سياحة الشيخ أحمد العلاوي بالغرب الجزائري سنة 1928م, 1346هـ

تفاصيل عن سياحة الشيخ أحمد العلاوي بالغرب الجزائري قبيل وصوله إلى المغرب الأقصى سنة 1928م, 1346هـ. وقد أبت الظروف أن تمن عليه بتلك الزيارة إلى هذه الآونة الأخيرة حيث سمحت له الحكومة برخصة السفر إلى تلك الإيالة بعدما اعتذرت له عن مثلها لزيارة بيت الله الحرام والشخوص أمام قبر سيد الأنام صلى الله عليه وسلم, وقد أسعدني الله (المتكلم محمد بن البشير الجريدي) بمصاحبته في هذه السياحة المباركة إذ لا بد له من كاتب يكون مصاحب له في الحضر والسفر.

من وهران

الثلاثاء 01 مايو 1928م, 10 ذي القعدة 1346هـ

وقد كان خروجنا من مدينه مستغانم يوم الثلاثاء من التاريخ المقدم الذكر على الساعة 4:00 مساءً عبر السيارة قاصدين مدينه وهران حيث وصلناها على الساعة 6:00 مساءً ووصلنا إلى الزاوية العلاوية بتلك المدينة الواقعة بحي "طحطاحة" بالقرب من حي "المدينة الجديدة" والتي يرأسها حسن الشيم, طيب الأخلاق, حضرة المقدم المحترم سيدي صالح بن عبد العزيز القادري نسبا العلاوي طريقة, ومن حين وصلنا تسارع الفقراء للسلام على الأستاذ والتبرك به لعلمهم بقدومنا من قبل وبعد صلاة المغرب. وتم قراءة الوظيفة وهي سورة الواقعة ثم الصلاة على النبي ثلاثة, ثم اشتغل الكل بتخريج أوراده, وصُلِيَتْ العِشاء. فحينذاك شرع الفقراء وقد اكتظت بهم الزاوية في الذكر والسماع وتلاوة القرآن كما هي عادتهم في كل زواياهم, ولما أتموا ذلك تكلم الأستاذ كعادته في مثل هذا الاجتماع بإلقاء درره الوعظية ونصائحه الدينية التي تدخل القلوب بدون استئذان كما قيل في الأثر "إن الكلام إذا برز من القلب وقع فيه" أي في قلب السامع. ولا يخفى على من جالس الأستاذ أن لكلامه صولة خارقة تندك منها جبال النفوس, لأنه مستمد من حضرة القدوس إلى روح نيرة وقلب طاهر.

ومن جملة مذاكرته في تلك الليلة المباركة أن قال:

"إن الإنسان مركب في أصل فطرته الخير والشر, فمن غلب خيره على شره فهو يتصل بالرفيق الأعلى ويتحقق بأخلاق الملائكة ويتحلى بالفضائل وحسن المعاشرة مع اتصافه بلطافة الأخلاق والتوجه إلى الله بكثرة العبادات, وارتفاع الهمة عما بأيدي الناس واتكاله في جميع أموره على الحق جلت عظمته وأن لا يؤاخذ من أذاه من العباد إلا ما كان مخل بشرف الدين, فهذا الفريق يتولى الله أمره ويدفع عنه أذى الخلق لقوله جل شأنه "وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ" (الأعراف:196), كما أنه يدافع عن المؤمنين, وهذا الفريق لا بد له من التعاون بمحاذاة المؤمنين ومجالسة الصالحين والتخلق بأخلاقهم  والسير على منهاجهم القويم, إذ هم السائرون على الصراط المستقيم. ولا يخفى أن التعاون على البر شرط في ديننا الحنيف لقوله تعالى "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى" (المائدة:2), كما أن محاذاة الصالحين شرط ثاني لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام لما قيل له "يا رسول الله من نجالس؟ قال: من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغِبكم في الآخرة عمله", أو كما قال, وهذه الأوصاف لا تكون إلا في حيز الذاكرين العارفين والعلماء العاملين.

