الشيخ العلاوي - الإسلام متبوع وليس بتابع

جاء الإسلام دستورا من الله لعباده, ليكونوا تابعين له في إرشاداته, وخاضعين له في أحكامه, منقادين له في أمره ونهيه, ولم يكن لهم وصية أبدا مع قضائه, فهو الحاكم المتصرف بميزان العدل بين عباد الله, بدون استثناء, كيف ما كان ميزان ذلك العدل من جهة الرفعة أو الانخفاض, وهكذا دام الإسلام على هذا الحال, والمسلمون ينظرون إليه بعين ملئها التعظيم والاحترام, لا يحبون إلا ما أحبه الإسلام, ولا يبغضون إلا ما بغضه الإسلام, قاطعين النظر عن ما تهوى أنفسهم, فضلا على أن يلتفتوا إلى ما تطلبه أهوية غيرهم, وما ترمي إليه نزغات المغرضين, إلى إن وصلنا إلى هذا العصر الأخير, والذي بعث الله فيه من حثالة أطرافه من لا يرى للإسلام ذلك الحق المقدس, والاستسلام الخالص, بل يرى وجوب متابعة الإسلام والانقلابات العصرية والتطورات الوقتية, فما وافقها منه قبلوه, وما لم فلا.

وهذه خلاصة ما ترمي إليه نزغات العصر الحاضر, فقضى الله على الإسلام أن أصبح تابعا لهوية النفوس بعدما كان قامعا لها, ومحكوما لها بعد ما كان حاكما عليها, فماذا عسى أن يكون غاية هذا الانقلاب الفجائي؟ يكون علمه لله سبحانه وتعالى.

أما الذي نراه الآن ونسمعه من قول إن الإسلام لا يكون إلا كذا, وليس المراد به إلا كذا, وغير ذلك من كذا وكذا, حتى يظن القارئ إن الإسلام غير معقول المعنى عند من سلف هذه الأمة, وإلا لما تكلفنا لتلك التصويبات التي قد تخرج بالدين من كونه دينا يعتبر من أهم مقاصد الحياة الآدمية والنشأة السرمدية.

أما ضرورة هذه الحياة فهي من ضمن ما تطلبنا به الحياة الأبدية, قال تعالى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل) سورة التوبة, آية 38. وأما واجب المسلم إذا أراد أن يطلب الدنيا فحقه أن يطلبها من بابها الشرعي, وكفاه كون الدين لم يمنعه من طلبها, لا بصفة طلبها هو زبدة ما جاء به الدين, كما يتدفق من بعض الأقلام ويلوح من بعض العبارات, إذ اختلط على بعض العقول إن الدين ما جاء إلا آلة للاستعانة به على ما ينال ما به الحاجة.

وحاجتنا به في الدنيا أكثر منها في الآخرة, ولاشك أن اكبر جناية على الدين وأعظم تحريف لمقاصده والتي هي أعلى من إن تنحصر في هذه الحياة الفانية, ولهذا نرى من واجب المسلم ألا ينهمك في دنياه باسم الدين, قاطع النظر عما تتطلب الآخرة, إنما يكفيه من الدين ألا يكون له عرضية في طلبه الدنيا طلبا شرعيا, وإن يرى وجود الرجوع في كل ما يهمه إلي مقتضيات دينه, وأحكام شرعه, وليعلم إننا مطالبون بالرجوع إلى أحكام الدين ومطالبون بالرجوع إلى هويتنا, وهذا مهما إذا أردنا أن نبقى على الإسلام.

وأما من أراد أن يصير الدين تابعا له في نظريته فخير له أن يختار في الخارج عن الدين ما يراه أوفق له, أما الدين السماوي فانه لا تتسع دائرته لنقض الإحكام, فحلاله حلال, وحرامه حرام, مادام الإنسان إنسان, والمسلم من ينصب تلك الأحكام في نفسه, وفيمن يصل إليه نفوذه, وتشملهم رعايته, بصفة إعظام وإجلال, قال تعالى (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) سورة النساء, آية 65.

وفي الحديث : (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ), وعليه, فمن سرَّه أن يكون مؤمنا فليسلم الحكم للشرع, وينقاد إلى أوامره, بدون استثناء, وبحيث لا يرى لنفسه حظا في الاختيار, قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) سورة الأحزاب, آية 36. وهكذا لا يجعل لعقله ولا لعقل غيره كائنا من كان سلطان على الشرع, ولا يأخذ بدعوة من يقول إن الإسلام جاء لسعادة الإنسان, ويعني بالسعادة ما يراه هو سعادة, وليس تلك السعادة أكثر من تنفيذ أغراضه النفسانية, وشهواته البهيمية, فعليه, فالدين يجب أن يجاريه على ذلك, فهو دين المدنية ودين التقدم, ودين كذا وكذا, وإلا فلا تستطيع أن تقول له إن الدين لا يمكن أن يجاريك في ذلك, فيصير الدين عنده دين الجمود ودين التعصب والتخلف ودين الخرافات.

وإذن ما هو المخرج من هذا المأزق الخطير والمسلك المُحرج؟ وهل الأولى أن يكون عنده دين المدنية والتقدم, أم دين الخرافات والتعصب؟

أما الذي يظهر, فهو على شفا جرف هاز في كلا الوجهتين, لأنه لا يكون الدين مقبولا عنده إلا إذا ظهر بصفة تقرب من أن لا دين. إذن فما فائدة دين يده متبوعة عليه أكثر من يده على تابعه.

وأما الذي أنصح به المؤمنين, ومن بقى فيه حشاشة من الإيمان, أن يدوم على رؤية دينه بالعين التي كان يراها بها من قبل, ويتجنب كل ما من شأنه أن يفضي إلى ما ترمي إليه غاية المسترسلين على تيار التساهل, حتى لا ينبت له حق المشاركة في شيء من ذلك, قال الله تعالى : (إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ), سورة النساء, آية 140, وهذا ما نعرفه, والأولى بنا أن نحافظ عليه حتى يأتي الله بآمره و(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) سورة الكهف, آية 17.

والسلام عليكم ورحمة الله


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري - الإسلام متبوع ليس بتابع, العدد 38 بتاريخ 30-09-1927

تعليقات