المذاكرات الشفوية للشيخ العلاوي - الدين والإيمان

من المذاكرات الشفوية للشيخ العلاوي, ما يتعلق بديننا الحنيف ومما ترمي إليه تعاليمه العالية وحسن أسلوب القرآن, والتي نقلها لنا الكاتب تحت إمضاء "محمد البشير الجريدي", وكان ذلك في يوم الجمعة 04 مايو 1928م, 14 ذي القعدة 1346هـ بزاوية وهران:

"قد تقرر عند الأمم الغربية من الفلاسفة والحكماء أن القرآن هو أحكم كتاب أنزل من عند الله, وأن تعاليمه ليست مختصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فقط, فهي صالحة لكل عصر ومصر بحيث لا يختص بها جيل دون الأخر. أما غيره من الكتب المنزلة فهي مختصره على تلك الأمة التي أنزلت على أنبيائها فقط, وقد انقضى أمدها ببعثه سيد الرسل صلى الله عليه وسلم, وذلك لأن كتابه محتوي على جميع أسرارها, فهو الدستور الكفيل بسعادة بني الإنسان على اختلاف مللهم, ولذلك قال بعض أساطين العلم من أهل أوروبا: "إن الإسلام هو الدين الذي يجدر بجميع الأمم الحية اعتناقه وأن يهتدوا بهديه لأن كتابه هو الكتاب الفذ الصالح لارتباط الأمم ببعضها ارتباطا محكما غير منقسم القوى", وإنه ليسوء الإنسان أن يرى أبناء هذا الدين المتين ناكبين عنه غير عاملين بأوامره ونواهيه, ميالين إلى كل جديد مما أحدثته هذه العصور الأخيرة من دعوى التجديد والرقي الموهوم ذي البروق الخلابة, فمثل هذه الدعوى "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا" (النور:39).

أما الذي يتبادره فهم العاقل فهو أن هذا الفريق غير ذائق حلاوة الإيمان ولا متحقق بأسرار الديانة الإسلامية, وإلا لما انكبوا عنها ومالو إلى غيرها من بقية الأديان, ومَنْ هذا شأنه لا يُعْبَاُ به, لأنه على غير بصيرة من أمره, ولذلك تراهم تارة يُسْلِمُونَ وأخرى يَكْفُرُونْ, لا يلبثوا على حالة واحدة, مثلهم كمثل الحرباء, كلما دخلت أرضا تلونت بلونها. أما من كان على بصيرة من معتقده وبينة من أمره, فإنه لم يغ ولن يبغي بدينه بديلا ولو تكبد كل المتاعب ولاقته كل العقوبات والمصائب, ودليلا على ذلك ماع لقيه أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من تضييق من مخالفيهم ومطارداتهم إياهم وما لحقهم من التشرد في البلاد, ومع ذلك كله لم يبالوا بشيء منه وما يزيدهم ذلك إلا انزواءً إلى الدين ومحبة في سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم, مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ذا ثروة يمدهم منها أو يَتَّبِعُونَه لأجلها, وإلا لقال المقابل ذلك ومع ما تقرر, فما هو الباعث لهم يا ترى على شدة هذا التمسك والعض على الدين بالنواجذ؟ ذلك أنهم كانوا على بينة من أمر دينهم وبصيرة فيما يعتقدونه, قال تعالى آمرا لنبيه: "قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي" (يوسف:108).

ثم إن الإيمان ينقسم إلى قسمين والناس فيه فريقان: الفريق الأول إيمانه كأصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا تهزه الزلازل ولا تخلخله عواصف الرياح, والفريق الثاني إيمانه بحسب ما يراه من المعجزات وخوارق العادات, فهذا الأخير لا يثبت إيمانه لأنه ناشئ عن رؤية بصرية وخارقة شفاهية, والدليل على ذلك ما وقع لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام, والكل يعلم أن إيمانهم ناشئ عن الخوارق, كإلقاء العصا وانفلاق الحجر (12 عينا) وما شاكل ذلك (كانشقاق البحر), ويدلك على عدم ثبات إيمانهم, ما وقع منهم بعد خروجهم من البحر ومشاهدتهم إلى تلك الخارقة العظمى وهي انشقاق البحر وانفلاقه, كل فلق كالطود العظيم, فإنهم ما جفت أقدامهم حتى قالوا لموسى: "اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ" (الأعراف:138) إلى غير ذلك من طلباتهم. وقد عبدوا العجل وذلك لأن الإيمان لم يستقر في قلوبهم كما استقر في قلوب الأمة المحمدية التي كان إيمانها ذوقا ووجدانا, قال عليه الصلاة والسلام: "مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ, وَلَكِنَ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ",
وهكذا اتباع المرشدين في طريق الله من ساداتنا أهل التصوف, فإن من تبعهم بقصد أن ينال نصيبا من ذلك السِّر الذي وقر في صدر أبي بكر وحصل على ما كتبه الله له منه, فإنه لن تهزه عواصف الرياح.

وهناك من تبعهم لأجل كرامة أو إحياء حيوان مثلا, أو أن الشيخ يفعل كذا وكذا... فهذا لا يثبت ويبقى يتخبط, تارةً يُقْبِلُ وتارةً يُدْبِرْ, لأنه إن رأى أحدا أحيى له دجاجة مثلا (كما يشاع عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه) فإنه يؤمن به في ذلك الحين, ولو جاءه آخر وأحيي له كبشا مثلا أو بقرة لاستبدل الثاني بالأول, وبالأحرى إذا رأى من أحيى له جملا أو فيلا, لأتبعه أيضا, والفرق بعيد بين الشقين" (اه).

 

المصدر: البلاغ الجزائري, العدد 72 و 73, بتاريخ 8 و 15 جوان 1928,الصفحات رقم 3, لكلا الرقمين.

 



تعليقات