الشيخ العلوي للحاج أحمد الردايده

إنّ الأشراف من آل بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هم القمّة العليا للإقتداء بهم أينما كانوا وحيثما حلّوا بنسبتهم ‏لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهم أهل الميراث المحمّديّ من أهل الولاية الكاملة لهم شأن عند الله عالي المقام، ‏وأقلّ أنصافا لهم هو أن نكتب في سيرتهم وآثارهم حتى تبقى بها الحياة سارية، وتنتفع بمطالعتها وتغرف من نبعها ‏الأجيال المؤمنة الصالحة، لتتخذها أنموذجا ومنهاج سلوك في حياتهم من قول وعمل، ولقد وفقني الله أن أبحث في ‏سيرة واحد منهم هو الشريف السنيّ (الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة – العلوي -) وهو من المشايخ الأعلام ‏في الطريقة (العلويّة الدرقاويّة الشاذليّة) رحمة الله عليهم أجمعين.‏

إنّ ما دفعني للكتابة في بسيرته العطرة أنّه يعتبر من المجدّدين لهذا الدين الحنيف في القرن التاسع عشر لنعيد إلى ‏القارئ والسامع معا دررا يتيمة من الجواهر المطويّة في التصوّف الإسلاميّ، ولم يصدر له أيّة مؤلفات في أقطار ‏الشرق الأوسط سوى (ديوانه) وكلّه توجيه وثناء على الله ومديح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.‏

تجد الواحد من الداعين إلى الله يلاقي شبه ما لاقى النبيّ من قومه أسوة حسنة ليبقى الحدّ لمحدوده، ويعلم المرشد ‏حكم الله في الإرشاد قبل الإقدام عليه فلا يتحمّل أعباء التبليغ إلاّ من استطاع إليه، ولن يستطيع إلاّ من أيّده الله ‏بنصره (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه / التوبة آية / 33)، فجاء ذلك طبقا لما ‏أخبر به التنزيل ورسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وحزبه، وعلى كلّ من بثّ شرعه وعزّره ونصره ‏من بعده، حيث إنّه من المقررات الشرعيّة، والمستحسنات الطبيعيّة أن لا يخذل المؤمن أخاه وهو قادر على ‏نصرته، لما في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه) رواه البخاري في صحيحه، والترمذي ‏والنسائي في سننهما، ولهذا فلا يجوز أذيّة المؤمن، أو تشويه عرضه، أو تنقيصه، أو الحطّ من قدره وكرامته، ‏حيث إنّه على العموم، إمّا: أن يكون عفيفا شريفا، أو منتسبا لله، أو حاملا لكتاب الله، أو عالما بأحكام الله، أو ‏‏……. أو ……، ولهذا يكون لزاما على المؤمن المحسن أن يظهر من قلب الإضمار معتقدات بعض السادة ‏الأخيار والعلماء الأبرار.‏

إنّه لمّا انطلقت الألسن في أعراض أهل الله وتشعّبت في مسلكهم الظنون بين مادح وقادح، وذلك بما تمّ نشره في ‏بعض الكتب، أو بعض الصحف السيّارة التي تعتمد بعض الأخبار الزائفة، فتنشرها قبل التثّبت، ودون أن تراعي ‏ما يتضمّنه صريح التنزيه (يا أيّها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ‏ما فعلتم نادمين/ الحجرات آية/ 6)، إلى أن شاع شبه ذلك، وذاع ما يشين ويهين الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، ‏الأمر الذي حطّهم عن دائرة الإسلام والمسلمين ظنّا منهم أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره، ‏ولو كره المغرضون، أظهر الله في هذا الكون نجما جديدا ساطعا في أنواره المتجدّدة، ولاح سلطان الحقّ في ‏الأرض، ليدفع عن المسلمين بعامّة، وأهل الذكر بخاصّة ما لحق بهم من الأذى والإنكار، فنهض نهضة الرجال ‏الموصوفين من قبل الحقّ في قرآنه المنزل، وأطلق زئيره كالأسد في ملكه الأجمّ يصول ويجول، ويمنع المخاطر ‏والمهالك عن كلّ من ناله الأذى في عصره حتى أصبح ذكره حديثا في كلّ المجالس، فلم يمنعه العقل عن ‏المناظرة، ولم يمنعه القلم عن الكتابة بشتى أنواع العلوم: كونيّة أو ربانيّة وفي المجالات كافة في الكتب، ‏الصحف، والمجلات، فأخرج من جواهر العلوم الغيبيّة، وسطرّها موثّقة في عالم الخليقة، ليقارع بها المنكر، ‏وينير الطريق لكلّ متشكّك وحائر، يبحث عن الحقيقة، وينشد أهلها، ويسلك الطرق المؤدية إليها، ذلك هو هذا ‏العالم الجليل قدس الله سرّه والذي نحن بمجال ذكره، وإنّ مخطوطاته وبعض مؤلفاته رضي الله عنه والتي تكاد ‏تكون مندرسة الآن زاخرة مشيّدة موسوعة من العلوم الربانيّة والذوقيّة والتشريعيّة والكونيّة، حيث كانت له ناحية ‏من الاستغراق في عالم الجبروت، وتأملات كثيرة جدا ونظرات ثاقبة، ومشاهدات كماليّة في بطون الأشياء، ‏وأفنى جلّ عمره في الدعوة إلى الله، والدفاع عن دين الله بكلّ ما أعطاه الله من القوّة، وأمدّه من علمه الغيبيّ ‏المتدفق، الدائرة بمحلّه بسرعة، لتروي العطشان وتحيى القلوب والأرواح، وتبعث الحياة في الكائنات من جديد، ‏فتعانقت الأحبّة، والتفت من حوله تغرف من بحر فيضه المهدار، وتنهل من عطائه السلوكيّ ذي التربية الفريدة ‏العالية التي توصل العبد إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فكم من منكر تاب وعاد لدينه، وكم من ماجن انتابه البكاء ‏والندم في حضرته، وكم من محيّر دهريّ وجد ضالته المنشودة وعاد وأدرك بعد طول الغياب، وكم من مناقش ‏أقيمت عليه الحجّة البالغة، وكم من عابر سبيل وجد الملاذ الآمن والحمى المصون فأقدم مشوّقا يهزّه الطرب ‏والفرح المشوبان بالنشوة صوب الخالق سبحانه وتعالى.‏

