الشاهد الثالث من القسم الخامس في سرد طائفة من أعيان الطريقة العلاوية في كتاب الشهائد والفتاوي. (5-05)
الشيخ قدور بن عاشور الندرومي, ندرومة,
الجزائر, أحد الأكابر في نسبة الله, ممن ظهرت على يده خوارق, وقد كانت له أحوال وشطحات تتضمن أن ليس في المقربين من بلغ مبلغه إلا من الصفوة من أكابر الأولياء.
عندما اجتمع بالشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة رضي الله عنه بمدينة تلمسان, انتمى إليه وألقى إليه الانقياد واعتبره اعتبارا زائدا, فقيل له في ذلك: "والحالة أنك كنت تقول (ما فوقي أحد من أهل الله)", فقال: "إلا هذا الرجل فإنه أرفع مني منزلة ! بعد اجتماعي به رأيت بعد ذلك بنحو اليومين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المنام يقول لي: إذا كنت ولدي حقّا فعليك بمتابعة هذا الرجل، ويشير بيده الشريفة إلى سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة رضي الله عنه... ثم كنت صليت معه إحدى الصلوات, فعندما قمنا للصلاة تقدّم للإمامة, فانفتح لي باب في ظهره فرأيت منه الكعبة بيت الله الحرام". وهكذا كان يخبر بهذا ونحوه في جل مجتمعاته.
ومما سخر الله فيه له القوافي, فتراه يأتي ارتجالا بانظام عليها أجمل طلاوة وإن لم توافق مصطلح العروضيين, فقد خلّف وراءه أكثـر من 3000 قصيدة، لم يتم جمع سوى 200 منها, على أن الرجل أمي لا يحسن الكتابة وقد مدح الأستاذ بانظام عديدة يذكر فيها بأبلغ ما يذكر به ممدوح وقد دافع بمثلها أيضا على النسبة العلاوية.1
1. المصدر: الشهائد والفتاوي فيما صحَّ لدى العلماء من أمر الشيخ العلوي
ترجمته رضي الله عنه :
ولد الشيخ قدور بن عاشور الزرهوني في ندرومة 1850م، و نشأ ودرج للتعلـم قبل دخوله معترك الـحياة، ثم مال، اعتبارا من سنة 1900، إلى طلب الـمعرفة الربانية بالتفرغ كليا للزهد و التعبد، ثم انتقل إلى حاضرة تلـمسان حيث مكث مقيـما من سنة 1926 إلى سنة 1930، و بعد ذلك عاد إلى مسقط رأسه و موطن أسلافه حيث توفي في يوم الاثنيـن 6 يونيو 1938.
لعل هذا الشاعر أقل أمثاله، الذيـن برزوا في تعاطي الشعر الملحون في الـجزائر، شهرة في الأوساط الأدبية والـجامعية و الفنية الـمهتمة بجمع التراث من الشعر الـملـحون ودراسته و تلـحيـنه، وذلك رغم أنه من الذيـن نبغوا في الـجزائر في غضون القرنيـن التاسع عشر و العشريـن، وبلغوا فيه منزلة القدامى الفحول، و رغم تداول العديد من الـمطربيـن الـمتعاطيـن للون الشعبي الجزائري على أداء الكثير من قصائده التي نـجت بفضل ذلك من الضياع، بأساليب فنية اختلفت باختلاف الـمدارس والـمشارب الـموجودة من حيث القالب الفني بيـن أداء الشيخ إدريس برحال والشيخ حمادة، و الـحاج أمحمد العنقاء و فضيلة الدزيرية، والأستاذ خليفي أحمد، والأستاذ الحاج محمد غفور و عمار العشاب وبوجمعة العنقيس وحسن السعيد وعمار الزاهي و غيرهم من الـمطربيـن.