أما من غلب شره على خيره, والعياذ بالله, فهو ينخفض إلى دركات الشياطين, عصمنا الله من شرهم, بقدر بعده عن درجات أهل اليقين, ويتصف بالرذائل بقدر تخليه عن الفضائل, وإعراضه عن الله, ويشتغل بما لا تحمد عقباه من أنواع الموبقات المخلة بشرف الإنسانية.

وعليه, فالواجب على إخواننا من الفقراء أن يجتنبوا كل من هذا شأنه, ويبعدوا عن مجالس السوء ومواضيع التهم, ويتحلوا بالفضائل ويتخلوا عن الرذائل, وأعلموا أن الإنسان إذا نظر نظرة محرمة نكتت على مرآة قلبه نكتة سوداء, وهكذا إذا تكلم بما يخالف الشرع الشريف من أنواع المعاصي كالغيبة والنميمة وما شاكل ذلك من بدئ الكلام, وكذلك من أنصت لمن يخوض في مثل ذلك".

ثم حض الجميع على أفعال البر ولو مع غيرهم, كالتحابب والتوادد والتزاور مع المحافظة على الصلوات في أوقاتها.

ثم قال ما معناه:

"إنه لا يخفى أن الزمان قد فسد واستبدلت الحسنات بالسيئات, وانحرف الناس عن الديانة إلا القليل ممن عصمهم الله ومن ذلك بعض المنتسبين العاملين بما يقتضيه مذهب القوم وهو موافقة سيرة السلف الصالح قولا وفعلا, لا المتراؤون على المذهب الذين أحدثوا في طريق الله ما ليس منها مما لا يتفق مع الدين, فان المذهب يتبرا منهم "براءة اليعسوب من دم ابن يعقوب", وهكذا بقي بعض العلماء العاملين والطلبة" (اه).

ثم ختمت الجلسة بكلمه الإخلاص جهرا ثلاثة وفي الرابعة محمد رسول الله, وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: "من قال لا إله إلا الله ورفع بها صوته أسكنه الله دار الجلال ورزقه النظر في وجهه", وفي رواية غفر الله له 4,000 ذنب من الكبائر. وافترق الجميع على أتم رغبة ونشاط في دين الله.

وفي الغد (الأربعاء) سمع الناس وبقية الفقراء الساكنين بأطراف البلدة أن الأستاذ حال بمدينة وهران فتسابق الجم الغفير لزيارته من فقراء وعلماء وأفاضل وغيرهم, واستمر الحال كذلك يوم الخميس.

الجمعة 04 مايو 1928م, 13 ذي القعدة 1346هـ

وفي يوم الجمعة من التاريخ المقدم الذكر أذن منادي الفلاح لصلاة الجمعة, فذهب الأستاذ ومعه جماعة ممن كان حاضرا إلى مسجد الباش آغا ولد قادي (المعروف عند العامة بمسجد بن كابو) الواقع بالقرب من الزاوية, فكان المسجد مكتظا بخلق الله, سواء ذلك في بيت الصلاة أو في غيرها من البيوت التي في صحن المسجد الذي كان هو الآخر عامرا إلى عتبة الباب الذي يطل على الطريق العام, لدرجة ألا يجد الواحد منا موضعا لأن يقف فيه عن أن يجلس. فسررنا وأيم الله عند مشاهدتنا لهذه الحالة المرضية التي يحن لمثلها كل مؤمن ويتعشق لأن يرى إخوانه عاملين بما افترضه الله عليهم. وكان المسجد على غاية من النظافة وحسن البناء, بناه حضرة الباش آغا أحمد ولد قادي (زوج القايدة حليمة) فجزاه الله خيرا, وكُلِّفَ بشؤونه حضرة العلامة الشيخ بالقاسم بن كابو وهو القائم بالإمامة والخطابة والتدريس بهذا المسجد, أكثر الله من أمثالهم بين العباد لإصلاح الفساد. 

