محمادي بالحاج الطاهر

نبدأ بذكر ما جاء عن الشيخ السيدي محمادي بالحاج الطاهر رضي الله عنه في بعض المصادر التوثيقية للطريقة العلاوية التي كانت بأيدينا (
الروضة السنية, الشهائد والفتاوي) قبل أن نعثر أخيرا على ترجمة له كاملة من كتاب "إتحاف ذوي النهي والبصائر في تراجم الشيخ العلاوي شيوخه وبعض خلفائه الأكابر" للشيخ عبد ربه البوزيدي رضي الله عنه.
 

جاء في الروضة السنية في المآثر العلاوية للشيخ عدة بن تونس رضي الله عنه (طبع سنة 1936) صفحة 119, 120 ما يلي:
ومنها زاوية المنتسب الذاكر, الشيح سيدي محمد بن الحاج الطاهر بقبيلة بني شيكر بقلعية السعيدي أصلاً, الشيكري منشأً, وهو أحد حملة كتاب الله, وقبل قيامه بشؤون النسبة, كان منقطعا في خدمة شيخه سنوات عديدة بمدينة السوقر من عمالة وهران, وبعضها بزاويته الكبرى بمستغانم (حيث اشتغل بإقامة الأذان). ولم يكن في جميع ذلك إلا العامل المخلص الذي أخلص وجهته لله تعالى. وبعد قضاء تلك المدة ذهب مأذونا إلى بلاده, فانتشر ذكره وقبلت دعوته, وبعد مدة أبتلاه الله بفتنة السجن, فمكث فيه زمنا غير يسير, ثم انفرجت عنه كربته وأطلق الله سراحه وأصبح بريئا مما ألصق به من التهم, فاشتغل بما يهمه من جهة القيام بواجبه, ولم يزل على حاله إلى اليوم, والله (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور).  

وجاء في نفس الكتاب صفحة 181-182 ما يلي:
ومن ذلك ما أخبر به العارف بالله الشيخ البركة سيدي محمد بن الحاج الطاهر القلعي قال: "كنت أرعى بعض دواب الشيخ سيدي أحمد بن عليوة رضي الله عنه لما كنت متجردا بزاويته, وكانت من بينها فرس, فنمت ذات ليلة فرأيت نفسي منقسما على نصفين, فأخذت أبحث عن السبب الذي يجمعني في ذاتي, فقيل لي: "إذا أردت أن تحصل على اجتماع شقيك والتئام ذاتك فتمسح على فرس الشيخ", ففعلت كما قيل لي, فكان الأمر كذلك, ولما أفقت صرت أحب تلك الفرس على خلاف ما كنت أعاملها به من قبل". 
 
جلالة الصوفي المعتبر فضيلة الشيخ السيد محمد بن الحاج الطاهر ذي الأتباع المنتشرين بنواحي القلعية حكم مليلية التي بها مقره الآن. كنت قد اجتمعت بالكثيرين من أتباعه فرأيت عليهم شيم الذاكرين وشعار المحبين, ومن ذلك تصبرهم على ما لحقهم من العذاب الهون من حكومة الإسبان وما عاملتهم به من التضييقات والسجون على أن يتركوا نسبتهم ويغيروا شعارهم, فما فعلوا ولن يفعلوا إن شاء الله إلى أن طال بها ما حاولته, فأطلقت شبيل الكثير منهم الآن. أما فضيلة الشيخ سيدي محمد بن الحاج الطاهر المذكور فهو إلى الآن رهين السجن راضياً من الله بقسمته بعد ما مرت عليه نحو السنتين. وما كان طلب حكومة الإسبان منه إلا أن يترك ما كان قائما به من إرشاد الناس وبث النسبة, وما ينبغي له أن يترك وقد كان سبق الحديث عنه وعن جماعته في بعض التقارير. أما علاقته مع الأستاذ فقد كان يعتبر نفسه مملوكا لديه. وكان قد أقم بزاويته عدة سنوات, فاشتغل في أول الأمر برعاية بعض دواب الزاوية ثم اشتغل أخيرا بإقامة الآذان وبعض الشؤون الأخرى إلى أن سرحه الأستاذ إلى بلاده بعد التحصيل على غايته من الطريق, وأمره بإرشاد الخلق وأجازه فى ذلك. ولما وصل إلى بلاده تعذر الأمر عليه بحيث لم يجد من يجتمع به, فرجع إلى الأستاذ فوجهه ثانية, ثم رجع على غير طائل فوجهه الأستاذ لثالث مرة, فعنج ذلك أقبل عليه الناس إقبالا, فشاع ذكره وانتشر خبره وانتفع الجم الغفير بصحبته وشهد له أهل الفضل بما ظهر على يده, وقد تقدم ما اعترف به حضرة قاضي القضاة بتلك النواحي في هذا الباب (وقد شهد له قاضي قضاة منطقة مليلية الحاج حمو بن أحمد القادري: بأنه قد بذل وسعه في نصح العباد, وأن الفقراء يجتمعون ليلة كل جمعة ويعمرون وقتهم بذكر الله. صفحة 190 إلى 192), وإلى الآن (سنة 1925) لم يزل أتباعه وأهل قبيلته تتوارد على الزاوية بمستغانم مع ما هم عليه من التشديدات, خفَّفَ الله ما نزل بهم وحفظهم في إيمانهم.  
 
