علي الجمل العمراني

الشيخ العارف بالله، الدال على الله، شيخ الطريقة، وإمام أهل الحقيقة، معدن المواهب الربانية، ومنبع المعارف الإلهية، قطب الأنام، وغياث الإسلام، الغوث الجامع، والبحر الواسع، الكبريت الحمر، والحجة الأشهر؛ أبو الحسن سيدي علي بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن إبراهيم بن عمران الشريف الحسني الإدريسي العمراني من شرفاء بني عمران أهل قبيلة بني حسان؛ الملقب بالجمل لكونه وجد ناقة أو بعير راقدا ببعض طرق بفاس؛ فرفعه ووضعه خارج الطريق. فرآه بعض الناس فقال: هذا هو الجمل. فاشتهر بذلك، وهو ملقب عند ملائكة الرحمن بالجمَال.


كان رحمه الله أولا بفاس متصلا بالمخزن، ثم خرج منها إلى تونس على عهد السلطان أبي عبد الله محمد؛ المدعو: ابن عربية. ابن أمير المؤمنين مولانا إسماعيل خوفا على نفسه من أشرافها، إذ كان ممن تولى أمرهم من قبل السلطان ولحقتهم الإذاية منه. فلقي بتونس مشايخ انتفع بهم، وبعثوه إلى وازان عند الشيخ مولاي الطيب الوازاني رضي الله عنه؛ فلقيه بوازان عام ثلاثة وخمسين ومائة وألف، ثم بعثه مولاي الطيب إلى فاس، فقدم عليها؛ وذلك في السنة المذكورة، وقرأ بها ما شاء الله من التصوف على الشيخ أبي عبد الله جسوس، وصحب العارف الكبر أبا المحامد سيدي العربي بن أحمد ابن عبد الله معن الأندلسي، ولزم خدمته مدة من ستة عشرة عاما، حتى انتفع به غاية النفع، وسمع منه الأسرار ما لا يكيف ولا ينحصر.

وكان قد فتح له أولا على يد شريف كبير السن حسن الوجه من ناحية المشرق له: عبد الله. وجده بتطوان وصحبه بها سنتين، ثم لما توفي شيخه سيدي العربي؛ بني لنفسه زاوية بالرميلة حيث ضريحه الآن، وكثر أتباعه وخدامه.

وكان رضي الله عنه آخذا بالشريعة في جميع أحكامها، لا يتعدى أمرها، ويلبس تارة فاخر الثياب، وتارة رثها، وينتعل تارة بالنعل المعروف بالشربيل، وتارة يحفي قدمه بالكلية، ويمد يده بالسؤال لقوم مخصوصين بلا إلحاح ولا إلحاف.

وأكثر ما تراه جالسا في القرويين بالباب المظلم لناحية المظلم لناحية باب فندق سيدي عبد المجيد، دائم الفكرة، كثير العْبرة والعَبْرة، وإذا كلمته؛ وجدت منه بحرا زخارا بالعلم والعرفان، وكان من أجل شيوخ الطريق من أهل تجريد الظاهر والباطن معا؛ متقشفا ذاكرا خاضعا متواضعا، خاليا عن الدعوى محيدا عن أهلها، مولعا بالوحدة وكتبها، وقوانين أهلها، وله اليد الطولى في أصولها وفروعها وحقيقتها، على طريقة الشيخ أبي الحسن الششتري ونظرائه من الأكابر.

وكان مستغرق الأوقات في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومناما حتى كان يقول: "مهما خطر ببالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدته هو وأصحابه العشرة الكرام البررة حاضرين بين يدي؛ حسا لا معنى، ونتكلم معهم، ونأخذ العلم والعمل من عين العلم والمل صلى الله عليه وسلم".

وكان تلميذه العارف بالله مولاي العربي الدرقاوي يقول فيه : "والله ما كان شيخنا مولاي علي الجمل إلا أكبر استغراقا في ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي العباس المرسي!". وقال في رسائله: "ترجع لي والله أعلم أنه أقوى من سيدي المرسي بما رأيت منه من الاستغراق في رؤيته صلى الله عليه وسلم ومخاطبته إياه".