وبعد الفراغ من الصلاة ذهبنا إلى دار أحد الفقراء يدعى السيد معمر بلوز لتناول الغداء, جزاء الله خيرا, ثم رجعنا للزاوية. ودام الناس بين ذهاب وإياب طول ذلك اليوم. وفي العشية وفد جماعة من الأفاضل والعلماء, فعرفت منهم حضره المفتي الشيخ السيد الحبيب بن عبد المالك والسيد مولاي مصطفى القادري أحد المدرسين ببعض المدارس الفرنسية والسيد محمد بن الشيخ بالقاسم بن كابو والسيد محمد الغانمي والسيد بوعطية مقدم الطريق القادرية بوهران والسيد أحمد بن صابر وغيرهم... وقد وجبت صلاه المغرب فأديناها وتناولنا العشاء ببيت السيد صالح بن عبد العزيز, أحسن الله له ولأمثاله من أهل الفضل. أما الفقراء فقد أولم لعشاءهم أحدهم يدعى السيد حمُّو من بلاد قلعية بأرض الريف الإسباني, وكانوا زهاء 100 نفر, كثر الله خيره وأخلف عليه. وبعد ذلك صليت العشاء وشرع الفقراء في الذكر والسماع تارة وفي تلاوات كلام الله تارة أخرى. فخرج إذ ذاك الأستاذ ومن معه من الأفاضل وجلسوا في صدر المجلس, ثم شرع أحد المسمعين يترنم بقصيدة من كلام ابن الفارض, رحمه الله, والتي مطلعها:

ما بَيْنَ مُعْتَركِ الأحداقِ والمُهَجِ        *** أنا القَتِيلُ بلا إثمٍ ولا حَرَجِ
ودّعتُ قبل الهوى روحي لما نَظَرَتْ *** عينايَ مِنْ حُسْنِ ذاك المنظرِ البَهجِ

ولا يخفى ما في هذه المنظومة من الإشارات المتعلقة بالحضرة الأقدسية مع ما يتخللها من كلمة الإخلاص. وكان المسمع جيد الصوت, شجي النغم, ولما انتهى تليت آيات من الذكر الحكيم, فكنت أرى القوم يتمايلون يمينا وشمالا وخلفا وأماما, كأنهم نشاوى بخمر الدنان, نعم إنهم كذلك بخمر الوجد الناشئة عن قوة الإيمان والحاصل عن الآية الكريمة وهي قوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا" (الأنفال:2) والتي تنطبق على القوم بكل معناها أتم الانطباق, وبذلك يقول كل من رفع الله عن قلبه غشاوة التعصب واهتدى إلى سواء السبيل.

وبعد ذلك سكت الجميع مستعدين إلى ما سيلقيه عليهم الأستاذ من إكسيره النادر المثال كأنهم ظِماءٌ يرتجون الماء الزلال. ولما رآهم على تلك الحال, تكلم... ومن عادته ألاَّ يتكلم حتى يرى الجميع مستعدين متوجهين إليه مستمعين لما يلقيه من الحكم الباهرة, لئلا تضيع سدى, وهذه هي عادته في سائل الاجتماعات.

فافتتح الأستاذ الكلام بما يتعلق بديننا الحنيف ومما ترمي إليه تعاليمه العالية وحسن أسلوب القرآن, ومن جملة مذاكرته في تلك الليلة المباركة, هذا معناه:

