الشيخ العلاوي - فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ

جاء في التنزيل ما يعتبر صريحا من كون طول الأمَد وبعد العهد عن زمان التنزيل وزمان بعثة الأنبياء مفضي لقساوة القلب, موجب للإدبار عن الأوامر الإلهية والسنن النبوية وضعف الثقة بوعودها وإيعادها, وهو الشيء الذي اقتضته حكمة الله وجرت به عادته في تجديد النبوة وبعث الرسل المتوالية إلى أن أكرمنا الله بخاتمهم (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم) وإذا فنحن السعداء بذلك الاعتبار غير أننا نخشى قساوة قلوبنا لطول عهدنا وبعد أمدنا من بعثته وهو شيء يتحسسه الانسان مهما طال عهده عن شيء كان تحت تأثيراته.

وهنا لاح لي أن نستطرد قضية سؤال جدير بالاعتبار كان وجهه أحد العلماء الأعلام إلى بعض من حكماء الإسلام (لعَّل الشيخ العلاوي يعني شخصه وذلك تواضعا منه) ,كان يراه قادرا على استخراج الجواهر من أصدافها والكنوز من معادنها عن الفتور الديني الذي كان يراه يكاد أن يشمل سائر طبقات الأمة الاسلامية وما هي أسبابه, وهذا زيادة عما تجاهر به بعض أبنائه من الإلحاد وما تفننوا فيه من أنواع الفجور... الشيء الذي لا يحصى كثرة بالنظر لما قبل اليوم.

فأجابه المسئول بأنه على علم من وجود ذلك والزائد, لكنه يجهل وجه السبب بحيث أنه لا يستطيع أن يثبت وجه العلة في ذلك, ولكن السائل لم يقنعه ذلك الجواب.

قال المسئول : فوعدته أن أطلعه فيما بعد مهما سمح لي الفهم عن الله في شيء من ذلك, وبعدما مرت علي مدة وأنا أجول فيما هي العلة في تكوين هذا الفتور المستحكم الذي لم يكن عادة في أبناء الإسلام وهذا زيادة على ما انتشر من بينهم من أنواع الفجور ولاح على بعضهم من لوائح الإلحاد والغرور, الأمر الذي قلب السمع والبصر والأفئدة من الكثير حتى كأنهم ليسوا هم بالأمس والمستقبل مجهول. قال : ودمت على ذلك متفكرا أستنطق الضمير مرة وأناجي الوجدان أخرى, حتى خطر لي أن أنظر وأوازن المدة التي هي بين نزول التوراة على بني إسرائيل وبين نزول قوله تعالى في حقهم على محمد (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم) "فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ, وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" [الحديد:16], أي كم هي مدة ذلك الأمد التي أفضت بقساوة القلب والعياذ بالله حتى نشأ عنها الفسوق, فوجدتها هي نفس المدة التي بيننا الآن وبين نزول القرآن على محمد (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم) تقريبا فأخذتني والله رعدة لما تمكن هذا الوارد من قلبي حتى كاد أن يذهب من أجله لبي, وما خفف علي من وطأته إلا قوله تعالى "وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" حيث إنه يتضمن استثناء القليل.

وعلى كل حال فإن الإياس كاد أن يأخذ مني مأخذا غير محمود وأدركت من نفسي شيئا ما كنت أحسه منها من قبل وصرت أصدق بكل ما يبلغني عن أبناء العالم الاسلامي مما كنت أستبعد وجوده من قبل وعلمت يقينا أن طول العهد بالشيء ينسيه وبعد الأمد يقضي عليه حتى لربما يبلغ بالشيء إلى أن يظهر بنقيض ما كان عليه.

بنو إسرائيل كانوا في أول عهدهم بالتوراة مذكورين في التنزيل بأنهم أفضل العالمين وفي آخر العهد بذلك ذكروا فيه أيضا بأن الكثير منهم فاسقون, وليس هناك موجب فيما يظهر إلا طول الأمد حسبما أخبر به التنزيل المفضي لقساوة القلب "وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" والعياذ بالله وهو الشيء الذي فاجأتنا خطوبه وأصمتنا قوارعه حتى صرنا نسمع عن أبناء الملة الأحمدية أنهم يتهكمون بدينهم ويزدرون بشرعهم والسير متواصل والعمل متداول والناس طبقات, وكل آت آت, فمبتدئ ينتقد المذاهب والمتمذهبين, ومتوسط ينتقد الحديث والمحدثين, ومنتهي ينتقد التوحيد والموحدين.

هذا جميعه يوجد في دائرة من ينتمي الى الإسلام ويعد من سواد المسلمين.

فقل لي بربك أيها المفكر هل هناك من سبب غير طول الأمد فيما أحيط بنا وأبنائنا من الفتور والتقصير الأمر الذي أثبتته المشاهدة, وعلى فرض أن يكون هناك غير ذلك من الأسباب فهل هناك من علاج يعالج به خطورات هاته الأضرار ويسد به نوافذ تلك الأخطار أم قضى الله على هاته الأمة في دينها كما قضى على غيرها بالدمار. تالله إنه لشيء يتفتت من أجله الكبد ويلين من حرِّه الحديد.

نعم إننا لا نيأس من روح الله ولكن لا نأمن مكر الله فإنه "فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ" [الأعراف:99], خصوصا والطلائع مرتقبة والدواهي منا قريبة.

ليتفطن علماؤنا ويتنبه كتابنا وليدركوا أمتهم مادامت فيها بعض العروق الدينية نابضة قبل يأتي يوم لا مرد له من الله فإن لم يكن في استطاعتهم الوقوف لصد هذا التيار الهائل والدمار الحاصل فيكون في استطاعتهم عرقلته على الأقل وهو عمل في الجملة, وقد رأينا الناس كلا يعمل على شاكلته.

فاعملوا معاشر العلماء إنا معكم عاملون فسيرى الله ورسوله عملكم, ولا عليكم نجحت مساعيكم في ذلك أم لم تنجح فما عليكم, أي الهداة, إلا البلاغ.

 
المصدر: جريدة البلاغ الجزائري - فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ - العدد 30 بتاريخ 29 محرم 1346هـ / 29-07-1927.

تعليقات