الشيخ العلاوي - البلاغ وما يقال في البلاغ

يقول البعض من أعداء الواقع وأعداء أنفسهم أيضا أن البلاغ الجزائري هو عبارة عن جريدة طرقية ارتجاعية وعلوية أيضا, وغير ذلك من الألقاب التي يرونها صالحة لتحطيم شرف الجريدة حسبما يظنون.


ونحن نقول لهم ليس الأمر كذلك في جميع ما تصفون به البلاغ, ولا أنتم مصيبون في تعريفكم له, إلا إذا قلهم أن البلاغ عبارة عن عقبة كؤود وحجر عثرة في طريق الإلحاد, وفي طريق دعاته, وجذع أجذع في عيون أرباب التجديد وأنصاره, وداهية دهياء لكل من يريد أن يتطور على غير شكله, ومع ذلك فإنك تجده في الحق سريع الانقياد, لين العريكة, طيب المحاورة, على شريطة القول والعمل لأنه يعتقد أن الدين عبارة عن أعمال تخللها أحوال لا مجرد سفسطة وأقوال فارغة.

يود البلاغ أن لو  يوجد من القلوب أوعاها, ومن الآذان أصغاها, ومن الألسن أحلاها, ومن النفوس أزكاها, فترتبط هاته النفوس وتتحد ببعضها اتحاد اللبن بالزلال, تتحد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس في الأمر ما يشتبه, فإن الحلال بين والحرام بين, تتحد على حطم الفجور وأنواع الشرور, تتحد على بث المعارف ونشر الفضائل, تتحد على توطيد المحبة والمودة والألفة والأخوة بين طبقات الأمة, تتحد على السعي وراء إعانة الفقير والمسكين, تتحد على تعليم الجاهل وتنبيه الغافل, تسير في التذكير على نهج مستقيم, ذلك النهج الذي جاءنا بأشرف تعليم من حكيم عليم. يقول فيه للنبي الكريم : "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ, وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ", سورة النحل, آية 125.

تعرف العامة والخاصة أن نبي هاته الأمة, رسول الرحمة, لم يكن سبابا ولا صخابا ولا فحاشا ولا, ولا, … بل كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما.

نجتهد أن تكون أمتنا على وتيرة واحدة لا ينتصرون لغير الدين ولا يتبعون غير سبيل المؤمنين.

أما الطرقيون فإنهم كغيرهم, فمنهم الصالحون ومنهم دون ذلك, والشرع حاكم على الكل غير محكوم عليه. ولا نقول في المتصوفة وفي غيرهم من خاصة الأمة سوى أنهم قوم خصصوا بالقربة من الله وانفردوا بالعزائم في أفعالهم وبغوامض العلوم في أقوالهم, ,وبمكارم الأخلاق في أحوالهم, وإننا لا نقبل من أفعال أو أقوال المكلفين إلا ما اتفق مع الشرع, إما أصلا وإما مرجعا.

غير أنه ينبغي لنا أن نعرف معنى الشرع وما ينتهي إليه من جهة معلوماته حتى لا نحصره في مجرد معلوماتنا, ثم نتخذ ما نعلمه مقياسا لما لا نعلمه, فنظير من هذا وصفه يكون كمن قاس ما عنده من المعلومات على معلومات الرسل عليهم الصلاة والسلام أو معلومات الخاصة من أصحابهم, ثم ليعلم قبل كل شيء أن مراد العلوم ثلاثة: مادة العقل, ومادة النقل ومادة الشعور النفسي, التي يعتبرون عما ينشأ عنها بالعلوم الذوقية. وهو الشيء الذي يدركه الإنسان من نفسه ولا يستطيع التعبير عنه ولا التصريح به نظير ما يدركه الإنسان من اللذائذ والآلام التي تخصه في نفسه, فإنه غير مستطيع التعبير عنها, وكيفما كان فالتعبير لا يفي بالغاية, وعلى هذا التخريج يجري قولهم  :العلوم ثلاثة, علم منقول, وعلم معقول وعلم من وراء العقول. غير أن هاته العلوم جميعها مستعبدة للعلوم الشرعية.

ثم إن المؤمن لا يستطيع إنكار ما أومأنا إليه مما هو من هذا القبيل, مهما كان يعلم من نفسه التقصير في الكثير من الجزئيات, وأحرى أن يدعي بلوغ ما كانت عليه بواطن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويكفيه دليلا على ما به الاشارة ما ورد في البخاري ونصه : حدثنا اسماعيل قال حدثني أخي عن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم" ونظير هذا ما ورد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه, ومثله عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.

وهو الشيء الذي أوجب علينا الإيمان بما لا تصل إليه إدراكاتنا خصوصا إذا سهل علينا إرجاعه الى أصل من أصول الشرع بطريق من الطرق, ومع هذا فلا نقول بتقديس سائر أقوالهم تقديسا يداني أقوال المعصوم, فضلا عن أن يزاحمها.

نعم نقدس مكانتهم على الإجمال تقديسا شرعيا ونعتبر ذلك من الواجبات علينا خصوصا من تلقينا منهم لما لهم من الحق علينا, وزيادة على أنهم سبقونا بالإيمان صيرورتهم عمدة لنا في الدين, فسقوط مكانتهم في نظرنا يعتبر سقوط ركن كبير من الدين بما أنهم الواسطة فيما وصل إلينا من الصحابة والتابعين ومنهم الى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. وهذا ما يرى البلاغ سلوكه ويقرأه لنفسه دستورا يعتمده ويحترمه فيصادق من صادقه في ذلك ويحارب من حاربه فيما هنالك ولا عليه أن يسميه الخصم ارتجاعيا أو طرقيا أو انتفاعيا, أو غير ذلك من الألقاب مهما كان يقصد بعمله ذلك وجه الله وخدمة الدين.

نعم, يقولون إن البلاغ يريد أن ينتصر لمذهب التصوف بالخصوص ويعمل على ترويجه.

ونحن نقول لهم إننا لا ننتصر إلا لمذهب أهل السنة والجماعة ومذهب التصوف في ضمن ذلك لأننا وجدناهم قد أجمعوا على توفيره واحترامه وقد كانوا يعتبرون المنتسبين إليه أعلى طبقات الأمة وخاصتها.

ونعني بالمتصوفة الذين شرح الله صدورهم للإيمان فهم على بينة من ربهم يأمرون ويأتمرون, وينهون وينتهون, أما من طبع الله على قلبه وعمل على غير منواله فلا يفيده أن يتسربل بمذهب التصوف ولا بلفظة الإسلام أيضا, لأن الدين عبارة عن أعمال, وغاية ما فيه وزبدة مخيضه هي التقوى "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ", سورة الحجرات, الآية 13.

اللهم ارزقنا وارزق سائر إخواننا في الدين حظا من التقوى واجعلنا من المتقين, "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين", سورة التوبة - الآية 119 .


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري - البلاغ وما يقال في البلاغ, العدد 83 بتاريخ 07 ربيع الأول 1347هـ, 24-08-1928.

تعليقات