الأصول الدّينيّة في شرح الرّسالة العلاويّة - الشيخ محمد المدني

لما كان الإحسان هو حضور القلب مع الحق وخلوه من الخلق, عبر عنه بالتصوف لما فيه من صفاء السرية ومراعاة الحق في كل كبيرة وصغيرة. فالإحسان والتصوف مترادفان في الحقيقة ولا تكون معرفتها إلا بصحبة أهل الطريقة والعارف بغاية التصوف ونهايته هو العارف بالله على التحقيق, الشارب من عين التوحيد, المستغرق في البحار العظمة والتفريد فهو العرف بالله وما سواه عالم بأحكام الله وهذا هو الفرق بين العالم والعارف.

ولما كان أستاذنا (الشيخ أحمد العلاوي) رضي الله عنه أكبر العارفين وإمام الواصلين, قال رضي الله عنه:


إذا أردت نسبة للعارفين      فسأريك الطريقة بعد حين
ذكر التصوف يحسن بالتنويه
   اذكره ختاما للرغبة فيه
فعلم القوم يؤخذ من التنزيل
   والعارفون بالطريقة قليل
ولا تخلو الأعصار من وجودهم
   بقية الله ليهتدى بهم
فهم القوم لا يشقى جليسهم
   فكيف حال من تمسك بهم

أشار بالشطر الأول استعداد علم القوم الذي هو التصوف فأخبر أنه مأخوذ أي مستمد من التنزيل أي من القرآن العظيم ومن حديث النبي صلى الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ومأخذه أي تلقيه فإنه تتدفق به أنهار قلوب العارفين من ثمار آيات الكتاب المستبين فلا بد من أخذه من الأساتذة لأن العلم يؤخذ من أفواه الرجال, نعم إن العارفين بهذا الفن العظيم أهل الذوق السليم قليلون, ولذلك قال العارفون بالحقيقة قليل أي العارفون بعلم الحقيقة الذي هو علم التصوف أو العارفون على التحقيق قليلون أي في كل زمان ومكان فالمحققون قليلون والمدعون كثير ولذلك قال أبومدين التلمساني:

وأعلم بأن طريق القوم دارسة
   وحال من يدعيها اليوم كيف ترى

وقلة العارفين بهذا الفن لعزته, لأن الشيء إذا عزَّ قلَّ ولذلك قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ),
[سبأ:13].

نعم إنهم مع قلتهم لا تخلو الأعصار من وجودهم فكل زمان له رجال وكل عصر فيه أدلة على الخير وأبدال ينقذون الغافل من الأودية الضلال ويرفعونه إلى ذرى المجد وأوج الكمال هم البقية الصالحة في هذه الأمة بهم يهتدي العباد وببركاتهم تنزل الرحمة, المشار لهم في الحديث :لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله.

وأخبر الشيخ في البيت الثالث أن هؤلاء هم القوم الذين لا يشقى جليسهم وأشار بذلك للحديث الشريف الذي في آخره : يا رب إن فيهم فلانا عبد خطاء ولم يأت لحاجة الذكر إنما مر فجلس فيقول : وله قد غفرت فهم القوم لا يشقى جليسهم.

وقول: فكيف حال من تمسك بهم, وتشبث بأذيالهم, نعم يأخذون بيده ويوصلونه إلى ربه ويقولون له : (
هَا أَنتَ وَرَبُّكَ).

زمن غدا مضافا   لأرباب الصدر تصدر

ثم قال الشيخ رضي الله تعالى عنه:

طريقتهم قد حققت نسبتها
            للمصطفى به كان اتصالها
نسبتها في الشرع نسبة اللباب
   غايتها للحق مع رفع الحجاب
أهل الصفة نسبتهم يا من صفا
           بينها تناسب فلا يخفى

يعني أن طريق القوم نسبتها محققة للمصطفى صلى الله عليه وسلم ومتصلة كاملا عن كامل وفاضلا عن فاضل وثابتة الإسناد جارية الإمداد, وقد نظمت سندنا في طريقتنا العلاوية وضمنته في رسالتنا المسماة ببرهان الذاكرين وأخبر في البيت الثاني أن طريق القوم في الشريعة المحمدية نسبة اللباب للقشر.

نعم, إن علم القوم في الشريعة كالروح في الجسد فالشريعة شجرة هو ثمرتها أو نقول لبن مصفى هو زبدة مخيضة وأخبر أيضا أن غايتها ونهايتها الوصول للحق بعد رفع الحجاب ونفي ظلمة الخلق, وأخبر في البيت الثالث أن الصوفية نسبتهم التي يرجعون إليها هي أهل الصفة لأنهم متشبهون بأفعالهم وأحوالهم فإذا قلت صوفي بياء النسبة فقد نسبته لأهل الصفة وهم جمع من الصحابة كانوا لا يملكون شيئا ولا ينتسبون لأحد, ليس لهم أهل ولا منزل, يشتد جوع أحدهم حتى يغشى عليه وهو في الصلاة.

بلغوا نهاية الزهد في هاته الفانية
وأخلصوا وجهتهم للباقية, أشرق نور اليقين في قلوبهم فعلموا أن الحياة الدنيا لعب ولهو, آثروا ما يبقى على ما يفنى وبلغ عددهم نحو الأربع مائة رجل, وكان النبي صلى الله عليه يحبهم ويكثر من مجالستهم وقد قال له الحق تعالى :(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ), [الكهف:28], فبين الصوفية وأهل الصفة نسبة لا تخفي وهي أن كلامها متوجها للباقي معرضا عن الفاني على حد ما قيل:

وخربوا كل ما يفنى وقد عمروا   ما كان يبقى فيا حسن الذي عملوا
لم تلههم زينة الدنيا وزخرفها             ولا جناها ولا حلي ولا حلل

حقيقة التصوف

قال رضي الله تعالى عنه:

وحده بوضعه ثلاثة     الابتداء التوسط النهاية

يعني أن التصوف وتعريفه يتضح بثلاثة أمور وهي بداية ووسط ونهاية, فحقيقة التصوف للمبتدئ علم به صفاء العبد من المخالفات وللمتوسط خلوصه من الاعتماد على ما يفعله من سائر الطاعات وللمنتهى خلوص القلب من سائر المخلوقات ومشاهدة جمال الحق في جميع التجليات

تجليت في الأشياء حين خلقتها    فهاهي مطيت عنك فيها البراقع

فالحاصل أن مراتب التصوف ثلاثة: الابتداء والتوسط والنهاية والسالك يتدرج في المقام الأول والثاني حتى يبلغ في الأخير غاية المنى و الأماني.

وبدأ الشيخ بها يلزم المريد في الابتداء فقال رضي الله تعالى عنه:

فيبتدئ توبة محققة وصحبة   الشيخ وجبت في الطريقة
ونية صالحة طبق المراد    ودوام في التوجه إلى الآباد

يعني أن المريد المبتدئ يلزمه أن يبتدئ قبل كل شيء بتوبة محققة لا ريب فيها فهي الأساس الذي يشتد الذي يشيد عليه بنيان الأعمال والأصل الذي ينتج لطائف الأحوال, فهي مفتاح الكنز المخزون قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ), 
[النور:31].

ويلزم المريد أيضا أن يصحب شيخا في طريقه يقتدي به في صالح الأعمال وشتى الأحوال لتكون أحوله مضبوطة وأعماله بحبل الشريعة مربوطة وقيل: (من لم يكن له شيخ فالشيطان شيخه) وقد قال الإمام ابن زكي في منظومته:

وذلك واجب على المكلف   تحصيله يكون بالمعارف

ومعنى البيت أن علم التصوف واجب على المكلف ولا يكون تحصيله إلا بالمعرف بكسر الراء, اسم فاعل أي بالشيخ الذي يعرفه لك بل صحبة الشيخ واجبة على المريد كما ذكره غير واحد وقد أشبعنا الكلام على هذا المقام في رسالتنا (برهان الذاكرين) ويلزم المريد أن يقدم قبل كل شيء نية صالحة مطابقة لمراده الذي هو التوجه لله والوصول إليه لأنه من صلحت نيته نال بغيته والأعمال بالنيات وسيأتي (بيان النية التي تلزم المريد) في الأبيات التالية.

ويلزم المريد أيضا أن يكون دائم التوجه بدون انقطاع إذ بذلك تحصل الفائدة والانتفاع فمن دام توجهه لمحبوبه نال منه غاية مناه ومرغوبه إن لم نقل فوق ما يرجوه من مطلوبه فقال سلطان العاشقين ونلت مرادي فوق ما كنت راجيا فوا طربا لو تم هذا ودام لي.

فالحاصل أن المريد في الابتداء أمره تلزمه أربعة أمور لا بد منها وهي التوبة وصحبة الشيخ والنية الصالحة ودوام التوجه للحق تعالى.

ومعنى النية أن تسعى بإيقان   في طلب الله على نعت العيان

يعني أن النية معناها وكيفيتها هو أنك تسعى أيها المريد بهمة قوية وحسن طوية ويقين جازم في طلب الحق تعالى لتصل إليه وتعرفه حق معرفته بأن تعرفه معرفة شهود وعيان كمعرفة أهل الذوق والوجدان لا معرفة دليل وبرهان, فإنها معرفة أهل الحجاب ولكنها قصيرة قاصرة بالنسبة لذوي الوصول والاقتراب وإن كان الكل على نيته إن شاء الله, ولكن أين من كاشفه الحق بنعوته وصفاته وتجلي عليه بجمال ذاته ممن هو مكبوت في شهواته محجوب بمكوناته قال سيدي محمد وفا:

ظهرت في سائر اللطائف     تدعو البرايا إلى التصابي
فالبعض يهواك في حجاب   والبعض يهواك بلا حجاب

فالحاصل أن النية في طريق هي أن يقصد المريد معرفة الله والوصول إليه ويتحقق بقوله تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى
[النجم:42], فتناديه هو أنت في الحقيقة ها أنت في سدرة المنتهى.

التوبة (وما تصح به)


قال رضي الله عنه:

توبة تصح بثلاثة إقلاع               اعتراف مع الندامة
مع رد المظالم لأهلها           إن أمكنت كاعتذار لربها
قيام الفرائض مع السنن   تفقه في الدين حسب ما أمكن

حقيقة التوبة هي الانتقال من الأفعال المذمومة إلى الأفعال المحمودة شرعا, وهي واجبة وجوب الفرائض وقد ذكر الشيخ ثلاثة شروط لصحة التوبة:

الأول الإقلاع عن المعصية وهذا في ما إذا أنعم الله على العبد بالتوبة حال تلبسه بالمعصية وإلا فلا يلزم, وإن كان الإنسان لا يخلو من المعصية في أي وقت أقلها ادعاء الوجود لنفسه كما قالت رابعة العدوية لبعضهم وجودك ذنب لا يقاس به ذنب.

الثاني الاعتراف بالذنب بحيث يندم عليه فقوله وندامة عطف تفسير وهذا الشرط أعظم أركان التوبة, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (النَّدَمُ تَوْبَةٌ) أي هو معضمها كقوله (الحجُّ عَرَفَةُ)، أي معظمة فيندم التائب على فعل ما صدر منه لنهي الشارع عنه, فإن ندم لمضرة بدنية فليست توبة.