ترجمته من كتاب "إتحاف ذوي النهي والبصائر في تراجم الشيخ العلاوي شيوخه وبعض خلفائه الأكابر" للشيخ عبد ربه البوزيدي رضي الله عنه: 

الشيخ الصالح والولي المفلح القطب الرباني المجاهد في سبيل الله, وفي رفع لواء الطريقة العلاوية صاحب الأسرار وعناية الله والسكينة والوقار, الشيخ سيدي محمادي بلحاج الطاهر.كان والده رحمه الله فاضلاً من عباد الله الصالحين, وهو من قبيلة بني سعيد, وانتقل إلى قبيلة بني شيكر, وكان استقراره في قرية بني علي بالقلعية, فانخرط في الطريقة القادرية هناك, وكان معظماً ومحترماً عند الشرفاء القادريين بزاوية ورش (بني شيكر). وكان يجتمع الفقراء عليه في داره ويتكرم عليهم ويقوم بضيافتهم. وبما أنه من حملة القرآن الكريم ومن أهل الاستقامة, رشحه الفقراء القادريون مقدماً عليهم, ثم زوَّجوه كريمة منهم, فأنجبت له أولاداً إناثا وذكوراً, كان من جملتهم سيدي محمادي, فنشأً تحت أحضان والديه.
 
ولقا تم له من العمر سبع سنين أدخله والده الكتاب لتعليم الكتابة والقراءة فجد واجتهد حتى استظهر القرآن الكريم عن ظهر قلبه وهو لا يزال صغيرا. ثم توفي والده فبقي يتيماً كباقي إخوانه وأخواته. ثم خطر بباله يوما أن يذهب إلى البلاد المقدسة لتأدية فريضة حج بيت الله الحرام عن طريق البر, فخرج بهذا القصد إلى أن بلغ به المطاف للجزائر, فنفد ما كان عنده من الزاد وجعل يتنقل من مسجد إلى مسجد, وأجَّر نفسه في بعض المساجد على تعليم الأطفال والإمامة. 
 
يوما ما نزل عنده ضيف من الفقراء العلاويين قادماً من زاوية مستغانم ,فأكرمه وسهر معه تلك الليلة وهو يحدثه عن الطريقة العلاوية, وأخبره عن ظهور الشيخ العلاوي وما يقوم به من التربية وتلقين الاسم الأعظم, فاشتاق للالتحاق به.
 
وعند صباح الغد صحب ذلك الفقير وذهبا معاً لمستغانم, فلما وقفا في باب الزاوية ذكر الفقير صيغة الجلالة "لا إله إلا الله" بأعلى صوته, فسمعه الشيخ العلاوي, فخرج لملاقاتها, فتقدم الشيخ سيدي محمادي للسلام عليه, فقبَّل يد الشيخ ونظر إليه, وكان وقت الصلاة, فأمره الشيخ بالآذان, فأذن وكان جوهري الصوت عذب اللهجة.
 
بعد ذلك لقنَّه الشيخ العلاوي الورد العام ثم أمره فيما بعد بالخلوة على الطريقة المعروفة عند القوم, وفي أقرب وقت, لاحت له الأنوار ونال الفتح الأكبر وظهرت عليه ملامح الفتح, فأخرجه الشيخ من الخلوة وأمره بالخدمة في الزاوية والتجريد والقيام بمصالح الشيخ, فكان تارة يرعى البقرة حيث يأخذها للبادية, وتارة يشتغل بتعليم الصبيان وقراءة القرآن.
 
