أبو بكر سيراج الدين (مارتين لينقز)

مارتن  لينقز أو
الشيخ أبو بكر سيراج الدين, من بريطانيا. كان مدير معهد المخطوطات العربية سابقاً بلندن, وكان قريباً من الشيخ عبد الواحد يحيى بالقاهرة وكان أحد الممثلين لطريقة الشيخ عيسى نور الدين أحمد (فريتجوف شوان).

كتبه :
*"ولي صالح  مسلم في القرن العشرين" ساهم كثيراً في التعريف بالشيخ العلوي بالغرب.
*"ما هو التصوف ؟" 

توفي في صباح الخميس الموافق الثاني عشر من مايو 2005 عن عمر ناهز 96 سنة بمنزله بمقاطعة ‏(كنت‏)‏ بانجلترا‏,‏ ودفن في حديقة بيته بعد أن عاش يرعاها محبا للأزهار والجمال‏,‏ وهي الحديقة التي تطل علي الريف المترامي حولها‏,‏ وهو الشيخ‏ (‏مارتن لينجز‏)‏ ـ والذي تسمي بعد ذلك بـ‏(‏ أبي بكر سراج الدين‏)‏ ـ وولد في‏ (‏لانكشير‏)‏ في يناير‏1909‏ من أسرة بروتستانتية‏,‏ من والدين أحباه كثيرا‏,‏ ورأيا فيه النباهة‏,‏ بل والولاية من الصغر‏,‏ فلم يعترضا عليه في شيء طوال حياته حتي من الله عليه بالإسلام‏.‏

أمضي طفولته المبكرة في أمريكا حيث كان يعمل والده‏,‏ وعندما عاد إلي بريطانيا التحق بكليته‏(‏ كليفتون‏)‏ حيث ظهرت عليه مواهب القيادة‏,‏ ثم انتقل إلي ‏(‏ أكسفورد‏)‏ لدراسة اللغة الإنجليزية علي يد ‏(c.slewis)‏ عام ‏1935 ‏ والذي رأي فيه نابها ينبغي أن يصاحبه ثم درس في ليتوانيا الأدب الإنجليزي‏,‏ وكان من أصدقاء مارتن لينجز اثنان علي نفس روحه الطواقة لمعرفة الحق‏,‏ والبحث عن الحقيقة أحدهما ‏(‏ باترسن‏)‏ ـ والذي أسلم بعد ذلك وأسمي نفسه ‏(‏ الشيخ حسين‏)‏ ودفن بمقابر المماليك بالقاهرة ـ والآخر أسلم بطريق آخر وأسمي نفسه ‏(‏ الشيخ داود‏)‏ ومات في إنجلترا ـ سافر باترسن إلي الصين بحثا عن الحقيقة في‏(‏ الكونفوشيوسية‏)‏ وأراد ‏(‏ مارتن لينجز‏)‏ الذهاب إلي الهند بعد أن غير مذهبه إلي‏(‏ الكاثوليكية‏)‏ فلم يجد مراده‏,‏ ففكر في الهندوسية وأثناء السفر إلي الهند عن طريق القاهرة سنة ‏1940‏ التقي بالمفكر الفرنسي المسلم ‏(‏ رينيه جينو‏)‏ ـ وهو الشيخ عبد الواحد يحيي الذي توفي سنة‏1950‏ ودفن بالقاهرة بجوار الشيخ حسين المذكور‏,‏ وأولاده مازالوا بها حتي الآن نفع الله بهم ـ فوجد ما أراده فيه فأسلم ورجع باترسن إلي مصر وأسلم وعمل في جامعة القاهرة ـ فؤاد الأول حينئذ ـ وتوفي في حادث فروسية‏.‏

تزوج مارتن لينجز من السيدة‏ (‏ليزلي سمولي‏)‏ سنة ‏1944‏ وهي التي أسلمت أيضا‏,‏ وأسمت نفسها‏ (‏رابعة‏)‏ وهي تعيش الآن في هذا المنزل الريفي‏, (‏بكنت‏)‏ بعد رحيل شريك العمر‏,‏ والتي اتفقت مع أفكاره طوال الستين عام الأخيرة‏.‏

