سئل
رضي الله عنه عن الأسباط، أي إخوة سيدنا يوسف عليه السلام، هل ثبتت
نبوءتهم، وإنّ كان كذلك، فما وجه فعلتهم مع يوسف وأبيهم يعقوب على جميعهم
السلام ؟ فأجاب
قائلا:
أمّا من كونهم أنبياء، فهو الأقرب بما يتضمنه النصّ السماويّ، حيث
أجملهم في ذكر الموحى إليهم، قال تعالى "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ" [النساء:163] وممّا يفيد الاهتمام بشأنهم، قول يوسف فيما
حكى الله عنه "إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا" [يوسف:4] ففي تمثيلهم في عالم
الرؤيا بالكوكب دلالة على نبوءتهم، لأنّ الكواكب ممّا يهتدى به، قال تعالى "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا" [الأنعام:97] ومثل ذلك قول سيدنا
يعقوب في جوابه ليوسف، فيما حكى الله عنه "وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ" [يوسف:6] ولا يعني بالآل إلاّ الأسباط، ولا يعني بالنعمة إلاّ نعمة
النبوءة، والله أعلم.
وأمّا
من جهة فعلهم مع يوسف، فهو قابل للتأويل لو تأملناه مع مراعاة الداعي لذلك
فلا نجده إلاّ شدّة حبّهم ورغبتهم في أبيهم، والعبرة بالمقاصد، والعلّة
غير خافية، من انّهم ما أرادوا بتغريب يوسف إلاّ ليحلو لهم وجه أبيهم،
فكأنّهم اشتروا بذلك صفاء الوقت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بدليل
قولهم "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ" [يوسف:9] أمّا القتل فقد كان مجرد اهتمام لم يبرز إلى حيز
الفعل، وأمّا الترغيب فهو المقصود، بدليل قولهم "يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ" [يوسف:10].
وبالجملة
فإنّ يوسف كان المانع لإخوته من التلقي عن سيدنا يعقوب لما أشرب في لبّه
من حبّ يوسف، فكان اجتهاد إخوته أن لا تحصل لهم تمام النعمة التي من أعظمها
انعطاف يعقوب عليهم، إلاّ بتغريب يوسف، والمجتهد قد يخطئ في اجتهاده،
وغاية فعلهم معه أن وضعوه في الجبّ، وبعبارة أخرى لولا مزيّة الأسباط على
يوسف بوضعهم له في الجبّ، لما حصل على ملك مصر، إن كانت الأشياء تعتبر
بالعواقب.
أمّا
رجوعهم إلى أبيهم يبكون، فلاحتمال لما لحقهم من الرقّة والأسف على فعلهم
الذي كانوا يرونه ممّا لا بدّ منه، وإلاّ لما خلا لهم وجه أبيهم.
وأمّا
قولهم له إنّ ابنك أكله الذئب ففيه استلفات لما جرى على لسان يعقوب من
قوله "إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ" [يوسف:13] لأنّ
خوف يعقوب على يوسف عليهما السلام، ليس هو في الحقيقة من أن يأكله الذئب،
إنّما كنّى به الغدر، الذي كان يتوقعه من أبنائه في حقّ أخيهم، المشار إليه
بقوله "لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا" [يوسف:5] فاستعمل
يعقوب عليه السلام إنّي أخاف أن يأكله الذئب بدل أن يقول لهم إنّي أخاف أن
تغدروا به، فكان جوابهم من جنس ما كنّى به، وهم على علم من أنّه لا يأخذ
كلامهم على ظاهره، ولهذا قالوا "وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ" [يوسف:17] من أنّ الذئب حقيقة أكله لكون يعقوب عليه السلام على علم ممّا يؤول
إليه أمر يوسف، بدليل قوله "وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ" [يوسف:6].