إن الـمراجع الـمكتوبة غير موجودة، أو تكاد، للـمساعدة على التعرف موضوعيا على سيرة الشاعر الشيخ قدور بن عشور الزرهوني و هي لا تتمثل سوى في ترجمة مختصرة غاية الاختصار متضمنة في مصنف « كنوز الأنهار والبحور في ديوان السر و النور» الذي نشر عام 1938 بوجدة متضمنا منظوماته في التصوف و أقوال العارفيـن، و مخطوط يقع في 124 صفحة يتضمن نص «مناقب الشيخ الكامل إمام العارفيـن و رئيس الأولياء و الصالـحيـن الغوث الوحيد والقطب الفريد سيدنا و مولانا قدور بن عشور الندرومي الزرهوني الإدريسي» الـمحرر في صيغة الـمتكلـم و الذي اعتنى بتصحيحه وتدويـنه بخط يده ابنه عبد العزيز الذي كان محاميا لدى الـمحكمة العليا بالـجزائر، و ذلك في تاريخ 13 مايو 1957. وجاء في نص الترجمة ما يلي :
«هو الشيخ قدور بن أحمد بن قدور بن محمد بن علي بن الطيب بن أحمد بن الهادي بن الـمهدي بن منصور بن عبد الـحق بن سليـمان بن سعيد بن وكيل النور بن الـمعطي بن داود الـخيار بن عبد الـجبار بن عيسى بن خير الديـن بن عيسى بن سليـمان بن الـمزوار بن حيدر بن محمد العاشر بن إدريس بن إدريس. ولد بـمديـنة ندرومة سنة 1280 هـ تقريبا، وهو حفيد السيد قدور بن عشور الزرهوني الذي كان خليفة باي وهران بدائرة ندرومة، فحفظ شيئا من القرآن و وصل إلى «الرحمن علـم القرآن…»، ثم ترك القراءة و تعاطى علـم الـموسيقى و صارت له اليد الطولى فيــه. و قد اشتغل بخدمة ولي صالـح اسمه سيدي الـمصطفى بن عمرو وخدمه فنال على يــده الفتـح في السر و الاسم والولاية. و بعد موت شيخه، سيدي الـمصطفى، غرق في التصوف والـحقيقة حتى أدرك الغوثانية العظمى».
إن سنة ميلاد الشاعر 1850م توافق العام الهجري1267 و ليس 1280 كما جاء في الترجمـة أعلاه، و ذلك هو الأرجح لأنه مسلـم لدى جميع الـمطلعيـن أنه توفي سنة 1938م الـموافقة للعام الهجري 1356 و هو في الثامنة و الثمانيـن من عمره.
ترعرع الشيخ قدور في ندرومة التي كانت من الحواضرة ذوات الـمكانة في سائر مناحي الـحياة العلـمية و الأدبـــية والتجارية والصناعية، في حضن أسرته الـحسيبة التي كان فيها ما شاء الله من أصحاب الـمروآت و الفضائـل والـمواهب بـما يـمكن اعتبارها، برجالها و نسائها، ملـخصا للـمجتمع الندرومي آنذاك، ودرس ما كان يدرسه أقرانه من الصبيان و اقتصر في الدراسة على ما تيسر له كأترابه الذيـن تشاء لهم الأقدار الانقطاع عن طلب العلـم تفرغا، في سن مبكرة، لـخوض غمار الـحياة قبل حيـنه.
عند انقطاعه عن مزاولة الدراسة كان الفتى قد تعلـم بَعْدُ القـراءة و الكتابة في «الـجامع» جريا على الطـريقة الـمتبــعــة في عهــده، وأكسبـــه ما حفظه من سور الذكر الـحكيـم و تعلـمه من مبادئ العربية قوة الـحافظة و حدة الذاكرة و خصوبة الـمخيلـة، و هو ما مكنه من الـمزيد من تـحصيل الـمعرفة باجتهاده الـخاص وبعون من اتفقت له مجالسته من العلـماء فأثرى رصيده اللغوي الغـــزير ووسع علـمه.
و لقـــد جاء في بعض الشهادات أن الشيخ قدور أخذ يقرض الشعر ويتعاطى الغناء منذ أن كان عمره ثلاثة عشر عاما إلى أن تـمكن منه وامتطى صهوته في تـمام صفات الشاعر الـمطبوع ذي القريحة الثرة والشاعرية الـمدرارة، و طول النفس، وفي تـمام صفات الـمطرب الـمطلوب الـمسموع الذي يـنشد ويغني ما يبدع ويصوغ بنفسه.
