إنّ الأشراف من آل بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هم القمّة العليا للإقتداء بهم أينما كانوا وحيثما حلّوا بنسبتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهم أهل الميراث المحمّديّ من أهل الولاية الكاملة لهم شأن عند الله عالي المقام، وأقلّ أنصافا لهم هو أن نكتب في سيرتهم وآثارهم حتى تبقى بها الحياة سارية، وتنتفع بمطالعتها وتغرف من نبعها الأجيال المؤمنة الصالحة، لتتخذها أنموذجا ومنهاج سلوك في حياتهم من قول وعمل، ولقد وفقني الله أن أبحث في سيرة واحد منهم هو الشريف السنيّ (الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة – العلوي -) وهو من المشايخ الأعلام في الطريقة (العلويّة الدرقاويّة الشاذليّة) رحمة الله عليهم أجمعين.
إنّ ما دفعني للكتابة في بسيرته العطرة أنّه يعتبر من المجدّدين لهذا الدين الحنيف في القرن التاسع عشر لنعيد إلى القارئ والسامع معا دررا يتيمة من الجواهر المطويّة في التصوّف الإسلاميّ، ولم يصدر له أيّة مؤلفات في أقطار الشرق الأوسط سوى (ديوانه) وكلّه توجيه وثناء على الله ومديح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
تجد الواحد من الداعين إلى الله يلاقي شبه ما لاقى النبيّ من قومه أسوة حسنة ليبقى الحدّ لمحدوده، ويعلم المرشد حكم الله في الإرشاد قبل الإقدام عليه فلا يتحمّل أعباء التبليغ إلاّ من استطاع إليه، ولن يستطيع إلاّ من أيّده الله بنصره (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه / التوبة آية / 33)، فجاء ذلك طبقا لما أخبر به التنزيل ورسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وحزبه، وعلى كلّ من بثّ شرعه وعزّره ونصره من بعده، حيث إنّه من المقررات الشرعيّة، والمستحسنات الطبيعيّة أن لا يخذل المؤمن أخاه وهو قادر على نصرته، لما في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه) رواه البخاري في صحيحه، والترمذي والنسائي في سننهما، ولهذا فلا يجوز أذيّة المؤمن، أو تشويه عرضه، أو تنقيصه، أو الحطّ من قدره وكرامته، حيث إنّه على العموم، إمّا: أن يكون عفيفا شريفا، أو منتسبا لله، أو حاملا لكتاب الله، أو عالما بأحكام الله، أو ……. أو ……، ولهذا يكون لزاما على المؤمن المحسن أن يظهر من قلب الإضمار معتقدات بعض السادة الأخيار والعلماء الأبرار.
إنّه لمّا انطلقت الألسن في أعراض أهل الله وتشعّبت في مسلكهم الظنون بين مادح وقادح، وذلك بما تمّ نشره في بعض الكتب، أو بعض الصحف السيّارة التي تعتمد بعض الأخبار الزائفة، فتنشرها قبل التثّبت، ودون أن تراعي ما يتضمّنه صريح التنزيه (يا أيّها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين/ الحجرات آية/ 6)، إلى أن شاع شبه ذلك، وذاع ما يشين ويهين الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، الأمر الذي حطّهم عن دائرة الإسلام والمسلمين ظنّا منهم أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره، ولو كره المغرضون، أظهر الله في هذا الكون نجما جديدا ساطعا في أنواره المتجدّدة، ولاح سلطان الحقّ في الأرض، ليدفع عن المسلمين بعامّة، وأهل الذكر بخاصّة ما لحق بهم من الأذى والإنكار، فنهض نهضة الرجال الموصوفين من قبل الحقّ في قرآنه المنزل، وأطلق زئيره كالأسد في ملكه الأجمّ يصول ويجول، ويمنع المخاطر والمهالك عن كلّ من ناله الأذى في عصره حتى أصبح ذكره حديثا في كلّ المجالس، فلم يمنعه العقل عن المناظرة، ولم يمنعه القلم عن الكتابة بشتى أنواع العلوم: كونيّة أو ربانيّة وفي المجالات كافة في الكتب، الصحف، والمجلات، فأخرج من جواهر العلوم الغيبيّة، وسطرّها موثّقة في عالم الخليقة، ليقارع بها المنكر، وينير الطريق لكلّ متشكّك وحائر، يبحث عن الحقيقة، وينشد أهلها، ويسلك الطرق المؤدية إليها، ذلك هو هذا العالم الجليل قدس الله سرّه والذي نحن بمجال ذكره، وإنّ مخطوطاته وبعض مؤلفاته رضي الله عنه والتي تكاد تكون مندرسة الآن زاخرة مشيّدة موسوعة من العلوم الربانيّة والذوقيّة والتشريعيّة والكونيّة، حيث كانت له ناحية من الاستغراق في عالم الجبروت، وتأملات كثيرة جدا ونظرات ثاقبة، ومشاهدات كماليّة في بطون الأشياء، وأفنى جلّ عمره في الدعوة إلى الله، والدفاع عن دين الله بكلّ ما أعطاه الله من القوّة، وأمدّه من علمه الغيبيّ المتدفق، الدائرة بمحلّه بسرعة، لتروي العطشان وتحيى القلوب والأرواح، وتبعث الحياة في الكائنات من جديد، فتعانقت الأحبّة، والتفت من حوله تغرف من بحر فيضه المهدار، وتنهل من عطائه السلوكيّ ذي التربية الفريدة العالية التي توصل العبد إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فكم من منكر تاب وعاد لدينه، وكم من ماجن انتابه البكاء والندم في حضرته، وكم من محيّر دهريّ وجد ضالته المنشودة وعاد وأدرك بعد طول الغياب، وكم من مناقش أقيمت عليه الحجّة البالغة، وكم من عابر سبيل وجد الملاذ الآمن والحمى المصون فأقدم مشوّقا يهزّه الطرب والفرح المشوبان بالنشوة صوب الخالق سبحانه وتعالى.
