخلائق والرتق بالفتق, وتنطبع في مرآته صورة الأثر بدلا من المعارف والأسرار, وتتحكّم جنود الظلمة وتتقهقر الأنوار, وعليه فيطلب من صاحب هذا المقام أن يسعى في مداواة قلبه قال عزّ من قائل: (يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحا فملاقيه / الانشقاق آية / 6), فإذا حصل التوجه وزال سحاب النفس عن سماء حضرة القدس, فتشرق حينئذ أنوار الشمس فيزول اللبس ويتنوّر الحس, فيحظى ذلك القلب بالكسب من بعد السلب, وينتقل من البعد إلى القرب ومن الظمأ إلى الشرب.
 
إنّ المراد بالسجود الرجوع مع الطريق والمرور على المقامات والتمسّك بما فاته من سنن الطريق, ولا يهمل ذلك اتكالا على ما حصل له من التحقيق فمهر الحقيقة في ذمّة المريد إمّا تقديما أو تأخيرا, لأنّ المريد وإن كان حصل على المقصود بالذات فهو مطلوب بعد ذلك بتقيد تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه, وكما قيل: إنّ شكر النعمة تمام الخدمة, ولا يخفى ذلك على ساداتنا العارفين ما يجب على المريد من سلوك الطريق إمّا ابتدأ وإمّا انتهاء, أمّا السالك المجذوب وبيان الحالة التي ينتهي إليها السالك وما يؤول إليه شغابه ما حصل للمجذوب ابتدأ إلاّ أنّ ذلك يحصل له بعد قطع المقامات, والتثبت في التجليّات, فهو معطي لكلّ مقام ما يستحقه, وهذا حال محمود لما فيه من التمكّن في الشريعة والطريقة, والتغلغل في الحقيقة, فما أشرفه من حال إن كان على هذا المنوال.
 
أمّا إذا حصل للمريد ثبات في الشرع, وثبات في الجمع بأن يكون متخلّقا بالأخلاق المحمديّة والأوصاف الزكيّة فهذا لا يطلب منه استكثار النوافل لما يؤدي ذلك لتحصيل الحاصل لأنّ كثرة الأوراد استنتاج الوارد لا نتيجة الوارد أن يكون على الله واردا, ونتيجة ورود المريد على الله أن يكون ممتثلا في الظاهر لأمره ومستسلما في الباطن لقهره, وهذه نتيجة قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحبّبكم الله / آل عمران آية / 31), ومتى وجدت هذه الأوصاف في المريد, فقد وجدت فيه أوصاف العبوديّة.
 
إنّ كلّ ما يشغل المريد عن الله فهو قاطع كائنا ما كان, ولو كان من أفعال البر, وأمّا المشتغل بالأمور الدنيويّة فلا يصح التكلّم عليه لأنّه من الله بعيد, لا يعد من السائرين إلى الله عزّ وجلّ ومحبط الكلام في المنشغلين عن إداء حقوق الطريق, فإذا وقف المريد مع سوى القدر الواجب حالة سيره إلى الله, فيكون واقفا مع غيره ويطلب بالانتقال على الفور.
 
إنّ من شروط وجوب الجمعة أيضا الذكوريّة, أي فليست هي واجبة إلاّ على من اتصف بالذكوريّة والرجوليّة وكان من الرجال الذين قال في حقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنّ لله رجال لا يشقى جليسهم), ثمّ اعلم أنّ الرجل هو من خرج من حضرة الحجاب, وأمّا المتصفون به فليسوا برجال, وإنّما هم من الجملة الذين نزلت فيهم آية الحجاب بالنسبة لهذا المقام.
 
إنّ مقام الجمعة مقام غميض, لما فيه من تعطيل الأسباب حيث انعدمت الفروع في الأصول, وعند انعدام الفروع سار الانعدام إلى اسم الأصول لا للذات, لأنّ الأصل تأصّل بوجود الفروع, وكلما انعدمت الفروع كلّ اللسان عن التعبير بما هنالك, وحاصل الأمر إنّ اجتماع الجمعة بغير الوقت على ما هو عليه, ولهذا كانت صلاة الظهر رباعيّة, فلمّا دخلت عليها الجمعة صّيرتها ثنائية, وفي ذلك دليل على أنّ هذا الاجتماع طيّ محض لا انتشار فيه بخلاف الجماعة فإنّها تترك الصلاة على هيئتها, ولا تغيّر الوقت على ما هو عليه, والاجتماع فيها سنّة وهي عبارة عن جمع القلب على الله عزّ وجلّ في حضرة مستويّة الطرفين, بحيث يصير العارف يرى واحدا في وجود اثنين, أي يرى الوجود من حيث ظاهره نقطة من طين, ومن حيث باطنه خليفة ربّ العالمين, وكما قال المصنّف رضي الله عنه:
 
بجمعة جماعة قد وجبت *** سنّة بفرض وبركعة رست
 
لما ذكر المصنف أحكام الصلاة, وما احتوت عليه من المعارف والإشارات شرع يبين فيمن يستحق التقدّم على أهلها, ويكون إماما في هذا الفن العظيم والأمر المهم, فقال رضي الله تعالى عنه:
 
شرط الإمام ذكر مكلف *** آت بالأذكار وحكما يعرف
وغير ذي فسق ولحن واقتداء *** في جمعة حرّ مقيم عددا
 
فأخبر أنّ الإمام الذي هو كناية عن شيخ التربية الدّال على الله بالله, المدّعي الوصول إليه يشترط فيه شروط, فإن فقدت أو فقد شرط منها لا يصحّ الإقتداء به, ولا يمكن الوصول للمريد ما دام متعلّقا به بل يكون له قاطعا عن الله من أعظم القواطع حيث كان المريد متعلّقا به لا يلتفت لغيره فمن شروط الإمامة الذكوريّة, وقد تقدّم الكلام على معنى الذكوريّة, ويفهم منه أنّ إمامة المرأة لا تجوز ولو بمثلها, وهو كذلك وعلى من كان مشابها لها من أي في قيد الحجاب فهو في رتبة النساء بالنسبة للرجال العارفين بالله سبحانه وتعالى, وتوضيح ذلك: أي أنّه لا يرى بعين بصيرته, ومن شروطها التكليف والمراد به أن يكون الشيخ غير صبي في طريق القوم بأن يكون مبتدئا في علمهم كأهل الفناء في الأفعال والصفات مثلا, بل يكون بالغا ومبالغا في شهود الذات الجامعة لسائر الأسماء والصفات متغلغلا في ذلك, فهذا هو الذي يصحّ الإقتداء به, وأمّا من سواه كأهل المقامات الواقعين مع ظهور التجليّات فهؤلاء لا يجوز الاقتداء بهم اللهم إلاّ بأمثالهم, وهم أهل النوافل المعبّر عنهم بأهل التبرّك, وأمّا أهل السلوك فيشترط في إمامهم أن يكون بالغا في التحقيق, وأن يكون في بلوغه مكلّفا أي شاعرا غير مغلوب عليه كأهل الجذب, فكذلك لا يجوز الاقتداء بهم لكونهم لا يميّزون بين المراتب والمقامات, لأنّهم مغمورون في غياهب التحقيق, ومن شروطها أيضا أن يكون الإمام آتيا بالأركان, والمراد به أن يكون عارفا بأركان الطريق, وآتيا بها أي متلبّسا بفعلها وهي رتبة عالية وحالة سانية إذا وجدت في العارف يكون مستحقا للتقدّم بين أقرانه, فأركان الطريق هي الأصول التي يتوقف عليها وجود التربية اثنان لا غير (وذلك بأن يكون الشيخ ظاهره سلوكا في الحضرة المحمديّة وباطنه جذبا في الحضرة الأحديّة), وإن اختل شرط من هذه الشروط لا تصحّ متابعته, ومن شروطها أيضا أن يكون عالما بالحكم, والمراد به أن يكون عالما بحكم الله في الشرع من حيث الظاهر, وفي الطريق من حيث الباطن, وعليه فالعارف يلاحظ حكم الله في جميع الأشياء ظاهرها وباطنها بأن يكون فاطنا بإشارة الحقّ له, وفاهما عن الله عزّ وجلّ, بحيث يكون نظره عبرة وصمته فكرة, يدور مع قضاء الحقّ حيث دار, ويلاحظ سرّ الألوهيّة أين سار, يشاهده في الكثائف ويحفظه في اللطائف, لسانه مع الخلق وباطنه مع الحقّ, فهذا والله وليّ الله, ويستحق التقدم على الخواص والعوام: (يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم / الإسراء آية / 71), ومن شروطها أيضا أن يكون غير ذي فسق أي داخل الطريق كما أحدثت الأحداث في الطريق ما ليس فيها وغلطوا, وزادوا عن المعارف حيث فقدوها, وطلبوا الدخول للحضرة وقد خالفوها, حيث لم يأتوا البيوت من أبوابها, وقد جعلوا عمدتهم في الطريق على أمور وهميّة وصور فانية لم توجد في السلف, ولا في الخلف كانوا عليهم تمام الرضا والرضوان عالمين بالشرع الشريف مستغرقين في الجمع, عاملين في الظاهر من حيث المجاهدة, وفي الباطن من حيث المشاهدة, فما هم إلاّ على قدم النبوّة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام, وعليه فلا يجوز الاقتداء بمن كان فاسقا في الطريق ولا فسق أعظم من هذا الفسق, لما فيه من الضرر العام للمقتدي بكلامهم, لأنّ ذلك من أعظم الآفات, لكونها صورا وهميّة يجب على الفقير الإعراض عنها, وإن عرضت له فلا يلتفت إليها ويقول مقصودي الذي أوجدك, ويقتدي بنبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم لما أسري به حيث كشف له عن السماوات السبع, ومن فيهن فأعرض عن الجمع, وطلب خالقها: (وأنّ إلى ربّك المنتهى / النجم آية / 42), وما زال سائرا حتى كان من ربّه قاب قوسين أو أدنى, ومن لم يكن على قدمه في سيره فلا يجوز الاقتداء به كائنا ما كان, ولو كان ممن يخرق الجبال فما هو إلاّ مفتر بطال وهائم في أودية الضلال, ومن شروطها أن يكون غير لاحن, وليس المراد لحن اللسان, وإنّما المراد به لحن الجنان (القلب), والعياذ بالله الّذي لا يجبر إلاّ بالمكث في النار ما شاء الله, ومن العجب أن يتعلّم الإنسان نحو اللسان ولا يتعلّم نحو القلب ولا يعلّمه, ونحو القلب يعبّرون عنه بالمحو لمحوه ما سوى الله من القلب, وصاحب هذا المحو لا ينطق إلاّ بالحكمة, ومن لم يوجد فيه هذا الوصف لا تصحّ إمامته, ومن شروطها أيضا أن يكون الإمام غير مقتد بغيره, والمراد به أن يكون مشروبه من إنائه بعد أن كان يأتيه من غيره, كما قال بعضهم:
 
صار مشروبي من إنائي *** مذ استعذبت الورود
 
وأمّا قوله في جمعة حرّ مقيم هذا الشرطان زائدان على ما تقدّم في إمامة الجمعة, وأمّا الجماعة قد تحصل بإمامة من ذكر, فلهذا يشترط في إمام الجمعة أن يكون حرا أي خاليا من كلّ ما مشابه رقية, والمراد به أن يكون عبدا لله عزّ وجلّ, فعبادته ليست معلّلة كأن تكون لخوف من نار, أو لطمع في جزاء, وصاحب هذا المقام النار لا تؤلمه والجنّة لا تنعمّه, إنّما يتنعّم بالقرب, ويتألّم بالبعد ومن شروط الإمامة أن يكون مقيما أي ساكن الظاهر وأمّا الباطن فهو المتحرّك لا محالة لقوله عزّ وجلّ: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب / النمل آية / 88), وأمّا إذا كان متحرّك الظاهر فلا يصلح للإمامة وخاصّة في المواطن الصعبة, بخلاف الساكن في الظاهر المتحرّك في الباطن فهو يجول في فنون الاتحاد بباطنه واقف في مركز الاجتهاد بظاهره فلهذا استحقّ التقدّم على غيره.
 