في إحدى الأيام بعثه الشيخ العلاوي لقبائل زواوة مع أحد مقدمي الطريقة من بلاد زواوة, وكانت الطريقة العلاوية قد انتشرت بينهم فيما قبل. وسبب بعثه لهناك هو جمع الفتوحات والهدايا والمعاونة لبناء الزاوية الكبرى بمستغانم. ولما نزلوا عليهم, أكرموهم حيث استقبلوهم بالإكرام والضيافة والحفاوة, فجمعوا لهم هدايا كثيرة وبعثوا بها إلى الشيخ.
 
وكانوا في كل ليل ونهار يجتمعون مع الفقراء وكانت تكتظ بهم الزاوية لذكر الله وعمارة الوقت, والناس يعتنقون الطريقة أفواجاً. ولكن وُشِيَ بهم للحكومة (الاستعمارية) فسجنوا مع جماعة من الفقراء مدة ثلاثة أشهر, ولما فرَّج الله عنهم رجعوا للزاوية بمستغانم.
 
 واستمر الشيخ سيدي محمادي على عمله للتجريد والخدمة, حتى أمره الشيخ العلاوي بالرجوع إلى بلده وأذن له بالتلقين (والتربية والإرشاد) ونشر الطريقة.
 
لما قدم لبلاد الريف, نزل أول مرة بقبيلة فرخانة في قرية ببني جوهرة حيث كانت أخته متزوجة بها عند سيدي الحاج حمُّو جوهرة, فتوظف بمسجد كإمام, وكان يلقن الطريقة, ثم انتقل إلى مسجد مولاي إدريس دار المخزن فجعل يدعو الناس إلى الطريقة والدخول في أهل سلك الله, فجعل الناس يأتون أفواجا ذكوراً وإناثا.
 
وكان من تلامذته سيدي علال زريوح, فزوجه بابنة أخيه ونقله إلى قرية عطيطن (إعطارن) حيث كانت سكناهم هناك, فسكن رضي الله عنه معهم. قكان اجتماع الفقراء لذكر الله عز وجل أولا بداره ثم بعد مدة انتقل إلى دار أبيه بقبيلة بني شيكر حيث جاء بطريقة جديدة علاوية. 
 
كان يلقن ببني شيكر الأوراد والناس يأتون إليه أفواجا من كل القرى, ثم قامت قيامة الحسدة من أهل الطريقة القادرية وكانت لهم يد مع الحكومة الإسبانية فأذوه وطردوه خوفا على أتباعهم أن يميلوا إلى الطريقة الجديدة التي جاءت بنور ساطع قوي, فلما فرَّ لمستغانم تشاور مع شيخه في الموضوع فأمره بالرجوع والصبر والثبات. فرجع رحمه الله إلى داره وأجَّر نفسه في بعض المساجد لتعليم الصبيان قراءة القرآن واستمر على نشر الطريقة. فعاد الحسدة لأذاتيه, فرفعوا أمره إلى الحكام الإسبانيين وألصقوا به تهمة, فألقي عليه القبض وزج به في السجن, أولا بتزطوطين حيث جعلوه في مطمورة في تخوم الأرض, ولكن كان ذلك كخلوة له, فكان ذكر الله دأبه وهجيره ليل نهار كما حكى عنه بعض الجنود من كان مكلفاً به, ثم نقلوه بعد ذلك إلى مدينة زايو, وفى النهاية أخذوه لمدينة مليلية حيث دام سجنه بها سبع سنين.
 
 كان رحمه الله ثابتاً في طريقة شيخه راسخاً في محبته وممتثلاً لأوامره لا يتحرك إلا بإذنه ولو في السجن, وبهذا نال رضاه ورضا الله ورسوله, ونال تلك الحكمة التي أخذها بالصبر والامتحان كما يقال "عند الامتحان يعز المرء أو يهان". وقد جاهد في سبيل الله, وبذلك ابتاع نفسه لله. لم يوجد مريد في هذه الطريقة العلاوية تحمل هذا التكليف مثل هذا الرجل العظيم ,فقد امتحنه مولاه وقواه وأمده بالثبات, باع نفسه وبذل مدة طويلة من عمره وفارق أهله وترك أولاده صبياناً صغاراً في محبة الله ونصرة لطريقة شيخه وغرسها في بلاد الريف رغم كل حاسد.
 
