عبد القادر بن قارة مصطفى - الشهائد والفتاوي (1-02)

الشاهد الثاني من القسم الأول في سرد طائفة من شهادات ذوي الهيئات الشرعية والمراتب الدينية الرسمية في كتاب الشهائد والفتاوي.
الشيخ عبد القادر بن قارة مصطفى مفتي الديار المستغانمية, وهو الذي أمَّم جنازة الشيخ العلاوي وصلى عليه.  (1-02)
فيما أجاب به فضيلة المحترم العالم المعظم الشيخ عبد القادر ابن قارة مصطفى 1 مفتي مدينه مستغانم عن السؤال الوارد عليه الذي نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي الكريم
تونس في 2 صفر سنة 1342 هجرية, 1923م
بقية السلف وزهرة الخلف العالم المتضلع الناسك المتورع حضرة الأستاذ الشيخ عبد القادر بن قارة مصطفى المفتي بمدينة مستغانم حرسها الله, سلام عليكم ورحمه الله.
هذا أيها المحترم, فبمناسبة ما لكم من الاطلاع على أهل بلدتكم زيادة على أهمية منصبكم, تعين الرجوع إليكم فيما أهم البعض من إخواننا التونسيين من جهة ما اشتبه من أمر الشيخ السيد أحمد بن عليوة المستغانمي, وبما تتضمنه المعاشرة من حقيقة الاطلاع, هل اتضح عندكم من سيره ما يخل بالشرع الشريف, وهل هو في نظركم ممن يعضد السنة والجماعة, وهل ما جرى على لسانه من الشطحات كان مسبوقا بمثلها, وهل ما اعتاده أتباعه من الرقص بالذكر 2 والتغني بالأشعار, هل هو عندكم مما لا شبهة فيه؟ أفتونا في حقيقة هذا الرجل بأوضح البيان, وأجركم على الله, والجواب ينتظر أداء لواجب الشهادة.
والسلام من خديم العلم محبكم محمد بن عبد الباري الشريف التونسي, لطف الله به أمين.
الجواب:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وصحبه وبعد...
فقد ورد علي مكتوب من بعض العلماء التونسيين وهو السيد محمد بن عبد الباري الشريف التونسي يسالني عن بعض أحوال الشيخ السيد أحمد بن عليوة المستغانمي حيث اشتبه أمره عند البعض ومتعلق السؤال مسائل أربعة:
الأولى منها قوله:
- هل اتضح عندكم من سيره ما يخل بالشرع الشريف؟
فأقول:
- أولا إن هذا الرجل المسؤول عنه السيد أحمد بن السيد مصطفى بن عليوة المستغانمي, هو فينا ذو نسب
3 ومن أسلافه 4 العلماء والصلحاء والفضلاء.
نشا في بلده بين أظهر قومه وتربى في حجر والده وعشيرته, خاملا متدينا مشتغلا بما يعنيه. ولما بلغ مبلغ الرجولية دخل طريق القوم الصوفية رضي الله عنهم, فتردد بين ما شاء الله من أهلها حتى ظفر 5 بقسمته وظهر بحكم وقته 6.
وهو في تدينه مالكي المذهب أشعري العقيدة شاذلي الطريقة, يحضر الجماعة والجمعة ويرغب في الخير ويحب أن يعمل به, ومن كان بهذه المثابة فكيف يكون موردا لهذا السؤال من أصله 7 أو يرمى بسهم الانحراف عن الإسلام وأهله, وقد قال صلى الله عليه وسلم: " مَن صلى صلاتَنا, واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنا, وأكل ذبيحتَنا, فذَاكُمُ المسلمُ له ذِمَّةُ اللهِ, وذِمَّةُ رسولِه, فلا تُخْفِرُوا اللهَ في ذِمَّتِه" رواه البخاري وغيره رضي الله عنهم. كيف وقد احتفت هذه بغيرها 8 من وظائف الدين وسيمات الصالحين والحمد لله رب العالمين.