وكان من أهل التصريف في وقته، حتى قيل: إنه كان يُزَطّطُ القوافل بهمته، وربما كان يخرج لباب المدينة ويأخذ من أرباب القافلة درهما لكل جمل من أجمالها، فيذهبون ويربحون في سلعتهم ويرجعون للبلد سالمين غانمين. واتفق في يوم من الأيام أن بعض أرباب القافلة تشطر معه في جمل؛ فلم يعطه عليه شيئا. فخرج فيهم اللصوص ونبهوا لهم ذلك الجمل وحده، لم ينهبوا لهم غيره، وشاع ذلك في البلد، ولم يتشطر معه بعد ذلك أحد.

وأدرك رضي الله عنه القطبانية العظمى، بل عاش فيها جل عمره؛ على ما ذكره تلميذه مولاي العربي في رسائله؛ ونصه: "وأستاذنا رضي الله عنه قد كان يسأل القواربط بفاس البالي عمره الله من حانوت إلى خانوت كالمضطر الكبير، مع أنه قد عاش غوثا جل عمره، وقد تعدى عمره ثامنين سنة". هـ.

وكان كما ذكره أيضا تلميذه المذكور يعرف اربعا وعشرين طريقا في الحكمة، كل طريق منها تقيم الساعي لدار الملك، ومع ذلك كان يسأل القواريط من الناس بالأسواق ويده ترتعش من شدة الكبر، ومن أراد أن يعرف مقامه في التحقيق، وينطق في علو مرتبته في الطريق؛ فليطالع كتابه الذي ألفه؛ فإنه عزيز الوجود، وفيه من الفوائد، خرق العوائد.

وقد كان الشيخ سيدي عبد الواحد الدباغ رضي الله عنه يقول: "لا يعرف سيدي عليا إلا من كان هو سيدي علي!"، أي: من كان في مقامه. ويقول أيضا: "كان سيدي علي فقيها كبيرا، عالما شهيرا في علم الضدين"، يعني: الحقيقة والشريعة، والحرية والعبودية، والجمع والفرق، والسكر والصحو، والسلوك والجذب، والفناء والبقاء ... وما أشبه ذلك.

وقد تربى به وتأدب، وتخرج وتهذب، جماعة من الأكابر؛ أجلهم: الفقيه الأستاذ الأنور، القطب العارف الأشهر؛ أبو المحامد مولاي العربي بن أحمد الدرقاوي الشريف الحسني الزروالي. وقد بالغ في الثناء على شيخه المذكور في مواضع من رسائله رضي الله عنهما، ونفعنا بهما. وكان أول لقاء به في زاويته بالرميلة إذ اقال مولانا العربي الدرقاوي رضي الله عنه:

وكان من عادتي أن لا أقوم على أمر من الأمور جليلاً أو حقيرًا إلاَّ بعد الإستخارة النبوية فاستخرت الله في تلك الليلة فبت أخوض في صفاته أي الشيخ المربي كيف هو؟ و كيف تكون ملاقاتي معه؟ حتى لم يأخذني النوم تلك الليلة و لـمَّا قصدته, أي الشيخ أبو الحسن علي الجمل, لزاويته بالرميلة التي بين المدن عدوة الوادي من جهة القبلة شرفها الله و هي التي ضريحه بها الآن مشهور مقصودٌ للزيارة فدققت الباب فإذا به قائمٌ يشطب أي يكنس الزاوية إذ كان لا يترك تشطيبها بيده المباركة كل يوم مع كبر سنه و علو شأنه فقال أيش تريد؟ قلت أريد ياسيدي أن تأخذ بيدي لله فقام معي قومةً عظيمةً و لبَّس الأمر عليَّ و أخفى عني حاله و صار يقول من قال لك هذا؟ و من أخذ بيدي أنا حتَّى آخذ بيدك؟ و زجرني و نهرني و كل ذلك اختبارًا لصدقي فوليت من عنده قال فاستخرت الله تلك الليلة أيضًا فصليت الصبح و قصدته لزاويته أيضًا فوجدته على حاله يشطب الزاوية رضي الله عنه فدققت الباب ففتح لي و قلت تأخذ بيدي لله؟ فقبض علي يدي و قال لي مرحبًا بك و أدخلني لموضعه بالزاوية و فرح بي غاية الفرح و سُـرَّ بي غاية السرور فقلت له يا سيدي كم لي أُفتش على شيخ؟! فقال لي و أنا أفتش على مريد صديق!!! فلقنني الوِردَ و قال لي امش و اجيء أي تردد علي بلا حرج أو تعالى لتزورني بدون حرج فكنت أمشي و أجيء كلَّ يوم فيذكرني مع بعض الإخوان من أهل فاس حرسها الله من كلِّ بأس

توفي صاحب الترجمة رضي الله عنه بفاس عشية يوم السبت تاسع وعشرين ربيع الأول سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف 1193هـ، /1779م، عن مائة وستة أعوام، أو خمسة؛ على ما في فهرسة الكوهن. وحكى بعضهم عن ولده سيدي محمد الشريف أنه ولده وهو من مائة وثمان عشرة سنة والله أعلم.