الثالث رد المظالم لأهلها, فتعطى ما سرقته أو غصبته لصاحبه وهكذا وهذا إن أمكن رد المظلمة, أما إذا لم يمكن ردها لعدم وجود من دفع له سقط هذا الشرط وقوله كاعتذار لربها, كذلك يجب عليك أن تعتذر لرب المظلمة أي صاحبها وهو من ظلمته فتطلب منه العفو فيما ظلمته وتستغله فيما قذفته هذا وقد قال بعضهم إن التوبة تصح ولو لم ترد المظالم غير أن عدم ردها ذنب آخر تلزمه توبة أخرى واخبر في البيت الثالث أن التائب يلزمه القيام بالفرائض التي أوجبها الله عليه والسنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصوصا السنن المؤكدة, فإن تركها يخل بالمقام ودليل على تهاون العبد لشيء يعتمد عليه فيجب عليه تعظيمها كما يجب عليه أن يتفقه في الدين حسبما يمكنه ويتيسر له بحيث يعرف ما تصح به الصلاة وما تبطل به وهكذا ليكون على علم بعباده, وقد ورد إذا أحب الله عبدا فقهه في الدين وألهمه رشده.


دوام التوبة

قال رضي الله عنه:

وحسن السير هكذا إلى الممات   فالعبرة بالخاتمة لا بما فات

بدوام التوجه إلى الحضرة الإلهية وصدق القصد وخلوص النية وبعزم على ألا يرجع عن مقصوده إلى الممات أي حتى يلقى الله على تلك الحالة الحسنة لتكون خاتمته حسنة ويحشر إن شاء الله على حالة حسنة يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه وأخبر في الشطر الأخير أن العبرة بخاتمة العبد وكان عليه في آخر عمره ولا تنظر لما فات منه في أوله, لأن التوبة تمحو عنه كل ذنب جناه, والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

الحالة الوسطى


قال رضي الله عنه:

هذا للمبتدئ على الأقل       والصادق واجبه أن ينتقل
الاجتهاد دائما نعت المريد  المتوجه طالب إلى المزيد
تجده مواظبا معتكفا                 للذكر وبالبر متصفا

قوله هذا إشارة لما يفعله المريد حالة ابتداءه فعلى الأقل يكون المريد المبتدئ فاعلا لما سبق من حسن النية والتوبة وصحبة الشيخ ودوام التوجه.

أما المريد الصادق الذي صدق في مطلوبه وتحقق بمرغوبه, فلواجب عليه الانتقال إلى حال شريف ومقام لطيف, فيكون دائما متوجها طالبا ومجتهدا راغبا, إذ بقدر الأعمال تنال الأحوال فمن طلب المزيد لا بد له من الاجتهاد على ما يرضى به رب العباد وبقدر الأوراد يكون الإمداد, ولذلك قال الشيخ تجده مواظبا (البيت) أي أن المريد الصادق الذي طلب المزيد والوصول لحضرة الخالق تجده مواظبا لذكره بدون كسل ومعتكفا عليه بغير ملل متصفا بالبر ودوام الحضور به بنفسه ويهديها إلى الصراط المستقيم ولسائر الخلائق فلا ترتكب معهم وصفا ذميما, ولجانب الحق لامتثاله بكتابه القديم ورسوله العظيم.


ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

وإن دام سرى فيه نور الذكر   تهذب أخلاقه كما تدري
حتى يصير صفوة بلا كدر    تبدل أوصافه وصفا آخر

يعني إن دام المريد على هذه الحال وسار مع هذا المنوال وواظب على ذكره وأنصف ببره وداوم صهره ذاكر الإسم ربه يسري فيه نور الذكر وتهذب أخلاقه بنور المحبوب ويناديه لسان الحقيقة ألا بذكر الله تطمئن القلوب حتى يكون صفوة بلا كدر وذهب بلا مدر إن لم نقل وجودا بلا شر, يخرجه الحق من الظلمات إلى النور ومن الغيبة إلى الحضور ومن الحجاب إلى شهود الذكور, وما ذلك على الله بعزيز ولذلك قال الشيخ (تبدل أوصافه وصفا آخر)


ثم قال رضي الله عنه:

يكون دائما قويا حازما               في الطاعة معتكفا ملازما
مقاشحا لنفسه محاسبا                    متوجها الله أيضا راغبا
وخائفا وراجيا حبيبا                              وسهلا لينا قريبا
محتسبا وحامدا وشاكرا              معتصما وراضيا وصابرا
ومخلصا وزاهدا وورعا            شديد العزم عاملا ما شرعا
وطاهر القلب من وصف المذموم   لا حسد لا عجب لا تشاؤم

يعني أن المريد الذي تقدم أنه يكون معتكفا على ذكره ومواظبا عليه يكون أيضا قويا في طاعة الله وحازما فيه, فهو دائما في ازدياد إلى أن يبلغ المنى والمراد, فلا ينثني حزمه حتى تنفجر على قلبه ينابيع الإمداد وقوله معتكفا ملازما مترادفان لأن العكوف هو اللزوم يعني يكون المريد ملازما معتكفا لجميع أنواع الطاعة من المفروض والمسنون وقوله معتكفا لتحريض على الذكر فقط, وأعاده هذا للتحريض على العموم الطاعات, ولذلك قال بعضهم:

والذكر أعظم باب أنت داخله    لله فاجعل الأنفاس عليه حراسه

وأخبر في البيت الثاني أن المريد يلزمه أن يكون مقاشحا لنفسه أي مقاشحا لها والمراد أن يعاديها حسبما أخبر به الشارع إذ قال أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك وكلما قاشحها بمحاسبتها على جميع الأنفاس والحركات والسكنات لأن حسن محاسبتها يسد مداخلها ويضيق مجاريها, فإنها عدو محبوب ومرضها خفي, فما على المريد إلا أن يراعيها في جميع خطواتها ولحظاتها وقد قال الجنيدز (من حسنت رعايته دامت ولايته).

وقد ورد حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن يبغضها إن أخطأت وأذنبت ويرغبها إن هي في الأعمال اطمأنت واجتهدت, وإن كانت هاته النفس لا تميل إلا لهواها إمارة بالسوء فعلى المريد أن يحمل عليها بجنود الوعظ والتذكير والمحاسبة على الفتيل والنقير ويكون متحذرا منها ومن وسوستها وقوله متوجها لله أي طالبا منه الإعانة على نفسه الخسيسة الخبيثة مجتهدا فيما يرضيه معرضا عما لا يعنيه توجه إلى الله وخلف ما سواه وكيف لا وهو فيه راغب الجمال ذاته طالب.

وأخبر في البيت الثالث أن المريد يكون واقفا بين الخوف والرجاء, خائفا عقابه راجيا ثوابه فإن الجمع بينهما هو الصراط المستقيم, لقوله صلى الله عليه وسلم الخوف والرجاء لا يجتمعان في قلب عبد مؤمن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف قال كذلك لما دخل على شاب وهو يوجد بنفسه فقال له كيف تجدك ؟ فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي.

واعلم أنه يغلب حالة صحة الخوف على الرجاء ليكون مشمرا على لسان الجد في صالح الأعمال فلسيدي أحمد الدردير في فريدته:

وغلب الخوف على الرجاء   و سر لربك بلا تنائي

ويغلب في حالة السياق الرجاء لأنه بهاته الحالة يوجب المحبة والشوق إلى واسع الجود والكرم وقال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).

وقوله حبيبا على وزن فعيل صيغة مبالغة في الحب, والمراد يلزم أن يكون المريد شديد المحبة لجانب الحق تعالى.


واعلم أن المحبة دين أهل الله ومذهبهم والمحبة ثلاثة أقسام:

1. محبة العوام وهي في مقابلة إحسان الله إليهم ووفور نعمه عليهم
2. ومحبة الخواص وهي خالصة عن الشوائب إنما هي لاستحقاق ذاتي أن يكون محبوبا وينشأ عنه امتثال الأمر واجتناب النهى.
3. ومحبة خاصة الخاصة وهي تقتضي انمحاق المحب في ذات المحبوب, وقد قال الجنيد المحب عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه إلى أن قال فإذا تكلم فبالله وإن نطق فمن الله وإن تحرك فبأمر الله وإن سكت فمع الله, فهو بالله وفي الله ولله ومع الله.

ويشير لهذا المقام قول الملك العلام (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ) (الحديث) وقد أطال الشيخ الكلام على المحبة وكل تكلم بحسب حاله ونسج على منواله وقوله سهلا ولينا مترادفان أي يكون المريد سهل الأخلاق يألف ويؤلف, ليس بفظ ولا غليظ القلب لأن ذلك يورث الجفاء وقد قال الله لنبيه ولو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك وقوله قريبا أي غبر متباعد بحيث يقارب جميع إخوانه ويعاشرهم وهو يرجع لسهولة الطبع ولين الأخلاق ذو رفق ولين ليس بعنيف لقوله صلى الله عليه وسلم ما كن الرفق في شيء إلا زانه وقال الشيخ سيدي عبد المجيد الشرنوبي:

عليك بالرفق لتصفى به ترجو وتجني من ثمار النجاح
وجانب العنف تزد بهجة فالرفق بين الناس زين الملاح

وأخبر الشيخ في البيت الرابع أن المريد يلزمه أن يكون محتسبا لله وحامدا وشاكرا لله تعالى والحمد شرعا هو ما يشعر بتعظيم المنعم باللسان بأن يذكر كل ما يدل على تعظيمه أو بالقلب فيعتقد اتصاف المنعم بالصفات الحميدة وبالجوارح فيفعل ما يدل على تعظيم المنعم.

والشكر شرعا أيضا هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله فيصرف بصره للنظر في كتابه العزيز وفي مصنوعاته تعالى وأذنه إلى سماع ما يرضي الله وهكذا فالشكر مختصر بالحق تعالى والحمد يشمل الخلق فيلزم المريد أن يكون حامدا لله شاكرا له بقلبه ولسانه وجميع جوارحه.

وقوله معتصما أي متمسكا بالله وملتجئا إليه, فلا يلتجئ لغيره ولا يعتمد على سواه بل يكون اعتصامه بجانب الحق الملك العظيم ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم وقوله راضيا أي يلزم المريد أن يكون راضيا عن الله في كل ما يفعله معه, فيفرح بالنقمة كما يفرح بالنعمة, ولذلك قال ذو النون المصري الرضا هو سرور القلب بمر القضاء

ولذلك قال الشلبي بين الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله قال له الجنيد قولك هذا ضيق الصدر فقال صدقت فقال فضيق الصدر ترك الرضا بالقضاء.

وقال علي كرم الله وجهه: من جلس على بساط الرضا لم ينله من الله مكروه أبدا.

ورضاء العبد يورث رضاء المعبود ولذلك قال لما رضي المؤمنون بما قضى الله تعالى وبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم, رضي الله عنهم وقال (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
[الفتح:18] وقوله صابرا أي يلزم المريد أن يكون صابرا على جميع ما يصيبه من جانب الحق تعالى وصابرا عما نهى الله عنه والله مع الصابرين وأعظم الصابرين سيد الوجود صلى الله عليه وسلم لأن صبره بالله فقال له: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ[النحل:127] فعليك بالصبر فإنه من أفضل الصفات وقيل لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل, وجوهر العقل الصبر.