السؤال الثاني قوله:
- وهل هو في نظركم ممن يعضد السنة والجماعة؟
فأقول:
- جواب هذه المسالة معلوم بما قبلها إذ المراد من تعظيمه العمل بهما والمساعدة عليهما والانضمام إليهما, ومن كان بالأوصاف المذكورة من قبل فهو حقيق إن شاء الله بذلك, وبالله التوفيق, وصلى الله على الحبيب المحبوب الحامد المحمود الشفيع المشفع.
السؤال الثالث قوله:
- وهل ما جرى على لسانه من الشطحات كان من مسبوقا بمثلها؟
فأقول:
أما عين شطحاته
9 فلم أقف عليه, وأما الشطحات في الجملة فهي واردة عن القوم فهو مسبوق بمثلها 10 وليس ببدع منها, وهي عبارة عن كلام يوهم ظاهره خلاف المراد كالمتشابه يصدر منهم حالة غلبة الحال عليهم واستيلاء سلطان المحبة على بواطنهم عندما يشاهدون من جمال محبوبهم فينطقون بحكم الوقت ويعبرون بلسان المشهد ثم إذا تسدل الحال عنهم رجعوا لمقتدى صحوهم وعكفوا في محراب عبوديتهم 11. ويجب على من بلغه شيء من ذلك عن واحد من أهل الله تعالى أن يتثبت 12 ويتربص ولا يبادر بالإنكار والإشاعة على سبيل التشفي النفساني, بل يتأنى ويخلص في نيته ثم يجتمع به بأدب واحترام أو يراسله إن تعذر الاجتماع به فيتفاوض معه في القضية ويعلم ما عنده فيها, فان أنكر وقوع ذلك منه صدقه في إنكاره إذ قد يكون مدسوسا عليه كما وقع لكثير, وان اعترف به واظهر له معنى صحيحا يحتمله الشرع 13 ولو من بعض الوجوه على سبيله وأمر بالكف عنه مخافة افتتان العوام, وإن أظهر معنى سقيما لا يحتمله شرع بحال وصمم عليه ولم يرجع عنه واجتمع له فساد اللفظ والمعنى المراد به, فهذا يقام عليه حكم الله رحمة به وسدا لباب الفتنة ونصرة للدين. وحاشا لله أن يجتمع 14 لواحد منهم رضي الله عنهم فساد اللفظ والقصد, فإنهم المحفوظون المؤيدون, ولكن كما قال بعض العارفين: "ألسنة المحبين حال هيجان سلطان الحب عليهم أعجمية عن غيرهم عربية لأصحابهم وأهل فنهم". وقد حكى عن بعضهم أنه نطق بكلام يؤذن بادعائه رؤية الحق 15 سبحانه وتعالى في الدنيا جهرة, فهموا به, فأحضر بين يدي بعض العارفين فاستنطقه مستفسرا لقصده, فقال: "انطوى بصري في بصيرتي فصرت كلي بصرا, فرأيت من ليس كمثله شيء", فأمرهم أن يخلوا سبيله وأمره أن يكف عن مثل ذلك خوف الفتنة, وأنه سبحانه وتعالى أعلم, وبه التوفيق والهدى لأقوم طريق وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما.