إن الشيخ قدور جاء صورة ملـخصة لأولئك العباقرة الذيـن عاشوا قبله في ندرومة موطنه الأول، و في موطنه الثاني تلـمسان، و أعني مثلا سعيد الـمنداسي وأمحمد بن مسايب و محمد و بومديـن بن سهلة، وأحمد بن تريكي وأمحمد الرمعـون و مصطفى بن دمراد.
لقد كانت للشيخ قدور زجات عدة، منها واحدة بـمريـم حفيدة الشاعر الفحل الشيخ أمحمد الرمعون الندرومي صاحب الرائعة الـمشهورة التي مطلعها «يا اللايـمني في ليعتي…» الذي عاصره و عايشه متربعا آنذاك على عرش الشعر الـملـحون في ندرومة. فلا شك أن مصاهرة هذا الرجل الـمتشبع بثقافة بيئته، الـمتضلع في فنون النظم كان لها الأثر العميق في حياة قدور إلى جانب تلك الـمخالطة الـمطردة التي كانت بيـنه و بيـن أستاذه شيخ الزاوية الطيبية، ولي الله الصالـح الـمصطفى بن عمرو التراري الوزاني.
إقتداء بالشيخ أمحمد الرمعون، تعاطى الشيخ قدور نظم الشعر كرياضة فكرية و أدبية على سنة الأدباء الشعبييـن في عصره، ثم كوسيلة للتعبير عن خلـجات صدره ومشاعره للاتصال مع غيره تارة، و تارة أخرى للإدلاء بدلوه في أغراض كان الناس يقبلون عليها و خاصة منها الغزل ووصف الطبيعة و الفخر والـمديح النبوي والأذكار و الـمواعظ، كما تعاطى العزف و الغناء في مجالس الطرب الشعبية التي تقام بـمناسبة الأعراس والولائم، غير أنه لـم يعرف عنه أنه غنى من أجل التكسب حيث كان يتصدق على الفقراء بتمام ما كان يـــؤول له من الـمنـح و الأفضال قليلها أو كثيرها.
كان الشيخ قدور فنانا مطبوعا يتعشق الأدب و يهوى الـموسيقى. و قد وقف جانبا من حياته على هوايته فأخذ عن السابقيـن، و سار على نهجهم و أنشأ في ندرومة، كما قال، فرقة موسيقية ما لبثت أن اشتهرت بإتقان أدائها وبإبداع رئيسها في نظم القصائد و أدائها، و حسن اختياره للنصوص وفق الـمناسبة والـمقام والساعة.
لقد خص الله هذا الشاعر الـمغني بذوق سليـم، و حس مرهف، و طبع مصقول. فلا عجب إذا جاءت قصائده تـحفا أدبية و موسيقية بديعة كما يتجلى من خلال كل واحدة من القصائد التي نـجت من الضياع و ضمنت في ديوانه.
إن الشيخ قدور نهل من الثقافة التي كانت سائدة في بيئته في القرن التاسع عشر الـميلادي ومطلع هذا القرن، تلك الثقافـة التي كانت ولــــيدة تلك الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الـخاصة التي تستمد قوامها الـمؤسساتي مباشرة من الشعب الذي تـَمَكَّن من الاستغناء عن السلطة الفرنسية الدخيلة.
فبالرغم من أنها تعتمد على النقل و التقليد و تخزيـن الـمعارف في حافظة الأجيال، إن تلك الـمؤسسات التي أنشأها الشعب بنفسه، ساهمت في إنقاذ الأساسيات العقائدية و دعم أخلاقيات الـمجتمع الجزائري العربي الإسلامي، و نشر الـمعارف و القيـم الـحضارية بيـن الجماهير، وتثبيت الشخصية الوطنية الـجزائرية وصونها من أمية الانتماء الـحضاري.