وكان الإسبان في الآخر يراودونه على ترك الطريقة العلاوية واعتناق طريقة أخرى ويعدونه بالإفراج عنه إذا تركها فيرفض ذلك, ولما علم حكام إسبانيا إخلاصه وإصراره على طريقته وإقباله على الله أعطوا له حرية في السجن وسمحوا لزواره بزيارته في أي وقت شاءوا, وكان السجن مفتوحاً للفقراء الزوار لا يمنعهم مانع, حيث كان الفقراء يأتون من كل القبائل يقصدون زيارته والتبرك به ويلتمسون منه الدعاء الصالح, وكان يلقن اسم الله الأعظم لبعض الفقراء داخل السجن ففتح الله عليهم. 
 
وكان أول ما دخل سجن مليلية وجد به أناسا جاهلين بالله غافلين عنه فدعاهم إلى الله وعلمهم مبادئ دينهم ولقنهم الورد وأجابوه, وأصبح السجن كزاوية له يدوي بذكر الله تعالى وتظاهر بشعائر الدين والإسلام كالأذان وإقامة الصلوات الخمس جماعة والاجتماع على الوظائف والأوراد وإقامة حضرة الذكر.
 
وكان هذا الشيخ العظيم هو السبب لنشر الطريقة في بلد الريف قبل كل أحد, فلو جاء بها أحد قبله لكان هو المسجون ولكن هو الذي أظهر بها لأول مرة وشهرها ورفع رايتها في جميع قبائل الريف وقبائل القلعية, فكان وهو في السجن يلقن الأوراد ويدعوا إلى الله ويعين المقدمين ويأمر بتأسيس الزوايا. وأول زاوية تأسست بإذنه هي زاوية الشيخ سيد بلقاسم السعيدي من أنجال القطب سيدي محمد بن قدور الوكيلي, أسسها وهو في السجن.
 
وكان رحمه الله يأمر المقدمين بإرشاد الناس خفية حتى لا تشعر بهم حكومة إسبانيا, وكم من أتباعه بسب دخولهم في طريقته ذاقوا في السجن كل أنواع العذاب ليتركوا نسبتهم وما تركوها وما زادهم ذلك إلا إيماناً وتمكيناً, ولهذا كان توجه الشيخ العلاوي بنظرته الصافية وبدعائه الخالص لهذا الشيخ سيدي محمادي وأتباعه من بلد الريف, فمنذ انتسابه إلى شيخه رحمه الله تعالى وهو يناضل ويجاهد في سبيل الله ونشر الطريقة العلاوية. وقد شهد له شيخه بذلك أمام رجال الطريقة وأفرادها خصوصاً إذا حضر بين يديه فقراء الريف, كان يجهر بذلك أمامهم ليزدادوا إيمانا ويقيناً, ولنذكر منها بعض الشهادات التي شهد له بذلك.
 
فمنها أنه إذا قدم فقراء الريف إلى الشيخ العلاوي كان يسألهم ويقول لهم: "رأيتم الشيخ سيدي محمادي بلحاج؟", فإن قالوا رأيناه أو جاءوا بسلامه أو برسالته, استبشر وتظاهر بالبشرى على وجهه ويستقبلهم بكل فرح وسرور, ثم يأمرهم بمحبته والوفاء بعهده, فإن ذكروا له عدم رؤيته ولم يكن عندهم شيء من أخباره أعرض عنهم. 
 
ومنها أنه كان يوما جالسا مع أفراد الطريقة وبعض العلماء وكان يذاكرهم, وفي أخر مذاكرته قال: "هذا الشيخ سيدي محمادي بلحاج, فإن ادَّعى الطريقة فقد أدَّى فيها المهر".
 
ومنها كان رضي الله عنه جالساً في محضر الفقراء والعلماء وأعيان الطريقة, فكانت المحاضرة كبيرة, فذكر الشيخ سيدي محمادي وقال: "هذا الشيخ سيدي محمادي بلحاج من بلد الريف مسجوناً على طريقتنا, فيستدعيه الحاكم الإسباني إلى المحكمة, فإذا حضر بين يديه يراوده على ترك الطريقة العلاوية واعتناق طريقة أخرى ويعده بإطلاق سراحه, فيقول لهم: "أرجعوني إلى السجن", ثم يضيف الشيخ: "والله لوكنت أنا لرميت هذه السبحة", وكانت السبحة في يده فرمى بها على الأرض.
 
ومنها كان رضي الله عنه جالساً يوما وبين يديه فقراء الريف, فكان يذاكرهم في شأن الشيخ سيدي محمادي حتى قال لهم: "إخواني, من عجز منكم عن زيارتنا لمعذر من الأعذار, فعليه بزيارة الشيخ سيدي محمادي بالحاج, فهو يدنا في بلد الريف".
 
