أنا لست أدري ما هي منزلتنا في الوجود و لا ما هي قيمتنا بين أهل القيمة مع أني لا أنكر كوننا قسما من أقسام الحيوان الحساس ولكن بعيد أن نعتبر مستوانا بين من استكملت فيهم الأحاسيس الى أن صاروا يعرفون ما لهم وما عليهم. أما نحن فقد يشتبه علينا الأّمر أحيانا حتى لا ندري أنحن نسمع ونبصر بأسماعنا وأبصارنا أم يسمع الغير ويبصر بها بناء على أن تلك الإحساسات لم تفدنا شيئا ولا هي صالحة لأن نقصد بها المنافع ونجتنب بها المضار ؟ نعم إنها موجودة في رؤوسنا ولكننا منعنا من إيصال فائدتها إلينا. وإذا فحقيق أن نعتبرها كأنها في رؤوس الغير, وهنا يخيل إلي أنه لا يفوتنا نصيبنا من قوله عز من قائل : "وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا", (سورة الاعراف,179) إلى آخره... وإلا لفرقنا بين نفع الشيء وضره وحلوه ومره وبعد التمييز نستطيع ان نأخذ ونترك وإلا كان المدرك منا كمن لا يدرك لأن إدراكنا عاد بالنفع على غيرنا وإلا فما هو حظنا من قوله تعالى : "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا", (سورة البقرة,29). فالواقع يدل على أننا لسنا ممن يشملهم ضمير الخطاب من قوله : "خَلَقَ لَكُم" أو نكون ممن شملهم الضمير ولكن خصصنا بعدم حيازة الملك بقوله : "لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا", (سورة الاعراف,179) وإلا لما فاتنا حظنا من هذه الدار وإنه لقريب أن يفوتنا حظنا من الأخرى إلا اذا تداركنا الله بلطفه ومتعنا بأبصارنا وأسماعنا.
ونحن مهما قلنا بأنه لا يشملنا ضمير الخطاب من قوله : "خَلَقَ لَكُم" لزمنا أن نقول بدخولنا تحت شمول الموصول, أعني لفظة "ما", فنكون من جملة ما في الأرض ميراثا خالصا للمخاطبين بقوله : "خَلَقَ لَكُم" وإذاً فمهما رضينا بذلك وتحققنا بالواقع على ما في نفس الأمر أدركنا عدم صلاحيتنا لأن نكون نسمع ونرى ونعقل أيضا.
وكل هذا لا يمنعنا أن نقول بوجود من يرى ويسمع هاته الأمة ولكن ذهب في غياهب الأكثرية الساحقة, ولمثل ذلك الإشارة بقوله عز من قائل : "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً", (سورة الأنفال, 25), والمعنى أنها تصيب الجميع مهما كان الكثير صالحا لوقوع الحكم عليه. وبمثل ذلك حقت كلمة الله على الكثير من الأمم الذين استبدلوا الضلالة بالهدى وغيروا أنفسهم فغير الله ما بهم. فإنهم تركوا بقدر ما تركوا وأهملوا بقدر ما أهملوا "سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ, وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا" (سورة الأحزاب, 62).
والذي ظهر لي أن أذكره وهو حظي ما سطرته وذلك أنني كلما أردت أن أوجه من الكتابة قبسا ليستنير اللبيب بما يجده فيه من قوة وأبعث فيه من حرارة إلا وأجد نفسي مستعملا لسلطان الإياس كأني مكتوف اليدين ومكبول الرجلين أقفز تارة وأقع أخرى, وذلك أني إذا نظرت لمبادئ ديننا ومرمى شريعتنا وثَبْتُ وَثْبَةَ الأسد الضرغام, وإذا نظرت مقتضى سيرتنا وسقوط همتنا وقعت الى الأرض حياءً من انتسابنا الى دين طالما سحبنا عليه من العار فكان ضررنا عليه أكثر من انتفاعنا به.
وقد عن لي أن أذكر هنا واقعة جرتنا إليها المناسبة, وذلك أني قذ كنت اجتمعت بأحد الأوروبيين قصدته لأحبب له الدين وأذكر له من خصاله ما أنا منها على يَقين وبعدما بسطنا معه الحديث بسطا له من الأهمية أقصاها ومن المكانة أعلاها فكانت نتيجته أن قال لي حضرة ذلك الرجل : "إني مسرور بما أطلعتني عليه ولكن لا أستطيع أن أحسن الظن بالمسلمين أو أغبطهم على ما هم عليه وأني أرى من أفعالهم ما لا يصدر إلا من لا يدين بدين", فقلت له : "إنما أريد منك أن تحب الإسلام لا المسلمين, والإسلام هو غير المسلمين وهذا هو الذي أريده منك", وعند ذلك التزم بمحبة الإسلام وتمنى أن يجمعه الله بمن يرى عليه خصاله.
أرجوك اللهم أن ترفع الغشاوة عن أبصارنا وبصائرنا تنفعنا بما أودعته فينا ولا تؤاخذنا بتقصيرنا ولا بما فعل السفهاء منا, "وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (سورة الأعراف, 23). (اه).
المصدر: جريدة البلاغ الجزائري- ما لنا نمشي إلى الوراء وقد عهدنا أن يكون المشي إلى الأمام ؟, العدد 70 بتاريخ 18-05-1928
تعليقات
إرسال تعليق