السؤال الرابع قوله:
- وهل ما اعتاده أتباعه من الرقص بالذكر والتغني بالأشعار, هل هو عندكم شبهة فيه؟
- فأقول:
الذكر على هذا الوجه هو معروف عندنا
16 بالحضرة وهي إذا كانت مستوفية لشروطها 17 وآدابها المعلومة عند القوم رضي الله عنهم, سالمة من الموانع الشرعية لا شبهة عندنا فيها, فإنها عبارة عن اجتماع الذاكرين لله تعالى على وجه مخصوص وكيفية معلومة لا يأبها الشرع الكريم 18 فأذكارها دائرة بين الهيللة (لا إله إلا الله) والاسم الأعظم اسم الجلالة (الله) واسم الهوية (هو) واسم المتأوهين المعنون عنه باسم الصدر (آه) اقتطافا من اسم الله 19, اكتفاء بأوله وأخره, وعدوا ذلك من خواصه. واسم المتأوهين هو بإسكان (الواو) سكونا ميتا أو بلا (واو) على تدريج وترطيب عندهم على حسب حال الذاكرين, وكيفيتها التحلق والاهتزاز بحركة متزنة مع شيء من السماع للتشوق والتنشيط, وقصدهم بذلك جمع القلوب على الله تعالى واستعمال الجوارح في طاعة الله عز وجل, ودفع الكسل والفتور والنوم, وجريان المدد بين المجتمعين من القوم. وقد جربوا ذلك فوجدوا له خاصية في تنوير القلب وتهييج سلطان الحب, والزج بصاحبها في حضرة القدس والأنس والقرب, وقد قال سيدي أحمد بن يوسف رضي الله عنه: "ذكر الحضرة أوله لسان ووسطه قلب وأخره روح", وأحوالها كلها موصولة معضدة بأدله شرعية معهودة عند أهلها, من طلبها وجدها 20, فحيث جرت على منوالها المستقيم ونسقها النظيم فلا شبهة عندنا فيها, وإن خرجت عن ذلك وداخلها ما ينكر شرعا أو يخالف وضعا كاختلاط النساء بالرجال أو مازجها شيء من آلات اللهو المحرمة كالوتر ونحوه من الأشكال, فنحن أول من ينكره ويشدد على فاعلها, وندور مع الشرع حيث دار, وبالله التوفيق. ونقل عن الشيخ العارف بالله تعالى سيدي أحمد زروق رضي الله عنه في رسالة له في اسم الصدر أنه قال: قال الشيخ الإمام العالم العلامة القطب سيدي محمد المغربي رضي الله عنه: "كنت سائحا في البرية والأفاق فوجدت الشيخ أبا العباس المرسي هو وأصحابه رضي الله عنه يذكرون الله تعالى بصدورهم دون ألسنتهم يكرون مثل السباع, فقلت ما هذا الذكر؟ فقالوا هذا ذكر أهل الحقيقة. ثم هب عليَّ نسيمهم حتى سكرت منه, فبينما أنا في ذلك السكر إذ أتاني النبي صلى الله عليه وآله وسلم والسيد الخضر عليه السلام فقال لي: يا محمد هذا ذكر ملائكة الرحمن أتاهم إلهاما من ربهم 21 وهو ذكر أهل الفراسة الصحيحة, اذكر به, لا تنكر على أهله, فإنهم على حد من حدود ربهم, ومن أنكر عليهم فقد أنكر الحق وأهله. ثم أخذت ذلك الذكر منهم وذكرت به وقلت للناس به وكانوا يجتمعون على هذا الذكر حلقا, حلقا, ووجدنا به خيرا كثيرا وفتحا عظيما. أشقى الأشقياء الذين ينكرون على هذا الذكر من غير موجب شرعي".
- ثم قال السائل في أخر مكتوبه والجواب ينتظر أداء لواجب الشهادة.
- فقلت:
في هذا في هذا القدر مما طلبنا به من الجواب احتسابا لله تعالى كفاية إن شاء الله للناظرين, والشهادة منوطة بالظواهر
22 والله سبحانه وتعالى يتولى السرائر, "وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ", الآية 81 من سورة يوسف,  وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم كثيرا إلى يوم الدين, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
قاله وكتبه عبد ربه وأسير ذنبه عبد القادر بن مصطفى بن قارة مصطفى مفتي مستغانم كان الله له والأحبة ولجميع المسلمين بالعفو والعافية وحسن الخواتم.
كان ذلك 17 ربيع الوال سنه 1342 موافقا لـ 18 من شهر أكتوبر سنه 1923
________________ 
  1. إن فضيلة الشيخ المفتي بمستغانم وجدت له مكانة في قلوب أهل بلده وفي قلوب غيرهم, وقد اجتمعت به فتفرست منه ما يشعر بتنسكه وورعه وقوة باعه في الاطلاع, وكثيرا ما كان الأستاذ ينوه لنا بفضائله ويمتدح بخصائله, وقد كان وقف على شهادته هاته فضيلة العالم المحدث الشيخ شعيب بن عبد الجليل قاضي مدينه تلمسان فقال: "شهادة من مثل هذا الرجل القليل الوجود في عصرنا هي كافية", ومثل هذا ما ذكر لي أيضا عن فضيلة مفتي الديار العباسية الشيخ باخالد بن كابو.