ومن شروط الكمال للإمام أن يتكلّم مع الحاضرين كلّ حسب طاقته, وعلى ما تسعه حوصلته من قوّة وضعف لأنّ طعام الرجال يضرّ بالصبيان, والحقائق ليست متعاطيّة بين الخلائق, وعليه أن يكتم ما أمره الله بكتمانه, وتكره الإمامة بمن بقيت فيه بقية من الأوصاف النفسانيّة, لكونها تكدّر وقت الإمام, وإذا تكدّر وقته يسري ذلك التكدير للمقتدين به من المريدين لوجود الرابط بين الفروع وأصولها, ويكره الإمامة لقصير الباع في علم القوم, ضعيف الإشارة قصير العبارة, الذي لا يطيق أن يستنتج من علمه أكثر من قوله هو, هو, والمطلوب في حقّ الإمام أن تكون عمدته التلويح فيأخذ من المسمّى أسماء, ومن المعنى معاني ويتفنّن ويجول لأنّ القوم رضي الله عنهم قالوا: (التعبير يقتضي التنوير والتفصيل يقتضي التفضيل, المشروب واحد واختلفت المشارب, كما إنّ المشهود واحد واختلفت المشاهد), قال سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل / الرعد آية / 4), ويطلب من العارف كمال التستر والاختفاء لسرّ الألوهيّة فلا يبدي شيئا منها بين الأجانب, حتى يشكّ أنّه من أمثالهم حيث لم يجدوا شيئا زائدا على فهمهم, وقد قيل: إنّ صيانتها هو كتمانها عن غير أهلها, ويتجاهل العارف مع الجهّال حتى لا يعرف من بينهم, وربما سألوه عن معان فلا يجاوبهم عنها لعلوّ مقامه, لكنّ هذا مع غير أهل المقام, وأمّا مع أهله فالتكلّم به واجب, ولو بالإشارة, لأنّ اللبيب تكفيه الإشارة.
 
وقال بعضهم كلامنا إشارة فإذا صار عبارة خفي, ومحل الكرامة حقّ المريد المتخلّف عن إخوانه في أفعاله أو في أقواله بغير عذر فقد خرج عن الصف حيث انفرد بفهمه ورأيه, والمطلوب منه أن يكون مع صف الجماعة وإن كانوا أضعف منه علما وعملا فيد الله مع الجماعة, وينبغي له أن لا يرى لنفسه أفضليّة حتى ينفرد بها, إنّما يتهمهما في سائر الأفعال ويوبخها في كلّ الأعمال, ويقول نتزاحم مع الذاكرين عسى الله أن يحشرنا في زمرتهم, كما قال سيدنا أبو مدين الغوث رحمة الله عليه:
 
ما لذّة العيش إلاّ صحبة الفقراء *** هم السلاطين والسادات والأمرا
فاصحبهم وتأدب في مجالسهم *** وخلّ حظّك مهما قدموك ورا
واستغنم الوقت واحضر دائما معهم *** واعلم بأنّ الرضا يختصّ من حضرا
ولا ترى العيب إلاّ فيك معتقدا *** عيبا بدا لكنّه استترا
 
فمن لا يزاحم الإخوان لا يحصل على هذا الشأن, فالخير كلّه في مزاحمتهم والأخذ من كلامهم, وممّا نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنّه قال: (استفدت من الصوفيّة كلمتين, قولهم الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك, وقولهم اشغل نفسك بالخير فإن لم تشغلها بالخير أشغلتك بالشر), فانظر إلى شهادة هذا الإمام الأعظم حيث صرّح باستفادته من مجالسة الصوفيّة, وربّما كانوا أضعف منه علما, لكونه مجتهدا, وعالما عاملا متفننا واصلا, ولا ينبغي للمأموم أن يتقدم على إمامه حسّا ومعنى, لأنّ أستاذه يسيره في الطريق حال التكلّم معه في ميادين التحقيق, ولا ينبغي له أن يتقدّم عليه في التعبير, ولا يملي عليه في الكلام, ولو كان له حق في ذلك, وقد قالوا: (أي القوم) رضي الله تعالى عنهم: (ليس الشأن أن يفتخر المريد بشيخه وإنّما الشأن أن يفتخر الشيخ بمريده), وتكره إمامة مجهول الحال, أو الأصل, والمراد به من ليس له سند محقّق, وسلسلة طريق مجهولة أو موجودة إلاّ أنّها غير متصلّة بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم, ويكره إمامة غليظ القلب ذو الفظاظة في سيرته, ولو كان هو فظّا على الحقّ إلاّ أنّه ينبغي له أن يقدّم اللين على الفضاضة خصوصا في سيرة المشايخ, لقوله عزّ من قائل لصاحب هذا المقام: (ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضوا من حولك / آل عمران آية / 159), وقد قال سلطان العاشقين في مدح من اتصف بهذا المشرب:
 
ويكرم من لم يعرف الجود كفّه *** ويحلم عند الغيظ من لا له حلم
 
ويكره أيضا إمامة من لم يكن له أب في الطريق أي شيخ بحيث فتح عليه من الأوراق, أو ادعى أنّه حصل له بملازمة الأوراد أو بملاقات سيد من الأموات مثلا, أو بما سوى ذلك من النوادر والاقتداء بصاحب هذا المقام مكروه إن لم نقل بعد بجوازه, لأنّ الفتح موقوف على صحبة ذي الفتح, وحكم من فتح عليه بدون شيخ كمن ولد من غير أب شرعيّ.
 
إنّ المريد الطالب الدخول على الله يجب عليه متابعة شيخه ومطاوعته في سائر الأمور الدينيّة والأخرويّة والحسيّة والمعنويّة, ولا يختار معه ولا يريد ولا يفهم مع فهمه ولا يقصّر ولا يتأول في كلامه, وأن يكون تابعا له على أي حالة كان عليها لأنّ متابعته واجبة على المريد ومخالفته لا تجوز, وحاصل الأمر أنّ متابعته تجب على المريد على أي وجه وحده متلبّسا به من الطاعة اللهم إلاّ إذا وجده غير متصف بأوصاف القوم من ذكر وفكر واجتماع على الله, والنصيحة في ذات الله والوقوف مع حدود الشرع بحيث وجده مهملا لسنّة القوم من حيث هي, فهذا ليس بإمام إنّما هو من جملة العوام, فهذا لا يجب على المريد متابعته. حفظنا الله وحفظ كلّ من يريد النجاح أمام ربّه.
(5): كتاب الزكاة:
تقدّم ما للقوم من الأسرار والمعارف والعلوم واللطائف, وإنّه أعطى لهم من ذلك ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, ولما تحقّق لهم الملك ومال لحيزتهم بأن صار مقصورا عليهم حيث تبتلوا للحقّ, وتيمموا في جانبه وهب لهم ما لديهم من الخيرات, وقال لغيرهم صونا لسرّهم: (ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالتي هي أحسن / الأنعام آية / 152), قلت: فمن يتجاسر على مقاماتهم:
 
تنحى عن علم القوم لست من أهله *** لا تقرب مال اليتيم ذاك نفس البلاء
 
ولمّا تمّ لهم ذلك طلبوا حينئذ بوجوب الزكاة, لأنّ الزكاة معناها النمو والزيادة ويؤخذ منها الشكر على النعم, وفي ذلك تقيّيد من زوالها لما قيدوا النعم بالشكر, وقال عزّ من قائل: (لئن شكرتم لأزيدنكم / إبراهيم آية / 7), وقال بعضهم: (من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها), والمعنى على كلّ حال أنّ الشكر واجب على كلّ ما يرتسم (محقق الوجود), كما قال المصنف رضي الله عنه:
 