وقد سئل السري السقطي عن الصبر فتكلم فيه فذب على رجليه عقرب فجعل يضربه بإبرته فقيل له لم لا تدفعه ؟ فقال أستحي من الله تعالى أن أتكلم في حال ثم أخلف ما أتكلم فيه.

وكان الشلبي يتمثل بهذين البيتين:

إن صوت المحب من ألم الشوق وخوف الغرانق يورث ضرا
صابر الصبر فاستغاث به الصبر فصاح المحب للصبر صبرا

قال الجنيد رحمه الله: (إن الله تعالى أكرم المؤمنين بالإيمان وأكرم الإيمان بالعقل وأكرم العقل بالصبر, فالإيمان زين المؤمن والعقل زين الإيمان والصبر زين العقل), وأنشد عن إبراهيم الخواص:

صبرت على بعض الأذى خوف علي    ودافعت عن نفسي بنفسي عزت
وجرعتها المكروه حتى تدربت                ولو لم أجرعها إذا لاشمأزت
ألا رب ذل ساق للنفس عزة                      ويا رب نفس بالتذلل عزت
إذا ما مددت الكف ألتمس الغنى            إلى غير من قال اسألوني فشلت
سأصبر جهدي إن في الصبر عزة             وأرضي بدنياي إن هي قلت

ويكفي في الصبر قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)
[السجدة : 24]

و أخبر في البيت الخامس أن المريد يلزمه أن يكون مخلصا, والإخلاص يختلف باختلاف المخلصين.


فإخلاص العابدين: سلامة أعمالهم من الرياء الجلي والخفي فلا يعملون إلا لله طلبا لثوابه أي لا لأمر دنيوي

وإخلاص المحبين: هو العمل لله إجلالا وتعظيما لكونه مستحقا لذلك لا لقصد الثواب أو الدخول لدار المآب

قالت رابع العدوية:

جلهم يعبدون من خوف النار ويرون النجاة حظا جزيلا
أو بأن يسكنوا فيصبحوا في رياض ويشربوا السلسبيلا
ليس لي في الجنان والنار رأي أنا لا أبغى بحبي بديلا

وإخلاص المقربين: شهودهم انفراد الحق بتحريكهم وتسكينهم مع التبري من الحول والقوة, وقد أمر الله بالإخلاص على كل حال فقال: (فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)
[غافر : 14]

وقوله وزاهدا ويلزم المريد أن يكون زاهدا قال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه:

1. ترك الحرام وهو زهد الخواص
2. وترك ما يشغل القلب عن الله تعالى وهو زهد العارفين
3. وأعلم أن الزهد كما يكون في الدنيا يكون في الرياسة, في المقام والكلام والمدح لسائر الأنام وهذا أشد.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي هُدًى وَقِلَّةِ مَنْطِقٍ، فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ ، فَإِنَّهُ يُلَقَّنُ الْحِكْمَةَ).

وقال صلى الله عليه وسلم: (ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَّاسُ).

و قوله ورعا أي يلزم المريد أن يكون ورعا و الورع هو ترك الشبهات خوف الوقوع في المحرمات وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: (مِلاَكُ دِينِكُمَ الْوَرَعُ), وقال بعض العارفين: اتقوا الله وموتوا أنفسكم بالورع. وما ألطف قول بعضهم:

تورع سؤال الخلق طرا وسل ربا كريما ذا الهبات
و دع زهرات دنياك اللواتي تراها لا محالة ذاهبات

وهذا ورع العامة

وأما ورع الخاصة فهو كما التعلق برب العالمين والسكون إليه وعكوف الهمة عليه ولذلك لما سئل الشبلي عن الورع قال: الورع أن تتدرع أي لا يتشتت قلبك عن الله طرفة عين وأوحى الله إلى موسى عليه السلام: لم يتقرب إلى المتقربون بمثل الورع والزهد.

وقوله شديد العزم أي يلزم المريد أن يكون عزمه قويا في جانب طاعة الله فيتتبع العزائم ويجانب الرخص,لا يتراخى في محل التشمير ولا يركن لمواطن التقصير, أوقاته معمورة بالطاعات مملوءة بأنواع القربات متجردا من حتى و غدا ومشمر العمارة وقته ساقا وساعدا فقد قال القوم رضي الله عنهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

و قوله عاملا ما شرعا أي أن المريد يلزمه أن يكون عاملا بما شرع الله لعباده على لسان نبيه لأن العمل بالشريعة تتولد منه نتائج الحقيقة, لأن من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم

أما من كان عمله مخالفا للشريعة المحمدية وللقوانين السماوية فلا تنتج له حداثة ولا يصلح أن يكون من أهل الوراثة وقد قال بعضهم:

تمسك بحبل الشريعة واضرب بسيفه رؤوس المعاصي واتخذ منه جوشنا
وبادر إلى إنكار كل ما كان خارجا عن الحق واحذر أن تكون مداهنا

وأخبر الشيخ في البيت السادس أن المريد يلزمه أن يكون طاهرا القلب من كل وصف مذموم,نقي اللب فما هو بالرذالة موسوم, فإن طهارة القلب مفتاح السعادة كما أن طهارة الجوارح مفتاح العبادة, فطهارة الظاهر لمناجاته وطهارة الباطن للدخول في حضرته

أما طهارة الظاهر فقد تقدم ذكرها وبيانها والكلام عليها في الفصول والأبواب السابقة وأما طهارة الباطن فموضوعها هذا الباب ولذلك قال الشيخ أحمد: (لا حسد, لا عجب, لا تشاؤم) وكذلك الكبر والحقد والبغض لعباد الله, فهاته كلها أمراض قلبية يلزم تطهير القلب منها ودواؤه من ألمها فإنها مضرة على الفؤاد قاطعة عن الوصول إلى رب العباد, موجبة للعقاب يوم التنادي, فإن الله يعامل عباده على ما في القلوب والأرواح, والخلائق ينظرون لظاهر الأجساد والأشباح

والحسد هو التمني زوال النعمة على الغير وقد استعاذ منه الحق في قوله الذي لا يرد قال:

ومن شر حاسد إذا حسد. وإن كان الحسد دالا على كمال المحسود ومضر بالحاسد بغير شك ولا جحود, والعجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها للمنعم وهو مذموم عند العلماء الأبرار و سادتنا الأخيار فقد قال مطرف: (لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما وأصبح معجبا), ويكفينا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ).

والتشاؤم, نفور النفس من الأمر ضد التفاؤل, والمراد أن لا يكون المريد مشئوما يجر الشؤم إلى إخوانه وسائر أقرانه خصوصا وإلى المؤمنين عموما.


قال الشيخ رضي الله:

وهذا فيه شرطه على الكمال وقد يقع في السير بعض الإخلال
لكنه طائف لا يؤثر                      مهما أصاب مريدا يتذكر
إن الذين اتقوا إذا مسهم              من الشيطان طائف ذكرهم
قد تبقى من بقية على المريد     في الغالب أن الطبيعة لا تحيد
لكنه واقف بباب قلبه                   وعارف بالموارد وما به
لا يثق بنفسه وصدقها               إن تعدل كل العدل لا يكفها

الإشارة بهذا لم تقدم ذكره من الشروط أي أن ما ذكرته لك شرط كمال في المريد ولكنه قد يقع منه بعض إخلال في سيره ببعض الشروط لكن ذلك لا يدوم عليه ولا يؤثر فيه بل يزول بالذكر ويذهب بالتفكر أو نقول به المريد يتذكر وفؤاده من الغير يتطهر, لأن المؤمن يأخذ حكمته أنى يجدها ولذلك قال الشيخ مهما أصاب مريدا يتذكر وقد ضمن الشيخ في البيت الثالث قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)
[الأعراف : 201]

و استدلالا على ما تقدم إذ قد أخبر في الآية أن المتقين يمسهم الشيطان لكنهم يتذكرون قبل أن يؤثر في قلوبهم ويغير سرائرهم فيتبصرون بالتوبة من ذلك, أما غير المتقين فإنهم يستمرون على غفلتهم ويؤثر ذلك الطائف في قلوبهم ولذلك قال تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ
[الأعراف : 202]. وأخبر في البيت الرابع أن تبقى عليه بقية نفسانية من لوازم البشرية المقتضية لعدم العصمة والطبيعة لا تحيد أي لا تتبدل ولا تتغير ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ فَصَدِّقُو،ا وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ تَغَيَّرَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا بِهِ). نعم إن تنقية الطبع من مخالف أوصافه الخسيسة وتصفيته من نعوته الخبيثة ممكن, أما خلوصه من جميع الكدرات وسائر الأدران والمخالفات مستبعد ولذلك قال: إذا الطبيعة لا تحيد غير أن المريد واقف على باب قلبه وأعتاب سره ولبه, فمهما ورد عليه وارد الدخول إلى ميدان سره ولبه إلا ونهاه عنه فلا يدعه يتمكن منه إلا إذا كان رحمانيا فذلك مطيته و مرغوبه ومنيته.

أما الوارد الشيطاني فلا يقبله بل يمجه ويتلفه لأنه متهم لنفسه في كل ما تشير به عليه وتدل إليه فإنها غادرة خائنة تجارتها خاسرة تظهر الباطل في صورة الحق وتزين ما هو زائل ممتحق, تأتي لصاحبها في صورة مليحة مبدية له العدالة والنصيحة, غير أن لمريد على علم من دسائسها وما تلقبه من حصن وساوسها لا يثق ينصحها لأنه أخذ يغدرها وقبحها كما لا يستمع لعدلها لأنه عازم على عزلها, وإلى هذا المعنى أشار الشيخ بالبيت الأخير.

ثم بعد أن فرغ من الكلام على وسط التصوف وما يفعله المريد المتوسط, انتقل يتكلم على...


نهاية التصوف (وما يلزم المريد ليبلغ النهاية).

قال رضي الله عنه:

وتطلب الرياضة حال الذكر ثم الكيفية تحتاج للذكر
فلا تكون إلا مع الخلوة في الغالب وهكذا في النية
وقلما ينتفع بدونها      وصعبت على النفس لنفعها
وسنة الرسل جاءت بمثل كما للقوم من الانفراد الكلي
غار حراء للنبي كان مأواه وواعدنا موسى ثلاثين ليله
لا يفرغ القلب دوما من الكدر إلا بالانقطاع عن كل البشر
فلما اعتزلهم وما يعبدون وهبنا له ما قرت به العيون
فمن شاء اتخذ لربه سبيلا لينقطع فورا فورا لذكره

أخبر أن المريد إذا أراد القبول وقصد حضرة الوصول وجبت عليه الرياضة في سيره فيروض نفسه بأنواع الطاعات وأجناس المجاهدات لأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر كما ورد في الحديث وإن كيفية الرياضة والوصول إلى حضرة الله ورياضه تحتاج إلى الذكر والبيان ليتضح السبيل وتفتح الأذهان فلا تكون الرياضة إلا مع الخلوة والإنفراد عن الناس والتباعد عما يكدر القلب من الوساوس لأن الخلوة نفعها مشاهد عزيزة الفوائد فقد قال ابن عطاء الله: (ما نفع القلب شيء مثل عزلة), وهذا في غالب الأوقات,والأشخاص رياضتهم لا تكون إلا مع الخلوة, وقد تكون بدونها, ونظر الشيخ في ذلك واسع إذ هو الطبيب يفعل بالمريض ما يؤديه إليه, إجتهاد في النفع والإصلاح والخير والفلاح وقوله هكذا في النية فينوي عدم الخروج منها إلا إذا صارت له جلوة بالجيم أي بعد أن تتجلى عليه أسماء الحق وصفاته وأنواره و كمالاته وأخبر في البيت الثالث أن المريد قلما ينتفع وتحصل له الأمداد ويحصل على المراد بدون الدخول إلى الخلوة فإذا حصل للمريد الفتح و انفتح بدونها فذلك كرامة شيخه كما هو مشاهد عند أستاذنا المصنف رضي الله عنه وأرضاه, فقد رأينا كثيرا من الفقراء حصل على الفتح العظيم بمجرد المذاكرة من الشيخ رضي الله عنه وإن الخلوة صعبة على النفوس لما فيها من النفع العظيم إذ ما صعب على النفس شيء إلا لكونه حقا وأمرا صدقا, ولما كان لكل شيء مستند ودليل, رد الشيخ كأن سائلا سأله, فهل لهاته الخلوة التي اتخذها القوم مستند من الشريعة المحمدية, فأجابه في البيت الرابع بأن الرسل عليهم الصلاة والسلام سنتهم وطريقتهم الإنفراد عن الخلق والاعتزال عنهم كما يفعل القوم, وقد استدل على ذلك بما في الأبيات بعد السنة والكتاب, فأخبر في البيت الخامس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأوي إلى غار حراء ويتعبد فيه, وأشار إلى ذلك الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها في البخاري وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحنث الليالي العدد حتى جاءه الحق وهو بغار حراء.