  2. يعني بذلك ما اعتاده بعض الصوفية من الاهتزاز بالذكر وما يعين على ذلك بما ينشدونه من أشعار القوم رضوان الله عليهم استجلابا للحال واستغراقا في الذكر.
  3. فنسب الأستاذ رضي الله عنه في تلك الديار أشهر من أن يلتبس على العموم فضلا عن الخصوص كفضيلة الشيخ المفتي وغيره, وقد ترجم له في عدة تراجم.
  4. يعني بذلك أباءه وأجداده, قال فضيلة الكاتب (يعني الشيخ مصطفى بن قارة): "بلغني بمن يوثق به أنه من قبل احتلال القطر الجزائري إلى يومنا هذا من نحو 26 قاضيا من عائلة الأستاذ رضي الله عنه وآخرهم ابن عم له توفي من نحو ثلاثة سنين من تاريخ هذا الكتاب (يعني 1920م) يدعى السيد ابن هَشي ابن السيد الحاج حمو بن عليوة.
  5. يعني والله أعلم, نصيبهم من معرفه الله الخاصة التي هي غاية كل سالك في طريق الله عز وجل وما أوجب صحبه المشايخ على المريدين إلا من أجلها.
  6. يشير بذلك إلى أن المرشد لا يظهر بحكم وقت من مضى حتى يكون محجورا عليه من جهة ما يرتكبه من أسلوب التبليغ ونحو ذلك, ولهذا تجد عظماء الأمة يقودون في كل عصر أمتهم لما هو انجح لهم في الدين والدنيا بأقرب الطرق التي يرونها حسب الوقائع والظهور, تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوه من الفجور, ولولا ظهور الأستاذ بحكم الوقت ما انقادت الألوف لإشارته ولا انتفع الكثير بعبارته.
  7. يظهر من فضيلة الشيخ المفتي أنه ذكر هذه الجملة بصفة الاستغراب لا يراد السؤال من أصله, فتصوره فجائيا بما كان يعتقد من مكانة الأستاذ في الدين, فهو عنده أبعد من أن يكون, كما قال, موردا لهذا السؤال من أصله أو يرمى بسهم الانحراف عن الإسلام وأهله.
  8. يعني من الخصال الحميدة التي كان يرى عليها الأستاذ وبالأخص ما اشتهر به من حرصه على إحياء سنن الدين وبثها بين أفراد المسلمين, فتجده لا يفتر لسانه عن مثل ذلك.
  9. يعني بذلك ما يراه السائل من قبيل الشطحات, لأنه في الغالب يكون الكلام من قبيل المتعذر الإدراك لبعد مرماه, وليس هو من قبيل الشطح, لأن الشطح عبارة عن كلام يخرج بصاحبه عن حد الاعتدال ويكون بلسان المقام لا بلسان المتكلم, ولهذا لا يعتد به في الصحو.
  10. وهذا على فرض أن تكون للأستاذ شطحات, وكيفما كانت فلا أظن أن تكون في قوة شطحات السابقين كالجيلي وابن الفارض والبسطامي والحاتمي والششتري وأضرابهم رضي الله عنهم, وهي مبسوطة في محلها محمولة عند المحققين على أحسن محملها.
  11. مما لا يخفى أن القوم رضوان الله عليهم أخوف الناس من ربهم وأحرصهم على متابعة نبيهم, ولهذا لم تؤثر أقوالهم فيما أثبتته أفعالهم, فعلم من أمرهم عند جمهور الأمة أنهم مغلوبون فيما جرى على ألسنتهم.
  12. التثبت في الأحكام لا يوجد غالبا إلا عند الراسخين في العلم, أما أهل الطيش من المتفقهين فلا أشهى لديهم من التسارع في الحكم, فلا نسمع عنهم ولا منهم إلا الأحكام الصارمة التي تقضي عليهم أكثر من قضائها على المحكوم عليه, قال الشيخ مجد الدين الفيروز أبادي صاحب (القاموس اللغة) رضي الله عنه: "ما كل أحد منا يتربص إذا سمع كلاما لا يفهم, بل يبادر إلى الإنكار على صاحبه, وخلق الإنسان عجولا".