فرضت الزكاة فيما يرتسم *** عين وجب وثمار ونعم
 
ومن الأشياء الثلث (الأصناف الثلاثية), وهي (العين, الأنعام, والحبوب), وما في معناها لا زائد على ذلك, ثمّ اعلم إنّ القوم على أقسام ثلاثة: (مبتدئين, سائرين, واصلين), ولكلّ مقام وحال حلم يخصّه, ومع هذا وإن تعدّدت مراتبهم واتسع ملكهم لا يخرج عن هذه الأصناف الثلاثة, أمّا إن يكون أحدهم ذا عين, أو ذا حبوب, أو ذا نعم, وإمّا أن يكون مالك للجميع, وهو المسمّى (بالقطب الجامع والترياق النافع) ففيه شيء من العرش إلى الثرى, ثمّ اعلم إنّ لكلّ صنف من تلك الأصناف زكاة مخصوصّة لما تقدّم في صدر بعض الأحاديث لكلّ شيء زكاة, إلاّ أنّ الزكاة تختلف باختلاف التجليّات فمنهم من تجلّى عليه الحقّ بأسمائه, ومنهم من تجلّى عليه بصفاته, ومنهم من تجلّى عليه بذاته, ومن أجل هذا كان الشكر ينقسم إلى أقسام ثلاثة: شكر باللسان ويكون بمعنى الحمد, وشكر بالجنان وهو خلوّ القلب ممّا سوى الربّ, وهو قوله تعالى في حقّ سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: (واصطنعتك لنفسي / طه آية / 41), وهذا شكر الخاصّة, وشكر بسائر الأركان وهو قوله تعالى في حقّ نبيّه وصفوته من خلقه محمد عليه الصلاة والسلام: (واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم / الشورى آية / 15), وحقيقة هذا الشكر هو صرف العبد بجميع بدنه: (جوهره وعرضه), لما خلق لأجله, وهذا عزيز الوجود والدّال عليه قوله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور / سبأ آية / 13), وإنّ لكلّ قسم من هذه الأقسام فروعا متنوعة, وأول الأصناف الثلاثة المتقدّمة في الذكر هي: (العين وهي كناية عن عين الحقيقة, وقد يعبّرون عنها بحقيقة الحقائق), ومن تحقّق بهذه الحقيقة يكون عينا من عيونها, أو لنقل عينا من عيون الله, وأرض الله لا تخل من عيونه, قال سبحانه وتعالى لنبيّه: (فإنّك بأعيننا / الطور آية / 48), وفسرت هذه العيون بالخلفاء الراشدين الأربعة رضوان الله عليهم, نعم, هم عيون الله وكلّ من على قدمهم متصّلا بمشربهم فله من ذلك الميراث أي له نصيب من شهود الذات الإلهيّة حقيقة تلك الحقائق المتقدّمة في الذكر, إلاّ أنّ الحقيقة الذاتيّة ليست متعاطية بين الخلائق إنّما هي منزّهة من أن تدرك بالبصيرة فضلا عن البصر, (إلاّ من كان بصره حديد), أي متحدّدا من ذلك المعدن القديم والسرّ الملهم فيكون الباصر هو عين المبصور من حيث السريرة لا من حيث البصيرة, فالأصل عين والفرع غين, والغين شين, والنقطة زين, والغفلة بين, والبين حجاب, والحجاب عذاب: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم / الأنفال آية / 33), إنّ زكاة العين لها أصل وهو العرفان, ولها فرع ومن جملتها الكتمان عن غير أهل هذا الشأن, وإنّ هذه الزكاة تصرف لأهلها الفقير والمسكين وتمنع من غير أهلها, وأمّا زكاة النعم فهي كناية عما أنعم الله به على عباده, وهما نعمتان: (نعمة الإيجاد, ونعمة الإمداد), ولهما فروع, ومن فروع نعمة الإيجاد الجوارح السبع فمن ملكها, وتحقّق له الملك بأن صار يتصرّف فيها كيف شاء بدون أن تمنعه من ذلك سطوّة الشيطان, والنفس حينئذ وجبت عليه لإثبات الملك له فهذه زكاة الجوارح المعبّر عنها بالنعم, وأمّا زكاة الحبوب والثمار فهي كناية عن نتيجة نعمة الإمداد المتوالية على العارفين حالة رسوخهم في المقام وتفننهم في العبارات ويكون ذلك دليلا على رسوخهم في حضرة الله.
 
وحاصل الأمر إنّما تجب الزكاة على المريد في العين بعد رسوخه وثباته وتمييزه بين المقامات ومعرفته لأنواع التجليّات, وإن كان المتجلّي واحد فالتجليّات تختلف باختلاف المظاهر, فعند تمكّن المريد في هذا المقام يكون مطلوبا بوجوب الزكاة إن تحقّق لديه النصاب, وأمّا زكاة النعم فكذلك هي واجبة على المريد في كلّ الأوقات وفي كلّ الساعات, وفي سائر اللحظات إذا تحقّق له الملك, وثبت له الإخلاص في عمله وإلاّ فلا, لأنّ زكاة النعم لا تجب على المكلف إلاّ إذا صارت طوع يديه بأن صار يتصرّف في أعضائه وجوارحه كيف شاء بنصرة الله تبارك وتعالى له, وبعد كونها طائعة تكون من مأكولات اللحم إي فلا تكون من المحرمّات ولا المكروهات, والمعنى أنّها تكون من مقبولات العمل خالصة فيه لله عزّ وجلّ, وعملها يعود عليها: (من عمل صالحا فلنفسه / فصلت آية / 46), (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم / الحج آية / 37), لأنّ عملها يكون للألوهيّة, والألوهيّة جلّت من أن تقبل العمل المدخول.
 
إنّه ينبغي للإنسان أن يشتغل بنفسه ويستكمل فضائلها, وهذا هو الفلاح الذي قال فيه عزّ من قائل: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربّه فصلّى / الأعلى آية / 14), وتزكية النفس هي معرفتها من حيث فرعها وأصلها ودسّ النفس هو أن تجهلها, إنّ العارفين طبقات: (عارف بنفسه, وعارف بربّه), إلاّ أنّ العارف بنفسه أشدّ معرفة من العارف بربّه: (أشدّكم معرفة بنفسه أشدكم معرفة بربّه), يقول الحكماء: الأشياء مرهونة في أوقاتها, وإيّاك أن تبرز بالحكمة قبل أوانها, اللّهم إذا تحقّقت بطيب الثمار المفسرّة بالمعارف والأسرار, وتبين لك أنّ ذلك أوانها, فحينئذ وجبت عليك الزكاة بحسب تنوع تلك المعارف, وفي هذه الحالة لا يكتم ذلك العلم إذا كان نافعا لأهل زمانه في دينهم ودنياهم لا بمجرد معرفته له يكون مطلوبا بإظهاره, بل ربّما يكون فيه فتنة, وقد نهى النبيّ عليه الصلاة والسلام بعض الصحابة لما سأله: (آأحدث بكلّ ما أسمع منك يا رسول الله ؟ فقال: إلاّ بحديث لم يبلغ عقول القوم), والمستفاد من هذا الحديث أنّ العلم لا يجب إظهاره إلاّ إذا تحقّقت نتيجته, (أي العلم المكنون الذي لم يبلغ عقول القوم), وأمّا العلم الذي وجب تبليغه فأربابه مأمورون بتبليغه في كلّ الأوقات, ومحط الكلام فيما وراء ذلك من دقائق العلوم.
 
وعليه كلّ ما أتى أوانه وجبت زكاته وبثه وإظهاره لأنّ الشريعة المطهّرة أتت بما يعود على الأمّة بالصلاح في الدين والدنيا, فلهذا كان ورثتها يدورون مع العلّة وجوبا وعدما, وكلّما أتى أوان علم من العلوم وجب إظهاره, ولهذا كان الكلام الذي يبرز من أفواه العارفين يكون نافعا في قلوب السامعين بمجرد التلّفظ به, ولأنّ معارف العارف وما يرد على قلبه ليس هو نافعا للعموم, ولا يصحّ في كلّ الأوقات إنّما الأوقات في ذلك مختلفة, وعقول الخلق متباينة, فالأحكام تترادف والأمراض تختلف, ولكلّ داء دواء, فمن أراد أن يبث علم القرن الرابع عشر في القرن الثالث عشر مثلا فقد أخطأ في تصرّفه, وأراد أن يزكيّ الحبّ قبل إفراطه, وذلك لا يجوز: (وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه وما ننزّله إلاّ بقدر معلوم / الحجر آية / 21), واعلم أنّ الشريعة كنز, وكلّ ينفق ممّا حصل عليه: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا أتاه الله / الطلاق آية / 7), فالعارف يتطوّر مع الأطوار ويظهر في الظروف على مقتضى ألوانها, ولون الماء لون إنائه يظهر في كلّ آنية بما تقتضيه حقيقتها, ومن البديهي أنّ ظروف الزمان والمكان سريعة التغيّر والانقلاب وتجد العارف فيما منحه الله من المعارف يبدي في كلّ وقت ما يساعد أهله, ولا يزيدهم في الشرع إلاّ رسوخا, ولهذا سمّي القطب قطبا لأنّه تدور حوله الأفلاك, وهو لا يدور يظهر مع كلّ مستحق للظهور, تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور, والحقّ يجري على ألسنة علماء كلّ زمان بما يليق بأهله, ولهذا تجد العارف يتطوّر في كلّ زمان بما يليق بأهله, ويستخرج من المعارف الذوقيّة ما دعت الضرورة لإخراجه ولا يفعلون ذلك إلاّ تعضيدا للشريعة النبويّة ونصرة لها لأنّهم أمناء على أسرارها بشرط أن لا يظهروا إلاّ ما هو مستحق الظهور, ولا يزيدون على القدر المحتاج إليه, فكلّ غلّة تؤكل في وقتها وقد تكلّم المصنف عن زكاة العين والنعم والحبوب ثمّ صرّح ولوّح باعتبار تلون الفروع واختلاف لذّاتها وطيب مذاقها فكلّ يأخذ على قدر مشربه: (قد علم كلّ أناس مشربهم / البقرة آية / 60), والتفصيل يستلزم التطويل, ومن فتح عليه يستخرج كلا من نفسه (وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار / البقرة آية / 74).
 
إنّ الزكاة لا تجب إلاّ على من ملك النصاب في المعارف لأنّه لا ينطق إلاّ بالصواب, وكان له ذلك من حيث الميراث النبويّ.
 
إنّ عمل الجوارح راجع للنفس, والنفس تختلف باعتبار المقامات, وقد قسمت إلى خمس مراتب, وهي إمّا أن تكون: (أمّارة, أو لوّامة, أو مطمئنّة, أو راضية, أو مرضيّة) ولم يمدح الحقّ تبارك وتعالى من هذه الأقسام إلاّ ثلاثة في قوله: (يأيتها النفس المطمئنة, ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة / الفجر آية / 27, 28), فالعمل الناشئ عن هذه النفوس الثلاثة يكون مقبولا في الغالب, وأمّا إذا صدر عن الأمّارة يكون مردودا على صاحبه لأنّ جوارحها تكون بمنزلة المحرمّة الأكل لا تجوز فيه الزكاة, وكذلك العمل الصادر من النفس اللوّامة فهو غير محقّق القبول لأنّه مدخل فلا يعتدّ به المريد, وعليه ينبغي للمريد أن لا يشتغل إلاّ بتصفية نفسه, فإذا استكملت النفس صلحت للسير فيكون عملها حينئذ يقربّها إلى الله زلفى, فلهذا ينهض بها إلى حضرة الله وليس هو إلاّ عمل القلب, إنّ الرتبة الأولى من زكاة النفوس, والتعبير عن مكاسبها الفعالة بالإبل, فاستعار لفظ الإبل للنفس المطمئنة, لأنّ النفس إذا اطمأنت للعمل فلك أن تحمل عليها ما شئت من أنواع القربات, فقد أعطيت من حلاوة الطاعة فذلك نتيجة قبول عملها, وإنّ هناك مقام آخر, ارفع رأسك للخارج, فإذا رفعت النفس رأسها تشوفت لما يخفى عليها فيهون عليك أسرها, وما زال أمرها يهون إلى أن تبلغ درجات الرضا فتكون راضيّة.
 