هؤلاء الشهود كلهم سمعوا الشيخ يصرِّح بهذه الشهادات المتنوعة وكلها تصرخ وتلوِّح بتعظيم الشيخ العلاوي لتلميذه الشيخ محمادي بالحاج وباعتباره رجلاً فاضلاً شهماً لله وبالله, ومن لم يذعن فيعتبر عاقاً لشيخه ورجال الطريقة وأعيانها والفقراء الحاضرون. هكذا سمعوا من شيخهم سيدي احمد العلاوي الذي كان يسميه بصراحة الشيخ إمامهم توضيحاً لمرتبته العالية في طريقته.
 
كان فقراء الريف يحكون عنه ذلك طيلة مدة حياتهم بين العامة والخاصة, وبعض الحاضرين من أولئك الشهود الذين سمعوا من فم شيخهم لا زالوا على قيد الحياة يروون ذلك. وهكذا بقي رحمه الله وهو في السجن يدعو الناس إلى الله ويدلهم عليه والسجن مفتوح وفي داخله الحضرة والذكر والسماع بالأشعار والإنشاد. كان السجن كزاوية من الزوايا, فما خرج من السجن رحمه الله حتى اجتمع له جموع غفيرة من الفقراء. 
 
وهكذا قضى ما قدر الله له من مدة السجن حتى سفر الشيخ العلاوي لأداء فريضة الحج, حيث اجتمع بالديار المقدسة ببعض كبار المغاربة من بلد الريف كانوا موظفين من طرف الحكومة الإسبانية, فتكلم معهم في شأن هذا الشيخ لكي يتوسطوا له ويتشفعوا فيه لإطلاق سراحه. فلما رجعوا من فريضة الحج تكلموا مع المسؤولين بتطوان في شأنه, فأصدر الأمر بالإفراج عنه, فأطلق سراحه وخرج من السجن رحمه الله تعالى, وكان قد قضى في السجن سبع سنوات فتصورت له كسبعة أيام لِمَا كان فيه من الأنس بالله والاشتغال بذكر الله, لا يبالي بمرور الأيام ولا بالليالي ولا بعدد السنين, فما وهن لما أصابه في سبيل الله, وفي مثل هؤلاء يصدق عليهم قوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾ (آل عمران, 146).
 
ولما خرج من السجن وهو في عز الله وعنايته وفاز بأعلى المراتب على كل مريد حيث جاهد وامتحن وصبر وفاز بالرضى من الله والرضوان, فاجتمع به الفقراء من كل جهة فرحين مسرورين بخروجه والإفراج عنه واحتفلوا بقدومه. ثم استدعاه حكام إسبانيا بالناظور فطلبوا منه المسامحة واعتذروا وقالوا له: "إننا غير ملومين, وإنما إخوانك المسلمين هم الذين وشوا بك حسداً منهم وتشفيا", فقال لهم: "إنني سامحتهم وسامحتكم". فشكروه على ذلك وقالوا له: "من الآن فصاعداً كلما ظهر عدو قد تسبب لك في الإذاية والسجن, فاستدعيه للمحكمة تأخذ حقك منه ", فكان جوابه رحمه الله: "أنا ليس لي عدو إلا الشيطان".
 
وحينما خرج وحان وقت الاحتفال العام السنوي بمستغانم, ذهب بخمسمائة فقير مصحوبين بهدايا عظيمة للشيخ العلاوي, وحصل للشيخ العلاوي فرح وسرور وابتهاج كبير بقدومه إليه مع تلك الجماعة العظيمة الموفقة على يديه, فلما وصلوا خرج الشيخ لملاقاته, وخرج معه كل من في الزاوية, فعانقه وأشار للفقراء بزيارته. وكان الفقراء يتزاحمون عليه, فلما احتفلوا بتلك الأشواق والأذواق وفيضان الأنوار وختم الاحتفال وأرادوا الانصراف, استدعاه الشيخ العلاوي إلى منزله وجمع كل ما توفر عنده من الهدايا المالية, فأعطاها له وأمره أن يؤسس بها زاوية في بلده على تخطيط زاوية مستغانم, فامتثل لأمره وبنى زاوية عظيمة في قبيلة بني شيكر قرية بني علي كما أمره شيخه حيث جعلها مقرا للدعوة إلى الله واجتماع للفقراء والوافدين إليه.
 