لقد كتب في المسائل الفقهيّة الكثيرة، وشرح منظومات للأولياء الصالحين بشرح عجيب يستحق أن يقف عنده الإنسان طويلا ويتأمّله، وردّ على المعترضين قولا وكتابة، وناظر الملحدين والمنكرين، ودعا إلى الله في حلّه وترحاله، وكتب في علم الفلك، حيث سلك مسالك العلماء التابعين من الأمّة المحمديّة في هذا المضمار، وكذلك عمل على شرح كثير من السور والآيات في القرآن الكريم، كما كتب في الفلسفة والفكر الإسلاميّ وردّ على من كانوا في زمنه من هذه الفئات من الفلاسفة والمفكرين، ولقد انتشرت زواياه في غالب البلاد في زمنه، وغصّت هذه الزوايا بالذاكرين الله كثيرا، وكان محاورا ذكيّا فطنا له فراسة المؤمن، وهي من آثار النبوّة حيث إنّ الله أسعفه بالفكرة، وملكة الجمال العلميّ والفكريّ حتى كان درّة مضيئة لجنبات أرض الإسلام. إنّه بحقّ من رجال الوقت صاحب غوثيّة قطب ربانيّ فريد في زمنه، ملأ الدنيا حلما وعلما، فكم من مستشرق أسلم على يديه، وكم من طبيب عاد إلى الله بالتوحيد بعد انبلاج الحجّة وظهور الحقيقة، وكم من الموشحات والمدائح الربانيّة والنبويّة قد ملأت ديوانه الشاهد على ذلك للآن، لقد تكلّم به بكلام طري ندي يأسر القلوب على اختلاف أنواعها وأشكالها.
كم من العلماء والصالحين كتب إليهم وكتبوا إليه وكم له من المسائل التي لا تعدّ ولا تحصى والتي أفتى فيها بكلام يدلّ على سعة الفكرة وبعد النظرة واغتراف اللؤلؤ والياقوت الثمين من قاع بحار التوحيد مقتفيا آثار وخطى جدّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه شريف سنيّ حسنيّ.
وكلّهم من رسول الله مقتبس *** غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم
اتصف بالوفاء وحفظ العهد والذمّة لشيخه (محمد بن الحبيب البوزيدي) قدّس الله أسرّارهما، فقد حزن عليه حزنا شديدا عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى، وبكاه بكاء مرّا بدل الدموع دما، وقال في حقه في مرثيّة رائعة التي رثى بها شيخه رضي الله عنهما أجمعين
إنّه رضي الله عنه من المجدّدين لهذا الدين الحنيف، حيث قيل (يبعث الله على رأس كلّ قرن لهذا الدين من يجدّده)، رحم الله شيخنا المفضال وأشياخه، وأهل عثرته، وأتباعه، وسالكي سبيله، والشاربين من بحره وفيضه، راجين من الله القبول للجميع، وأن يحشر كلّ من انضوى تحت لواء الذكر في زمرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مقعد صدق عند مليك مقتدر آمين يا رب العالمين، وإنّ الذي يقرأ سيرته يستشعر حقيقة بأنّه يطالع آثارا خالدة عظيمة لرجل أدّى دوره في الحياة على أكمل وجه قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى راضيا مرضيّا، لأنّه أفنى عمره كلّه مدافعا ومنافحا عن دين الله، فلقد أدّى رسالته الإرثيّة محتسبا بذلك وجه الله تعالى، بعيدا عن طلب الجاه والسلطان والمغنم، وتشدّ سيرته القارىء، لأنّه يجد كثيرا من الصفات المنقولة عن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين رضوان الله عليهم، والذين تحلّوا بها أصلا، فيهنأ لهم العيش أيّام عمرهم المحدودة مشتغلين بالتسبيح والذكر على الدوام، فهم حقيقة خير خلف لخير سلف (كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله / آل عمران آية / 110).
اقتباس من كتاب صفحات مطويّة في التصوّف الإسلامي
للحاج أحمد حسن الردايده
تعليقات
إرسال تعليق