الشيخ العلاوي - من الأسف أن لا يدرك المسلم ما حل بدينه

من الأسف أن لا يحيط المسلم خبرة بأنواع الدواهي المتوجهة إلى دينه, العاملة على تحليل مركباته, المتظافرة من كل ناحية وأن جميعها يعمل على غاية واحدة وإن اختلفتالعمليات من جهة الأساليب, وما كان من حقه أن يفوته إدراك ما حصل من الوهن في قوى ذلك الهيكل المقدس على أنه إذا دام ذلك السير متواصلا على ما نراه لاشك أنه ينتهي بنا الحال لا قدر الله إلى غاية يصبح التعبير عنها بخسران الدنيا والآخرة ذلك هو الخسرانالمبين على أن الدنيا لم يبق منها بأيدي المسلمين القدر الذي يعتد به بالنظر لغيرهم, أما ما بقي بأيدهم من الدين فهو شيء يرثى له بدون ما يطمئن لبقائه حسب التقهقر المتزايد والهجوم المتواصل من كل ناحية بكل معنى الهجوم, والذي أوهن جسمه وأنخر عظمه الهجوم المتجه عليه من قبيل أبنائه في حال أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا, وهذا هو الذي نخشاه أن يقضى عليه أكثر مما نخشى غيره من الهجومات.

وها هي قد ظهرت تأثيراته بالفعل على أن الكثير من أفراد الأمة يتظاهر بكونه لا يعمل إلا للدين, أما لو تدبر لوجد نفسه عاقلا على نقضه من حيث لا يشعر.

نعم, ومنهم من لا يفوته الشعور بذلك أولئك الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المغرضين وأولئك ينبوع المادة الأجنبية التي انتشرت منها تلك الجراثيم العدائية على الهيكل الديني فتموج من أجلها عنصر المتدينين تمويجا لم يكونوا له من المستعدين, وتحرك لأجله تحرك أبعده عن سكونه المعتد بمراحل, وها هو في تصادم متزايد يطلب التآلف في عين الافتراق إلى أن يقضي على نفسه بنفسه شبه ما تقضي الأجزاء النارية على بعضها بعضا إلى أن يتحلل جميعه رمادا فتذروه الرياح. كل هذا نتوقعه ونخشى سوء عاقبته الوخيمة, وهكذا يخشاه كل متبصر ضنين بدينه وملته, أما المتجاهل فلربما حمل ما حررناه من طريق الغلو في التعبير ولكن حسبه المشاهدة وإن فاتته الآن فالمستقبل كشاف.

ثم أقول أنه لا يضرنا عمل هاته الطبقة لو كان بانفراده, إنما الذي يسوئنا بوجه خاص هو مشاركة الكثير من طبقات الأمة لها في مبدئها وفي النسج على منوالها في حال عدم شعور الجميع بذلك من كون عمله يعتبر تمهيدا لعمل ما بعده من الطبقات لأن أفراد الأمة وطبقاتها متصلة الحلق ببعضها بوجه من المناسبة.

وحقيق لو يشعر المصلح المخلص لدينه من أنه يعمل لمن أسفل منه من الطبقات من جهة الاعتبار الديني لَتَوَقَّفَ في عمله لأنه لم يكن يريد من دعوته للإصلاح إلا الوقوف عند نقطته التي يراها ‏ كافية في الإصلاح المختار عنده, ولم يقصد أبدا كونة ممهدا لغيره من بقية الطبقات المتطرفة العاملة على تحليل المركبات الدينية والسنن القومية وإلا لتوقف في عمله مهما كان مخلصا لله فيما‏ أراد.

فالقائل مثلا بحلية ذبائح الكتابيين بغير قيد لم يكن يقصد بأنه يريد فتح ذريعة تقضي بعدم المبالاة بكل ما يأكل, والقائل بسفور النساء لم يكن في قصده أن يدعوهن إلى المنتزهات والمراقص ولما وراءها مما لم يذكر, والقائل بجواز انتقاد من سلف من المذاهب لم يكن يقصد بجواز احتقارها وانتقاد ما قبلها من المسانيد والإسناد, والقائل بمنع زيارة القبور لم يكن يريد بذلك منع الزيارة الشرعية ولا يريد أن ينسحب ذلك على قبر سيد البشر, والقائل بلزوم تعطيل الزوايا لم يدر أنه يقول بلزوم تعمير المقاهي والخمارات والطرقات والمنتزهات! وقد ينشأ عن ذلك تعطيل المساجد أيضا, والمحبذ لفن التمثيل لم يكن في قصده ليحبذه على الإطلاق ويحبذ ما ينشأ عن الكثير من رواياته الفسوقية من القضاء عل الأخلاق, وهكذا تجد التساهل في الشيء يدين بالالتحاق بما هو أسقط منه ولولا ذلك لما بنيت الشرائع الإلهية على سد الذرائع.

‎يقولون: إنه لا بأس بسفور النساء إذا كملت تربيتهن وعلى فرض المحال من جهة كمال التربية, فهل يتأتى كمال تربية الرجال على الإطلاق؟ وهل يوجد في الرجل استعداد يلزمه بالاقتصار على رؤية الوجه من الأجنبية؟ كلا إنه لا يكتفي بذلك ولا بما تحت الإزار أيضا وقس على ذلك, وعليه فلم يبق من الواجب على مصلحي الأمة وزعمائها إلا أن يتقوا الله في أنفسهم و لا يخونوا أمانتهم, ولا يتهاونوا بدينهم ولا يستهزئوا بنسائهم ولا يشتروا دنياهم بآخرتهم فمتاع الدنيا قليل والآخرة ‏خير لمن اتقى, وعلى الأقل من ذلك يحاولون الاكتفاء والوقوف عند الإشارة من قوله عز من قائل : ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران:152], وليسمحوا وليتفضلوا بترك تلك البقية الباقية العاملة على تغمير ذلك الفراغ الذي قد يحتاج إليه يوما ما وإلا فعلى الإسلام السلام.


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري - من الأسف أن لا يدرك المسلم ما حلَّ بدينه, العدد 21 بتاريخ 21 في ذي القعدة 1345 (20-05-1927)

تعليقات