لما تم بناء الزاوية احتفل الفقراء بزاوية جديدة تأسست على التقوى وهدى من الله, وحضر الاحتفال عدد كبير من الرجال والنساء جاءوا من كل بلد ومن كل ناحية من بلد الريف وقبائل القلعية, فاستمر الاحتفال ثلاثة أيام, وفي أخر يوم من الاحتفال تقدم بعض العلماء للخطبة, وكان إرشاده للفقراء بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يزدادوا إيمانا ومحبة لهذه الطريقة الجديدة العلاوية التي أسعد الله بها بلد الريف, وشكروا ذلك الرجل الثابت الراسخ الذي تسب لدخولها ورفعوا أيديهم جميعاً سائلين الله تعالى طول عمره. ومن نظر في حياة هذا السيد الجليل لا يمتري في مشيخته وخليفته للشيخ العلاوي في شرق شمال المغرب وغيره, وقد شهد له بذلك أكابر من أصحاب الشيخ العلاوي.
 
وهذه أسماء المشايخ الذين شهدوا لسيدي محمادي بالمشيخة:

1.   القطب سيدي مولاي سليمان الشريف الحسيني أكبر عارف في الطريقة العلاوية من جبل القلعية قبيلة بني بيافر.
2.   الشيخ سيدي محمد المدني التونسي أكبر عالم للطريقة العلاوية.
3.   الشيخ سيدي الحاج صالح بن عبد العزيز القادري البغدادي أول متجرد بالزاوية العلاوية بمستغانم.
4.   الشيخ سيدي علي البوديلمي من العلماء المرشدين للطريقة العلاوية من مدينة تلمسان.
5.   الشيخ سيدي علي الطراش من مدينة العيون ناحية وجدة.
6.   الشيخ سيدي أبو مدين البودشيشي من ناحية بركان.
7.   الشيخ سيدي المختار حديدوان من قبيلة كبداني.
8.   الشيخ سيدي إدريس العرباوي من قبيلة العراب ناحية زايو.
9.   الشيخ سيدي ج عمر من قبيلة بني بو يحيى بركان.
10.   الشيخ سيدي ج. عبد القادر بن قدور من قبيلة بني بو يحيى ناحية أدوري.
11.   الشيخ سيدي عمار بن مشيش من قبيلة سيدال.
12.   الشيخ سيدي عبد القادر معنان من قبيلة بني بو يافر.
13.   الشيخ سيدي الحاج الحسن الشكري من قبيلة شكار.
14.   الشيخ سيدي بن عيسى المجرد من قبيلة فرخانة.
15.   الشيخ سيدي الحاج محمد العلوي من مدينة الناظور.
16.   الشيخ سيدي محمد الصغير من أنجال القطب قدور كركر من قبيلة تمسمان.
17.   الشيخ سيدي بن عودة من ناحية الحسيمة من بني ورياغ.
18.   الحاج العربي محمد من ناحية ترجيست بني مزدوى.
19.   الشيخ سيدي الحاج المختار الغماري من مدينة شفشاون.
20.   الشيخ سيدي أحمد الكواش من مدينة تطوان.
21.   الشيخ سيدي أحمد الحصار من مدينة طنجة.
22.   الشيخ سيدي أحمد الملوسي من مدينة القصر الكبير.
23.   الشيخ سيدي محمد بلحاج الصنهاجي من ناحية فاس.
24.   مولاي الطاهر التمسماني حفيد سيدي محمد قدور كركر.
 
هؤلاء المشايخ كلهم كانوا في صحبة شيخهم العلاوي وأخذوا عنه الفتح بذكر اسم الله الأعظم, وكان لهم اتباع اللذين لا زالوا على قيد الحياة, منهم من كان مأذونا لتلقين اسم المفرد للمؤمنين, وكان الفتح على يدهم في أقرب وقت, كلهم كانوا يشهدون لهذا الشيخ سيدي محمادي بلحاج بالمشيخة والقدم الراسخ في الطريقة, وهذا بالإضافة إلى ما كان يشير به إليه الشيخ العلاوي أيام حياته. ومنهم المذكورون من قبائل الريف, ولما انتقل شيخهم العلاوي إلى رحمة الله, رجعوا لصحبته وكانوا تحت إذنه إلى أن وفاه أجله رحمة الله عليه.
 