وكان وهو في القاهرة يسكن بجوار الهرم في قرية نزلة السمان‏,‏ وظل في القاهرة حتي سنة‏1952,‏ وكان يفصل جلبابه الذي حرص علي ارتدائه دائما عند الحاج عاشور في مدخل خان الخليلي‏,‏ وكان الحاج عاشور من أولياء الله الصالحين رحمهم الله جميعا‏.‏

كان‏ (‏مارتن لينجز‏)‏ يود لو أمضي حياته في مصر ما لم تتدخل أحداث السياسة‏,‏ فقد أعقبت ثورة‏1952‏ مظاهرات معادية للبريطانيين‏,‏ قتل فيها ثلاثة من زملائه في الجامعة‏,‏ وجري تسريح الأساتذة الإنجليز من الجامعة‏,‏ وكانت عودته إلي لندن عام‏1952‏ مشوبة بالصعاب‏,‏ فقد كانت المنافسة الأكاديمية تستلزم ما يربو علي مجرد التدريس في ليتوانيا ومصر‏,‏ وكان الحل الوحيد هو التقدم لنيل الدكتوراه‏,‏ ونشر له في ذلك الحين كتاب كان قد كتبه في مصر وهو ‏(‏ كتاب اليقين‏,‏ المذهب الصوفي في الإيمان والكشف والعرفان‏)‏ وكان عليه أن يحصل علي ليسانس في اللغة العربية‏,‏ ثم حصل بعده علي الدكتوراه‏,‏ وكان موضوعها‏ (‏الشيخ أحمد العلوي‏)‏ ونشرت بعنوان ‏(‏ولي صوفي من القرن العشرين‏)‏ وقد كان من أعمق كتبه أثرا بوصفه منظورا فريدا للروحانية الإسلامية من داخلها‏,‏ وعمل‏ (‏ لينجز‏)‏ عام ‏1955 بالمتحف البريطاني‏,‏ وهو الأمر الذي أدي إلي لفت انتباهه إلي الخط القرآني وتبلور في كتابه‏(‏ الفن القرآني في الخط والتذهيب‏)‏ وقد توافق صدوره مع قيام مؤسسة مهرجان العالم الإسلامي عام‏1976.‏

وقضي ‏(‏لينجز‏)‏ الثلاثين عاما التالية في كتابات لجمهوره الذي كان يزداد‏,‏ وقد كان أحد كتبه العديدة مبنيا علي رسالته لنيل الماجستير‏,‏ وصدر بعنوان ‏( محمد رسول الله وحياته من أقدم المراجع‏)‏ عام‏1973‏ ثم كتاب ‏( شكسبير في ضوء الفنون التقديسية‏)‏ عام ‏1966‏ والذي أعيدت طباعته عام‏ 1984‏ بمقدمة للأمير ولي العهد أمير‏(‏ ويلز‏)‏ بعنوان‏(‏ سر شكسبير‏),‏ حيث يعرض للأصول التراثية في أعمال شكسبير في التراث الأفلاطوني والمدرسي‏,‏ وكتابه عن ‏(‏الفن القرآني في الخط والتذهيب‏)‏ عام ‏1976,‏ والذي أعيدت طباعته عام‏ 2004‏ بعنوان‏ (‏روائع فن الخط والتذهيب القرآني‏),‏ وقد كان خاتمة أعماله ‏(مكة‏;‏ تاريخ المدينة المقدسة من عصر ما قبل الإبراهيمية حتي اليوم‏)‏ والذي نشر عام‏2004.‏

وكان للقاء‏(‏ لينجز‏)‏ بـ‏(‏ رينيه جينو‏)‏ عظيم الأثر في ظهور أنوار الهداية التي اجتمعت فيما عرف‏(‏ بمدرسة التراث‏),‏ وقد كان من أحد نتائجها الحاسمة‏;‏ نقد العالم الحديث في تضخمه المادي‏,‏ واكتشاف الحكمة التي تربعت في قلب كل الأديان‏,‏ سواء أكانت الزرادشتية أو البوذية أو الهندوسية‏,‏ ثم اليهودية والمسيحية والإسلام‏,‏ تلك الحكمة التي هي النور الفطري الذي خلقه الله في قلوب الناس‏,‏ والذي منه يمكن دعوتهم إلي الحق‏..‏ قال تعالي‏:(‏ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏)[‏ الروم‏:30]‏ قد عاش في نور تلك الهداية حتي نهاية حياته المباركة‏.‏