"قد تقرر عند الأمم الغربية من الفلاسفة والحكماء أن القران هو أحكم كتاب أنزل من عند الله, وأن تعاليمه ليست مختصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فقط, فهي صالحة لكل عصر ومصر بحيث لا يختص بها جيل دون الأخر. أما غيره من الكتب المنزلة فهي مختصره على تلك الأمة التي أنزلت على أنبيائها فقط, وقد انقضى أمدها ببعثه سيد الرسل صلى الله عليه وسلم, وذلك لأن كتابه محتوي على جميع أسرارها, فهو الدستور الكفيل بسعادة بني الإنسان على اختلاف مللهم, ولذلك قال بعض أساطين العلم من أهل أوروبا: "إن الإسلام هو الدين الذي يجدر بجميع الأمم الحية اعتناقه وأن يهتدوا بهديه لأن كتابه هو الكتاب الفذ الصالح لارتباط الأمم ببعضها ارتباطا محكما غير منقسم القوى", وإنه ليسوء الإنسان أن يرى أبناء هذا الدين المتين ناكبين عنه غير عاملين بأوامره ونواهيه, ميالين إلى كل جديد مما أحدثته هذه العصور الأخيرة من دعوى التجديد والرقي الموهوم ذي البروق الخلابة, فمثل هذه الدعوى "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا" (النور:39).

أما الذي يتبادره فهم العاقل فهو أن هذا الفريق غير ذائق حلاوة الإيمان ولا متحقق بأسرار الديانة الإسلامية, وإلا لما انكبوا عنها ومالو إلى غيرها من بقية الأديان, ومَنْ هذا شأنه لا يُعْبَاُ به, لأنه على غير بصيرة من أمره, ولذلك تراهم تارة يُسْلِمُونَ وأخرى يَكْفُرُونْ, لا يلبثوا على حالة واحدة, مثلهم كمثل الحرباء, كلما دخلت أرضا تلونت بلونها. أما من كان على بصيرة من معتقده وبينة من أمره, فإنه لم يغ ولن يبغي بدينه بديلا ولو تكبد كل المتاعب ولاقته كل العقوبات والمصائب, ودليلا على ذلك ماع لقيه أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من تضييق من مخالفيهم ومطارداتهم إياهم وما لحقهم من التشرد في البلاد, ومع ذلك كله لم يبالوا بشيء منه وما يزيدهم ذلك إلا انزواءً إلى الدين ومحبة في سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم, مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ذا ثروة يمدهم منها أو يَتَّبِعُونَه لأجلها, وإلا لقال المقابل ذلك ومع ما تقرر, فما هو الباعث لهم يا ترى على شدة هذا التمسك والعض على الدين بالنواجذ؟ ذلك أنهم كانوا على بينة من أمر دينهم وبصيرة فيما يعتقدونه, قال تعالى آمرا لنبيه: "قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف:108).

ثم إن الإيمان ينقسم إلى قسمين والناس فيه فريقان: الفريق الأول إيمانه كأصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا تهزه الزلازل ولا تخلخله عواصف الرياح, والفريق الثاني إيمانه بحسب ما يراه من المعجزات وخوارق العادات, فهذا الأخير لا يثبت إيمانه لأنه ناشئ عن رؤية بصرية وخارقة شفاهية, والدليل على ذلك ما وقع لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام, والكل يعلم أن إيمانهم ناشئ عن الخوارق, كإلقاء العصا وانفلاق الحجر (12 عينا) وما شاكل ذلك (كانشقاق البحر), ويدلك على عدم ثبات إيمانهم, ما وقع منهم بعد خروجهم من البحر ومشاهدتهم إلى تلك الخارقة العظمى وهي انشقاق البحر وانفلاقه, كل فلق كالطود العظيم, فإنهم ما جفت أقدامهم حتى قالوا لموسى: "اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ" (الأعراف:138) إلى غير ذلك من طلباتهم. وقد عبدوا العجل وذلك لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم كما استقر في قلوب الأمة المحمدية التي كان إيمانها ذوقا ووجدانا, قال عليه الصلاة والسلام: "مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ, وَلَكِنَ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ",
وهكذا اتباع المرشدين في طريق الله من ساداتنا أهل التصوف, فإن من تبعهم بقصد أن ينال نصيبا من ذلك السِّر الذي وقر في صدر أبي بكر وحصل على ما كتبه الله له منه, فإنه لن تهزه عواصف الرياح.