  13. التماس المخارج للمؤمنين وحسن الظن بهم من أوصاف الصالحين, ولهذا قالوا: "لا يسوغ للمسلم أن يحمل الكلام الصادر من أخيه المسلم على غير المحمل اللائق لمقامه, وهكذا يلتمس له احسن التأويل ما استطاع", قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا", وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من علم من أخيه مروءة جميلة فلا يسمعن فيه مقالات الرجال, ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى". قال المهلب: "قد أوجب الله تعالى أن يكون ظن المؤمن بالمؤمن حسنا أبدا, إذ يقول في كتابه المبين: "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ", النور: 12, فإذا جعل الله سوء الظن بالمؤمنين إفكا مبينا, فقد ألزم أن يكون حسن الظن بهم صدقا بينا".
  14. لا يخفى أن الشارع لا يعتمد في نحو الكفريات إلا على القصد, وما أظن أن المؤمن مهما كان مؤمنا يقصد ما يناقض إيمانه, أما إن جرى على لسانه ما لا يقصده فلا يعتبرونه من مدخولات الأحكام, أما عند النحاة (جمع نحوي) فهو خارج بالمرة عن أقسام الكلام.
  15. وإني ما رأيت شيئا يعتبر من المفزعات عند بعض الفقهاء شبه من يسمعون عنه أنه يدعي رؤية الحق, وأحرى إذا سمعوها من لفظه بدون أن يتربص أحدهم ما, ربما تكون دعواه من قسم الجائز, كأن تكون رؤية منامية أو قلبية مع أنهم أنفسهم يعبرون في باب ما ينصب مفعولين بقولهم "رأيت الله أكبر كل شيء" ويقولون المراد بالرؤية هي الرؤية القلبية, وما يدري الفقيه أن تكون دعوى الرجل من ذلك القبيل.
  16. يفهم من فضيلة الشيخ المفتي انه من أفراد المتصوفة على ما تقتضيه إضافة الضمير, وهكذا بلغنا عنه أنه ممن يهتز بالذكر, وهكذا ينقل عن غيره من أكابر العلماء بالقطر المغاربي سلفا وخلفا, فلو اتضح عندهم وجه الشبه لما اقبلوا عليه.
  17. وأهم الشروط عندهم القصد الحسن قبل الإقدام عليها, ومن سننهم انهم إذا استغرقوا في الذكر قاموا لله ذاكرين عاملين بقوله تعالى: "فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ" النساء: 103¸ وحجتهم في ذلك ما نقله الألوسي في تفسيره عن ابن عمر وعروة ابن الزبير وجماعة من الصحابة أنهم خرجوا يوم العيد للمصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم أما قال الله تعالى "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ"؟ آل عمران:191, فقاموا يذكرون الله على أقدامهم.
  18. وعليه فتكون على الأقل في درجة المباح, ودائرته أوسع معنى من أن تضيق بشبه الاهتزاز مع الذكر أو بانفراده, " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ", الأعراف: 33.
  19. قال الشيخ الأمير في حاشيته على متن "غرامي صحيح": "إن (آه) من أسمائه تعالى", وصحح ذلك وروى الحاكم في مستدركه حديثا يذكر فيه (آه) اسم عظيم من أسمائه تعالى ألهمه الله تعالى لمن أحبه من عباده لأنه سر من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين". ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريره رضي الله عنه أنه رأى مريضا في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فنهاه بعضهم وأمره بالصبر, فقال عليه الصلاة والسلام: "ذروه فإنه يذكر إسما من أسماء الله".
  20. يستدلون على القيام للذكر جماعة بما سبق من حديث ابن عمر وعروة ونحوه على الاهتزاز بما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس بكريم من لم يهتز عند سماع ذكر الحبيب" وقوله أيضا: "سبق المفردون, قالوا: وما المفردون يا رسول الله, قال: المستهترون في ذكر الله, يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا".