ولقد أسلم‏(‏ مارتن لينجز‏)‏ علي يد الشيخ عيسي نور الدين سويسريا الذي أسلم علي ولي الله أحمد العلوي المستغانمي الجزائري‏,‏ وطريقته قائمة إلي الآن في مستغانم بالجزائر‏,‏ وكتبه مطبوعة منتشرة‏.‏

وكان لـ‏(‏لينجز‏)‏ اهتمام بالغ برمزية الألوان ودلالاتها وتطورها عند المسلمين‏,‏ كتب يقول في كتابه‏(‏ روائع فن الخط والتذهيب القرآني‏):‏ أعطي اللون الأزرق أسبقية واضحة علي الأخضر والأحمر‏,‏ وسرعان ما ارتفع إلي منزلة مساوية للون الذهبي في المشرق‏,‏ بينما في المغرب كان الأزرق يأتي في المرتبة الثانية‏,‏ وبقيت للون الذهبي صدارته الأصلية‏.‏ إن أهمية هذين اللونين يمكن تقديرها من واقع أن أية أصباغ تضاف إنما تأتي في أغلب الأحوال في دور ثانوي‏.‏ زد علي ذلك‏,‏ أن المرء يجد في جميع الطرز والفترات التاريخية تقريبا أمثلة لمصحف يعتمد فيه بشكل مطلق علي الأزرق والذهبي‏,‏ وهذا الإطلاق نفسه قد يكون ملحوظا في صفحات أي مصحف كان‏,‏ حتي إن جاء تذهيبه بألوان عديدة في صفحات أخري‏.‏

إن الأزرق هو لون اللامتناهي‏,‏ وهو يتطابق مع الرحمة‏,‏ إذ إن‏(‏ رحمتي وسعت كل شيء‏)[‏ الأعراف‏:156].‏ فأعظم رمز لهذه اللانهائية هو السماء المحيطة بالكل‏,‏ أما الاسم الإلهي لها فهو الرحمن‏,‏ وهو أول أسماء الرحمة‏,‏ والوحي يعبر عن الجذور الجوهرية للرحمة‏.‏

إذا كان الأزرق يحرر بواسطة اللانهائية‏,‏ فالذهبي مثله في ذلك مثل الشمس‏,‏ يحرر لكونه رمزا للروح‏,‏ فهو بالتالي يتعالي عن كل عالم الصور‏.‏ إن اللون الذهبي‏,‏ من ذات طبيعته‏,(‏ يفلت‏)‏ من قيد الصور إلي درجة أن الخطاط الذي يكتب باللون الذهبي عليه أن يخطط حواف كتابته باللون الأسود حتي يعطيها الأثر الفعال من الناحية الصورية‏,‏ ولكونه لون النور‏,‏ فإن الذهبي‏,‏ مثله في ذلك مثل الأصفر‏,‏ وهو رمز ذو صلة جوهرية بالعلم‏.‏ خارجيا‏,‏ هو يعني التدريس والظهور‏(‏ أو التجلي‏).‏ أما الأزرق في حضور الذهبي فهو يعني أن الرحمة ميالة إلي الكشف عن ذاتها‏.‏

وما ذكر قليل من كثير عن‏(‏ مارتن لينجز‏)‏ وأعماله التي كان لها وسيبقي ذلك المغزي العميق في عالم مضطرب‏,‏ إلا أن شخصيته هي التي أثرت علي الذين عرفوه‏,‏ بمن فيهم كثير من الشباب الذين كانوا يسعون إليه في المشورة الروحية‏,‏ وهذا أيضا سوف يستمر معهم طوال حياتهم في خوفهم من ألا يجدوا له مثيلا‏.‏ رحمه الله رحمة واسعة ورزق الأمة أمثاله‏.‏ آمين‏.‏

إننا في حاجة إلي دراسة أولئك الأعلام‏,‏ الذين أسلموا‏,‏ دراسة علمية تؤكد عالمية ذلك الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان‏.‏


رحيل الشيخ أبي بكر سراج الدين
بقلم‏:‏ د‏.‏ علي جمعة

تعليقات