إنّ النفس المرضيّة ينتقل عملها غالبا إلى القلب, فلهذا خفت الأثقال على الجوارح: (لا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها / البقرة آية / 286), ولهذا قيل إذا صار العمل للقلب استراحت الجوارح, وذرّة من عمل القلوب أفضل عند الله من وزن جبل من عمل الجوارح, وقد صارت هذه النفس متشوقة لقضاء الله, راضيّة بما قسم لها ملاحظة لصفاته فانية في أفعاله لا ترى لذاتها عملا قائلة: (والله خلقكم وما تعملون / الصافات آية / 96), فإذا تمكنت من هذا المقام تنتقل إلى أن تكون مرضيّة عند الله, وهذه النفس هي نفس العارفين وعباد الله الموحدين, ويرفع الله تبارك وتعالى عليها كلّ المشاق اللّهم إلاّ الأحكام التكليفيّة, ولكلّ مقام حكم يخصّه, ولهذا نصبت قوانين لزكاة هذه النفس, وكلّما ارتفعت إلاّ ويفسح لها في معاملة الظاهر.
 
وهذا الحكم غير الأوّل, وهو حكم زكاة النفس المرضيّة وعبّر عن جوارحها بالغنم لما فيه من المشابهة ووجه الشبه هو الانتفاع, لأنّ النفس إذا وصلت لهذه المرتبة تكون الأعمال الصادرة عنها كلّها فائدة لصاحبها, إنّ العمل الصادر من النفس المرضيّة هو مرضيّ عند الله لا محالة, لأنّ صاحبها صار كلّه بالله, حيث إنّ عباد الله الصالحين غابوا عن وجودهم في وجود موجدهم, لا يرون لأنفسهم أثرا في الوجود يذكر, فالعمل الصادر من صاحب هذه النفس كلّه ربح ابتداء وانتهاء, وحاصل الأمر أنّ المصنف أشار لكلّ المقامات الثلاثة إجمالا وتفصيلا, وما ورد شرحه في بداية الكتاب, وذلك لتنبيه من ليس له خبرة بالقوم وبما هم عليه لعلّه يتشوّف لمشربهم لأنّه عزيز, قلت في هذا المعنى:
 
شراب يحتاج الكلّ طرا لشربه *** كما يحتاج السكران لمزيد السكر
 
إنّ أهل العلم بالله منهم من يجب عليه إخراج الزكاة أي إظهار ما عنده من العلوم المكنونة, وهذا في تلقين الحقائق على وجه ذوقي, فهذا المنصب ليس مباحا لكلّ محقّق, إنّما هو واجب على من توافرت فيه الشروط أو أذن له في ذلك, فهذا هو المطلوب لإظهار الحقائق على كيفية مستحسنة شرعا, وأمّا من لم يؤذن له في ذلك فالغالب يكون فتنة عليه وعلى أتباعه, لأنّ الحقيقة لم تدعه لذلك, كما قال سيدي أبي مدين الغوث رضي الله عنه: (من خرج للخلق قبل حقيقة تدعوه لذلك فهو مفتون).
 
إنّ المعارف الغيبيّة والعلوم الذوقيّة لا يزكى منها إلاّ ما طاب وقته, فقد تقدم أنّ بعض الصحابة قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (آأحدث بكلّ ما أسمع منك؟ فقال: إلاّ بحديث لم يبلغ القوم فيكون على بعضهم فتنة), ولهذا قيل لا ينبغي للإنسان أن يتكلّم ولو بما لاحظ في اللوح المحفوظ لأنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب, والكلام الصادر من هؤلاء القوم هو من وراء اللوح, فلهذا يكون محقّق الوقوع في الغالب, وأمّا كلام الأنبياء والمرسلين لا يتخلّف إلاّ إذا كان وحيّا, وأمّا إذا كان مناما أو إلهاما قد يتأخر زمانه كما في كلام الأولياء, ومن هنا قال عزّ من قائل لنبيّه عليه الصلاة والسلام: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربّ زدن علما / طه آية / 114), وقد يكون من الأولياء من لا يتكلّم إلاّ بما قضى الله بتنجيزه فلا بدّ من وقوعه هذا هو الكبريت الأحمر والمسك الأضفر, وإن قيل بماذا حصل على هذا الشأن العظيم, قلنا: حصل عليه بسبب انطوائه في عين الجمع ونظره للأشياء من حيث أصولها فضمها لبعضها.
 
قلت إيّاك يا أخي أن يقع بصرك على الموجودات, فتتوهم أنّه قد وقع على وجودها لذاتها, وذا محال لأنّ الأشياء من ذواتها العدم والبصر لا يتعلّق بالمعدوم, وإنّما وقع على وجود موجدها الذي هو معار إليها: (الله نور السموات والأرض / النور آية / 35).
 
والمراد بالفطر عند القوم: هو الرجوع للخلق بعد الإعراض عنهم إلاّ أنّ الرجوع يكون بالله, والمعنى يلاحظ الخلق وغير الخلق, وأمّا الصيام عندهم لا يكون لهم إلاّ بخروجهم عن هذا الكون, وفنائهم في اسمه الباطن, فإذا تمّ لهم ذلك وأمروا بالرجوع ليتحققوا باسمه الظاهر في جميع المظاهر, فيكون لهم ذلك يوم عيد, لما وجدوا الباطن عين الظاهر كما إنّ الأوّل عين الآخر, وكلّ ذلك لسبب تحقّقهم بقوله تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن / الحديد آية / 3), ولمّا فاض الله عليه هذا العلم الذي لم يكن له خبرة به, ولم يتصور في ذهنه, ولم يكن له رجاء فيما حصل عليه لما تقدم في هذا المعنى:
 
نلت مرادي فوق ما كنت راجيا *** فوا طربي لو تمّ هذا ودام لي
 
وجبت عليه حينئذ الزكاة أي ينفق بعض ما حصل له على إخوانه, ويفيض عليهم من ذلك العلم الجديد, ليتقوى يقينهم فيما هم عليه, وأمّا هذه الزكاة بالنسبة لغيرها شيء قليل لتغني الحرّ المسلم في ذلك اليوم أي لمن له تسليم في الطريق, حتى إذا سمع تلك الحقائق من المريد الواصل إلى الله في تلك المدّة يتقوّى عزمه ويستغني بطريقه ويطمئن قلبه.
 
وحاصل الأمر أنّ المريد عندما يدخل على الله يخرج من عنده بعلم وهو يوم العيد المعلوم عند القوم, فتجده يتكلّم بأسرار عجيبة أمام إخوانه وفي الغالب أمام شيخه ولا يتكلّم معهم إلاّ بعلوم من دقائق القوم, لأنّ للقوم معاني لا يطلّع عليها أحد غيرهم, إنّ هذه الزكاة واجبة على عامّة العارفين أي حالة وصولهم, ثمّ بعد ذلك يعود كلّ لعادته ولا يخرج أحدهم عن منصبه (عاش من عرف قدره وجلس دونه) ولهذا قيل: (أول الطريق جنون وأوسطها فنون وآخرها سكون), وربّما يتجاهل العارف الجاهلين حتى لا يعرف من بينهم وإذا سئل عن أمر لا يجيب عنه لمعرفته بقدره والوقوف عند حدّه: (وما منّا إلاّ له مقام معلوم / الصافات آية / 164).
 
(6): كتاب الصيام:
الصوم في اللغة مطلق الإمساك, وفي شرع القوم هو الإمساك عمّا سوى محبوبهم, ولهذا المقام فرائض وشروط وموانع ومستحبّات.
 
لكن يكون إمساك العارفين عما سوى الله في حضرة مخصوصّة, وهي حضرة الذات وقد يعبّرون عنها بحضرة الجبروت, وفي الغالب يتعذّر الجمع على صاحب هذا المقام لاضطراب أمواج الأسماء والصفات, فكلّ ذلك مناقض للإمساك بخلاف الحضرة الأحديّة فهي منزّهة عن أن يناقض غيرها وصاحبها, وإن خطر على قلبه ما سوى الله فقد خرج منها وبطل صومه, فهكذا يكون صاحب تلك الحضرة المتقدّمة في الذكر, وأمّا باقي الحضرات فقد يحتجب صاحبها بظهور الأسماء والصفات, فيكون شهود الذات في حقّه مستحبّا إن أدركته.
 
لمّا تقرّر عند القوم أنّ الإمساك واجب عما سوى الله تشوّفت النفوس إلى معرفة وقت الوجوب, فأخبر المصنف بأن ذلك يكون عند رؤية الهلال فكأنّه يقول: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه / البقرة آية / 185), فالمقام مقام مشاهدة, ثمّ اعلم أنّ هذه الرؤية لا تكون في أرض الكثافة إنّما تحصل في سماء اللطافة, ومن لم يرفع رأسه للخارج فلا يرى ملكوت السموات والأرض, ولهذا تجد أكثر المريدين حالة دخولهم على الله غلب عملهم تغميض العينين وجمع الحواس حالة الذكر, وذلك من أهم الوسائل في الطريق لأنّ المريد لا تجتمع همّته إلاّ عند انقطاع مادة الحسّ, والحسّ له غلبة في الظاهر, وكلّ ما يصل من الحسّ إلى المعنى حالة الفناء فذلك مناقض للإمساك اللّهم إلاّ إذا صار الحسّ هو عين المعنى, فحينئذ لا يكون مناقضا, والوصول إلى هذا المقام من وراء العقول, ثمّ اعلم أنّ نفس المريد إذا أصابها قطيعة وهي المعبّر عنها بدم الحيض أو النفاس فيحرم عليها الاستغراق وينسدل عليها الرواق لوجود المانع, ومتى ارتفع هذا المانع يجب على المريد أن يقضي ما فاته من أوقات الموافقة.
 
ذكر ما يكره على المريد, وهو أن يخطر شيء من الحسّ على بصيرته خشية أن يرتسم ذلك في لبّه فينقطع عن ربّه, فلهذا ينبغي للمريد أن لا يتهاون في ذلك, بل يقف على باب قلبه.
 