وقد أذن له شيخه العلاوي بتأسيس زاوية علاوية جعلها للإرشاد والدلالة على الله, وكان رحمه الله يستقبل فيها الوافدين عليه من كل مكان من الفقراء والعلماء والصالحين, وأسس فيها الجمع الأسبوعي في كل ليلة جمعة. كان يحضر في جمعه نحو مائتين فقير وبذلك اشتهرت الطريقة العلاوية في بلد الريف وانتشر صيته في جميع القبائل خصوصاً قبيلة فرخانة وبني شيكر, حيث كثر أتباعه في هاتين القبيلتين العظيمتين, لما وصلت الطريقة الجديدة عندهم استقبلوها رجالاً ونساء, وقد كانوا قبل ذلك في غفلة وجهل, فتبذلت أحوالهم في الحين, فكان في كل قرية من القر المجاورة للزاوية لا تجد فيها إلا ذاكراً الله وذاكرة سرا وعلانية, فقاموا للطريقة بأحسن قيام وأذعنوا للتربية, فرباهم بأحسن تربية وأدبهم وهذب أخلاقهم, وأخذوا عنه الآداب الحسنة والأخلاق الكريمة في جميع حركاتهم وسكناتهم وحتى في لباسهم, امتازوا على غيرهم بتلك الهيأة الحسنة التي كانوا عليها, فهي شعيرة من شعائر الصوفية ومظهر من مظاهر الإسلام, فكانوا ملتزمين بها أين ما كانوا وأينما نزلوا, واليهم يشير بعض الشعراء :

إذا نزلوا بأرض كأنهم أقمار     وفي عيون الناس كأنهم أزهار

وفى ظلام الليل كأنهم أمطار     ومشهدهم يصدق الواقع
  
وقد أدبهم بأحسن أدب في جلوسهم وقيامهم وخصوصاً إذا قاموا للحضرة بالسماع والذكر, فلا تسأل عن تخشعهم وتواجدهم بذكر الله, لا يجري على لسانهم في حركاتهم وسكناهم إلا ذكر لله, وإذا كانوا في لحظة اشتغال الفقراء (بالذكر) لا يتكلمون برفع الصوت بل بخفض الأصوات والحنانة واللطافة, وقد كانوا على نظام واحد وكانوا لا يتكاسلون ولا يتعب أحدهم في الحضرة.
 
وكان رحمه الله يخمر بنفسه في وسط حلقة الذكر لتهييج المحبة في الله العلي العظيم, وهو قوي في ذاته ولهجته يحرك الفقراء بحاله وكثرة شوقه لله, فإذا جلسوا من الحضرة كان يجود الآيات المناسبة للحال من القرآن الكريم, والفقراء حوله متواضعون خاشعون قلوبهم مملوءة بأنوار ذكر الله ومحبة شيخهم لا يتحرك منهم أحد ولا يجهر بالقول بين يديه لهيبته, وكان أحياناً يجلس على جنبه القطب سيدي مولاي سليمان رضي الله عنهما وكان يحبه حباً شديداً. 
 
فهنيئا للفقراء العلاويين بهاذين القطبين الشريفين من بلد الريف, وكان إذا حضر الفقراء بين أيديهما مؤدبين شاخصين فيهما أبصارهم, وكانت سمة عناية الله ظاهرة عليهما ووجههما يتلألأ بالأنوار, فهما رجال الله الأخيار إذا تكلم أحدهما بالمذاكرة استقبلها الفقراء بأذن واعية, كلامهما حلو في القلوب, وأحرى مذاكرة الشيخ سيدي مولاي سليمان لما كان هو المذكر, فقد كان له أسلوب جذاب للقلوب في المذاكرة يوضح الكلام ويعيد المذاكرة مرتين أو ثلاثاً. 
 
أخلاقه وسياحته وأواخر أمره 
 
وكان هذا الرجل العظيم ذو الأخلاق الحسنة والأوصاف الكريمة, تقياً ورعاً زاهداً مثابراً على ذكر الله تعالى, شغوفاً ولوعاً بالدعوة إلى الله, وكان متواضعاً يخدم الفقراء بنفسه ويقوم بشؤونهم ويهيئ لهم الفراش بيده سيما أيام الاحتفال, ويستقبل الفقراء فرقة بعد فرقة, ويجلس معهم لا يتعاظم عليهم, ولا يرفع صوته فوقهم ولا يغضب على من أساء منهم, ويربيهم بالشفقة والرفق, وينفق عليهم كل ما كسب. 
 