إن مديـنة ندرومة العريقة، حيث ولد و مات الشيخ قدور بن عشور الزرهوني، كانت في عهده من الحواضر الجزائرية التاريخية حيت استمرت تلك الـمحيطات الثقافية صامدة رغم سياسة الهدم و التخريب التي انتهجها الـمحتل الفرنسي، و حرص فيها على تقويض دعائم الوطنية و محو معالـم الإسلام الـحنــيف ولغة كتابه العزيز، واستطاعت بفضل رصيد ماضيها الـحضاري الـمساهمة، و بقدر له بال، في بعث مقومات كيان الأمة الجـــزائرية السياسية والثقافيـة و الاجتماعية والاقتصاديـة، وفي انتشالها من براثن الاحتلال الاستعماري البغيض.
لا بد من ذكر أن الشيخ قدور، الذي كان يعتزل عن الناس و يطيل الـخلوة، و يبيت في ضريح سيدي أحمد البجائي، كان يعمل بـما كان يتلقاه على يد والــده ويد شيخه الـمصطفى بن عمرو. ففضلا عن الـمجاهدة في العبادة، كان يعصر قريحته و يخرج إلى الناس بأشعار يلـمس الآن أنها في غاية جمــال الـموضوع واللفظ والتــركيب وثراء الـمعاني، وأن جُـلَّها قابل للغناء و الإنشاد.
و لـما تأكد مـيـل الشيخ قـدور إلى ترك ما كان يلهيه من دنياه، رحل إلى مديـنة تلـمسان حيث مكث مقيـما من سنة 1926 إلى سنة 1930.
و إذ تعمق في طلب الـحقيقة الربـانيـة فـإنـه صار متـجردا من العلائق، و معرضا عن العوائق، ولـم يبق له قبلة و لا مقصدا إلا الله تعالى، التفت حوله جماعة من الـمريديـن و نشأت من تلك الرابطة زاوية طرقية ما زالت قائمة إلى حد الآن في تلـمسان. و من البديهي أنه انقطع في هذه الـحقبة الأخيرة من حياته عن نظم الـحوزيات متفرغا لتأليف الـمنظومات مثل تلك التي جاءت في «كنوز الأنهار و البحور في ديوان السر و النور» و هـــي تتناول كلهـا «الـحقيقـة واللطائف الروحية».
- إنتقل إلى فهرس الشهائد والفتاوي
- إنتقل إلى فهرس الأعلام اللاحقين
عندما اجتمع بالشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة رضي الله عنه بمدينة تلمسان, انتمى إليه وألقى إليه الانقياد واعتبره اعتبارا زائدا, فقيل له في ذلك: "والحالة أنك كنت تقول (ما فوقي أحد من أهل الله)", فقال: "إلا هذا الرجل فإنه أرفع مني منزلة ! بعد اجتماعي به رأيت بعد ذلك بنحو اليومين رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المنام يقول لي: إذا كنت ولدي حقّا فعليك بمتابعة هذا الرجل، ويشير بيده الشريفة إلى سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة رضي الله عنه... ثم كنت صليت معه إحدى الصلوات, فعندما قمنا للصلاة تقدّم للإمامة, فانفتح لي باب في ظهره فرأيت منه الكعبة بيت الله الحرام". وهكذا كان يخبر بهذا ونحوه في جل مجتمعاته.
ومما سخر الله فيه له القوافي, فتراه يأتي ارتجالا بانظام عليها أجمل طلاوة وإن لم توافق مصطلح العروضيين, فقد خلّف وراءه أكثـر من 3000 قصيدة، لم يتم جمع سوى 200 منها, على أن الرجل أمي لا يحسن الكتابة وقد مدح الأستاذ بانظام عديدة يذكر فيها بأبلغ ما يذكر به ممدوح وقد دافع بمثلها أيضا على النسبة العلاوية.1
1. المصدر: الشهائد والفتاوي فيما صحَّ لدى العلماء من أمر الشيخ العلوي
ترجمته رضي الله عنه :
ولد الشيخ قدور بن عاشور الزرهوني في ندرومة 1850م، و نشأ ودرج للتعلـم قبل دخوله معترك الـحياة، ثم مال، اعتبارا من سنة 1900، إلى طلب الـمعرفة الربانية بالتفرغ كليا للزهد و التعبد، ثم انتقل إلى حاضرة تلـمسان حيث مكث مقيـما من سنة 1926 إلى سنة 1930، و بعد ذلك عاد إلى مسقط رأسه و موطن أسلافه حيث توفي في يوم الاثنيـن 6 يونيو 1938.