ودفن من الغد وهو: يوم الأحد بزاويته التي بحومة الرميلة من عدوة فاس الأندلس، قرب مسجد الشيخ سيدي أبي مدين الغوث نفعنا الله به، وبنيت عليه هناك قبة، وقبره بها مشهور معروف مزار، عليه دربوز من خشب، ودفن معه بها وبما اتصل بها جماعة من أصحابه وأصحابهم رضي الله عنهم.

قال سيدي علي الجمل رضي الله عنه:
من صفات كمال الولاية لله أن لا يحتاج الولي إلى شيء آخر غير الحال الذي قلده الله له في أي لحظة كانت وليس لديه رغبة أخرى بخلاف الإرادة الإلهية ففي أحد الأيام كان الشيخ العارف أبو العباس أحمد اليماني نسأل الله أن ينفعنا به جالسا مع بعض فقرائه و كان الجدل حول حقيقة الولاية و كان لكل واحد منهم رأي واستمر الخلاف وقرروا أن يعرضوا المسألة على الشيخ و عرض كل فقير رؤيته لحقيقة الولاية واستمع الشيخ دون أن يؤكد كلام أي منهم وعندما رأوا أنهم عاجزون عن الوصول للمقصود قالوا: "يا سيدي نأمل من الله و منكم أن تبلغونا حقيقة الأمر ما هي حقيقة الولاية؟", فأجاب الشيخ: "صاحب الولاية عندما يجلس في الظل فإنه لا يصبو إلى أن يجلس تحت الشمس وعندما يجلس تحت الشمس فإنه لا يصبو إلى أن يجلس في الظل".

وقال رضي الله عنه في كتابه الرسائل في التصوف (مخطوط خاص): سبحان من هيأ أقواما لخدمته وأقامهم فيها, وهيأ أقواما لمحبته وأقامهم فيها , أهل الخدمة تجلى لهم الحق بصفة الجلال والهيبة فصاروا مستوحشين من الخلق قلوبهم شاخصة لما يرد عليها من حضرة الحق قد نحلت أجسادهم وأصفرت ألوانهم وخمصت بطونهم بالشوق ذابت أكبادهم وقطعوا الدياجي بالبكاء والنحيب واستبدلوا الدنيا بالمجاهدة في الدين ورغبوا في جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وأهل المحبة تجلى لهم الحق بصفة الجمال والمحبة وسكروا بخمر لذيذ القربة شغلهم المعبود عن أن يكونوا من العباد ولا من الزهاد اشتغلوا بالظاهر والباطن وهو الله فحجبوا عن كل ظاهر وباطن زهدوا في التنعم والأنعام واشتغلوا بمشاهدة الملك العلام وقد قيل في حقهم :

نسيم الوصل هب على الندامى فأسكرهم وما شربوا مداما
ومالت منهم الأعطاف ميلا لأن قلوبهم ملئت غراما
و ناداهم عبادي لا تناموا ينال الوصل من هجر المناما
ينال الوصل من سهر الليالي على الأقدام من لزم القياما
وما مقصودهم جنات عدن  ولاالحور الحسان ولا الخياما
سوى نظر الجليل فذا مناهم فيا بشرى لهم قوما كراما

من مؤلفاته:
- نصيحة المريد في طريق أهل السلوك والتجريد ويسمى أيضاً اليواقيت الحسان في تصريف معاني الإنسان.
- الرسائل في التصوف (مخطوط خاص)

المصادر
- كتاب المقصد الأحمدي "المقصد الأحمد في ذكر سيدنا ابن عبد الله أحمد" للعلامة الطيب القادري
- سلوة الأنفاس و محادثة الأكياس بـمن أقبر من العلماء و الصلحاء بفاس

ترجم له في "الروضة المقصودة"، و"سلوك الطريق الوارية"، و"إمداد ذوي الاستعداد" وغيرها.

تعليقات