إنّ الخارج من الحسّ في دفعة إلى المعنى تعتريه أمور محسوسة حالة سيره في الطريق, تعرض نفسها عليه, وإن وقف معها حرّم عليه, وقد تقدّم أنّ الحسّ مناقض للمعنى والمريد يريد الخروج عن الكلّ فإذا وقف مع البعض فيكون له قاطعا عن الله, إنّ القواطع كثيرة من أن تحصر بحيث لا يمكن الخروج عنها تفصيلا, وإنّه إذا أراد الخروج عنها شيئا فشيئا فهي متتابعة, لأنّ كلّ ما يعتري المريد من الأسباب المناقضة لصيامه هي داخلة في العرش, وأمّا في خارج هذا المظهر لا يجد ما يناقض صيامه, لأنّ المحلّ محلّ تنزيه, وفيه قال سلطان العاشقين رضي الله عنه:
 
صفاء ولا ماء ولطف ولا هواء *** ونور ولا نار وروح ولا جسم
 
الفطر لا يتمكن ما دام الحسّ مفقود اللّهم إلاّ إذا رجع له, ورجع بنفسه, وأمّا إذا رجع بربّه فذلك هو المطلوب, وهو المعبر عنه بالعيد, فيكون الفطر فيه واجبا فنقصد الواجب حيث وجدناه, ونلاحظ الله حيث عرفناه, فإذا صار الحسّ عين المعنى, فلا يخرج عنه بل يكون عنده كجبل موسى عليه السلام يقصد فيه وجود الأنس, وموسى عليه السلام طلب رؤية التنزيه قبل أن يعلّقها له على التشبيه أي على الحسّ لقوله تعالى: (انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني / الأعراف آية / 143), فلمّا تحقّق في الحسّ أو نقول في عالم التشبيه استغنى بذلك عن عالم التنزيه, إنّ كلا من الحسّ والمعنى والتنزيه والتشبيه: (فأينما تولوا فثمّ وجه الله / البقرة آية / 115), يقول ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه: (ممّا يدلّك على وجود قهره سبحانه أن حجبك عنه بما ليس بموجود معه), فلهذا تجد أكثر العارفين في نهايتهم يأنسون بوجود الخلق كما كانوا يستوحشون منهم في بدايتهم, وحاصل الأمر أنّ المريد يطلب منه الرجوع للحسّ بمجرد معرفته له, كما يطلب منه الخروج عليه أولا.
 
ثمّ قال المصنّف رضي الله عنه:
 
من أفطر الفرض قضاه ويزد *** كفارة في رمضان إن عمد
لأكل أو شرب فم أو للمني *** ولو بفكر أو لرفض ما بني
بلا تأول قريب يباح *** للضر أو سفر قصر أي مباح
 
ذكر في هذه الأبيات حكم الراجع إلى الخلق قبل استغراقه في مشاهدة الحقّ, وأثبتهم بعد إمساكه عنهم أي نقض عهده وبطل صومه بعد ادعائه لا يرجع للخلق إلاّ إذا رجع إليهم بالله ثم رجع بنفسه, فقد وجب عليه في شرع القوم أن يكفر أي ما وقع فيه من المخالفة, ونقض العهد بأن يمسك ثانيا عن كلّ ما سبق, ويخرج عن الحسّ, ويستغرق في المعنى استغراقا كليّا, ولا يرجع للخلق إلاّ إذا تحقّق بتعظيمهم, وعلم يقينا من نفسه أنّه لا يعود إليهم, وتحقّق زوال الكلّ من قلبه.
 
قد تقدّم أنّ إمساك المريد عمّا سوى الله في حضرة تعلّق الأسماء والصفات يتعذر في الغالب, فلهذا لا يجب عليه شهود الذات في هذا العالم قبل معرفته لأصله لكثرة مظاهر الأسماء والصفات, وإذا وقع ونزل وتمكّن من الشهود في هذا العالم قبل الخروج عليه فذلك هو المطلوب, فينبغي له أن يمسك عن رؤية الغير, وليدم على تلك الحالة, وقد نبّه الحق سبحانه وتعالى على من لم يصبر على الطعام الواحد أي على توحيد الذات والتشوّف لما سوى ذلك من المصنوعات: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا / البقرة آية / 61), والمتبادر من فهم معنى مصر على مقتضى ما نحن بصدده هي مركز النفس, وما فيها من الشهوات الخفيّة والجليّة المشار إليها بقوله تعالى: (ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها / البقرة آية / 61), وكلّ شهوات النفس مقترنة بوجود الذلّة, ولهذا ضربت عليهم الذلّة وباءوا بغضب من الله, فلا ذلّ إلاّ مع وجود النفس ولا عزّ إلاّ مع وجود الأنس, وأمّا الكفارة عليه أن يرجع المريد لله, ويكفّر عمّا صدر منه ويبادر فيما يجبر كسره, لئلا يسقط من عين الله حيث نقض عهده مع الله في حضرة الله, ثمّ اعلم أنّ المريد إذا وقعت له الإساءة ونقض عهده مع الله وبطل صومه, فينبغي له الرجوع على الفور, ويقصد الله تبارك وتعالى ويرجع إليه بقلبه المنيب ويتوسط له بأحبابه ذوي القلب السليم والشرف والتكريم ويجمعهم وهو أعلم بهم, لأنّهم سفراء الله بينه وبين خلقه.
 
(7): كتاب الحجّ:
الحجّ في اللغة هو القصد مطلقا, وعند القوم هو القصد إلى مقام لا يمكن المزيد عليه, ولا يساعد التلفظ بكنهه وحقيقته, لعدم وجود الألفاظ المساعدة في التعبير على ماهيته, فمن أجل هذا قلّ من يتكلّم عليه, كما قلّ من يصل إليه من عامّة القوم, لفقد الاستطاعة, والحجّ لمن استطاع إليه سبيلا, ولهذا كان واجبا مرّة في العمر, لقول المصنّف رضي الله عنه:
 
الحجّ فرض مرّة في العمر *** أركانه إن تركت لم تجبر
الإحرام والسعي وقوف عرفة *** ليلة الأضحى والطواف ردفه
 
لقد نبّه إلى أنّ الأركان هنا أربعة, أوّلها: الإحرام وذلك يحرم على صاحب هذا المقام حالة تلبسه به كلّ حلال فضلا عن الحرام تعظيما لحرمة الله, والثاني السعي وهو تقلّب العارف بين جلاله وجماله إلى أن يصير الجلال عنده هو عين الجمال, لخروجه عن نفسه فضلا عن إرادته واختياره, والثالث الوقوف بعرفة وهذا محط الرحال لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (الحجّ عرفه), وقد عبّر أكثر العارفين عن هذا المقام, ولم يستوفوا الكلام على معانيه, لأنّهم مقصّرون من وجوه, وكلّما يقصد صاحب هذا المقام التعبير إلاّ ويزداد في التقصير, لفقد التعبير والإشارة, إلاّ أنّهم جعلوا للحجّ بعض الألفاظ التي تناسب في الكلام لا في المقام وذلك يعرف عندهم بالطمس أو العمى, وكلّما أراد العارف الإفصاح عن هذا المقام إلاّ ويزداد عجمه, وأغلبهم محجوبون عن هذا المقام, وربّما ينكر أحدهم من تكلّم فيه ويرى ذلك من مدهشات الأمور, لأنّ العارف من حيث هو إلاّ ويكتفي بالوصول, وكيف إذا قيل له: إنّ في الوصول وصولا, وقد قال سلطان العاشقين في هذا المعنى:
 
وإن اكتفى غيري بطرف خيالكم *** فأنا الذي بوصالكم لا أكتفي
 
وقد طلب منّي بعض الإخوان أن نرشح له بنصيب من ذلك الشراب الصعيب, والسرّ الغريب الذي قلّ من يراه فضلا عن أن يتعاطاه, فلمّا فهّمته بترشيح بين تلويح وتصريح وعبرت له بالتقريب, قال لي: تالله إنّ هذا الأمر عجيب قد تعيّن علينا الابتداء, مع أنّه كان من أهل المشاهدة, فلمّا وصلوا ابتدءوا السير منه, فقد ساروا أولا لله, ثمّ ساروا في الله, قال سيدي (أبو مدين الغوث) رضي الله عنه في حكمه: (السائر ذاهب إليه والعارف ذاهب فيه), وهذا شيء من وراء العقول لا يجب إلاّ على المستطيع استطاعة تامّة, والرابع الطواف بعد الوقوف, والمراد به هو الرجوع إلى ظهور الذات المستحقة للألوهيّة المتصفة بصفة المعاني والمعنويّة والجولان في معنى صلوحيّة التعلّق وكيفيّات إظهار الخالق والمخلوق وهو المعبّر عنه بالطواف.
 
قسم أفعال الحج إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول الأركان: وهي الأصول إن تركت لم تجبر بشيء, القسم الثاني الواجبات: وهي التي تجبر بالدم, القسم الثالث إن تركت أفعاله فلا شيء فيه قد يمكن الاستغناء عنها في هذا المحل والمراد بالدم الذبح أو النحر أي ذبح النفس ونحرها إن تحققت موتها, فكلّ تقصير مع موت النفس مقبول.
 
ولمّا كان الأمر غميضا من حيث كنهه, وحقيقة طلب المصنف من المريد أن يحضر قلبه, ويستجمع ذهنه, ليحصل له من الفهم نصيب حتى إذا طلب هذا المقام يكون على بصيرة من السير إليه أحسن من أن يدخله بدون أن يسبق له شيء في علمه, كما أنّ لكلّ عارف ميقات لا يجوز له تجاوزه, وهو إمّا أن يكون زمانيّا أو مكانيّا, فالميقات الزمانيّ هو تحقّق المريد بوحدانية الله وبعدها يتهيأ للمسير لكنه الذات والاستغراق في غوامضها والإطلاع على أسرارها, وأمّا الميقات المكانيّ مبتدؤه من حدود الكون أو تقول سدرة المنتهى, أو تقول منتهى التقييد, فالميقات هو كناية عن حالة خروج المريد عن التقيّيد وتشوفه للإطلاق سواء كان من العلو أو من الدنو, فالمطلوب هو الخروج عن المكان والزمان, ليتمكن له الغوص في الإطلاق, وقد وجدت بعض العارفين لا يتيسر له الكلام فيما ذكرنا فنبهته عن ذلك فتعذّر عليه الحال فتذكرت قوله تعالى حكاية عن ملائكته: (وما منّا إلاّ له مقام معلوم / الصافات آية / 164), حيث إنّ المقام مقام اضمحلال, وقد يعبّرون عنه بالرهبوت, لأنّ هنالك سرا خفيّا لا يدركه إلاّ الإنسان الكامل, فأول ركن في الحجّ هو الإحرام, ويعني به الخروج عن كلّ ظرف جليل أو حقير زمانيّا كان, أو مكانيّا والمعبّر عنه بالتجريد من المخيط والمحيط, فمن عظمت هذه الخليقة في نظره صار ينزّه الحقّ عن المكان والزمان والجهة والأركان, وإلاّ فإنّ الحقّ منزّه عن هذه الأوصاف من قديم, وما هذه الأكوان بالنسبة لعظمته إلاّ كخردلة, بل أصغر وأضعف حيث نظمت ما قاله لسان هذه الحضرة:
 
وهل لي فسحة تكون إلى غيري *** وهل يكون الفراغ والكلّ ممثلا
فإنّي باطن الكنه من حيث عينه *** وإنّي ظهير النعت إجمالا لا مفصلا
ولا وجهة إلاّ وإنّي موليّها *** وهل للسوى وجود وهل من ذاتي خلا
فذاتي ذات الوجود كانت كما تراه *** تعظيم غير محدود بك قدر خردلا
 
وحاصل الأمر إنّ المريد إذا خلّف هذا العالم من خلفه, ثمّ سار مستسلما بروحه وجسده لربّه بربّه نادته الحقائق الخفيّة من الحضرة الواحديّة المتصفة بصفات المعاني والمعنويّة بلسان الربوبيّة قائلة هل وجدت لغيري سميّا, أو كان لغيري إثبات, وكلّما تكرّر عليه النداء, وأذن له بالتقريب إلاّ وهو يقول لبيك اللهم لبيك ها أنا بين يديك, ويجدّد التلبية كلّما سمع النداء.
 
