الشيخ العلاوي - البلاغ الجزائري

البلاغ صحيفة إسلامية خالصة أسست لغاية شريفة ومقصد جليل لا تعمل إلا بنية صالحة ولا تدافع إلا عن حق مقدس. البلاغ في نيته أن يكون في المستقبل مرجعا في المسائل العلمية والنكت الدينية يثبت معانيها بأقلام أمكن من الصميم وأرق من النسيم.


البلاغ في نيته أن يقوم بواجبه الديني و كل ما تفرضه عليه الملة والقومية قياما يثبته له التاريخ في صفحة إكليله على غرة جبينه الوضاح وها هو الآن يتوسم من أقلامه ما يجب الاعتناء به, ونحن لا نرهقه على العمل الفوري لعلمنا بأن واجبه أن يتمهل قليلا ريثما يقر القرار وينجلي الغبار.

البلاغ اكتسب الآن من علية الكتاب في زمن قليل ما لا يكتسبه غيره في زمن طويل وقد طوق بنفسه أنصارا من الطبقة العليا وخاصتها الأخيار.

البلاغ لا يثبت زورا ولا يرتكب فجورا ولم يكن في نيته أبدا أن يحدث شقاقا, أو يرتدي نفاقا, ولا يسمح بثلب أي طائفة من الطوائف الإسلامية, وكل ما وقع فيه إنما هو بحكم الضرورة وكفاه أنه لم يكن أبدا إلا مدافعا عن حقوق أمر الله بصيانتها, يرى أن أعراض الأمة محرمة كدمائها وأموالها, ولا إبداع فيما رآه لأنه الأصل الأصيل الذي تحترمه كل طبقة ويقدسه كل مذهب من مذاهب الأمة الإسلامية إن لم نقل هو الأصل المقدس في كل الملل على اختلافها.

وهل يكون قد أخطأ أو أساء إذا التزم على نفسه أن يكون حائلا ووقاية يقي بنفسه أعراض صالحي الأمة من أن تصاب بسهام القاذفين أو ليس هذا من الواجب على كل مؤمن يؤمن بالله وبما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

نعم قد يستثقل ذلك البعض من القراء حيث يظهر له أن الاشتغال بذلك مضيع للوقت مفيد لاتساع الخرق وانتشار المشعبات التي لم تستفد منها الأمة من انحلال روابطها وانفكاك أوصالها, ونحن قد نرى معه ذلك أيضا ولكن هل يسره أن نترك باب الطعن في السلف الصالح مفتوحا على مصراعيه للصادر والوارد فيتطاول كل من سولت له نفسه وأغراه شيطانه إلى أن يأخذ من عرضهم أو ينال من شرفهم, فهذا يمد يده للمتصوفة, والآخر للمحدثين, وهذا للفقهاء, وهذا للمتكلمين إلى أن تستغرق طبقات الأمة انتقاداتهم وإلى أين ينتهي بنا ذلك يا ترى؟

ومن ذا الذي يؤمننا من ذلك التيار أن لا ينسحب على عصر الصحابة أنفسهم, لأن القوم يدينون بوجود المخطئين من بينهم؟ وقد أنبئنا التاريخ بما لم نحتج لبسطه هنا على أنه ما من طبقة إلا ورأت التقصير في نظيرتها ونسبتها لكونها تريد أن تدخل على الدين ما ليس منه ولا يجهل ذلك إلا قليل الاطلاع.

وعليه فالتساهل في فتح باب الطعن في أي طبقة من طبقات الأمة وفي أي مذهب من مذاهبها فلا يفيدنا إلا انسحاب ذلك على الجميع وإلا فالتخصيص بغير مخصص يعتبر من التحكم لا من الحكم المرجوع إليه, وهل هنالك فائدة نرتقبها في فتح ذلك الباب الذي أجمعت الأمة على غلقه منذ عصور طوال؟

ومن ذا الذي يرى من نفسه كفاءة لأن تضع الأمة ثقتها فيه بعدما ترفعها عمن سلف من مجتهدي الأمة وصلحائها؟

ومن ذا الذي يعتبر نفسه الآن الميزان العدل والمرجوع إليه في مثل ذلك بحيث يجسم لنا حجته فترى لنا أوضح من حجج السابقين؟

نعم قد يقول القائل نقتصر في جميع ذلك على كتاب الله وما ورد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلما, ولكن هل يدري أن ما تفرق من المذاهب لم يكن ناشئا إلا عن ذينك الأصلين وقد يزاد عنه أعمال السلف, فكل مجتهد إلا وأخذ من ذلك ما سمح له به فهمه ووصل إليه علمه مما يراه دينا لنفسه يدين الله به بدون ما يلزمنا أحد منهم بما إلتزمه على نفسه ولكن الشارع ألزمنا بحسن الظن فيهم وسد علينا باب الطعن في أعراض العامة من الناس فضلا عن خاصتهم.

فنحن ملزمون من الشارع أن لا نذكرهم إلا بخير ومن لم يقف عند ما حده الله له فسيدرك وبال ما ارتكبه, فإن فاته في هذه فلا يفوته في تلك, لأنه قاطع ما أمر الله به أن يوصل بين سلف الأمة وخلفها بمقتضى قوله جلت قدرته "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ" سورة الحشر - الآية 10.

فهذا ما فرضه الله على الخلق أن يقوله في حق السلف, وهذا ما يراه « البلاغ » حجة يعتمدها في طريق النجاة ويرى من صلاح الأمة وإصلاحها أن لا يتساهل في تنقيص سلفها ولا يمس بسوء أي مذهب من مذاهبها ما دام الجميع متحدا على كلمة الاخلاص وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت وإن اختلفوا فيما عدا ذلك من الفروع, وفي ظني أنه شيء لا يمكن اتحاد الأمة بدونه عند من يرى وجوب اتحادها في دائرة المصالح العامة.

أما الأمر والنهي فهما منحصران في نقطتين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعني بالمعروف والمنكر المجمع عليهما, أما المختلف فيه فقد يكون مما سكت عنه الشارع رحمة بنا لا نسيانا, وعليه فيكون الواجب على الأمة أن تجتهد في تقويم المعروف الذي ثبتت معروفيته بإجماع الأمة كما تجتهد في حطم ما ثبتت منكريته بإجماع الأمة ثم تتساهل فيما عدا ذلك إلى أن ترتبط الأمة ببعضها وتعتنق الفروع بأصولها وتنال حظهما من معلوماتها فيكون العلم إذ ذاك هو الكفيل بالغاية المتجه إليها المستطيع أن يعمل وحده في الزمان القليل ما لم نستطع أن نعمله بدونه في الزمان الطويل.

وهذا ما يراه « البلاغ » صالحا, فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فالمخطئون كثيرون, ولكن أرجو الله أن يعصمنا من العمد فيه.


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري- البلاغ الجزائري - العدد 19 بتاريخ 04 ذي القعدة 1345 هـ - 06-05-1927.

تعليقات