لعل هذا الشاعر أقل أمثاله، الذيـن برزوا في تعاطي الشعر الملحون في الـجزائر، شهرة في الأوساط الأدبية والـجامعية و الفنية الـمهتمة بجمع التراث من الشعر الـملـحون ودراسته و تلـحيـنه، وذلك رغم أنه من الذيـن نبغوا في الـجزائر في غضون القرنيـن التاسع عشر و العشريـن، وبلغوا فيه منزلة القدامى الفحول، و رغم تداول العديد من الـمطربيـن الـمتعاطيـن للون الشعبي الجزائري على أداء الكثير من قصائده التي نـجت بفضل ذلك من الضياع، بأساليب فنية اختلفت باختلاف الـمدارس والـمشارب الـموجودة من حيث القالب الفني بيـن أداء الشيخ إدريس برحال والشيخ حمادة، و الـحاج أمحمد العنقاء و فضيلة الدزيرية، والأستاذ خليفي أحمد، والأستاذ الحاج محمد غفور و عمار العشاب وبوجمعة العنقيس وحسن السعيد وعمار الزاهي و غيرهم من الـمطربيـن.
إن الـمراجع الـمكتوبة غير موجودة، أو تكاد، للـمساعدة على التعرف موضوعيا على سيرة الشاعر الشيخ قدور بن عشور الزرهوني و هي لا تتمثل سوى في ترجمة مختصرة غاية الاختصار متضمنة في مصنف « كنوز الأنهار والبحور في ديوان السر و النور» الذي نشر عام 1938 بوجدة متضمنا منظوماته في التصوف و أقوال العارفيـن، و مخطوط يقع في 124 صفحة يتضمن نص «مناقب الشيخ الكامل إمام العارفيـن و رئيس الأولياء و الصالـحيـن الغوث الوحيد والقطب الفريد سيدنا و مولانا قدور بن عشور الندرومي الزرهوني الإدريسي» الـمحرر في صيغة الـمتكلـم و الذي اعتنى بتصحيحه وتدويـنه بخط يده ابنه عبد العزيز الذي كان محاميا لدى الـمحكمة العليا بالـجزائر، و ذلك في تاريخ 13 مايو 1957. وجاء في نص الترجمة ما يلي :
«هو الشيخ قدور بن أحمد بن قدور بن محمد بن علي بن الطيب بن أحمد بن الهادي بن الـمهدي بن منصور بن عبد الـحق بن سليـمان بن سعيد بن وكيل النور بن الـمعطي بن داود الـخيار بن عبد الـجبار بن عيسى بن خير الديـن بن عيسى بن سليـمان بن الـمزوار بن حيدر بن محمد العاشر بن إدريس بن إدريس. ولد بـمديـنة ندرومة سنة 1280 هـ تقريبا، وهو حفيد السيد قدور بن عشور الزرهوني الذي كان خليفة باي وهران بدائرة ندرومة، فحفظ شيئا من القرآن و وصل إلى «الرحمن علـم القرآن…»، ثم ترك القراءة و تعاطى علـم الـموسيقى و صارت له اليد الطولى فيــه. و قد اشتغل بخدمة ولي صالـح اسمه سيدي الـمصطفى بن عمرو وخدمه فنال على يــده الفتـح في السر و الاسم والولاية. و بعد موت شيخه، سيدي الـمصطفى، غرق في التصوف والـحقيقة حتى أدرك الغوثانية العظمى».
إن سنة ميلاد الشاعر 1850م توافق العام الهجري1267 و ليس 1280 كما جاء في الترجمـة أعلاه، و ذلك هو الأرجح لأنه مسلـم لدى جميع الـمطلعيـن أنه توفي سنة 1938م الـموافقة للعام الهجري 1356 و هو في الثامنة و الثمانيـن من عمره.