فإذا دنوت إلى الحضرة الواحديّة المعبّر عنها بمكّة, وقد عبّر عنها القوم بالذات المستحقة للألوهيّة, فينبغي للمريد أن يجدّد أدبه لأنّ لكلّ مقام أدب ولكلّ حال أدب, وقد يصعب الدخول على المريد لهذه الحضرة لوجود ظهورها وتعلّق صفاتها, حيث تطلب من الإنسان وجوده وانتفاؤه في آن واحد, وقد يتعذّر ذلك على أغلب المحقّقين لوجود التناقض, ومن مقتضاها اضمحلال العبد ووجوده في آن واحد لاتصافها بالصفة الوجوديّة والأسماء السنيّة, قال صاحب الحكم: (الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحديّة ذاته), وإنّ صاحب هذا المقام لا يساعده إلاّ التسليم, وليس له دخول إلاّ من باب السلام, لأنّ فائدة التلبية تظهر عند القرب, وإذا غبت عن القرب في عظيم القرب فما فائدة الطلب, وحاصل الأمر أنّ أدب هذه الحضرة هو أن تشتغل بمشاهدتها, والاستلام عن يمينها وهو الحجر لما قيل فيه يمين الله, لأنّه كناية عمّا صدر من تعلّق الصفات, أو تقول فيه صفة التكوين, فإنّ العارف إذا وصل هذا المقام يرى السّماوات والأرض مطويات بيمينه, فنجد العارف يرى يمين الله قبل أن يرى الأشياء, ومن الأدب أيضا الطواف سبعا, والمراد فيه هو جولان الفكر في تعلّق الصفات السبع, وكيفيّات ترتيبها وتوقفها على بعضها بعضا, لأنّ المقام مقام تفصيل لا تقبل فيه المعرفة الإجماليّة, لأنّ الحقّ تبارك وتعالى يظهر لأوليائه في هذا المظهر بأسمائه وصفاته, ثمّ يشتدّ ذلك الظهور حتى يصير بداهة أي بذاته على اختلاف صفاتها لأنّ الحاج إذا دخل الكعبة يجد الجهات الست كلّها متوجهة نحوه, فكيف بالعارف إذا انطوى في ذات موجده قال سلطان العاشقين مشيرا إلى حجّ العارفين:
 
وكلّ الجهات الست نحوي توجهت *** بما تمّ من نسك وحجّ وعمرتي
 
إنّ أنواع العبادة في هذا المقام هي إشارة إلى التفصيل, وكلّ ما يبرز على ألسنة العارفين مأخوذ من شعاع الحضرة الواحديّة, وأما الأحديّة والكنزيّة لا يصح التعبير عنها, لأنّ مريد الإقامة في الأحديّة أو الكنزيّة لا يؤمن عليه لأنّه مقام مخوف وروي عن الشيخ (عبد القادر الجيلاني) رضي الله عنه أنّه قال: (ناداني الشيطان في مثل هذا المقام بقوله: يا عبدي إنّي بحت لك المحرمّات, فالتفت فإذا بزاجر من باطني يقول: إنّ الله لا يأمر بالفحشاء, فقلت له: كما قال ذلك الزاجر, فقال لي: والله يا عبد القادر لقد أخذت أناسا كثيرة من هذا المقام) ومن الأعذار المهمّة أنّ العارف لم يعلم ولا سبق له معرفة أنّ في ذلك المحل شيطان حتى يتقيه, ومن هنا يأخذه من حيث لا يشعر كما أخذ أبويه, ولو كان مستعدا لما أخذه.
 
ينبغي للعارف أن يسعى بين الصفا والمروة, والمراد به أن يكون بين جلال وجمال وهذه رتبة الكمال, فتجد العارفين رضوان الله عليهم يتقلّبون في هذين المقامين, كتقلّب الطفل في المهد, تحركهم يد العناية وتقلّبهم وتحفظهم في الحالتين, حيث أصبح الجلال والجمال لا يؤثر في بواطنهم, لأنّه من جنسهم بخلاف غيرهم, أمّا العارف فيصير الجلال عنده هو عين الجمال, فلهذا يتلذّذ بهما معا, حيث إنّ القوم هم مع الله على كلّ حال لا مع الجلال ولا مع الجمال, ويرون القبض والبسط من جملة الليل والنهار: (وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا / النبأ آية / 10), فالقبض وصف الأشباح, والبسط وصف الأرواح, كن أيّها المريد مع الله يكن الكلّ معك تابعا لك, ودع المقام يطلبك فلا تطلبه أنت فهو خلق لأجلك, فاشتغل بتعظيم الألوهيّة, وبالتهليل أي اشتغل بالتكبير والتهليل مستغنيا بذلك عن الكلّ حتى تصير في الحالتين على حد سواء, فسارع لتدريب نفسك حتى يكون عندك حال, فتكون على الصفا كما تكون على المروة, فالصفا كناية عن الجمال, والمروة كناية عن الجلال, فمن عرف الله في الجمال وجهله في الجلال فقد فاته الكمال, فلهذا ينبغي لك النهوض مهما توقفت نفسك, أو جزعت من مقام أو ركنت إلى غيره, حتى يصير العارف كأهل الكهف: (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال / الكهف آية / 18), حتى إذا صارت يد العناية الأزليّة تقلّبه ذات الجلال وذات الجمال وهو كميّت عند مغسل, فله أن يدعو حينئذ بما شاء لأنّها تصدقه شواهد الامتحان فإذا علم من نفسه التحصيل على هذا الشأن الشريف بأن صار عنده الجلال والجمال والقبض والبسط والغنى والفقر والموت والحياة على حد سوى, فهذا ميزان صحيح على نفس المريدين إذا ادعت بشيء فعليها البيان: ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين / البقرة آية / 94), قال أبو عثمان الجبري (رحمه الله): (لا يكمل الرجل حتى يستوي قلبه في أربعة أشياء في المنع والعطاء والعزّ والذلّ, فإذا بلغ الإنسان إلى هذه الحالة فله أن يعدّ نفسه في رتبة سنيّة لأنّه تقيّ), (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربّكم قالوا خيرا / النحل آية / 30).
 
ذكر أنّ صاحب الطواف يجب عليه الطهران والستر, وقد تقدّم الكلام عن الطهارة, وأمّا الستر وهو كتمان الحقائق وعدم الإفشاء لسرّ الألوهيّة, فهو واجب على صاحب هذا المقام, لأنّ المقام مقام تمييز لما هو عليه من وجود الفرق بين الجلال والجمال المعبّر عنه بالسعي والطواف, المعبّر عنهما بالجولان في تعلّقات الصفات, فكلّ ذلك يقتضي وجود التكليف ووجود الستر منوط به, وحاصل الأمر أنّ صاحب الحضرة الواحديّة يكون مطلوبا بالستر ما استطاع, لأنّه يرى الأثر والمؤثر والصفات وتعلّقاتها.
 
تقدّم أنّ المحرم يبقى ملبيا إلى أن يصل للبيت المعبّر عنه بالوحدانيّة, فيقطع التلبية, لاضمحلاله فيها واكتفائه بوجودها, فإنّه يعيد التلبية إلى أن يصل إلى مقصوده وينطوي في ودوده كما تقدّم, لأنّ النداء يتكرّر عليه كلّما استشرف على مقام بما تقتضيه حقيقته, وحاصل الأمر أنّه يلبي, وهذا منتهى الخطاب الصادر من حضرة الصفات وآخره الخطاب السابع الخالي من التعلقّات المضاف للحياة فلم يبق بعده إلاّ الانطواء في بطون الذات.
 
بعد الفراغ من الطواف والسعي عليه أن يتأهب للسير إلى غاية لا مزيد عليها, ولهذا أمره بالخروج عن الكلّ, لأنّ المقام الذي يقصده لا يقبل من الظهور شيئا, وقد يستثقل وجود الأسماء والصفات, فكلّ ما سوى الكنزيّة هناك لا يعقل فهو طلسم كنز مجمل لا اسم ولا نعت ذات في ذات, وقد يتعذّر على أكثر العارفين الدخول إلى هذا المقام لما فيه من التجريد الكلّي, فقد تطلب هذه الحضرة من العارف الخروج من شبحه وروحه ونفسه وعقله وعن الأسماء والصفات وتأمره بالجمع وطيّ الظهور في البطون والبطون في الظهور, فإن تحقّق لك الصعود للجبل المعبّر عنه بالوقوف, وليس لك سواه فيكون عدمك مطلقا لغيبتك عن الخلق والحقّ لا فتق ولا رتق, وقد يعبّرون عن هذا المقام بالعمى, وقد قال الإمام الجيلي رضي الله عنه في ذلك: (اعلم أنّ العمى عبارة عن حقيقة الحقائق التي لا تتصف لا بالحقيقة ولا بالخليقة فهي ذات محض, لأنّها لا تضاف إلى مرتبة لا حقيّة ولا خلقيّة), فالمقام غير معقول المعنى فلهذا سمّي بالبهت أو الدهش أو اللاهوت أو الطمس أو الرهبوت أو الكنزيّة, ثمّ ما زال العارف يلبّي كلّما دنا منه إلى أن ينزل بعرفة, وعبّر بالنزول لما هنالك من الغوص إلى الغيب في الغيب, والطيّ في الطيّ, والجمع في الجمع, والتقصير في التقصير, فيا سبحان الله ما أغربه من مقام حتى عند القوم تراهم يتحيّرون عند ذكره فما دام العارف سائرا إلى هذا المقام وهو يسمع نداء وخطابا من وراء حجاب, فيلبي كلّما تكرّر النداء إلى أن يصل لعرفة وهو محل الوقوف والغاية التي ليس بعدها مزيد, لأنّها غيبة عن الوجود والفقد, ولمّا وصلت المقام نفسه وجدت برنامجا مكتوبا بخط مقلوب وملصوقا على صفحة العدم مختوما في آخره بخاتم الصمدانيّة, ولولا معرفة الأسماء لم أكن له قارئا لصعوبة خطه, فقرأته وفهمت ما فيه فأخذت منه شروط المقام وما يستحق إليه, وإذا نحن نسمع كلاما من لسان الكنهيّة إلى مقتضى الصمدانيّة قائلا: (ضاع الوجود وغاب الشهود, وتعطلت الكنهيّة يا سبحاني غبت في أيني إلى أين الغاية, جلّت عظمتي وتقدّست ذاتي في ذاتي, يا سبحاني لولا مقتضى الغيب لم نبخل بنصيب), وإذا بلسان الصمدانيّة يتعذر لغيب الهويّة قائلا له: (لو تعلم ما لي لعذرت حالي فهل أردت تحييز الذات أم وصفتني بالجهات, وحقي وذاتي لم نجد محلا لظهور صفاتي الكلّ ذات أمر مجيد وكنز غميض بحر لا موجة فيه ولا فسحة لديه لا يمين ولا شمال, الله, الله, لا تبديل لخلق الله), قلت: (العجز عن درك الإدراك إدراك ووجود الغير في هذا المقام إشراك), ولا يكون الوقوف إلاّ بعد غروب الظهور وانطواء النشور: (إذا الشمس كورت, وإذا النجوم انكدرت / التكوير آية / 1, 2), المقام مقام طمس, ولا نوع ولا جنس, فلهذا كنّاه عليه الصلاة والسلام بالعمى, ما فوقه هواء وما تحته هواء.
 
