محمد المهدي بن تونس

يمثل الشيخ المهدي الشخصية الفذة والوحيدة التي استطاعت بها رسالة الشيخ العلاوي من الاستمرار والاتساع والتواصل. هذا بالرغم من الظروف القاسية وفي زمان ومكان غلبت عليه الحروب,وامتلأت بالحقد والكراهية ورفض الآخر وفي بيئة بدأت تنسلخ عن القيم الأصلية للإسلام. 

لقد عايش الشيخ المهدي مرحلة مؤلمة من تاريخ الجزائر وذلك أثناء ثورة التحرير كما عايش فترة الاستقلال التي كانت أكثر مأساة بالنسبة له من حرب التحرير. إن أشد ما عاناه ظهور دكتاتورية الرأي التي سادت النظام الاشتراكي الذي اتخذته الجزائر منهجا لها.

كان شاهدا على فترتين: الثورة والاستقلال، وكانت شجاعته وحبه للحقيقة، واندفاعه القوي بينما كان يصمت الآخر ليعلن دائما ما يراه صوابا ولو كلفه ذالك الشيء الكثير.

لقد كرس حياته في خدمة الله وخدمة الناس وخدمة النسبة، وقد ضحى في سبيل ذالك أكبر تضحية إلى أن لاقى ربه وهو في السابعة والأربعين من عمره أنه شهيد الرسالة والفكرة المثالية للتربية الروحية التي كرس لها حياته.

كان الشيخ رحمه الله محبوبا من كل من عرفه لأنه كان محبا للجميع وخاصة الشعب الجزائري الذي خدمه ودافع عنه كما دافع عن القيم الإسلامية، وكم كان يهتم بالحفاظ على التعاليم الإسلامية والميراث الروحي المقدس، لأنه كان يخاف عليه من الإتلاف في زمن يخشى فيه من فقدان الهوية.

وتعتبر فترة التسعينات ذات العشرية السوداء. برهانا على حسن رؤياه و توقعاته. سلك الوطن منذ الاستقلال نظام الحزب الواحد وبالتالي الفكر الواحد، و الكلمة الواحدة، و استعلمت السلطة لتنفيذ كل ذالك. فاحتكروا الفكر والحديث السلطوي الذي كان من نتيجته حمل بذرة العنف التي أدت إلى حافة الانهيار لأن احتكار الفكرة الواحدة والكلمة الواحدة وتجاهل الغير يؤدي حتما إلى افتقارهما وعقمهما وتأخرهما، بينما نجد أن الخصوبة في التنوع والانسجام لما فيهما من إثراء وغنى.

لقد كان لتعاليمه الروحية الأثر البالغ في دفع الرجال والنساء إلى تخطي أنفسهم، والرفع من هممهم إلى درجة التضحية. كان من أهم انشغالات الشيخ زرع الأمل ومساعدة الناس ليستجيبوا للمصالحة مصالحة القلوب أكثر من مصالحة الأفكار. 

فالهدف من الاحتفال بذكراه أداة إبراز ورقة ناصعة للتاريخ الحقيقي من أجل جزائر سليمة، سعيدة، متآخية في مجتمع يسوده الاحترام وتقبل الآخرين وتبادل الآراء وبالتالي كانت تضحيته الذاتية في سبيل هذه المعاني.

إن مصير هذا الرجل المضحي المناضل الشاهد على تكلم الفترة يجب أن يكون درسا مثاليا كي يتفادى الشعب المتاعب والمعاناة إلى غير رجعة. إن قيامه بواجبه الروحي يهدف إلى التخفيف عن الآخرين، ولابد أن يبقى ذالك نموذجا في أذهاننا وأملا في الحياة، وبالتالي يجب وصف هذا الر جل وما كان يمثله، وهذا ليس بالشيء الهين.

