الشيخ العلاوي - الإيمان وما أدراك ما الإيمان

ليس بالخفي ما ورد في أوصاف المؤمنين من جهة تعاضدهم وتحاببهم وتواددهم من الآي القرآنية, والأحاديث النبوية, الأمر الذي يميزهم ويفضلهم على الكثير ممن خلق تفضيلا.

كان الشرع ولم يزل يعتبر رابطة الإيمان أقوى الروابط وأمتنها, وأعز المقتنيات وأشرفها, ويرى وجوب المحافظة عليها قبل المحافظة على رابطة الوطن والنسب وغيرهما من الروابط, وإنه طالما اعتبرت تلك الرابطة بين المؤمنين بذلك الاعتبار فجعلوها العروة الوثقى التي يجب التمسك بها والغاية القصوى التي يتعين الانتهاء إليها, والحبل المتين الذي يجب الاعتصام به {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا, وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} سورة آل عمران - الآية 103.

وفي يقيني أن تلك الألفة وذلك الائتلاف لا داعي لهما, ولا موجب لحصولهما, سوى حشاشة الإيمان في القلوب لما كان غضا طريا بين أهله, يحملهم على المعروف وينهاهم عن ضده, وكل ما ظهر من الآي الظاهرة والحجج الدامغة عن أربابه إلا وهو نتيجة إيمانهم وثمرة جهودهم في مواصلة الأعمال حسبما يقتضيه الإيمان الكامل, ولا غرابة إذا قلنا انهم كانوا يحتقرون الكون وما فيه بالنظر لجوهر الإيمان عندهم, وكان{يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} سورة الحديد - الآية 12.

فمصروا الأمصار ودوخوا الأقطار, وقلبوا ظاهر المعمورة على باطنها وأولها على عاقبها. كل ذلك فعلوه, وها أنت ترى ما هم عليه الآن لما فشا بينهم التخلف, واستبدلت القوة بالضعف, فكادوا أن يعتبروا خولا وأوباشا وأرذالا في نظر من سواهم بعدما كانوا أساتذة العالم, وهكذا تقلب الأرض غير الأرض والسموات, وتموت الأحياء وتنبعث الأموات.

وبعد أن لحقهم من الضعف ما ظهر فيهم أثره بكل معنى الكلمة, ونعني بالضعف ضعف الإيمان لا ضعف العدة والعديد, فإنهم أخذوا في الرجوع إلى الوراء إلى أن انتهى بهم التقهقر الى المحل الذي ابتدأ السير منه أولا, وليس بعد العيان بيان, فهم الآن لا رابطة تجمعهم, ولا غيرة تبعثهم, ولا قومية تنفعهم, ولا ولا... فكأنهم خلقوا ليعيشوا على نقض مقاصد بعضهم بعضا, متشاكسي الأفكار, مختلفي الأنظار, وكل ذلك لفقد ثمرة الدين من بينهم, وأفول ذلك النجم المضيء الذي كان على رؤوسهم.

فها هو اليوم لم يبق من آثار نوره فى بعض القلوب إلا أثر ضئيل يوشك أن يتقلص ظله بعد حين, قلنا هذا بالنظر لحكم الأكثرية وعموم البلية.

نسمع حينا بعد حين, وليس بقليل ما نسمعه يبرز على ألسنة أبناء المسلمين وينشر على جرائدهم ويصدر في أنديتهم, الأمر الذي لم يكن يخلج في الضمير ولا يتصور في الحسبان, ولا نطيل الكلام فيما هو من ذلك القبيل, غير أني أقول في حقهم أنهم {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} وَأيدي غيرهم,  وهكذا تجدهم عاملين على تضعضع إيمانهم بكل وجه ممكن الى أن ظهرت ثمرة جهودهم في طبقة ليست بقليلة العدد, وعزاؤنا فيهم أن نقول لله ما أعطى وله ما أخذ.

كانت حرمة المؤمن تعتبر عند الله ورسوله أعظم من حرمة الكعبة (البيت الحرام),  يقول الشارع  في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم : {كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ, دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ}.

وقد عرَّف الشارع معنى الإسلام الذي ينال المسلم به ذلك الامتياز حتى يكون محرما في بدنه وماله وعرضه فقال : {الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا وصيام شهر رمضان}.

فمن جاء بما يستطيع إليه سبيلا من هاته الخصال نال من ذلك الامتياز الذى يجعله في حصن حصين , من أن تناله الأسنَّة بحدتها والأيدي ببطشتها والألسن بجرأتها, وهكذا الذمي والمسالم والمعابد جعل لهم الإسلام من الاحترام ما لا يستهان به, فعاش المسلم وراء ذلك الحصن الذي ضربه الشارع بينه وبين من يرمونه بسوء كأنه في جنة عرضها السموات و الأرض, حتى جاء عليه الزمان بما فيه وركض عليه بخيله ورجله, ذلك الزمان الذي أخذ على عاتقه أن يبلي كل شيء تسلط عليه, فعمل في إيمان المسلمين مثل ما عمله في إيمان غيرهم من المتدينين {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ, وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} سورة الحديد - الآية 16.

وهذا نظير ما يفعله الأمد, سنة الله في السماء و الأرض {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} سورة الأعراف - الآية 96.

وخلاصة القول أن جميع ما لحقنا وسيلحقنا هو مسبب عن ضعف إيماننا وناشئ ‏عن تقصيرنا في مهماتنا , وفي يقيني أنه لا قائمة تقوم للمسلمين بصفتهم مسلمين إلا إذا كان الدين في نظرهم بالصفة التي كان عليها في نظر آبائهم الأولين, من كونه الكفيل بسعادة ‏الدارين, وأن الكل محتقر بالنظر إليه, وأن لا شيء يقوم في مقابلته.

أما النهوض على غير هذا الأسلوب فقد يكون, لكن لا بصفتنا مسلمين, على فرض أن نسميه نهوضا, وفي الغالب أنها النغمة الوحيدة التي يريد أن يرقص عليها البعض من العصريين, وترمز إليها جماعة الملحدين, {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} سورة يوسف - الآية 21,  وقوله {لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} سورة الأنعام- الآية 62.

 
المصدر: جريدة البلاغ الجزائري- الإيمان وما أدراك ما الإيمان, العدد 82 بتاريخ 17-08-1928

تعليقات