عزّت مداركه *** غابت عوالمه *** جلّت مهالكه
لا الوصف يحصره *** من ذا ينادمه *** كلّت عبارته
ضاعت إشارته *** هدمت عمارته *** قلب يصادمه
عين ولا بصر *** علم ولا خبر *** فعل ولا أثر *** غابت معالمه
 
ولمّا كان المقام غميضا جدا, واستهلاكا محضا, ينبغي الخروج منه على الفور بمجرد يحصل الوقوف.
 
قد تقدّم أنّ المقام مقام مخوف لا يتمكّن الإقامة فيه, وليس على العارف إلاّ الخروج منه على الفور وإلاّ يخشى عليه, فإنّه محفوف بالصواعق المحرقة, وهنا لا بدّ من الإسراع بالخروج إلى مزدلفة, أي محل الزلفى, حتى إذا خرجت يطرأ عليك اسم الوجود, فإذا طرأ على العارف في هذا المقام الوجود, وثبت الشاهد والمشهود, فيؤمر حينئذ بالسجود, فينادي لسان حال العارف: (إلهي من حيث حقيقة الوجود, أنت العابد والمعبود, أنت الشاهد والمشهود, أنت عين, أنت زين, أنت أين, لا عين سواك, ولا ذات معك, أيدني بروحك, يا روح الروح), ثمّ اعلم أنّ صاحب هذا المقام بمجرد أن يطرأ عليه الوجود, ويتوجه للشهود ينبغي له أن يكون على بصيرة من همزة الشيطان, لأنّ المقام محفوف بالمكاره, وكثير من الحسّاد عليه, وقد اتّخذ الشيطان لعنه الله في طريق هذا المقام مخدعا, فهو يتعرّض للعارفين بمجرد انفصالهم عنه, فلهذا يجب منه الإسراع حالة الرجوع, حتّى إذا وصل إلى مكّة المعبّر عنها بالحضرة الواحديّة يكون مأمونا, وكفى بما أخبرنا به الحقّ عزّ وجلّ حكاية عنه كيف يتعرّض للسائرين على صراط هذه الحضرة المستقيم, حيث قال: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثمّ لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم / الأعراف آية / 16), حفظنا الله والمسلمين من شرّه, ومن أجل مكائده كان العارف مطلوبا بالإسراع من ذلك المحل إلى محل مأمون, فإذا اطمأن العارف فليحط رحله, ويصلّي صبحه, ويغلس رحلته, ثمّ أمر المصنّف رضي الله عنه: (العارف بالإسراع حالة الخوف والاستعداد, لأنّ المحلّ محلّ نار, ولا يؤمن على العارف إلاّ إذا خرج منه), وحاصل الأمر إنّ العارف لا يستقيم حاله, وتسكن روعته, إلاّ إذا وصل للبيت المعبّر عنه بالواحديّة, فهي مقام إبراهيم, ومن دخله كان آمنا, وأمّا قبل دخوله ذلك الحصن لا يؤمن عليه, وهي حضرة: (لا إله إلاّ اللّه), التي قال فيها عزّ من قائل في حديث قدسي: (لا إله إلاّ الله حصني, ومن دخل حصني أمن من عذابي), فهي حضرة مستحقّة للعابد والمعبود, والشاهد والمشهود, بخلاف الحضرة المتقدّمة في الذكر فهي نافية لكلّ منهما, فلهذا لا يمكنه الاستقرار فيها ولا في طريقها, ولا تحسبن شيطان هذا الطريق هو شيطان المعقول في الحسّ, بل لكلّ حضرة شيطان, ولهذا يقال: (الملك شيطان الملكوت, والملكوت شيطان الجبروت), أي لكلّ محل شيطان يناسبه, فيدخل على العارفين بما دخل على أبويهم, وأخرجهما ممّا كانا فيه, فهو يتلون في كلّ مقام بما يقتضيه ولون الماء لون إنائه, حتّى إذا كان العارف في حضرة الله ولا يسمع ولا يرى إلاّ الله فيناديه على لسان الألوهيّة كما وقع لبعض العارفين, ومن الأعذار المهمّة أنّ العارف لا يعلم أنّ في ذلك المحل شيطانا حتى يتّقيه, ومن هنا يأخذه من حيث لا يشعر, ولو كان مستعدا له لما أخذه, فكن على بصيرة أيّها السائر فإنّي لك ناصح أمين, واحذر من همسات الشياطين, وإنّي أخبرك حالة سيرك ماذا يلقى عليك فإذا كنت مارا في حضرة الأفعال أي فانيا في أفعال الله عن فعلك فإنّه يخاطبك في سرّك خطابا شافيا تستفاد منه استغراقا في شهود الأفعال إلاّ أنّه فيه سمّ قاتل إذا كنت بكيده جاهلا يقول لك: من كلّ يرى فعل مع فعل الله فهو محجوب عن الفناء في الأفعال, إنك ترى لنفسك عملا وتقول هذا حرام وهذا حلال وأين معرفتك من قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون / الصافات آية / 96), وإذا لم تحمك العناية الإلهيّة فقد يأخذك بما أخذ به الأشقياء, وإذا كنت في حضرة الصفات أي فانيا في صفات الله عن صفاتك, فيقول لك يا سبحان الله لا سميع ولا بصير ولا متكلّم ولا قادر ولا عالم ولا مريد على الحقيقة إلاّ الله, فتقول له: نعم, فيقول لك: إنّ العارفين قد فنوا عن صفاتهم وتولّى الله أمرهم إذا صدرت منهم حسنة فلا يرجون ثوابا عليها, وإذا صدرت منهم زلة فالديّة على القاتل لأنّهم أموات غير أحياء, وإذا كان العارف في حضرة الذات أي فانيا عن ذاته في ذات موجده, فيأتيه على ساحل الحضرة, وينادي قائلا: لا موجود إلاّ الله فيلتفت العارف إلى هذه الكلمة المشرّفة التي لا أعزّ منها عند العارف فإذا التفت إليه يقول له: (إنّ الحقّ ظاهر في الأشياء ظهورا جليّا وإنّه هو حقيقة الوجود المطلق ومن لم يتمتع بهذه المظاهر التي هو فيها ظاهر فقد فاته خير كثير, فأين فائدة المعرفة إذا كنت تعرفه في شيء وتجهله في شيء ويبيح له النظر في المحارم والصور الجميل), ويقول له: (كلّ الجمال جمال الله وإذا لم تزل تخشى العذاب فما فائدة رفع الحجاب, ألم تعلم أنّ سبب العذاب وجود الحجاب), ويأخذ بنصيحته إلى أن يخرجه كما أخرج أبويه حفظنا الله من شرّه, وأمّا من أخذ الله بيده فإنّه لا يلتفت إليه, لأنّه يفهم منه ابتداء وكلّ كلام يبرز إلاّ وعليه كسوة القلب الذي برز منه فيجد تلك الحقائق مكسوفة الأنوار فلا يلتفت إليها ولا يعمل بها, ولهذا كان صاحب هذا المقام مطالبا برجم الشيطان في الجمرات الثلاث, إنّ المقام صعب جدا فلا يصل إليه إلاّ المستطيع, ولهذا قال: (لمن استطاع إليه سبيلا), وأن يكون مأمونا في نفسه وماله بأن يكون محافظا على الصلاة مقيما لأركانها, وكلّ ذلك راجع إلى الثبات في أحكام الشرع, ومن لم يتحقّق ذلك من حاله فلا يجب عليه.
 
إنّ المحلّ خطير, ولا يخلو من الخواطر الشيطانيّة, فلهذا أمرنا برجم الشيطان في كلّ موطن تعرض لنا بما تقتضيه حقيقته, فأنت مأمور برجمه وعدم الالتفات إليه, ولهذا يقال: (من أشرقت بدايته أشرقت نهايته), فإن نجوت أيّها العارف من هذه المواطن الصعبة فقد تمّ لك المقصود, لأنّك صرت عارفا بمظاهر الوجود, وعن الشيطان مظهر منها, وكلّ مظهر يطلب ما تقتضيه حقيقته.
 