  21. يجري ذلك على ألسنتهم بصيغه يستطيعونها, ألهمهم الله إياها مقتصرين فيها على حروف الصدر من اسم الجلالة لا غير. قال الأستاذ رضي الله عنه: "ومما يشعرنا بصدق إلهامهم بذلك ويزيدنا استغرابا في توفقهم لما هنالك, هو موافقة بكرير صدورهم إسما من أسماء الله صرحت به التوراة في سفر الخروج, ومعنى ما اشتملت عليه أن موسى عليه السلام سأل الحق في حال المناجاة عن اسمه فقال له: "اسمي (أَهْيَهْ), قل لبني إسرائيل (أَهْيَهْ) أرسلني وهذا اسمي إلى الدهر وهذا ذكري إلى جيل الأجيال" بالمعنى... والنص في التوراة كالتالي: "فقال موسى لله ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم, فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى (أَهْيَهْ) الذي (أَهْيَهْ), وقال هكذا تقول لبني إسرائيل (أَهْيَهْ) أرسلني إليكم, وقال الله أيضا لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل (يَهْوَهْ – يَاهُوَّ) إله آبائكم إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب أرسلني إليكم, هذا اسمي إلى الأبد وهذا ذكري إلى دور فدور", (سفر الخروج من 13 إلى 15). وقال ابن هشام الأنصاري في كتاب (الإعراب عن قواعد الإعراب) مختصرا للقاموس أن (يَهْوَهْ) من أسماء الله بالعبرانية, كان أعظم أحبار اليهود ينقشه على صحيفة من ذهب ويعلقه فوق تاجه, ومتى مر هذا الاسم في التوراة لا يتلفظ به اليهود بل يقرؤون عوضه كلمة ("أدوناي", أي ربي أو سيدي, وهو التفاف على ذكر لفظ يَهْوَهْ) أو غيرها مما ينوب عنه احتراما له, وقد استعملته العرب بقولهم (يَاهُوَّ) بلفظه, فيستفاد من هذا ومن قبله أه كان مدخرا لهذه الأمة فأجراه الله على ألسنة هاته الطائفة من غير اختيار.
  22. يستفاد من هذا أن فضيلة المفتي ما زاد شيئا على ما تقرر لديه من الأحوال الظاهرة التي كانت منوطة بالأستاذ رضي الله عنه, وهكذا كانت ترى عليه وعلى أتباعه أوصاف تتضمن الحكم عليهم بأنهم من خاصة المؤمنين, وإذا تحققت سلامة الظواهر فتكون سلامة البواطن إن شاء الله من طريق أحرى لأنها منوطة بالظواهر, لما قيل إن الظاهر عنوان الباطل والإناء يرشح لا بما هو فيه ساكن, وهذا ما استطاع حضرة الشيخ المفتي أن يعترف به, جزاه الله خيرا ونفع به وبالمشهود عليه.
________________
ترجمة الشيخ عبد القادر بن عودة بن الحاج محمد بن قارة مصطفى
الشريف الحسني الشيخ عبد القادر بن عودة بن الحاج محمد بن قارة مصطفى من سلالة سيدي عفيف بمستغانم.
ولد بمستغانم سنة 1862م كما جاء في "الكتاب الذهبي" وقيل سنة 1859م, والأولى هي الأصح لأنها من رواية تلميذه ابن شهيدة ... ولذا كان محل عناية أبيه مصطفى أحد أشهر حفظة القرآن الكريم في وقته, حيث أشرف شخصيا على تحفيظه القرآن الكريم منذ صغره, وبعد وفاة الوالد انتقل إلى كفاله عمه "الشيخ سيدي بن عودة " بمدينة غليزان حيث يقيم العم الذي رباه أحسن تربية وعلمه ما يحسنه من العلوم الدينية كالتفسير والحديث والفقه, كما تعلم النحو والصرف على يد علماء مدينة غليزان.. وعاد بعد ثلاث سنوات إلى مدينة مستغانم ليواصل طلبه للعلم.
قام الشيخ عبد القادر بن قارة برحلات متعددة لطلب العلم إلى كل من قصر البخاري وتلمسان ووهران, وتعلم على علماء وشيوخ
من بين شيوخه
- الشيخ العربي بالقاسم والمدني والعكرمي بزاوية الموسوم بقصر البخاري.
- الشيخ سيدي أحمد المختار والطاهر بن عمار والأخضر بن ميموني.