وهناك من تبعهم لأجل كرامة أو إحياء حيوان مثلا, أو أن الشيخ يفعل كذا وكذا... فهذا لا يثبت ويبقى يتخبط, تارةً يُقْبِلُ وتارةً يُدْبِرْ, لأنه إن رأى أحدا أحيى له دجاجة مثلا (كما يشاع عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه) فإنه يؤمن به في ذلك الحين, ولو جاءه آخر وأحيي له كبشا مثلا أو بقرة لاستبدل الثاني بالأول, وبالأحرى إذا رأى من أحيى له جملا أو فيلا, لأتبعه أيضا, والفرق بعيد بين الشقين" (اه).

وقد كان كثيرا ما يقول عند اجتماع الفقراء:

"يا أحبابنا, من رأى نفسه أنه نال شيئا من طريقتنا وتحقق أنه على فائدة وزيادة فيما يقربه إلى الله, فالله حسيبه إذا استبدل بنا. ومن بقي كما دخل ولم يزدد شيئا, فالله حسيبه أن يبقى على طريقتنا, لأن شرط الصحبة في الطريق هو النفع. ومن رأى منكم شيخا آخر عنده شرابٌ خيرٌ من شرابنا, فالله حسيبه إن لم ينصحنا لنذهب جميعا نتبع ذلك الشيخ".

ثم تكلم رضي الله عنه فيما يخص المبشرين فيما معناه:

"إن المبشرين وما هم عليه من أعمال الجد والاجتهاد ببذل الأموال الطائلة وتكبد المشاق في الأسفار لنشر الديانة المسيحية, فلو اعتنى أبناء الإسلام بعُشْرِ (1/10) ما قام به هؤلاء, لعَمَّ دينهم الكرة الأرضية. ولكن الذي أهمَّنا أكثر من كل شيء هو أن أبناء الإسلام عاملين على تحليل أوصاله وفك عراه عروة, عروة". (اه).

ثم ختمت الجلسة بتلاوة شيء من كلام الله, وافترق الكل مبتهجا بما سمعه من تلك العبارات الهامة. 

من سيدي بلعباس

السبت 05 مايو 1928م, 14 ذي القعدة 1346هـ

 وفي يوم السبت من التاريخ المقدم الذكر سافرنا من وهران قاصدين مدينة سيدي بلعباس, وعند وصولنا إلى المحطة امتطينا الرتل الحديدي (القطار) وقد أكتري لنا في الرتبة الثانية. وعند جلوسنا اقبل حضرة السيد عبد السلام بن طالب النائب العمالي بمدينة تلمسان, حيث كان مسافرا إلى مسقط رأسه تلمسان, وكان قد اكترى في الرتبة الأولى, ولما وجد الأستاذ هناك, ترك مقعده الأول وركب معنا, وهذا الفعل وحده دليل كافي على محبة عظماء الأمة للأستاذ. وبعد السلام البالغ والجلوس, تجاذبا أطراف الحديث, ومن جملة ذلك أن تكلما على مسالة افتراق الأحزاب بتلمسان, فقال السيد عبد السلام: "إن الأمة كلفتنا بالدفاع عن حقوقها العامة لا عن أغراض حزبية", وقد أعجب الأستاذ بهذه الكلمة فقال له: "هكذا ينبغي للنائب أن يكون".