أمّا
قول يوسف لإخوته "أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا" [يوسف:77] وإن كانت كلمة ذمّ فما أتى
بها يوسف إلاّ تعجبّا من دهائهم، وجودة فكرهم، حيث أرادوه وقصدوه بما
أرادهم به يوسف، لمّا جعل السقاية في رحل أخيه وقصدهم بقوله "قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ" [يوسف:73] وفي هذا
دلالة على أنّهم متحسّسون من أن يكون هو يوسف، وإلاّ ما أقسموا يمينا من
أنّه على علم من شأنهم، ولمّا أخرجت السقاية من رحل أخيه، وتحقّقت تهمتهم،
لزمهم أن يقصدوه بما قصدهم، "قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ" [يوسف:77] فكأنّهم يقولون فإن كانت هذه سرقة، فمن وضعها في الرحل فله أن يتصّف
بها "فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا" [يوسف:77] ولو أنّ بغضهم ليوسف كان
ممّا يقتضيه الطبع، من جهة كونه أصغرهم سنّا، وأخا لأبيهم فقط، لكانت سرقة
بنيامين أخيهم ممّا يسرّهم لأنّه شقيق يوسف، والحالة أنّهم رضوا أن يتركوا
أحدا منهم بدله، وكفى مروءة أن يفدي الإنسان السارق بنفسه، بمعنى يسلّم
نفسه أن يجري عليه ما يجري على السارق من القصاص، وهذا ما قضى به الحال،
والله أعلم بما وراء ذلك.
ويستنبط
من هاته القصّة أنّه يجري للقلب الذي يريد الله تعالى أن يستخلصه لنفسه مع
النفس الأمارة، مثلما جرى ليوسف مع امرأة العزيز، لأنّ النفس تريد أن
تستحلّ القلب بكلّ وسيلة، لتستعمله في غرضها، لما يشغفها من حبّه، وهكذا
تراوده إلى أن تغلق عليه الأبواب، وتقول له "هَيْتَ لَكَ" فيقول القلب المخلص لله "مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" [يوسف:23] لما خلقني من أجله "إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" [يوسف:23] فيستبقا الباب، هو ليتنصل، وهي لتحصل وبمجرد
التجائه يجد مولاها لدى الباب، فتقول النفس على ما اعتادته من الغدر
والخديعة، وقد كانت "قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ", "مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا" [يوسف;25] فيقول القلب "هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي" [يوسف:26] "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا"
لفصل الخطاب، وهو العقل قائلا "إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ" [يوسف:26]، الذي هو الإيمان "قُدَّ مِنْ قُبُلٍ" الذي هو وجهه إيمانه بالغيب، "فَصَدَقَتْ"، ويكون دليلا على فساده،
وعدم صلاحيته لحمل الأسرار "وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ" [يوسف:27] الذي هو
عبارة عن بعض تقصيراته في المأموريات، فيكون ذلك من خيانة النفس، وتقصيرها
في القيام بلوازم الإيمان "فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ" [يوسف:27] قال
الحكيم "إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" [يوسف:28] وإدخاله في ضمن الجمع،
يستفاد منه تهمة بقيّة النفوس، وإن تجوهرت "وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَّا يُؤْخَذْ مِنْهَا"
[الأنعام:70] وعندما يتخلّص القلب من ورطة النفس الأمّارة، تنقلب
لوامّة، فتعود على نفسها باللوم، ويطرقها طارق الندامة، وإليها الإشارة
بقوله تعالى "وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" [يوسف:29].
وأمّا
قوله تعالى "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا" [يوسف:30] فيشير بالنسوة إلى بقيّة النفوس، كاللوامة،
والملهمة والراضية، والمرضيّة، والمطمئنة، والكاملة، فلا نفس من هاته
النفوس إلاّ وتريد قضاء غرضها من القلب لما يستولي عليها من حبه عندما
يكشف لهن عن وجهته الخاصّة، فيقلن "حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ" [يوسف:31] وهكذا يستخلص الله بعض القلوب لنفسه، ويجعلهم أمناء
على خزائن الأرض، ولولا خشية الغلو لقلنا وعلى خزائن السّماوات.
تعليقات
إرسال تعليق