وقوله: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ) الآية من كتاب الله, آخرها: (وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً).: وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)
[الأعراف : 142]

وأتى الشيخ بهاته الآية استدلالا من الكتاب لما وقع لموسى عليه السلام من الإنفراد عن قومه أربعين ليلة وتسمى عند بعضهم بالخلوة الموسوية, فالأول دليل من السنة والثاني دليل من الكتاب واستدل في البيت السادس للخلوة بدليل عقلي وهو أن القلب لا يفرغ من الكدر وما يؤثر ضرر إلا بالانقطاع عن كل البشر فإن خلطتهم مبعدة عما يقرب إلى الله كما قال الغزالي:

وصرت بالخلوة مستأنسا من شر أنواع بني آدم
ما في اختلاط الناس خير ولا ذو جهل بالأشياء كالعالم

ثم زاد الشيخ في الاستدلال على الانقطاع والإنفراد وأن فيه الخير الكثير والفتح الكبير فضمن قوله تعالى في حق إبراهيم: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)
[مريم : 49]

فجاءت الهبة بعد الإعتزال والمنة من الله بعد الإنفصال, وهكذا مهما أراد المريد السير إلى الله تعالى والوصول إليه فلا بد له أن ينقطع لذكره ويتبتل إليه بقلبه وسره, ولذلك قال الشيخ: فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.

فالحاصل أن الخلوة حاصلة بالكتاب والسنة كما تقدم والإجماع فقد أجمع القوم كلهم رضي الله عنهم على لزوم الخلوة للمريد.


شروط الخلوة

قال رضي الله عنه

وشرط الخلوة لمريد الدخول بعد النية والتوكل المقبول
طهارة البدن ثوب مكان وحسن الصبر في الدوام بالإمكان
تنظيف مجرى النفس بقطع الطعام والمألوفات هكذا نعت الكرام
تغميض العينين مع جمع الحواس وذكره للإسم مع قطع الأنفاس
لا يفتر لا يغفل عن ذكره ينفي الخواطر عن باب قلبه
إلا خاطرا دله فأحسنه بالإنفراد والتوحيد عرفه

يعني يشترط في حق من أراد الدخول للخلوة بعد النية والعزم على عدم الخروج إلا بعد الفتح وأمر الشيخ بالخروج,وبعد التوكل على الله في كفالة أهله كي لا يتشوش باطنه فإن هذين الشرطين الذين هما النية والتوكل لا بد منهما قبل كل شيء لأنهما أساس الخلوة وعمدتها فيشترط بعدهما الطهارة للبدن والثوب والمكان الذي هو الخلوة و هاته هي الطهارة الخبث وكذلك يشترط طهارة الحدث الأصغر والأكبر, فيكون المختلي دائم الطهارة ليلا نهارا فإن من دام على الوضوء يوشك أن تتلألأ عليه الأنوار لقوله صلى الله عليه وسلم: (
الْوُضُوءُ  نُورٌ, والْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ).

ويشترط الصبر الحسن الذي لا جزع فيه على المداومة والمواظبة وإن طالت به الإقامة فيها فلا يستبطئ فتحه بل يقبل على نفسه ويلومها ويشدد عليها النكير في عدم صدقها وقلة إقبالها وقال ابن عطاء الله: (لا تستبطئ من نفسك وجود الإقبال), فإن حدثته نفسه بالملل سوفها بالأمل وحرضها على العمل, ويشترط أيضا لمن دخل الخلوة أن يقلل من الطعام ليقلل من المنام وتنطفئ نار شهوته وتنقطع جراثيم نفسه, فيضيق مجاريها بقطع الطعام عنها وكذلك قطع جميع مألوفاتها وما اعتادته فتخرق النفس عادتها لتخرق لها العوائد فإن هاته النفس لحسنها ورذالتها نعوذ بالله منها لا تؤثر فيها الموعظة الحسنة والتذكير إنما يؤثر فيها مخالفتها بالخشونة والتدمير ولذلك إذا همت بمعصية فلو تشفعت لها بالله وبجميع رسله وأوليائه وعرضت عليها الموت والقبر والقيامة فلا تكاد تعطي القياد إنما هي دائما للطغيان في ازدياد وإن منعتها رغيفا ذلت ورجعت لطريق الهدى والرشاد, فالجوع فيه إطفاء نيران البعاد وإيقاد أنوار القرب والمراد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أقَلَّ الرَّجُلُ الطُّعمَ مَلَأَ جَوفَهُ نورًا).

و قوله هكذا نعت الكرام, أهل الرسوخ في المقام هو الجوع وقطع المألوفات ولذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكلون إلا عن فاقة وما ألطف قول بعضهم:

فلو كانت الدنيا جزاء لحسن إلا لم يكن فيها لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة وقد شبعت فيها بطون البهائم

أما كثرة الطعام فإنها تميت القلوب لقوله صلى الله عليه و سلم: (لا تُمِيتوا القُلُوبَ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَإنّ القُلوبَ تَمُوتُ كَالزُّروعِ إذا كَثُرَ عَلَيها المَاءُ).

قال بعضهم:

يميت الطعام القلب إذا زاد كثرة كزرع إذا بالماء قد زاد كثرة
وإن لبيبا يرتضي غفلة بأكل لقيمات لقد ضل سعيه

ومن شروط الخلوة أيضا تغميض العينين كي لا تأخذه نفسه إلى ما مالت إليه عينيه,وجمع حواسه أي جوارحه فيجلس بهيئة الصلاة ثانيا ركبتيه وعضديه مستحضرا قوله: (أنا جَليسُ مَن ذَكَرَنِي وتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتاهُ) أن يكون ذكر الإسم الأعظم, لكن المشهور عند الجمهور هو لفظ الجلالة وهو الذي يلقنه أستاذنا المصنف لمريديه فيذكره المريد بالمد والتطويل حتى ينقطع نفسه ويكون على هاته الحالة لا يفتر ولا يغفل عن ذكره ليلا ونهارا, صباحا ومساء, و كلما خطر على قلبه خاطر يحدثه بالتقليل والبطالة منه أو خطر له ما يشغله بغير الذكر كالأهل والأولاد نفاه عن باب قلبه وتوجه بكليته إلى ربه فيقول كمن قال:

هجرت من أجلك الحبائب إذ ليس لي من دونك وطر
وصار عندي من العجائب وجود امرئ عنكم صبر

فينفى جميع الخواطر والواردات ويتوجه لمحو ما تقتضيه الذات, إلا إذا ورد عليه وارد إلا هي يقتضي اضمحلال الكائنات وتلاشي الخيالات, يأخذ بمجامع الفؤاد إلى مقتضى الذات دل الذاكر على انفراد الحق بالوجود وتوحيده في مظاهر الشهود فلا ينفيه عن قلبه لأنه دله على المقصود, نعم, هذا الوارد يخبر به أستاذنا ثم قال الشيخ رضي الله عنه

وهكذا لا يترك الذكر بحال   إلا إذا ظهر من فيض الكمال
ما يفنيه عن هذا العالم مجملا       من ذاته سبحانه وتعالى
إن كان الله لا يزال كما كان      وهذا مقتضى الفناء البيان
قد أشرف القلب بنور ربه    والقلب قد تلاشى في ظهوره

فلا يرى للكائنات منزلا              متصلا به ولا منفصلا
 فالواحد كما كان ولم يزل إن النعوت تتجلى بوصف الكل
 فهنيئا للذاكر قد وصل       إذا كان مندرجا في محو الكل
يأتي إليه المدد طول الدوام    منفصلا ومجملا بلا انفصام
 وغاية العباد هي المعرفة     على نعت العيان والمكاشفة

يعني أن المريد يكون هكذا في الخلوة ملازما لذكر الإسم على الصفة المتقدمة لا يترك الذكر بحال إلا إذا ظهر عليه من فيض الكمال الذاتي وجمال النعوت والصفات ما يفنيه عن هذا العالم من عرشه إلى فرشه جوهره وعرضه في ذات الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لا يمازجه أحد ولا يشاركه أحد بل هو واحد في الوجود متجلي في مراد الشهود وفي جميع المواسم والحدود قال صلى الله عليه وسلم: (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ), قال العارفون: (وهو الآن على ما عليه كان), أي هو الواحد في الأزل وفيها لا يزال فهو وحده قبل العالم ومعه وبعده, إنما هذه الخيالات الكونية (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ
[النور : 39], هذا ما يقتضيه فناؤه ونعتها إذ هي عدم محض والعدم لا ثبوت له مع القدم وما أحسن قول أبي مدين التلمساني:

الله قل وذر الوجود و ما حوى

ولذلك قال الشيخ قد أشرف القلب بنور ربه البيت الرابع أي أن المريد في هذا الحال قد أشرق القلب بنور ربه المتعالي وتلاشى عن نظره كل خيال حيث ظهرت أنور الجمال والجلال أو نقول ظهرت الذات بنعوت الكمال, فإن ظهر الحق فهل يبقى للباطل منزل, كلا إنما يدفعه فإذا هو زاهق إلى هوية الفناء

تراه متصلا ومنفصلا عنه وكيف يكون له أدنى فسحة في الوجود أو قل ذرة في الشهود والحال أن الحق حائز جميع المواطن والمراتب فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وإن تعددت المنازل والمراتب فهو واحد كما كان والعدد في الحقيقة زائل, إنما نعوته وصفاته تتجلى وبجمال ذاته تتحلى وكل نعت هو وجه من وجوهه لقوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ
[البقرة : 115].