شـبـابــه
ولد الشيخ يوم 26 فبراير 1928 وكان ذالك حدثا عظيما عند الشيخ العلاوي الذي كان يرى فيه الشخصية القوية الصالحة لتسيير الطريقة روحيا. وهذا الميلاد ثمرة اقتران حفيدة الشيخ العلاوي لالا خيرة بالشيخ عدة بن تونس المتوفي 1952. وبهذه المناسبة أقام الشيخ العلاوي حفلا كبيرا حظره الكثير من المدعوين وشرع في الاعتناء بالوليد الجديد وخصه بتربية مميزة طيلة الست سنوات الأولى من عمره. 

إن أهم ما يميز الشيخ المهدي ذاكرته القوية وذكاؤه المميز، وقد تلا بعض السور وهو ابن ست بحضور الشيخ العلاوي، وما بلغ الحادية عشر حتى حفظ القرآن كله وكان الشيخ العلاوي قد توفي قبل ذالك الوقت ومكافأة له على ذالك الحفظ أخده الشيخ الحاج عدة خليفة الشيخ العلاوي إلى الحج 1939 خاصة وأنه صلى بالناس التراويح خلال شهر رمضان.

ومن أهم صفات الحاج المهدي روحه الواعية المتوثبة، ونظرته اليقظة الذكية، كان رفيقا بالناس متسامحا، كرس نفسه لخدمة مواطنيه عن طريق الحوار والوقار والبسمة المميزة له، مما جعل الغير ينبهر بهذه الشخصية، وهذا راجع إلى التربية الخاصة التي غرست فيه بذور الرحمة والخير. 

كان محبا لاستخدام الدراجة والدراجة النارية وركوب الخيل والسباحة، كان يحب الميكانيك، وهو السائق المفضل للشيخ عدة، وهو الذي رافقه في كل سفرياته. وكان الحوار يجري مع والده بحيوية وخاصة أن الشيخ ( سيدي عدة ) احترم هوايته، فواجه ذالك بسماحة ولطافة مع توجيه سليم نحو الموقف الملائم عن طريق النصح لا الأمر، لأن الشيخ عدة كان يعلم رغبة ابنه وهو في طور الشباب فلذالك لم يستعمل معه الخشونة والهجوم، وذالك ليهيأه لتحمل الأعباء التي تنتظره.

الـمـرشـد الـروحـي
تولى الشيخ المهدي شؤون الطريقة العلاوية بعد وفاة والده الشيخ الحاج عدة بالإجماع، لأن الكل قد رأى فيه الوارث الكفء للميراث العلاوي حتى أولئك الذين كانوا قد عارضوا الشيخ عدة من قبل. كان الشيخ المهدي كبير الطموح وبالرغم من أن الوطن قد تعرض أثناء خلافته لأحداث جسام ومشاكل كبيرة، وقف الشيخ المهدي صامدا محافظا على الرصيد الروحي وحارسا أمينا له.

إن ما أنشأ من مشاريع تشير إلى أنه سابق لزمانه، فهو الذي رسم البعد الجغرافي العالمي للطريقة دون المساس بأصالتها أو حتى المظهر الخارجي لها، وبفضله تحقق الكثير من الغربيين وساروا إلى طريقة المعرفة فقد خرج بالتربية الروحية من مجال العقائدي الضيق النخبوي إلى تربية روحية في متناول الجميع.

وطـنـيـتــه
كان الحاج المهدي رحمه الله قد تغذى بالإيمان الديني وبالعاطفة الداعية للكفاح عن قضية تحرير وطنه، وهذان نابعان من يقينه وعاطفته الوطنية، فرافق مند صغره الوطنيين بشكل دائم لكن دون الابتعاد عن عائلته ومؤيديه من الجزائريين أو من جنسيات أخرى ودوره في هذه الحرب لم يكن ضد الشعب الفرنسي ولكن ضد النظام الاستعماري لمحو الظلم الذي انصب على الشعب الجزائري وليسترجع كرامته وسيادته ومن العجيب أن شيخنا أخفى أعماله ومشاركته في الثورة واكتفى بقوله: "إنما قمت به فهو من واجبي نحو الله والوطن". وظهر أخيرا من بعض شهادات المواطنين أنه شارك في مختلف الشبكات التابعة لثورة التحرير تحت أسماء مستعارة أشهرها (سي رضوان).