- الشيخ العربي الفجيجي الذي تلقى عنه علوم النحو والصرف والعروض.
- العلامة أبو الحسن سيدي علي بن عبد الرحمن, مفتي الديار الوهرانية (ت 1324هـ).
- الشيخ ابن عبد الله شيخ زاوية غليزان.
- القاضي أبو بكر بن شعيب بن علي الجليلي التلمساني (ت 1347هـ / 1927م).
- الشيخ قدور بن سليمان المستغانمي
- الشيخ محمد بن أبي القاسم الحفناوي بزاوية الهامل ببوسعادة.
أبرز تلاميذه
- إبنه البكر ولد البشير.
- الشيخ الطاهر بن شهيدة اليحياوي.
- القاضي والشاعر عبد الحميد رئيس محكمة وهران.
- الشيخ الفقيه يوسف المجاهيري (ت 1944م).
- الشيخ الصوفي أحمد بن مصطفى العلاوي.
عمَّر الشيخ بن قارة المسجد الأعظم بمستغانم كأستاذ لحلقاته ابتداء من سنة 1885م حيث كان يحفِّظ القرآن الكريم ويدرِّس الحديث والفقه المالكي والتوحيد والنحو والصرف, ويقول تلميذه ابن شهيدة بأن شيخه ابن قارة كان محل اهتمام أهل المنطقة, وأن أول درس شرع فيه الشيخ حضره عالم من علماء المدينة المنورة (لعل الكاتب يقصد الشيخ محمد ظافر المدني الصفاقسي سنة 1895م) وقال لهم بعد أن استمع لدرس الشيخ : "يا أهل مستغانم لقد فتح الله عليكم عينا من عيون العلم والمعرفة فاشكروه على نعمه, واغتبطوا في ذلك واغتنموا تسعدوا".
كما كان الشيخ يلقى دروسا في مساجد المدن التي كان ينتقل إلى زيارتها.
من بين الإجازات التي كان الشيخ يعتز بها إجازة القاضي أبو بكر بن شعيب بن علي الجليلي التلمساني, حيث قال عنه" وقد أجازني إجازة عامة مفصلة وسند القاضي شعيب في إجازته عموما موجود عند الشيخ عبد الكبير الكتاني وجعفر الكتاني والشيخ القادري والقهري والعمراني والعنادي وعلي بن عبد الرحمن شويوش, ويعبر عنه بالوهراني والطالبي والمهدي والفقيه ابن حمزة والقاسمي والفحلي وابن غزة .... الخ".
كان الشيخ ابن قارة محدثا فقيها ومفتيا وناظما, يغلب عليه الميل إلى شيوخ التصوف, فقد وصفه معاصروه بأنه عالم جليل متواضع قليل النضير, عالم مصلح بارز ومعلم من معالم مدينة مستغانم الذي تمتع فيها بسمعة ومكانه رفيعة.
آثاره 
- منظومة "قرة الأعيان في أدب تلاوة القرآن" وهي منظومة من 124 بيتا قسمها إلى مقدمة وفصول أشار إلى اسمها في مقدمتها فقال... سميتها بقرة الأعيان في آداب تلاوة القرآن. وقد قام العلامة الشيخ محمد بن طكوك (تكوك) بتقريظ هذه المنظومة قائلا...
أيا من تسامت له همة .... ترغبه أبدا في الكتاب
مرتل آياته خاشعا ..... فديتك عرج على ذا الآداب
على نسج ذاك البليغ الفصيح .... كنز العلوم حليف الصواب
- حتمية الأنوار المحمدية النبهانية مختصر المواهب اللدنية السلطانية وهو نظم مختصر "الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية" للشيخ القاضي يوسف بن إسماعيل النبهاني المتوفي سنة 1922م, وهو مجموع أبيات, منظومة في 92 بيتا.
- "نيل الأمان في شرح عقد الجمان لنظم فتح الرحمن" وهو شرح لأصل "عقد الجمان النفيس في تراجم علماء غريس" لمؤلفه سيدي عبد الرحمن التوجيني الذي قام بنظمه القاضي شعيب التلمساني, وقد شرحه نظما تلبيه لطلب القاضي شعيب, حيث يقول في هذا الصدد : "فأجبته بعد الاستخارة وشرحته بفضل الله امتثالا لأمره وإسعافا لرغبته على ما اعلمه من نفسي من القصور عن ذلك الشأن, وسميته بنيل الأمان في شرح عقد الجمان لنظم فتح الرحمن".