فإذا انكشفت الحقائق لهذا المريد وصار غارقا ف بحار التوحيد متنزها في ميادين التفريد يناديه لسان الحال: (هنيئا لك أيها المريد بمقام الوصول ودرجة الرجال, وإذا شئت أن تبلغ مقام الكمال فأفن ذاتك كما أفنيت الخيال), فإذا طوى المريد ذاته وانطوت في عين الوجود صفاته واندرج الحدوث في العدم وتجلى على الجميع كمال القدم وأشرقت الأرض بنور ربها وأزهرت أشجار المعارف حلل زرعها ونبتها ونبعت مياه الأمداد فائضة في عين الوجود تجري بها جداول المريد إن لم نقل المراد, دافقة على هياكل الرسوم والحدود, ويكون مدده حينئذ فائضا بلا انفصام, والاتصال يأتيه تارة بالتفصيل وتارة بالإجمال, فإن تكلم فبالله وإن سمع فمن الله وإن رأى فبنور الله أسبلت عليه حلة: (كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ) (الحديث).

وتلك هي غاية المعرفة بالله, فإن عرفته فقد وفيت قدره وإذا فما قدرته حق قدره, ولذلك قال الشيخ رضي الله عنه وغاية العباد هي المعرفة – البيت – أي غاية العباد من ربهم هي معرفتهم له على نعت الشهود والعيان لا على نعت الدليل والبرهان, فشتان ما بين المعرفتين وبين النظريتين قال ابن عطاء الله: (شتان بين من يستدل به وبين من يستدل عليه).

ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

والمرشد في ذلك يحاذيه إلى أن يتمكن من أمره
فلا يكتم شيئا عليه سائر من المراثي أيضا والخواطر
فلينتبه لما يشير به لا يكتفي بما سبق في علمه
إلا بما أتاه من مرشده لأنه أولى به من نفسه

يعني أن المرشد الذي هو الشيخ يحاذيه في جميع ما تقدم من حين دخوله إلى الخلوة وما يحصل له فيها من الأسرار ويتجلى عليه من الأنوار لأنه رفيقه في الطريق فلا يخطو خطوة في ميدان السير إلا بهمة روحانيته التي تتصرف فيه إلى أن يتمكن من أمره ويحصل على مراده أي إلى أن يقول له
(هَا أَنتَ وَرَبُّكَ) وإن المريد يجب عليه أن لا يكتم شيئا على شيخه من كل ما يرد عليه من الواردات والخواطر والمرائي في الله التي يراها خصوصا أيام خلوته ليكون الشيخ على علم من حال المريد وهل هو في نقصان أم في مزيد ولا يصوغ أن يكتم عنه شيئا كما قال بعضهم:

وإن صار يخفي عنه شيئا فإنه بذلك يعص عند أهل الحقيقة
 بل الواجب المشهور إيثار أمره وإظهار بالصدق دون البرية
ونفي خلاف وامتثال لأمره وإبداء وارد بصفو السريرة

وأخبر في البيت الثالث أن المريد يلزمه أن ينتبه لما يشير له به من المذاكرات لأنهم قالوا: (علمنا هذا إشارة), ومن إشارات أستاذنا رضي الله عنه على فناء ذات المريد إذ قال له بعض المريدين: إني عرفت الله في الجهات الست لقوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
[الحديد : 4] فقال له الشيخ: بقيت لك الجهة السابعة لقوله تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : 21]

وإن المريد لا يكتفي بسابق علمه أي بمعلوماته السابقة قبل الدخول في طريق الله, لأنها ربما تكون قاطعة له عن بلوغ المراد ولذلك قال بعضهم: (تنقل إلى حق اليقين تنزها عن العقل الذي هو قاطع).

وقال ابن الفارض رضي الله عنه:

ولا تكن ممن طيشه دروسه بحيث استغلت عقله واستقرت
فثم وراء العقل علم يدق عن مدارك غايات العقول السليمة

ولذلك لما اجتمع الشاذلي مع ابن مشيش قال له: (اغتسل فاغتسل مرارا) إلى أن قال له: (اغتسلت من علمي وعملي).

فيرمي الكل وراء ظهره ولا يشتغل لشيء من المسائل إلا بما يتلقاه من شيخه فإن ذلك هو الدواء وفيه المنفسة لا سقام المريد فما أمر به الشيخ مريده واجب امتثاله وإن ظهر للمريد خلافه,لأن الشيخ أولى بالمريد من نفسه لأنه طبيب القلب هو العالم بما يشفي ألم المريض من فصد ورج وقطع عضو وهكذا طبيب القلب بل هذت أولى بالامتثال.


المريد المجذوب
(وهو من تأخذه العناية الإلهية ويخطفه نور الحضرة القدسية بدون رياضة ولا خلوة)

قال رضي الله عنه:

وقد يحصل للمريد ما سبق دون ما يتريض يتحقق
تأخذه العناية تضمه حضرة القدس قد تجمعه
هذا الذي يسمى فيهم المجذوب والسالك المحب وهذا المحبوب
ولا بد يتحلى بعد الوصال بكل ما قد سبق من الخصال
فكلما صالح القلب صلحت بقية الجوارح واستكملت
الصراط المستقيم في الطريقة الأخذ بالشريعة والحقيقة
وكل من تحقق من زعمه ولم يعمل بالشريعة فألغه
إلا إذا كان في حاله مغلوب أحسن به الظن فإنه يتوب
إن الحقائق قد تأتي دفعة على العقول تمحوها وتارة
تأتيها مفصلة على الترتيب بقدر الطاقة ولكل نصيب
ثم التفصيل بعد ذلك يأتيهم على مقدار المعرفة ووسعهم
والفهم فيه واحد واختلفت في ذلك العبارة واتسعت

فأخبر أن المريد قد يحصل له ما سبق من المشهود جمال الذات والوصول إلى أعلى الدرجات بدون رياضة وملازمة خلوة فيتحقق أي يحصل على علم الحقيقة الذي هو علم الباطن فتأخذه العناية الإلهية تجمعه بحضرة القدس وتفنيه عن عالم الحس وهذه هي حقيقة المجذوب وهو من جذبته عناية الله حتى بلغ من الوصول مناه بدون مكابدة رياضة ومعاناة عبادة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وأخبر في البيت الثالث أن هذا المسمى هو المسمى عند القوم بالمجذوب كما يسمى بالمحجوب وهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
[المائدة : 54] لأنه سبقت له محبة الله حتى كان سمعه وبصره, ثم كانت محبته لله,أما السالك فهو المحب العاشق والولهان الصادق.

وما الناس إلا العاشقين ذوي الهوى    ولا خير فيمن لا يحب ولا يعشق

وقال سلطان العاشقين:

فإن شئت أن تعيش سعيدا نمت    به شهيدا وإلا فالغرام له أهل

وأخبر في البيت الرابع أن المجذوب بعد وصاله وحصوله على مرتبة كاملة لا بد له أن يتحلى بما سبق ذكره من الخصال من كثرة الذكر في عموم الأوقات والجوع والسهر وغير ذلك من جميع الصفات والقيام بالفرائض والواجبات وأنواع البر والطاعات فكلما صلِّ القلب بشهود الجمال صلحت الجوارح بالاجتناب والامتثال والتنفل ونحوه من صفات كمال الرجل وذلك ليكون سائرا على الصراط المستقيم جامعا بين رؤية الخلق وشهود العليم الحكيم وذلك هو الجمع بين الحقيقة والشريعة فيعطي لسائر الخلائق حقهم ومن جملتهم نفسه إذ لها حق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّ لنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) والحق الذي لها عليه هو ترتيبها وترقيتها لأوج الكمال, حتى تكون راضية مرضية فيناديها الحق: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)
[الفجر : 30]

ويعطي لجانب الألوهية ما يستحق من الحضور معها ومراقبتها أينما كانت حيثما تجلت وهذا هو الصراط المستقيم عند أهل الذوق السليم, فالواجب على المريد أن يسير معه جامعا بين الحقيقة والشريعة فمن تمسك بالشريعة ولم يذق إشراق الحقيقة فهو عقيم ولو بلغ من العلوم علوها ولذلك قال الغزالي: (وإذا وجدتم الرجل قد طبق علما ولم يكن له شيخ يوصله إلى سلسلة القوم فهو عقيم, لم يكن يلقى الحكمة, ومن ادعى الحقيقة ولم يتمسك بالشريعة زنديق), قال مالك: (من تشرع ولم يتحقق فقد تفسق ومن تحقق ولم يتشرع فقد تزندق) إلا إذا كان المريد مغلوبا على أمره لا يفرق بين الحرارة والبرودة فحسن الظن به مطلوب لقوله صلى الله عليه وسلم: (خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ: حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِعِبَادِ اللهِ), فإن الحقائق الإلهية تأتي بعضها دفعة فتمحوا العقول لغلبة نور الحق على الخلق إذ التجلي الإلهي قل من يطيقه: (فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا
[الأعراف : 143] فإذا غلب على المريد الشهود حتى أخرجه على الحدود فلا تلم عليه بل التمس العذر في ذلك إليه كما قال أبو مدين:

فإنا إذا طبنا وطابت نفوسنا            وخمرنا خمر الغرام تهتكنا
فلا تلم السكران في حال سكر   فقد رفع التكليف في سكرنا عنا

وتأتي تارة الحقائق للعقول مفصلة مرتبة فتأنس بها العقول وتتحملها القلوب بقدر طاقة المريد وحسبما تسع حوصلته فتراه صاحيا مطمئنا متحليا بالواجبات غير متعد للحدود المفروضات وقوله لكل نصيب أي أن كلا من المجذوب والسالك له نصيب من علم الحقائق مقسوم مقدر له من الحق في الأزل, فكما قسم قوت الأشباح قسم قوت الأرواح نعم اختلفت العبارة بين القوم واتسعت وتباينت إشارتهم وتغايرت ولكن مقصودهم كلهم واحد وفهمهم في عبارتهم واحد وإن اختلفت الألفاظ فالمقصود واحد وهو الوصول إلى مقام الشهود وتخصيص الحق بالوجود

عبارتنا شيء وحسنك واحد  وكل إلى ذاك الجمال يشير

ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

ثم الحضور مجلاه لكل خير ويحسن التأدب حال التعبير
فالشخص مقرون مع لسانه عند الخلائق وعند الحق بقلبه
كيفما كان في الجهتين يكن عن المراتب عنده بالممكن

يعني أن الحضور مع الله في كل زمان ومكان أو نقول في كل حين من الأحيان أو نقول في ذرة من الذرات الأكوان مجلاه يتجلى عليها كل خير كيف لا و به يناجي العارف ربه, يتشنف سمعه بمناجاة الحق لأنه لا يسمع إلا منه ولا يتكلم إلا معه لأن الحق هو لسانه وسمعه وبصره على مخاطبة الخلق وقوله ويحسن التأدب حال التعبير أي يطلب من العارف أن يتأدب في التعبير على العلوم الذوقية والأسرار الكشفية آخذ بقوله حدثوا الناس بقدر عقولهم فيتلطف في العبارة بقدر الاستطاعة ليكون نطقه سليما وفهمه مستقيما والعارف له وجهتان قلبه ولسانه وكلاهما له وجهة يتعامل معها ويؤاخذ بفعله فيها أما وجهة القلب فالحضرة الإلهية حضرة ملك الحق وأما وجهة اللسان فمظاهر الخلق, فهو مقرون مع الخلق بلسانه ومع الحق بقلبه

فؤادي عند حبيبي متيم يناجيه وعندكم لساني

ولذلك لما تكلم بعض العارفين بكلام يقرب من التشبيه أخذ على حسب ما تكلم به وإن كان عند الحق معذورا لأنه لم يقصد إلا التنزيه المحض وقد سأل بعض الصحابة بقوله: (هَل أُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا أَسمع منك يا رسول الله؟، فَقَالَ له: إلاَّ بِحَديثٍ لَم يَبلغْ عُقولَ القَوم فَيكون على بعضهم فتنَةٌ), وفعله كيفما كان في الجهتين أي في جهتي الحق والخلق باطنه مع الأول وظاهره مع الثاني,فيعطي لكل ذي حق حقه فيكون مع الأكوان بالحرية ومع المكون بالعبودية أو نقول مع الأكوان بالفقد ومع المكون بالوجد, فهذه هي مرتبة التمكن وهي أعز المراتب,لأن من قال إلى إحدى الجهتين الحق أو الخلق وترك الأخرى فهو ناقص بالنسبة إلى مرتبة الجمع لأنها عندنا معاشر الصوفية كما قال الشيخ: (أعز المراتب وأشرق الأحوال والمناصب).