ترعرع الشيخ قدور في ندرومة التي كانت من الحواضرة ذوات الـمكانة في سائر مناحي الـحياة العلـمية و الأدبـــية والتجارية والصناعية، في حضن أسرته الـحسيبة التي كان فيها ما شاء الله من أصحاب الـمروآت و الفضائـل والـمواهب بـما يـمكن اعتبارها، برجالها و نسائها، ملـخصا للـمجتمع الندرومي آنذاك، ودرس ما كان يدرسه أقرانه من الصبيان و اقتصر في الدراسة على ما تيسر له كأترابه الذيـن تشاء لهم الأقدار الانقطاع عن طلب العلـم تفرغا، في سن مبكرة، لـخوض غمار الـحياة قبل حيـنه.
عند انقطاعه عن مزاولة الدراسة كان الفتى قد تعلـم بَعْدُ القـراءة و الكتابة في «الـجامع» جريا على الطـريقة الـمتبــعــة في عهــده، وأكسبـــه ما حفظه من سور الذكر الـحكيـم و تعلـمه من مبادئ العربية قوة الـحافظة و حدة الذاكرة و خصوبة الـمخيلـة، و هو ما مكنه من الـمزيد من تـحصيل الـمعرفة باجتهاده الـخاص وبعون من اتفقت له مجالسته من العلـماء فأثرى رصيده اللغوي الغـــزير ووسع علـمه.
و لقـــد جاء في بعض الشهادات أن الشيخ قدور أخذ يقرض الشعر ويتعاطى الغناء منذ أن كان عمره ثلاثة عشر عاما إلى أن تـمكن منه وامتطى صهوته في تـمام صفات الشاعر الـمطبوع ذي القريحة الثرة والشاعرية الـمدرارة، و طول النفس، وفي تـمام صفات الـمطرب الـمطلوب الـمسموع الذي يـنشد ويغني ما يبدع ويصوغ بنفسه.
إن الشيخ قدور جاء صورة ملـخصة لأولئك العباقرة الذيـن عاشوا قبله في ندرومة موطنه الأول، و في موطنه الثاني تلـمسان، و أعني مثلا سعيد الـمنداسي وأمحمد بن مسايب و محمد و بومديـن بن سهلة، وأحمد بن تريكي وأمحمد الرمعـون و مصطفى بن دمراد.
لقد كانت للشيخ قدور زجات عدة، منها واحدة بـمريـم حفيدة الشاعر الفحل الشيخ أمحمد الرمعون الندرومي صاحب الرائعة الـمشهورة التي مطلعها «يا اللايـمني في ليعتي…» الذي عاصره و عايشه متربعا آنذاك على عرش الشعر الـملـحون في ندرومة. فلا شك أن مصاهرة هذا الرجل الـمتشبع بثقافة بيئته، الـمتضلع في فنون النظم كان لها الأثر العميق في حياة قدور إلى جانب تلك الـمخالطة الـمطردة التي كانت بيـنه و بيـن أستاذه شيخ الزاوية الطيبية، ولي الله الصالـح الـمصطفى بن عمرو التراري الوزاني.
إقتداء بالشيخ أمحمد الرمعون، تعاطى الشيخ قدور نظم الشعر كرياضة فكرية و أدبية على سنة الأدباء الشعبييـن في عصره، ثم كوسيلة للتعبير عن خلـجات صدره ومشاعره للاتصال مع غيره تارة، و تارة أخرى للإدلاء بدلوه في أغراض كان الناس يقبلون عليها و خاصة منها الغزل ووصف الطبيعة و الفخر والـمديح النبوي والأذكار و الـمواعظ، كما تعاطى العزف و الغناء في مجالس الطرب الشعبية التي تقام بـمناسبة الأعراس والولائم، غير أنه لـم يعرف عنه أنه غنى من أجل التكسب حيث كان يتصدق على الفقراء بتمام ما كان يـــؤول له من الـمنـح و الأفضال قليلها أو كثيرها.