وكان رحمه الله كثير الصمت لا يتكلم إلا لضرورة, وكان إذا أقبل عليه أيام الاحتفال يبعث بالرسائل إلى جميع الفقراء يستدعيهم للحضور. وكان أحيانا يخرج للسياحة ليتعاهد الإخوان, غير أنه لم يكن يكثر ذلك في قبائل القلعية إلا لبعض المواضع منها, ومع هذا كان يذهب لتطوان وطنجة والقصر الكبير وسلا وغير ذلك من مدن المغرب. وكان يأذن للشيخ سيدي مولاي سليمان بالسياحة لجميع قبائل القلعية ويقول له: "جزاك الله عنا خيراً, قد تحمَّلت عنَّا هذا التكليف". 
 
وعندما توفي شيخه العلاوي, قامت قيام الحسدة من بعض أصحاب الشيخ العلاوي الذين اشتركوا مع بعض الحسدة من أكابر قبيلة بني شيكر, فجعلوا يكيدونه ويتسببون له في الإذاية حسداً وبغضاً, وفي الآخر نصره الله عليهم فانقلبوا خاسرين, فترك زاويته في بني علي وانتقل لداخل الحدود بضواحي مليلية, فبنى بها زاوية أخرى واستمر على الإرشاد والدلالة على الله إلى أخر حياته, وكان الفقراء يأتون من كل ناحية ومن كل مكان يقصدون زيارته والتبرك به, وطلب الفتح على يديه بتلقين اسم الله الأعظم. ولازالت زاويته عامرة بولده البار رئيسا عليها سيدي الحاج ميمون.
 
كان رحمه الله مرشداً وداعياً إلى الله كما كانت سيرة شيخه العلاوي في مستغانم أيام حياته, إلى أن وافاه أجله المحتوم رحمة الله عليه عدد ما صبر وجاهد في سبيل الله.
 
وفاته رضي الله عنه
 
ولما دنا أجله كان صحيح الجسم ليس به ألم ولا علة ولا مرض فتوضأ وأراد النزول إلى مدينة مليلية, فخرج ومشى غير قليل ثم رجع مسرعاً, فأمر معلم الأطفال بتهيئة الفراش فاضطجع عليه مستقبل القبلة فخرجت روحه الطًاهرة, فطار الخبر وانتشر من ساعته ولا سيما في القبائل المجاورة, فحضر الفقراء حالاً فأثَّر الأسى والحزن جميع الفقراء رجالا ونساء, الحاضرين منهم والغائبين, وجاء الشيخ سيدي مولاي سليمان بجماعة من الفقراء فجلس عند رأسه وكشف عن وجهه وقبله وقال له: "استودعناك في يد الله, لقد كنت مجاهداً", وكانت وفاته نهار يوم الخميس 11 من شعبان 1365هـ, 11 يوليوز سنة 1946م, ودفن يوم الجمعة من الغد بعد الصلاة.
 
وكان الذي تولى غسله هو الشيخ سيدي مولاي سليمان بمساعدة بعض الطلبة الصالحين, وبعد أن جهزوه خرجوا به بالجلالة واجتمع على جنازته جمهور الفقراء والناس لا يحصون كثرة ودفنوه بالزاوية بموضع خاص له كان قد أشار عليه للشيخ سيدي مولاي سليمان في حياته.
 
وعندما تم دفنه, وشعر الإخوان بفقد مرشدهم وناصحهم ومنعشهم, توجهوا جميعا إلى الشيخ سيدي مولاي سليمان, فجددوا عليه العهد ولم يتخلف منهم أحد. وعندما دفن وقعت نادرة وفي الحقيقة تعد من كراماته بعد موته, فقد حضر عميل إسبانيا وهو قائد قبيلة شيكر ومعه أسياده من الشرطة, فأمر الفقراء بإخراج الشيخ رحمه الله من قبره بزاويته ودفنه في المقبرة العامة, وبعد أن راجعه الشيخ سيدي مولاي سليمان وراوده وقال له: "إننا دفناه بزاويته اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دفنوه الصحابة في بيته".
 
بعد التنبيه للقائد والإرشاد الوجيه, أصر القائد وأبى إلا إن يخرج الشيخ من قبره, ذهب بعض الفقراء في الحين إلى جنيرال مليلية الإسباني وشكوا أمر القائد, فأرسل إليه رسالة بانصرافه وقال له في الرسالة: "لا تقف دقيقة هناك", فانصرف ذليلاً خاسئاً حقيراً, وهكذا ذهب هذا الشيخ الطاهر كما ذهب شيخه العلاوي وذهب قبله وبعده شيوخ وشيوخ حتى لا يبقى على وجه هذه البسيطة أحد حين يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين, ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. 


تعليقات