الآداب التي تلزم المريد

الآداب التي تلزم المريد وهي ثلاثة أقسام باعتبار أحواله:

آداب تلزمه في نفسه
وآداب تلزمه مع شيخه
وآداب تلزمه مع إخوانه

وبدأ الشيخ بالقسم الأول فقال رضي الله عنه:

وآداب المريد مع نفسه يعجبك تالله الإقتداء به
تجده مطهرا أيضا نظيفا وعارفا حكم العبادة عفيفا
مراقبا له في كل الأحوال حريصا على الطاعة والامتثال

يعني أن آداب المريد مع نفسه جميلة لطيفة تلوح على ظاهره, وطريقه يعجبك وتطيب نفسك للإقتداء به ومتابعته لما تحلى به من حلة الأوصاف فإنك تجده مطهرا من جميع الأوصاف الرذيلة متزينا بالأوصاف الجميلة مطهرا جوارحه السبعة ومطهرا باطنه من الحسد والعجب ورؤية الغير, و مطهرا أيضا بدنه وثيابه ومكانه وهي طهارة الخبث, ومطهرا مما تعافه النفوس الأبية والآداب الشرعية وعارفا حكم العبادة من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج وتجده عفيفا ينطبق عليه قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)
[البقرة : 273] وتجده أيضا مراقبا لله تعلى في جميع أحواله فلا تراه في موضوع نهى الله عنه, فكل حركاته وسكناته مراقبا فيها جناب الحق جل وعلا.

فكن خاشعا لله في كل حالة تكن مؤمنا تزهو بنور يقين

وتجده حريصا على طاعة بجميع أنواعها من اجتناب ما نهى الله عنه وامتثال ما أمر الله به فإن ذلك دأب أهل الله وما أحسن ما قيل:

وأطيعوا وجدوا ولا تكسلوا فإنكم إلى الله راجعون
ولا تهجعوا فالأكابر كانوا قليلا من الليل ما يهجعون

آداب المريد مع إخوانه


قال رضي الله وأرضاه

أدبه يا صاح مع إخوانه إذ دائما يؤثرهم عن نفسه
ينهض لأمرهم كأنه مملوك يقبل أيديهم ينفي الشكوك
ليس له حق من بين حقهم والأمر من حيث هو بقولهم

يعني أن المريد يلزمه آداب يفعلها مع إخوانه في طريق الله منها أنه يؤثرهم على نفسه أي يقدمهم عليها ليكون من الذين قال الله فيهم: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
[الحشر : 9] فالمريد يلزمه أن يؤثر إخوانه بماله وروحه أما الإيثار بالمال بأن يعين فقيرهم ويكفيه إراقة ماء وجهه وأما الإيثار بالروح نعت الصادقين ذوي المحبة واليقين كما قال ابن الفارض:

إذا جاد أقوام بمال رأيتهم يجودون بالروح منهم بلا بخل

فقد آتهم جماعة من الصوفية بأنهم زنادقة فقدموهم ليضربوا أعناقهم فسارع أحدهم إلى السيف فقيل له في ذلك فقال: (لأوثر أصحابي بعدي بالحياة بقدر ضربة السيف), فلما تحققوا صدقهم وكمالهم خلوا سبيلهم, فأنت تراه قد آثر إخوانه بروحه ومنها أن يكون سميعا مطيعا ينهض لأمرهم كأنه مملوك,فهو عبد وهم أسياده ويكون كمن قال:

لي سادة من عزهم أقدامهم فوق الجباه
إن لم أكن منهم فلي في حبهم عز وجاه

ومنها أن يقبل أيديهم للتبرك بنفي الشكوك والأوهام من قلبه فيسارع لتقبيل أيديهم تعظيما لهم بحيث يجعلهم في مرتبة شيخه ومنها أن يداريهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت بالمداراة), ولبعضهم:

ومن يدري دارى ومن لم يدر سوف يدري عن قريب نديما للندمات

ومنها أن يقول على القول الذي اتفقوا عليه وإن كان على صواب لا يخالفهم لأن المخالفة تورث الشقاق و المباينة وتحل عقدة الإتفاق وذلك مذموم عند كل عاقل وعلى كل حال ترك الإجمال باطل

ومنها أنه يرضيهم ويتذلل لديهم لأنهم أهل الله وملوك حضرته وكان سيدي إبراهيم الدسوقي يقول: (الفقراء كالملوك فمن لا يعرف أدب الملوك لا ينبغي له مجالستهم لأنه ربما جره عدم احترامهم إلى العطب).

ومنها أن لا يكون له حق يختص به من بين حقوقهم بل كله مملوك لهم وأمره بيدهم كما قال الله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ
[الشورى : 38] أي شائع بينهم فهو فيه سواء ولذلك قال إبراهيم شيبان: كنا لا نصحب من يقول نعلي ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

إن أطردوه يأتيهم معتذرا إن كان مظلوما فلن ينتصر
فلا يكن متبعا عورتهم     لا ينظر ما سبق من فعلهم

يعني أن من آداب المريد مع إخوانه إذا أطردوه وهجروه تأديبا له يأتهم معتذرا مقدما لهم عذره طالبا الصفح منهم عما ارتكبه ومنها أن لا ينتصر لنفسه ويدافع عنها إن كان مظلوما أي ظلمه أحد الفقراء قال أبو الحسن الشاذلي: (إذا انتصر الفقير لنفسه وأجاب عنها فهو والتراب سواء), وقال أيضا: (إذا طالب الولي النصرة على من ظلمه خرج من الولاية).

نعم: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا
[الحج : 38] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ).

أما الفقير فشأنه العفو والصفح لقوله تعالى: (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
[التغابن : 14]

ومنها أن لا يكون متبعا عوراتهم أي متجسسا عليهم فالواجب عليه ستر ما يطلع عليه من عيوبهم وما ستر عبد عبدا إلا ستره الله يوم القيامة لأن الصحبة من لوازمها التغافل عن زلات الصاحب التي يفعلها معك أو مع غيرك والتغابي عنها على حد قول بعضهم:

ليس الغبي بسيد في قومه    لكن سيد القوم المتغابي

نعم إن الواجب على المريد نصح من رأى منه عيبا من إخوانه لأنهم متفقون على التواصي بالحق قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (رحم الله إمرءاً أهدى إلي عيوب نفسي), ومنها ألا يكون ناظرا لما سبق من أفعالهم قبل التوبة والدخول في الطريق لأن نور التوبة يذهب بظلمة المعاصي ولأن التوبة تمحو ما قبلها كالإسلام يمحو ما قبله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له و (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)
[البقرة: 222]

ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

يحسن الظن في الكبير و الصغير والكل عنده ولي ذاكر
يسألهم في صالح الدعوات   يتجه بجاههم في المهمات
يحبهم في الله حبا زائدا          يكون في نفعهم مجتهدا

يعني أن من آداب الفقير, مع إخوانه أنه يحسن ظنه في الصغير والكبير منهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (خَصْلَتَانِ لَيْسَ فَوْقَهُمَا شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ: حُسْنُ الظَّنِّ بِاللهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِعِبَادِ اللهِ)

ولا يسيء الظن بأحد منهم ولا كان مسيئا بل ينبغي له أن يحترمهم ويراعيهم ويعتبرهم كلهم أولياء الله الذاكرين كيف لا ؟ والحال أنهم من أولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ومنها أن يسألهم في دعواتهم الصالحة لقوله تعالى إلى موسى: (ادْعُني بلسانٍ لَمْ تعصني بِهِ قَطُّ), ولا سيما من لسان ذاكر وقلب شاكر ومنها أنه يتوجه لله تعالى بجاههم ويتوسل بالأولياء والصالحين والأنبياء والمرسلين ومنها أنه يحبهم في الله محبة زائدة أي قوية عظيمة ليناديهم الحق يوم القيامة أين المتحابون في؟ ويظلهم تحت عرشه يوم لا ظل إلا ظله

ومنها أنه يجتهد في نفعهم وإيصال الفوائد لهم وييسر على معسرهم لما في الحديث: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ). فقم أيها المريد بما يلزم للإخوان وبادر إليهم بالإكرام والإحسان

ثم قال الشيخ رضي الله عنه

يحميهم في حضورهم كذا في الغيب ينصرهم لا يقبل فيهم كذا من عيب
يؤول ما يسمع من نقصهم                       لا يتخلف دوما عن جمعهم
و إن يكن شريف القدر في نفسه                  لعل ذي الجماعة تشفع به
يد الله مع الجماعة يقال                        والجمع رحمة والفرقة ضلال

يعني من آداب المريد الواجبة عليه في حق إخوانه أن يحميهم أي يعينهم ويعاضدهم في حضورهم ومغيبهم بحيث لا يقبل أي لا يسمع من أحد فيهم عيبا أي شتما بل الواجب أن يدافع عنهم وينصرهم ويدحض حجة المنكرين عليهم حتى إذا سمع في حقهم نقصا صدر من أحدهم أوله وأخرجه على وجه حسن كل ذلك ليبلغ درجة حسن الظن ودراجة من الستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة فالواجب على المريد أن يرى جميع إخوانه على أكمل سيرة وأطيب سريرة, يلازم حلق ذكرهم ويتبرك بجمعهم, دأبه معهم الحضور والتوجه إلى المذكور ولذلك قال الشيخ: (لا يتخلف دوما عن جمعهم) أي لما فيه من المنافع الكثيرة والأسرار الغزيرة, فالفرق بين انفراد المريد واجتماعه مع إخوانه وحضوره في جماعة كالفرق بين من يصلي فذا ومن يصلي في جمعة والاجتماع يربي بين القلوب ألفة رحمانية جالبة للمودة والتعاون, والمؤمن للمؤن كالبنيان المرصوص يشد بعضه لبعضا والمريد واجب عليه الاجتماع ولو كان رفيعا في ذاته, تحدثه نفسه بأن الفقراء لا فائدة تلحقه مهم لأنه إما أن يستفيد وإما أن يفيد فينفع إخوانه ويكون في إعانتهم وعلى كل حال فالإفتراق نهى عنه الله تعالى فقال: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)
[الأنفال : 46]

والاجتماع ممدوح يحبه الله و رسوله, ويد الله مع الجماعة ولذلك قال الشيخ والجمع رحمة والفرقة ضلال

آداب المريد مع شيخه

قال رضي الله عنه:

وآداب المريد مع شيخه             متحتم لكي ينتفع به
والإقتداء يصح بشروطه   أذكر منها للمريد كي ينتبه
الصدق المحبة مع التعظيم        النية الامتثال التسليم
يصدقه في فعله والمقال            يحبه محبة بلا مثال
بها المريد دائما متصل       كان الخليل مع من يخالل

يعني أن المريد واجب عليه أن يتأدب مع شيخه ليحصل له به الانتفاع, أما الإساءة معه فإنها مضرة للمريد لأنه متبع له ومقتد به والإقتداء يشترط لصحته شروط لا بد من تحصيلها, أخبر الشيخ أنه يذكر البعض منها لكي ينتبه المريد من غفلته وإساءته ويتحلى بأنواع الأدب وجميل صفاته

وذكر في البيت الثالث ستة شروط لا بد منها للمريد مع شيخه وهي:

الصدق والمحبة والتعظيم والامتثال والنية والتسليم وستأتي مفصلة على الترتيب
 

الصدق والمحبة

أخبر في البيت الرابع أن المريد واجب عليه أن يصدق مع شيخه في الفعل والقول بأن يكون ظاهره موافقا باطنه في كل ما يفعله أو يقوله وأن المريد واجب عليه أن يحب شيخه أقوى من محبة جميع الخلق لأنه أب روحه ومولى لطيفه ولذلك قال: محبة بلا مثال أي لا يحب أحدا مثل شيخه لأن المريد متصل به بواسطة مودته وكل خليل مع من يخالل فالاتصال إنما هو بالمحبة وكمال الرغبة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ).