لقد كتب في المسائل الفقهيّة الكثيرة، وشرح منظومات للأولياء الصالحين بشرح عجيب يستحق أن يقف عنده ‏الإنسان طويلا ويتأمّله، وردّ على المعترضين قولا وكتابة، وناظر الملحدين والمنكرين، ودعا إلى الله في حلّه ‏وترحاله، وكتب في علم الفلك، حيث سلك مسالك العلماء التابعين من الأمّة المحمديّة في هذا المضمار، وكذلك ‏عمل على شرح كثير من السور والآيات في القرآن الكريم، كما كتب في الفلسفة والفكر الإسلاميّ وردّ على من ‏كانوا في زمنه من هذه الفئات من الفلاسفة والمفكرين، ولقد انتشرت زواياه في غالب البلاد في زمنه، وغصّت ‏هذه الزوايا بالذاكرين الله كثيرا، وكان محاورا ذكيّا فطنا له فراسة المؤمن، وهي من آثار النبوّة حيث إنّ الله ‏أسعفه بالفكرة، وملكة الجمال العلميّ والفكريّ حتى كان درّة مضيئة لجنبات أرض الإسلام. إنّه بحقّ من رجال ‏الوقت صاحب غوثيّة قطب ربانيّ فريد في زمنه، ملأ الدنيا حلما وعلما، فكم من مستشرق أسلم على يديه، وكم ‏من طبيب عاد إلى الله بالتوحيد بعد انبلاج الحجّة وظهور الحقيقة، وكم من الموشحات والمدائح الربانيّة والنبويّة ‏قد ملأت ديوانه الشاهد على ذلك للآن، لقد تكلّم به بكلام طري ندي يأسر القلوب على اختلاف أنواعها وأشكالها.‏

كم من العلماء والصالحين كتب إليهم وكتبوا إليه وكم له من المسائل التي لا تعدّ ولا تحصى والتي أفتى فيها بكلام ‏يدلّ على سعة الفكرة وبعد النظرة واغتراف اللؤلؤ والياقوت الثمين من قاع بحار التوحيد مقتفيا آثار وخطى جدّه ‏رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه شريف سنيّ حسنيّ.‏

وكلّهم من رسول الله مقتبس *** غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم

اتصف بالوفاء وحفظ العهد والذمّة لشيخه (محمد بن الحبيب البوزيدي) قدّس الله أسرّارهما، فقد حزن عليه حزنا ‏شديدا عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى، وبكاه بكاء مرّا بدل الدموع دما، وقال في حقه في مرثيّة رائعة التي ‏رثى بها شيخه رضي الله عنهما أجمعين

إنّه رضي الله عنه من المجدّدين لهذا الدين الحنيف، حيث قيل (يبعث الله على رأس كلّ قرن لهذا الدين من ‏يجدّده)، رحم الله شيخنا المفضال وأشياخه، وأهل عثرته، وأتباعه، وسالكي سبيله، والشاربين من بحره وفيضه، ‏راجين من الله القبول للجميع، وأن يحشر كلّ من انضوى تحت لواء الذكر في زمرة رسول الله صلّى الله عليه ‏وسلّم في مقعد صدق عند مليك مقتدر آمين يا رب العالمين، وإنّ الذي يقرأ سيرته يستشعر حقيقة بأنّه يطالع آثارا ‏خالدة عظيمة لرجل أدّى دوره في الحياة على أكمل وجه قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى راضيا مرضيّا، لأنّه أفنى ‏عمره كلّه مدافعا ومنافحا عن دين الله، فلقد أدّى رسالته الإرثيّة محتسبا بذلك وجه الله تعالى، بعيدا عن طلب الجاه ‏والسلطان والمغنم، وتشدّ سيرته القارىء، لأنّه يجد كثيرا من الصفات المنقولة عن الصحابة والتابعين وتابعي ‏التابعين رضوان الله عليهم، والذين تحلّوا بها أصلا، فيهنأ لهم العيش أيّام عمرهم المحدودة مشتغلين بالتسبيح ‏والذكر على الدوام، فهم حقيقة خير خلف لخير سلف (كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون ‏عن المنكر وتؤمنون بالله / آل عمران آية / 110).‏


اقتباس من كتاب صفحات مطويّة في التصوّف الإسلامي
للحاج أحمد حسن الردايده‏

تعليقات