إنّ الوقوف هو استغراق كلّي, وإنّ صاحبه لا يرى ولا يسمع ولا يبالي, وإنّ كنزه مطّلسم, وأنّه في بحر لا ساحل له, وهو يلاحظ في ذلك البحر حراما قلت: (هو غائب عن الحلال فكيف يرى الحرام ما دام في البحر, إنّما حرّم عليه صيد البرّ المعبّر عنه بالحسّ والتفريق) قال تعالى: (أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرما / المائدة آية / 96), أي ما دمتم مستغرقين في ذلك البحر, وعند التفات العارف من هذا البحر ورؤيته للبرّ يجد مكتوبا على ظاهر الجمادات والأنعام هذا حلال وهذا حرام, فالعارف لا يمكنه أن يؤذي شيئا من صيد البحر لاندراج الكلّ في البحر المطلق, وقد يعمّ هذا البحر على الجميع في نظر العارف وكان الشيطان من جملة أفراد العالم فكيف يتيسر للعارف رجمه, قلت: (إنّ الشيطان هو من صيد البرّ, فنحن مطلوبون برجمه خارج عرفة لا فيها أي بين الطمس والحضرة الأحديّة, ولهذا لا يصطاد الشيطان المريد إلاّ في البرّ أي إذا غلب عليه الحسّ وصار يتلذّذ بما تشتهيه النفس, وأمّا إذا وجده غائبا عن مقتضى الطبيعة البشريّة فمن أين يدخله حتى يخاطبه, وإن خاطبه لا يسمعه وهذا حكم أرباب الاستغراق, فالعارف يتقي كلّ من الدنيا والهوى إذا علم وتحقّق منهما الضرر, وأمّا إذا كان غائبا في شهود الحقّ متلذذا بمناجاته فهذا لا يؤثر فيه شيء, فهو يأخذ من كلّ شيء ولا يأخذ منه شيء, لأنّ الشيطان يدخل على العارف إذا وجد له أدنى ميل لطبعه, فمن هنا يكون مدخله, وهنالك يكون الأمر برجمه, وذلك لا يخلو من الإنسان لمقتضى الطبع البشريّ, فالشيطان ملازم للطبيعة البشريّة كالنفس وما سواها, فكلّما رجع العارف لنفسه واشتغل بمصالحها من مأكول ومشروب وملبوس, تعيّن عليه التمييز بين الرضا والمكر, ويجب عليه أن يتقي الله في كلّ مظهر حسبما تقتضيه حقيقته, وإن التبس عليه خطاب فليقسه على الخطاب القديم المحكوم به: (وأنّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه / الأنعام آية / 153), لأنّ في القرآن الكريم قوالب صالحة للقياس, فكلّ خطاب لا يحمله القرآن فاتركه واترك العمل به: (ما فرطّنا في الكتاب من شيء / الأنعام آية / 38), وقد رأيت أكثر العارفين في هذا المقام محافظين على أدبهم مع الخلق كأنّهم مع الحقّ, ويكفيك حكم الحاج أنّه لا يؤذي شيئا, ولا يقتل ولو قملة إلاّ ما أجاز قتله الشرع, لرؤيته نفسه وجميع خلق الله في حضرة شريفة لا يسعه مع سكانها إلاّ الأدب, وحاصل الأمر أنّ صاحب هذا المقام لا يمكنه إساءة مع أحد من خلق الله إلاّ إذا يخشى وجود القطيعة, وعليه فليتق شرّ نفسه ولا يأمنها: (وإن تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها / الأنعام آية / 70), لئلا تجور عليه.
 
تقدّم أنّ صاحب هذا المقام خارج عن الظروف الكونيّة مكانا وزمانا, لولا تجرّده من المحيط والمخيط لما وصل لصريح الحريّة, فإنّه يبقى على تلك الحالة حتى يتغلغل في غيب الغيب, فإنّ المقام مقام طمس لا مقام حسّ.
 
ولا يستغرق العارف في هذا المحل إلاّ إذا زال الكلّ من نظره, وخرج من جميع الظروف الزمانيّة, وتقييده بالظروف عندهم من الكبائر لقول الشيخ الكبير: ابن العربي الحاتمي رضي الله عنه: (من لم يتغلغل في علمنا هذا مات مصّرا على الكبائر).
 
فذكر أنّ العارف يجوز له أن يستظّل بمرتفع وهو العرش بعد الخروج عنه, أي يكون تحت حياطته في بعض الأوقات, وفي وقت استظلاله بالمرتفع أي حالة رجوعه من دخول العرش, تتمكّن له المعاملة مع الخلق والتمّتع بالأزواج, ولا تفهم أنّ همته تكون منحصرة في الخلق انحصارا كليّا لغيره, إنّما يكون ملاحظا لشمس الحقيقة من وراء سحاب الخليقة لا بدّ للحسنى من نقاب وللشمس من سحاب, ولا يفهم هذا الحال إلاّ من ذاقه, لكونه يشعر بالجمع بين المتناقضين, وذلك مسلم عند القوم, ولمّا أنهى الكلام عن الوقوف الواجب مرّة في العمر على العارف, والمراد به هو الاستغراق في الأحديّة, فذكر الآن الحضرة التي يجوز له أن يدخلها في كلّ الأوقات.
 
إنّ المراد بالعمرّة إي عمارة الأوقات بالحضور في هذه الحضرة الشريفة, لكونها حصنا مانعا ولا يخشى صاحبها من السلب في الغالب, وإنّ صاحب العمرّة لا يجب عليه الوقوف في عرفة, والمطلوب منه هو مطلوب الطواف والسعي, والحلق والتقصير, وعدم الخروج من مكّة, وكثرة المشاهدة للبيت فهي حضرة العبادة حضرة الأسماء والصفات قابلة لوجود العابد والمعبود, فإذا عرفها العارف في سائر الجهات, وفي كلّ التجليّات تحافظ عليه كما يحافظ عليها, ولا يرضى بالخروج منها, وفيها تفيض أنوار الصفات ويشرق الوجود بنور الموجود: (وأشرقت الأرض بنور ربّها ووضع الكتاب / الزمر آية / 69), ثمّ اعلم أنّ هذا المقام مقام عظيم وأمر مهم, فينبغي للواصل إليه أن يستعمل كلّ أنواع الأدب من حيث هي ما دام في هذه الحضرة, ومن أدبها كثرة النظر إليها, لأنّ هذه الحضرة تعقل أنّك عبد فلهذا تطلب منك الأدب, ولهذا يقال: (قف على البساط وإيّاك الانبساط), فقد عقلت عليك الميزان, لأنّها تزن كلّ ما برز عنك فينبغي لك أن تكون نبيلا لأنّها كثيرة التجليّات والتطورات, وينبغي لصاحب هذا المقام أن يسعى في صفاء الأوقات, فإذا عزمت على الخروج للحضرة المحمديّة, وهذا ليس بخروج في الحقيقة, لأنّ الحضرة المحمديّة هي مظهر من مظاهر الحضرة الواحديّة المعبّر عنها بزيارة (سيد الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام).
 
ليكن في علمك أنّ العارف لو بلغ ما بلغ إذا لم يدخل هذه الحضرة المحمديّة, ويقوم بأدبها حتى تشرق عليه أنوارها, قد يخاف عليه لأنّ الوصول كان بها, فلا بدّ من الرجوع إليها, ولهذا يقال: (حقيقة النهاية هي الرجوع للبداية), وإن كان المريد حالة سيره يتجاوز الحضرة المحمديّة بالمشاهدة للحضرة الواحديّة, أو الأحديّة لكن كان له التجاوز بصاحبها عليه الصلاة والسلام إذ لولا نور المصطفى الذي تغمّده لما تقدّم أنملة ولو تقدّم لاحترق, ولهذا كان الرجوع إليها والتذلّل على أعتابها واجبا, فهي كمال الكمال, فمن لم يرسخ في هذه الحضرة فهو ناقص, ثمّ اعلم أنّ هذه الحضرة فيها يكشف للعارفين عن حقيقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي حقيقته اللازمة لأفراد الوجود الذي قال فيها صاحب البردة رضي الله عنه, وغيره:
كيف يدرك الدنيا حقيقة *** قوم نيام تسلّوا عنه بالحلم
نورك الكلّ والورى أجزاء *** يا نبيّا من جندك الأنبياء
لأنّ حقيقة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم هي حقيقة كلّ فرد من أفراد الوجود حتى إذا كشفت براقع وجهها وظهر نور جمالها يتحقّق العارف حينئذ بالحقيقة المحمديّة ويقول كما قال: (لو احتجب عنّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفة عين لا أعددت نفسي من المسلمين), وقال غيره: (لو غاب عنّي ساعة متّ في الحين), وأقوال من كشف لهم عن حقيقة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم أمثال هذا كثيرة, وقد لوحت في بعض من حقيقته في هذه الأبيات:
 
حيّر لي بالي أقطب لجمالي *** عين الكمال هو المرام
سرّ الحياة نور الصفات *** حصن النجاة دار السلام
سرّ الحقيقة معنى الطريقة *** العروة الوثيقة بلا انفصام
كنز المعاني سرّ الأواني *** روح الأكوان قلت نعم
أحمد محمد في الحسن آخر *** جمع الفوائد نور القدم
قدر عظيم سرّ عميم *** برّ رحيم على الدوام
ثمّ معان دون اللسان *** يخفي جناني غير الكلام
صلّ عليه واجمعني به *** جمعا بديه بلا أوهام

ثمّ اعلم أنّ من كشف له عن هذه الحقيقة ينبغي له من الأدب ما لا يحصى, وأدبها معلوم عند القوم, وقد يقع الفناء لبعض المريدين في هذه الحضرة حتى يصير يتكلّم على لسان صاحبها عليه الصلاة والسلام كما وقع لأغلب العارفين, وذلك لمحوهم فيها, وكلّما زاد العارف رسوخا في هذه الحضرة إلاّ ازداد قربا من الله حتى يصير دعاؤه لا يرد بالإضافة لصاحبها, ولهذا ينبغي للعارف إذا تمكّن من هذا المقام لا يمل من دعاء الخير ما استطاع وهذه زيارة المصطفى عند العارفين على مقتضى هذا الطريق, فهي كشف عن حقيقته, ويعبّر القوم عن هذه الحالة ببقاء البقاء المتصف بها أكمل من غيره, لأنّه راسخ القدم جامع بين الصحو والاصطلام, وينبغي للعارف أن لا يخرج من الحضرات الثلاث, فيكون بصره في الحضرة المحمديّة, وبصيرته في الحضرة الواحديّة, وسرّه للحضرة الأحديّة, كما يكون ظاهره للشريعة وروحه للطريقة وسرّه للحقيقة, وإذا تحقّق بالحقيقة المحمديّة يكتفي عن الالتفات لغيرها لاجتماع العوالم فيها من حيث ظاهرها وباطنها, فمن عرف الحقيقة المحمديّة استغنى بنظره عما سواها: (من يطع الرسول فقد أطاع الله / النساء آية / 80), (مرج البحرين يلتقيان, بينهما برزخ لا يبغيان / الرحمن آية / 19, 20), وهما ضدّان لا يجتمعان أي الحدوث والقدم, ولفظ الرسول في قول محمد رسول الله واسطة بين الحدوث والقدم وهو البرزخ الحاجز بين مرج البحرين لمناسبة الوجهين, فمن حيث ظاهره نقطة من طين ومن حيث باطنه خليفة ربّ العالمين, فبقولنا محمد رسول الله حصلت المعنى وضابطها لفظ الرسول فلو حذفته اختلفت المعنى أي فيتلاقى الحادث وهو قولنا محمد مع القديم, وهو قولنا الله فيتلاشى الحادث ويبقى القديم, لكن لا يمكن القيام بآداب الحضرات إلاّ بقولنا محمد رسول الله, والوقوف مع كلّ اسم بمقتضاه, فمقتضى اسم محمد من العارف أن يعبد الله ومقتضى اسم الرسول أن يحضره, ويخشاه ومقتضى اسم الله أن يشاهده ويراه, فمبادئ الفهم عن الله هو تصفية البواطن, وتصحيح الأحوال المعبّر عنها بالتصوّف, وهنا عاد المدد إلى أصله حيث إنّ لله الأمر من قبل ومن بعد.



fr.calameo.com/read/0041679440010caa9c325

تعليقات