التعظيم


قال رضي الله عنه:

يعتبره في الغيبة مع الحضور   يعظمه تعظيما بقدر الشعور
وإن رأى في سيره ما يكره   بمقتضى عدم العصمة وصفه

يعني أن المريد من الآداب اللازمة له والواجبة عليه مع شيخه أن يعتبره أي يهابه ويعظمه سواء كان شيخه غائبا عنه أو حاضرا معه ويعظم جانبه ويحترمه ويكون ذلك من جانب تعظيم الله لأن المشايخ كما قال ابن العربي نواب الحق في العالم كالرسل عليهم الصلاة والسلام في زمانهم غير أن المشايخ لا تشريع لهم إنما هم ورثة الأنبياء والرسل في الشرائع, فلهم الحفظ في العموم قال ابن العربي:

ما حرمة الشيخ إلا حرمة الله   فقم بها أدبا لله بالله
هم الأدلاء والقربى توديهم   على الدلالة تأييد على الله
الوارثون هم للرسل أجمعهم   فما حديثهم إلا عن الله
كالأنبياء تراهم في محاربهم   لا يسألون من الله سوى الله

وأخبر في البيت الثاني أن المريد إذا رأى في سيرة شيخه ما هو مكروه ومخالف فلا ينفر عنه ويفر منه بل الواجب أن يلتمس له أحسن تأويل ويكون ذلك من باب ما يقتضيه عدم العصمة التي هي مختصة بالرسل عليهم الصلاة والسلام فلا يشاركهم فيها أحد

النية


قال رضي الله عنه:

نيته فيه أنه واصل   للحضرة الإلهية موصل

يعني أن من آداب المريد مع شيخه أن يكون معه ذا نية صالحة وعقيدة ناجحة فيعتقد فيه أنه واصل للحضرة الإلهية وموصل للمريدين إليها

ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

ويمتثل لأمره فيما أراد   ولا يرى لغيره عليه يد
إلا لشيخه عليه فلزم   لأن الاستمداد منه منسجم

يعني أن المريد واجب عليه أن يمتثل لشيخه فيما أراد ولا يخالفه في شيء ما فإن ذلك موجب للإبعاد فإن قال له افعل فعل وإن قال له اترك ترك وامتثل فيؤثر أمره على جميع المخلوقات ولا يرى يدا عليه لأحد إلا لشيخه قال سيدي أحمد عرب الشرنوبي:

بالواجب المشهور إيثار أمره   وإظهاره بالصدق دون البرية
فالواجب أن يمتثل لأمره   ويكون كالميت عند مغسله

وكيف يعترض عليه ويخالفه فيما أشار به إليه أو يؤثر عليه غيره والحال أنه أخذ عنه واستمد منه,كلا, بل يلقي له القيادة ويسلم له فيما أراد

ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

يسلم له في القول والفعال   والمشتبه يرى له فيها احتمال

يعني أن من آداب المريد مع شيخه أن سلم له في القول وفي الفعل ولا يعترض عليه في شيء حتى إذا رأى منه ما اشتبه عليه حكمه يحمله على أوفق الاحتمالات التي تليق بمقامه

فاسمع القول الذي تقدم   وأصغ لما يأتيك وترنم

ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

لا يسأل عن حجة ولا دليل   يلتمس لقوله حسن التأويل
و إن سأل فعما قد يعنيه   إن لم يجبه لا شيء عليه
إن معه تكلم فبتحفظ   وإن جلس أولى له بالأرض
إن طهرت وإلا في أدنى منزل   إلا إذا قربه فيمتثل
ولا ينام عنده مختارا   لا يسهى عن تذكاره اعتبارا
إن عنده قد دخل بأمره   كذاك الانتشار من مجلسه
يكون آلة له محصلا   بيده مطاوعا ممتثلا

يعني أن المريد من آدابه مع شيخه ألا يسأل حجة ولا دليلا على قوله الذي ذاكره به بل يتحقق أنه لم يتكلم معه بشيء من العلوم إلا وله دليل وإن لم يطلع عليه المريد, إنما يلتمس له أحسن تأويل لما قاله ويحمله على سبعين محملا وإذا وقع ونزل وسأل المريد شيخه فليسأله عما يعنيه أي يفيده من أمور دينه وعما يقربه من الله زلفى من أمور طريقة ثم من آداب المريد إذا سأل شيخه ولم يجبه أن لا يرى بذلك بأسا ويقول المصلحة في عدم الجواب كما رأى الأستاذ, ونظره في ذلك واسع أجاب عن المسألة أو ترك الجواب.

 ومنها التكلم مع الشيخ بصوت مخفوض ولا يرفع صوته فوق صوته لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ[الحجرات : 2].

ومنها إذا جلس عند أستاذه أن يجلس على الأرض لأن ذلك شأن المتواضعين وهذا إذا كانت الأرض طاهرة وإلا فإنه يجلس في أدنى أي أقل منزل أي موضع إلا إذا قربه الأستاذ أي أمره بالقرب إليه فيقرب حينئذ امتثالا لأمره لأن الأدب في الامتثال. ومنها أن ينام عند شيخه لما في ذلك من سوء الأدب وعدم الاكتراث بحرمه الشيخ إلا إذا اضطر إلى ذلك كأن لم يجد غير المحل الذي فيه الشيخ فلا بأس بذلك.

ومنها أن لا يسهو عن تذكيره بل يصغي له بجميع جوارحه ويكون معتبرا متفهما فيما يلقبه الشيخ ويذاكر به, فربما كان مراد الشيخ أن ينهض بالمريد له به في ذلك الوقت فهو في الحقيقة من أعظم الآداب اللازمة للمريد وكثيرا ما يأمرنا الأستاذ رضي الله عنه ويقول: (آداب المريد في المذاكرة كآداب الجمعة,) وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسه كأنما على رؤوسهم الطير, هيبة وإصغاء الحديث, وكيف يسهو والحال أنه يحدث عن محبوبه وغاية مناه و مرغوبه.

وإن حدثوا عنها فكلي مسامع   وكلي إن حدثتهم ألسن تتلو

ومنها إذا دخل عليه في محله الخاص به فلا يدخل حتى يأذن له بالدخول, فقد أراد عمر الدخول على رسول الله صلى الله عليه سلم و هو في الغرفة فلم يدخل حتى استأذن غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكثيرا ما يذاكرنا الشيخ في مثل ذلك ويقول إذا أراد أحدكم الدخول فليذكر الإسم الأعظم استئذانا فإن أذنت له وإلا فليرجع. ومنها أنه إذا أراد الانتشار أي الخروج من مجلسه فلا يخرج إلا بإذنه.

والحاصل أن المريد يكون بيد شيخه كالآلة يرفعه تارة ويضعه أخرى, يطاوعه في كل ما يأمره به وينهاه عنه, إن أمره امتثل وإن نهاه إنزجر وخجل, يسعى فيما يرضيه ويجتهد فيما أقامه فيه,يؤثره على نفسه بالمال والروح ويفديه كما قال:

و إيثاره بالمال والروح والرضا   وتفويضه لله في كل طرفة

الشيخ المربي


 ثم انتقل الشيخ للكلام على صفات الشيخ المربي الذي يجب الاقتداء به فقال رضي الله عنه:

وأذكر من صفات المقتدى به   لطالب لعله يخطئ به
أقول هو رجل قد عرف      لب التوحيد بالبر متصفا

يعني أني أذكر لك أيها الطالب شيئا من صفات الشيخ المربي لتقتدي به وتسلم نفسك إليه ثم لتكون على علم كي لا تستعبد وجود المربي في زماننا وفيما يأتي من الزمان فإن فضل الله يؤتيه من يشاء وفي أي وقت يشاء, فلا ينحصر فضله في زمان أو مكان فالفضل بيد الله لا ممسك لفضله.

فأخبر في البيت الثاني أن الشيخ المربي هو رجل كسائر البشر له معرفة بلب التوحيد أي باطنه المسمى بعلم الباطن وعلم التصوف والعلم اللدني وعلم القوم وعلم الحقيقة, وكثرة الأسماء تدل على شرفا المسمى متصف بأنواع البر والخير بعيد عن الشر والضر, يوصل لحضرة القدس ويمحو الأوهام عن النفس وحبال النفس, فإذا لم يكن عارفا بالله وبالتوحيد الخاص فلا يصلحان يكون مربيا كما هو المشاهد فيمن يدعي المشيخة في زماننا.

ثم قال الشيخ رضي الله عنه:

ولا يكون مرشدا إلا إذا              قد كان عارفا مشاهدا كذا
مع علاج في النفوس مستمر على أمراض في القلوب مقتدر
وفي الشريعة ما يهمه                 من الأحكام لازم يعرفه
ويعمل بذلك قدر الإمكان       وإلا هو مضرة على الإنسان
ويسرع المريد بالتنقل         إن كان فيه شرط غير حاصل

يعني أن الشيخ المربي لا يكون مرشدا للعباد قائدا لهم إلى سبيل الرشاد إلا إذا كان عارفا بالله حق معرفته من أهل الشهود والعرفان والعيان لا من أهل الدليل والبرهان مرفوعا عنه الحجاب مستغرقا في الحضرة الوصول و الاقتراب, له معرفة بأمراض النفوس ومعالجتها, فإنه طبيب القلوب و به تشفى علتها, ماهر في الدواء يقطع عروق الشهوات والهوى ويمحو عن البصائر والأبصار رؤية السوى, وهذا حق على المريد أن يقبل عليه ويسلم نفسه إليه فإنه غنيمة يا له من غنيمة و منة من الله عظيمة.