بعد الاستقلال (إعـتـقـالــه)
اتخذت الجزائر نظام الاشتراكية ذات الحكم الواحد المطلق، ولم تقبل الفئة الحاكمة نظاما آخر، وهذا النظام دكتاتوري الطبع يلغي الغير والحاج المهدي محب للوضوح والصراحة والشفافية، فلم يعارض الاشتراكية كنظام ولكنه رفض طريقة نهجها وتسييرها لنتائجها الوخيمة على الوطن. ولم يصمت على ذالك فضحى براحة باله، أخذ ينشط لإصلاح ما يمكن ولكنه لم يقدر حق قدره:

*اقترح تكوين النادي الفكري من أجل معالجة قضايا الوطن.
*بنى مسجدا ومركزا طبيا في حي تجديت.
*أحضر طبيبا جزائريا ليسير المصالح الطبية في مستشفى مستغانم.
*اتصل بشخصيات هامة من جمعية العلماء الإصلاح ذات البين وإزالة الخلاف مع الزوايا.
*كان يطمح لتأسيس جامعة ومعهد لتعليم القرآن لأنه محب عظيم للقرآن ماهر فيه ومفسر له.
*مساعد المحتاجين والضعفاء بتوزيع الحبوب من حقول الزاوية زارعا فيهم الأمل.
*كون جمعية الشبيبة الإسلامية العلاوية التي من أهدافها التربية الروحية للشباب.

كان لهذه الإنجازات و النشاطات أثر في أثارة النظام القائم الذي لم يتركه فبدأ يتآمر على الشيخ عن طريق التهم الكاذبة وتشويه سمعنه عند الناس وأخيرا قام بحملة دعائية ليبرز اعتقاله فنفي إلى جيجل 1970 ثم قاموا بحجز ممتلكات الزاوية من وثائق وأشياء أخرى كتأميم المسجد العلاوي. وهذا أثر في نفس الشيخ وأرهقه جسديا ومعنويا.

نظام بهيله و هيلمانه وقف ضد رجل عيبه الوحيد هو أنه أحب وطنه ودينه ومع ذالك زاول نشاطه بعد أن أطلق سراحه.

وأخيرا توفي رحمه الله شهيدا في سبيل مبدئه و شاهدا على فترة من الزمن عانى منها الجزائريون كثيرا.

الــرجــل
شخصية الشيخ المهدي الظاهرية قوية، صارمة التقاطيع شخصية تبدوا قاسية ولكن داخليته رؤوفة بالضعفاء، عاشقة الخير، يحب الصيادين وعمال الميناء، والبسطاء، يخالط الناس بمحبة صادقة، ونفس كريمة معطاءة. لقد جعل من الزاوية في مستغانم مركزا لاستقبال الفقراء من القرى ورغم هذه المسؤولية الكبيرة ينظم وقته لاستقبال كل من زاره. كان متفتح الفكر، مجددا، ذا نظر ثاقب ونظرة قوية، لا تستطيع أي شخصية أن تتحمل النظر إلى عينه البراقتين. هذا الرجل الذي كان يمثل همزة وصل بين الغرب والشرق سلم روحه لبارئها في سن بلغت 47 سنة يوم 24 أفريل 1975. نسأل الله أن يتغمده برحمته وأن ينزل عليه شآبيب عطفه وإحسانه إنه سميع مجيب.

وقد قام مجموعة من الفقراء العلاويين بمدينة برج بوعريريج التي تقع شرق الجزائر العاصمة وعلى رأسهم مقدم الطريقة العلاوية هناك بجمع بعض الدروس والخطب التي تركها في كتب، وهي قيد الطبابة الآن نذكر منها :
1- القول المجدي من كلام سيدي محمد المهدي.
2-مواعظ أهل الرشاد في خطب الجمع والأعياد.

تعليقات