وعند وصولنا إلى مدينه سيدي بلعباس صادفنا في المحطة المقدم الأبر ولي الله سيدي محمد بن بابا أحمد التلمساني وهو يريد التوجه إلى تلمسان, فلما رآنا عدل عن الذهاب وأخذنا إلى محله وهو دكان للتجارة وذلك بعدما استشار الأستاذ هل يذهب به إلى مسكنه أو يفضل الذهاب إلى الدكان حتى يعلم الفقراء العلاويين بقدومنا. وعند الجلوس قدم لنا الشاي بعدما أن قال له الأستاذ ألا يكلف نفسه بشيء من الغداء. فبعث ابنه ليُعْلِمَ الفقراء بحضور الأستاذ. وأول من جاء منهم السيد الحسين بن حاجي والسيد الشيخ محمد بن علي الخالدي (مقدم الطريقة العلاوية بسيدي بالعباس لاحقا) والسيد محمد شكشو. وكان قد جاء قبلهم مقدم الطائفة التيجانية بسيدي بالعباس وسلم على الأستاذ وجلس معنا زمنا من الوقت لمحبته في الأستاذ. ثم ذهبوا بنا إلى الزاوية, فتواردت الفقراء, وبعد السلام شرعوا في السماع وتلاوة القرآن, وكان الذي يتلو أحد الطلبة من بلاد تافيلالت وهو يجيد التجويد وله صوت حسن, فقرأ قوله تعالى: "رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَٰارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ" (النور:37), وبعد فراغه من التلاوة قال الأستاذ رضي الله عنه:

"إن الذي يفهم من منطوق هذه الآية الكريمة أن الممدوحين مع وجود بيعهم وتجارتهم غير غافلين عن ذكر الله, لا لكونهم لم تكن لهم تجارة بدليل قوله تعالى "وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ", لأن الزكاة لا تجب إلا على ذي المال, فدلَّ هذا على أن أموالهم وتجارتهم لم تلهيهم عن ذكر الله, فهم على وجود البيع غير غافلين, وهذا أظهر من قول من قال أن المشار إليهم في الآية هم أصحاب الصفة, مع أنهم رضي الله عنهم لم يكن لهم مال ولا تجارة ولا بيع يلهيهم عن ذكر الله, وقد قال تعالى في حقهم آمراً لنبيه عليه الصلاة والسلام: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ" (الكهف:28), والبيع والتجارة يناقضان ذكر الله بالغداة والله أعلم" (اه).

ثم وجبت صلاه المغرب فأديناها وذهبنا إلى بيت السيد الحسين بن حاجي, وكان قد اعد العشاء. وبعد الفراغ منه اجتمع الفقراء على الذكر والسماع والتلاوة, قال الأستاذ رضي الله عنه:

"إن قول الحق جلت عظمته "وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" (التكوير:29) أنه تعالى نفى المشيئة عن العبد من جهة وأثبتها له من الأخرى, وهو معنى الكسب الذي يقول به أهل السنة, والمعنى أنه تعالى نفى المشيئة عن العبد بالاستقلال, فكأنه يقول: وما تشاؤون! يعني بأنفسكم, ولكن إذا شاء الله فإنكم تشاؤون... والله أعلم" (اه).

ثم قام الفقراء للحلقة الصدرية المسماة عندنا بـ "العمارة", وبعد أن جلسوا تليت آيات من الذكر الحكيم ورفعت بالأكف للدعاء وافترق الجميع شاكرين الله على تلك الليلة المباركة.

ثم دخل الأستاذ إلى غرفة أعدها له صاحب البيت, كما نمت أنا بغرفة أخرى بجانبها. عنذ اقتراب صلاة الفجر أيقظنا صاحب البيت فصلينا جماعة ثم رجعنا إلى مضاجعنا إلى طلوع الشمس, فذهبنا إلى الزاوية وجاء من بعد ذلك الفقراء للسلام كالعادة, فتارة تسمع مذاكرة منه وتارة سماعا وتلاوة للقرآن إلى الساعة 12:00 حيث دعانا حضرة المقدم الأبر السيد محمد بن بابا أحمد إلى بيته لنتناول الغداء, فذهبنا وقدم لنا مأدبة معتبرة, أكثر الله خيره.