- عقد الجمان سبق للشيخ محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم الراشدي المزيلي أن قام بشرحه في منظومة سماها: ''فتح الرحمن في عقد الجمان''.
- رسالة مطولة في صفحات أربع كبيرة كتبها كرد على جواب العالم الأمثل سيدي بن عودة ابن إسماعيل إمام مسجد زاوية الشيخ بن عبد الله بغليزان فيما يتعلق بفتاوى شيخه العلامة علي بن عبد الرحمن مفتي الديار الوهرانية ساق فيها الأدلة الشرعية والبراهين العقلية التي لا تقبل الجدال في صحة ما أفتى به شيخه.
- مخطوط : رسالة في جواز إعطاء الزكاة لآل البيت.
- مخطوط : إرشاد الخلق إلى الحق.
- سائل في فنون متنوعة من توحيد وفقه وإرشاد ونحو وصرف توجد عند بعض الخواص.
من المناصب التي تولاها, عين مدرسا بالجامع الأعظم بمستغانم خلفا للشيخ محمد الحاج بن عمر بعد تعيين هذا الأخير سنة 1885م مفتيا للمدينة, حيث كان يحفظ ويشرح القرآن الكريم ودرس متن خليل وبن عاشر, والحديث الشريف, فدرس صحيح البخاري والموطأ والأربعين النووية, والتوحيد والسيرة الشريفة والأخلاق وغيرها من الآداب.
في سنة 1898م عين مفتيا لمدينة مستغانم بعد وفاة الشيخ محمد الحاج بن عمر, وقد احدث تعيينه في هذا المنصب ضجة داخل المدينة نظرا لصغر سنه, حيث كانت هذه الوظيفة لا تسند إلا للكهول وكبار السن, ولكن هذه الضجة سرعان ما خمدت بعد أن شاهد المواطنون من فقه وحكمة الشيخ وعمق معارفه وغزارة علنه حيث بقي الشيخ في هذا المنصب حتى بدأت أيادي الاستعمار الفرنسي تتدخل في تعيين رجال الدين الذين يهادنونها ولا يحرضون المواطنين عليها, ولما كان الشيخ ممن لم يسكتوا عن مظالم الاستعمار ولم يكن يفوت أي فرصة أو درس إلا وحرض المواطنين على عدم الرضوخ للاستعمار, فقام الحاكم الفرنسي بعزله من منصب المفتي.
توفي الشيخ رحمه الله يوم الاثنين 1375هـ/14 فبراير 1956م بمدينة مستغانم, وقد حضر تأبين جنازته وصلى عليه الشيخ محمد بن طكوك (تكوك) والشيخ الطيب المهاجي عالم وهران ومسندها والشيخ المهدي بوعبدلي مفتي الشلف وغيرهم, ودفن بتربة سيدي قدور بن سليمان, رحمه الله وجعل الجنة مثواه, آمين.
المصادر
- أعلام الجزائر : منشورات وزارة المجاهدين سنة 2008.
- تعريف الخلف برجال السلف للحفناوي - مؤسسة الرسالة, الطبعة الثانية 1985.
- بن سكيرج أحمد الرحلة الحبيبية الوهرانية - طبعة حجرية - فاس (د.ت.ط.)
- المستغانمي (عبد القادر بن عيسى) مستغانم وأحوازها عبر العصور تاريخيا وثقافيا وفنيا, المطبعة العلاوية, مستغانم, الطبعة الأولى (د.ت.ط).
- مقال لأحد تلاميذ الشيخ بعنوان "وفاة المفتي الشيخ عبد القادر بن قارة مصطفى", منشور بجريدة النجاح السنة 35, العدد 4378, سنة 1956م.
- أبو القاسم سعد الله, تاريخ الجزائري الثقافي ج4.



- إنتقل إلى فهرس الشهائد والفتاوي

تعليقات