كان الشيخ قدور فنانا مطبوعا يتعشق الأدب و يهوى الـموسيقى. و قد وقف جانبا من حياته على هوايته فأخذ عن السابقيـن، و سار على نهجهم و أنشأ في ندرومة، كما قال، فرقة موسيقية ما لبثت أن اشتهرت بإتقان أدائها وبإبداع رئيسها في نظم القصائد و أدائها، و حسن اختياره للنصوص وفق الـمناسبة والـمقام والساعة.
لقد خص الله هذا الشاعر الـمغني بذوق سليـم، و حس مرهف، و طبع مصقول. فلا عجب إذا جاءت قصائده تـحفا أدبية و موسيقية بديعة كما يتجلى من خلال كل واحدة من القصائد التي نـجت من الضياع و ضمنت في ديوانه.
إن الشيخ قدور نهل من الثقافة التي كانت سائدة في بيئته في القرن التاسع عشر الـميلادي ومطلع هذا القرن، تلك الثقافـة التي كانت ولــــيدة تلك الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الـخاصة التي تستمد قوامها الـمؤسساتي مباشرة من الشعب الذي تـَمَكَّن من الاستغناء عن السلطة الفرنسية الدخيلة.
فبالرغم من أنها تعتمد على النقل و التقليد و تخزيـن الـمعارف في حافظة الأجيال، إن تلك الـمؤسسات التي أنشأها الشعب بنفسه، ساهمت في إنقاذ الأساسيات العقائدية و دعم أخلاقيات الـمجتمع الجزائري العربي الإسلامي، و نشر الـمعارف و القيـم الـحضارية بيـن الجماهير، وتثبيت الشخصية الوطنية الـجزائرية وصونها من أمية الانتماء الـحضاري.
إن مديـنة ندرومة العريقة، حيث ولد و مات الشيخ قدور بن عشور الزرهوني، كانت في عهده من الحواضر الجزائرية التاريخية حيت استمرت تلك الـمحيطات الثقافية صامدة رغم سياسة الهدم و التخريب التي انتهجها الـمحتل الفرنسي، و حرص فيها على تقويض دعائم الوطنية و محو معالـم الإسلام الـحنــيف ولغة كتابه العزيز، واستطاعت بفضل رصيد ماضيها الـحضاري الـمساهمة، و بقدر له بال، في بعث مقومات كيان الأمة الجـــزائرية السياسية والثقافيـة و الاجتماعية والاقتصاديـة، وفي انتشالها من براثن الاحتلال الاستعماري البغيض.
لا بد من ذكر أن الشيخ قدور، الذي كان يعتزل عن الناس و يطيل الـخلوة، و يبيت في ضريح سيدي أحمد البجائي، كان يعمل بـما كان يتلقاه على يد والــده ويد شيخه الـمصطفى بن عمرو. ففضلا عن الـمجاهدة في العبادة، كان يعصر قريحته و يخرج إلى الناس بأشعار يلـمس الآن أنها في غاية جمــال الـموضوع واللفظ والتــركيب وثراء الـمعاني، وأن جُـلَّها قابل للغناء و الإنشاد.
و لـما تأكد مـيـل الشيخ قـدور إلى ترك ما كان يلهيه من دنياه، رحل إلى مديـنة تلـمسان حيث مكث مقيـما من سنة 1926 إلى سنة 1930.
و إذ تعمق في طلب الـحقيقة الربـانيـة فـإنـه صار متـجردا من العلائق، و معرضا عن العوائق، ولـم يبق له قبلة و لا مقصدا إلا الله تعالى، التفت حوله جماعة من الـمريديـن و نشأت من تلك الرابطة زاوية طرقية ما زالت قائمة إلى حد الآن في تلـمسان. و من البديهي أنه انقطع في هذه الـحقبة الأخيرة من حياته عن نظم الـحوزيات متفرغا لتأليف الـمنظومات مثل تلك التي جاءت في «كنوز الأنهار و البحور في ديوان السر و النور» و هـــي تتناول كلهـا «الـحقيقـة واللطائف الروحية».
- إنتقل إلى فهرس الشهائد والفتاوي
- إنتقل إلى فهرس الأعلام اللاحقين
تعليقات
إرسال تعليق