من تلمسان

الأحد 06 مايو 1928م, 15 ذي القعدة 1346هـ

بعد صلاة ظهر يوم الأحد من التاريخ المقدم الذكر توجهنا إلى المحطة قاصدين مدينة الجدار تلمسان, فوصلناها على الساعة 4:00 مساء من يوم الأحد, فوجدنا جمعا غفيرا من الفقراء صحبة المقدم المحترم الشيخ سيدي العربي أشوار في انتظارنا, ومن جملة من جاء معه, حضرة المقدم في الطريقة القادرية بعين تموشنت السيد أحمد القندوز. ومن حين وصولنا إلى الزاوية والزائرون يتواردون من الفقراء والأفاضل من أهل المدينة حتى وقت المغرب, فأدينا المفروضة وقراءة الوظيفة, ثم ذهبنا لتناول العشاء. وعند رجوعنا وجدنا الزاوية مكتظة بخلق الله يترقبون الأستاذ للتبرك به والسلام عليه. ولما جلس الأستاذ شرع الفقراء في الذكر والسماع بهدوء وسكينة ما يزيد في السماع رونقا على ما فيه من طلاوة ألفاظ القوم رضي الله عنهم حتى كاد المجلس أن يهتز طربا ويتمايل سرورا. وداموا على ذلك الحال ما شاء الله, ثم سكت الكل, فتكلم الأستاذ رضي الله عنه بمواعظ ذات أهمية فيما يرجع للدين الإسلامي وفيما يرجع إلى التحبب لأهل الله الواصلين والعلماء العاملين, ثم عطف الكلام على مؤتمر المبشرين الذين عقد هذه السنة في القدس الشريف وما دار فيه من الكلام بين أعضاءه, فقال رضي الله عنه:

"إن الغرض الوحيد لهذا المؤتمر هو التدبير كيف يحوطون بالعالم الإسلامي ويُنَصِّرُونَهُ, أي يدخلونه في النصرانية, ويفرقون ما بقي من مجموعه, وكل هذا يقع وعظماء الأمة الإسلامية في غفلة عن هذه التيارات الجارفة التي تهدد الدين الإسلامي من الجهات الستة, يريدون القضاء على الأمة المحمدية وتشتيتها شذر مذر, فيأتونها من وجهة بالإلحاد ومن الأخرى بالتبشير ومن الثالثة بالتجديد ومن الرابعة بالرقي الموهوم ومن الأخرى بتشييد مكاتب ومستشفيات الإحسان للضعفاء, إلى غير ذلك من الوجوه. وكان الأجدر برؤساء الأمة الدفاع عن كيان دينهم ولو تكبدوا جميع المصاعب ولاقتهم كل أنواع المتاعب".

فتكلم السيد الحسن بن عبد العزيز البغدادي وقال: "إن هذا لا يكون إلا بصرف الأموال الطائلة, وعليه فإن الواجب على أصحاب الثراء من أمة الإسلام أن يتبرعوا كل على حسب وسعه... فصاحب 1000 يتبرع بـ 100 وصاحب 10,000 يتبرع بـ 1000 وصاحب 1000,000 يتبرع بـ 10,000 مثلا, وبهذا تتم الأعمال".

فرد الأستاذ: "أما أنا فأقول هو كذلك, غير أني ألاحظ أن المسؤولية لا ترجع إلا على عظام الأمة ورؤسائها من العلماء والأمراء والكبراء, وأن الذي يجدر بهم هو أن يعقدوا اجتماعا عاما يأتمرون فيه على مثل هذه الحالة ويتفاهمون فيما يعود نفعه على حفظ شريعة سيد الأنام عليه ألف صلاة وسلام, فهم الذين يقدرون على جمع كلمة الأمة وتفهيمها تفهيما شافيا فيما يهدد دينها وما هي حالتها وحالة ناشئتها فيما يستقبل, فبذلك تفيق الأمة من سباتها وتنهض الهمم للعمل ببذل المال وغيره. وإن بقي الحبل ملقى على القارب وكل سائر حسب أغراضه النفسية ولا التفات منهم لدين الله ولا لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, فعلى العالم الإسلامي السلام إلا من رحم ربك".

 

المصدر :البلاغ الجزائري,العدد 72 و 73, 8 و 15 جوان 1928, الصفحة رقم 3 لكلتاهما, والتي نقلها لنا الكاتب تحت إمضاء "محمد البشير الجريدي".

 

تعليقات