خمرة القوم من خلال شعر الشيخ العلاوي

خمرة القوم هي خمرة الغرام والمحبة و العشق والاصطلام للمولى عز وجل، يتيه أهل الله حبا في الذات العلية، فتصعقهم الأنوار والأسرار فيبوحون بالحقائق (كأنهم في خبل وليس بهم خبلا)، إنهم يشربون من مدامة المحبة غبا فيأخذهم عنهم ذاك الشراب. هذه الخمرة العتيقة هي خمرة الجنة، ليست حارة و لا باردة وليس بها نزف بالمعنى ولا فشلا، رقيقة دقيقة النعت ، عجز العارفون عن وصفها.


نقطة منها تكفي من تحت الثرى   ومن كان فوق الفوق إلى منتهى العلا

إن كلام القوم أثناء السكر سمي بالشطحات ونعتهم البعض بالزندقة والهرطقة والكفر، ولكن معذور من جهل مابهم، فالصوفي يغيب في حضرة المولى عز وجل فيعبر عن ما يشاهده ويكاشفه ويعاينه ، فالإشارة تلوح و العبارة توضح، لكن الكلام في عمومه لا يفي بالمقصود لأن المسألة ذوقية وكشفية لا تفهم بالتفسير والتوضيح وإنما بالممارسة و السلوك والذوق، ورغم أننا نتحدث عن خمرة الصوفية فإننا لا نستطيع فهم كلام العارفين حول كنهها وحقيقتها فقط نأخذ فكرة عنها

فهي نقطة مالت من رق زجاجة     خمرت عقول الخلق جالت بهم جولا

لذا كان لزاما على كل من يريد تذوق هذه الخمرة معاشرة القوم ومخالطتهم، لكي يفهم في البداية المحبة التي تدور فيما بينهم والوجد الذي ينتابهم ويفهم شطحاتهم وهيامهم وشوقهم واصطلامهم.

تراهم كما ترى سكارى حيهم         كل معشوق لا يبغي به بدلا

وبعد ذلك إذا أراد أن يكون منهم عليه أن ينهج مسلكهم ويسير سيرهم لعله يكون من المحظوظين، فيصبح من أهل المعنى والذوق. إن القوم غابوا في الله فرأوا الجمالا فعبروا عنه حالا ووجدا ومقالا.

سكارى حيارى فيه    صرحوا به وفاهوا

هذا التصريح هو عبارة عن المعاني الذوقية في قوالب حسية، يضع العارف أجمل وأحسن المحسوسات فيعبر بها عن تلك المكاشفات الروحية، فيصف الخمرة بالعسل والشهد و المحبة و الزلال، إلى غير ذلك من التوصيفات. يحصل المريد على جرعات من هذه الخمرة تبعا لآنيته بعد كل مجمع روحي وبعد كل خلوة وجلوة، فتراه ظمآنا يبغي المزيد.

من خمر العرفان    سقينا كيزان    من يد ولدان مخلدينا

وبعد كل معاقرة خمرية، يفيض المريد بالحقائق والأسرار، فيبادلها مع إخوانه في جلسات قلبية عرفانية راقية تزيدهم شوقا إلى الخالق وتحفزهم على المزيد من الشرب والرشف.

سره في جمعنا خمره في كأسنا    علمه في نطقنا تا الله لسنا سواه

إن هذه الأسرار والأنوار ليست خارجة عن ذات المريد بل هي تجلى الخالق فيه.

أنا سر الرحمان      أنا الكل مني

فمن عرف نفسه عرف ربه، وكل من يبحث في آنيته يرى الجمالا ولكن عبر الطريق الموصلة إلى الله حيث المجاهدات والرياضات و الرباطات.

جاهد تشاهد كل الفوائد       سر الأماجد في ذكرك الله

لذا كان لزاما على الجميع أن يعذر هذه الثلة الذاكرة على ما هم فيه من وجد وشوق وهيام.

لي ما عرف ما بنا            معذور و الحق معاه

وكل من لا يأخذ عنهم ولا يحبهم فهو في سقم ومرض لا بد له من علاج.

من لا يرضانا محروم هوانا         هو في عنا حتى يلقى الله 

ويقول الصالحون التصديق بعلمنا هذا ولاية، اللهم اجعلنا من أهل التصديق والإيمان والوفاء والتحقيق.


الأبيات الشعرية هي من ديوان سيدي أحمد العلاوي رضي الله عنه.

عبدالعزيز بوترفاس

تعليقات