قال بعضهم:

وغنم المريد في انقاد لكامل    له خبرة بالعلم و الوقت والحال
هو الكنز الأكبر الكيمائي لمن   أراد وصولا أو بغى نيل آمال

وله أيضا معرفة بعلوم الشريعة أي يعرف ما كان هاما له من الأحكام ومتعلقا به من صلاة و زكاة وصيام ولا يشترط فيه أن يكون محيطا بسائر الشريعة وإنما يعلم من الشريعة ما تمس به حاجته وتتوقف عليه عبادته ويكون عاملا بعلمه في الأحكام لأن ذلك يستلزم علم الوراثة كما في حديث سيد الأنام.

فإن كان الشيخ على خلاف ما ذكر مباينا لم سطر فهو مضرة على المريد وحجاب له من جديد, فالواجب حينئذ على المريد أن يسرع بالانتقال إلى شيخ آخر ذي قدم راسخ وحال شامخ.

واعلم أن الشروط المتقدمة في الشيخ شروط صحة وله شروط كمال أشار له الشيخ بقوله:

شروط الكمال للأستاذ فاعرفه   رسوخه يعتبر في المعرفة
وورعا و زاهدا وناصحا             وشفيقا ورفيقا وصالحا
مؤثرا الله على نفسه                     والفقراء من تعلق به
يعامل الضعيف قدر وسعه     متواضعا يحسن الإقتداء به
سيمته تفيدك إذا تراه                تذكر الإله والغير تنساه
منطقة يزيد في علومك            علمه في الآخرة يرغبك
وهذه صفاتهم على التهذيب ولهم في البواطن أمر غريب

يعني أن الشيخ له شروط كمال غير شروط الصحة المتقدمة, أولها أن يكون راسخا في المعرفة بحيث يكون مستعدا لجميع علوم الشريعة من فقه وحديث وتوجيه وغير ذلك, قال الجنيد: (لا يستحق أن يكون شيخا حتى يأخذ حظا من كل علم شرعي ويتورع عن المحرمات وأن يزهد في الدنيا وأن لا يسرع في مداواة غيره إلا بعد الفراغ من المداواة نفسه, ثم قال: إياك ومتابعة من لم يكن على هذه الصفات فإنه من جنود الشيطان واعتبر أقواله وأفعاله وأحواله وزنها بميزان الشريعة والحقيقة فإن رأيت شيئا مخالفا لها فرده فإن كان صاحب حال صحيح ورددته فما كان عليك برده بحكم الشرع من حرج ولا تتخذه مرشدا), ومن شروط الكمال أن يكون الشيخ ورعا عن المحرمات زاهدا في الدنيا وجميع المألوفات والفانيات كما تقدم في كلام الجنيد.

وأن يكون ناصحا لجميع الأمة عموما ولفقرائه خصوصا لأن الدين النصيحة, وأن يكون شفيقا أي ذا رأفة قلبية وحنانة باطنية ورفيقا أي مترفقا بخلق الله وصالحا في جميع أحواله من قول وفعل وأن يكون مؤثرا أي مقدما لله أي أن تكون محبته لله أقوى من محبته لنفسه بائعا نفسه وماله في سبيل الله تعالى ومؤثرا الفقراء ومن تعلق به على نفسه أيضا لقوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[الحشر : 9] فيعامل الضعيف منهم بقدر ما يتيسر له من ماله الخاص به ولذلك قيل إن إبراهيم بن الأدهم كان يحصد بالكراء وينفق على أصحابه.

وأن يكون متواضعا لهم, قال الله تعالى لنبيه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[الشعراء : 215].

ثم أخبر الشيخ في البيت الخامس أن الشيخ إذا رأيته تفيدك سيمته ويلوح لك نعته فتعرفه وينقاد إليه باطنك كما قال الله تعالى في حق المؤمنين: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ
[الفتح : 29] وهذه قاعدة كلية وعلامة إلهية خص الله بها الخاصة من أمته.

ثم ذكر ثلاث علامات أخرى يعرف بها الشيخ وهي أنه عند رؤيته تذكر الله تعالى وتنسى غيره من سائر الكائنات لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفْضَلُكُم مَن إذا ريءَ ذُكِرَ اللهُ لِرُؤْيَتِهِ).

وأنه يزيدك منطقة أي كلامه في علومك وأن عمله يرغبك في الآخرة ويزهدك في هذه الدنيا الخاسرة, وقد قيل: (من نجالس بعدك يا رسول الله ؟ قال: جَالسُوا مَنْ تُذَكّركُم بالله رُؤيَتُه، ومن يَزِيدُكم في عِلْمكُم كَلامُه، ومَنْ يُرغّبُكم في الآخرة عَملُه).

وأخبر الشيخ في البيت الأخير أن ما ذكره من الأوصاف هو وصف المشايخ أهل التربية على التقريب وإلا فأوصافهم أجل وأفعالهم أفضل.

وذكر منها الشيخ هذه الأوصاف تقريبا للعقول وتسهيلا للقبول وإلا فالأمر يطول لأن ما ذكر من جملة أوصافهم الظاهرة, وأما بواطنهم فلها أحوال باهرة وصولات قاهرة يتصرفون في المريد فيرفعونه من ضيق الأكوان إلى حضرة الرحمان فإن شئت قلت من عالم الخيال إلى عالم النوال أو من عالم الحس إلى حضرة القدس أولئك حزب الله فيا سعادة من اختاره الله لصحبتهم واجتباه.

آداب الشيخ مع المريدين


قال رضي الله عنه:

أدباء مع المريدين لطيف       فيحسن المعاشرة والتأليف
مترحم مع الكبير والصغير       معتبر إلى الغني والفقير
يعطي كل ذي حق ما يستحق  من النصائح بتشديد ورفق
يراعي في تصفية قلوبهم        بالذكر والرياضة يأمرهم
يحافظ في سيرهم ما أمكنه حتى يوصل المريد إلى مولاه

يعني أن من آداب الشيخ مع مريده أن يكون لطيفا معهم غير فظ غليظ ليكون رحمة على مريده كما قال تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
[آل عمران : 159] وقد رأينا من شيخنا من التلطف معنا والرأفة بنا ما لا يدخل تحت حصر.

قال في عوارف المعارف: (ومن آداب الشيوخ التلطف مع الأصحاب وقضاء حقوقهم في الصحة والمرض ولا يترك حقوقهم اعتمادا على إرادتهم وصدقهم). وحكي عن الجديدي قال: (قدمتُ من الحجِّ فابتدأتُ بالجنيد فأتيته وسلَّمت عليه وقلت حتى لا يَتعنَّى، ثم أتيتُ منزلي، فلما صليتُ الغداة التفتُّ فإذا الجنيد خلفي، فقلت: يا سيدي إنما ابتدأتُ بالسلام عليك لكي لا تتعنَّى إلى هٰهنا، فقال لي: يا أبا محمد هذا حقُّك و ذلك فضلك) اهـ.

ومنها أنه يحسن التأليف بين الفقراء فيؤلفهم مع بعضهم ويحببهم في بعضهم بتأليف الله لهم, ويأمرهم بالحنانة والشفقة فيما بينهم.

ومنها يكون مترحما بالكبير والصغير من الفقراء لقوله صلى الله عليه وسلم: (وَقِّرُوا كِبَارَكُمْ وَ ارْحَمُوا صِغَارَكُمْ) وكل الفقراء بالنسبة إلى شيخهم صغارا فواجبه أن يترحم بهم لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو بالمؤمنين رءوف رحيم.

ومنها أن يكون معتبرا للغني والفقير فهم عنده كأسنان المشط ولا يؤثر إلا من آثره بقوة محبته وكمال رغبته.

ومنها أن يعطي لكل من الفقراء ما يستحقه من النصائح والمذكرات والمواعظ, فيذاكر المبتدئ و المتوسط والمنتهي كل على قدر عقله, لقوله صلى الله عليه وسلم: (خاطبُوا النَّاسَ عَلَي‌ قَدْرِ عُقُولِهِمْ).

ثم منهم من تؤثر فيه الموعظة والنصيحة بالتشديد عليه ومنهم من تؤثر فيه بالرفق و اللطافة فيعامل كلا بما يناسبه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم الناس على قدر عقولهم ويأمر كل شخص بما يصلح له, فمنهم من يأمرهم بالإمساك ومنهم من أمرهم بالكسب ومنهم من قرره على التوكل وترك الكسب, كأهل الصفة, فكان صلى الله عليه وسلم يعرف أوضاع الناس وما يصلح لكل واحد, فأما في رتبة الدعوة فكان يعمم الدعوة لأنه مبعوث لإثبات الحجة وإيضاح المحجة يدعو على الإطلاق ولا يخصص بالدعوة من يتفرس فيه الهداية دون غيره.

ومن آداب الشيخ مع المريدين أنه يراعي ما يصفي لهم بواطنهم من الكدرات أو نقول من الأوهام والخيالات أو نقول منصور الآثار والكائنات حتى يتخلصوا لمشاهدة الأسماء والصفات ثم لملاحظة أنوار الذات كما قال بعضهم:

برؤية الذات قد نارت بصائرهم   وللفنا والبقا جازوا وقد حصلوا

فيأمر الشيخ بالتكثير من الذكر لأنه مصقلة للقلوب كما ورد في الخبر, وبالرياضة القلبية بالتقليل من الطعام والمنام والكلام ومخالطة الأنام, فإن هاته الأربعة هي أركان الولاية كما نظمه بعضهم بقوله:

بيت الولاية قسمت أركانه                 ساداتنا فيه من الأبدال
ما بين صمت واعتزال دائم    و الجوع والسهر النزيه الغالي

وأخبر الشيخ في البيت الأخير أن الشيخ من حسن آدابه مع مريده أن يحافظ على سيرتهم بمراعاة سرائرهم وملاحظة ظواهرهم يأمر ظاهرهم بامتثال الأمور وباطنهم بدوام الحضور ومراقبة من يطلع على خفايا الأمور إلى أن يصل المريد إلى الله عز وجل فيكون هو مولاه ووليه وهو يتولى الصالحين.

و الحاصل أن الشيخ يحافظ على سير مريديه من خلل والزلل كما يحافظ النحل على العسل, حتى يقول له: (هَا أَنتَ وَرَبُّكَ) فيرجع العسل لنحله والفرع لأصله والمريد لوطنه فيدخل لحضرة القدس ويجلس على بساط الأنس ويقول كمن قال:

شغلت قلبي مما لديك فلات  ينفك طول الحياة عن فكر
أنستني منك بالوداد فقل   أوحشتني من جميع ذا البشر
ذكرك لي مؤنس يعارضني يوعدني عنك منك بالظفر
و حيثما كنت يا مدى هممي فأنت مني بموضع النظر

ثم ختم الشيخ كلامه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رضي الله عنه:

وصل اللهم وبارك و عظما     على النبي وآله وسلم
قد انتهى ما جمعناه بالعمل في غاية خشية من الأجل

أن ينقضي والحالة قبل التمام والحمد لله في البدء والختام
و اختم لنا اللهم بالسعادة          وعاملنا بالحسن والزيادة

طلب الشيخ في البيت الأول من الله تعالى أن يصلي على نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم والصلاة من الله هي الرحمة المقرونة بالتعظيم ولذلك قال: بارك عظما وألف عظما مقلوبة على النون التوكيد في الوزن فالأصل عظمن وكذلك قوله سلما في آخر البيت وآل النبي هم المؤمنون من بني هاشم وختم الشيخ كتابه بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم كما بدأه.

اللهم اجعلنا من المحسنين وعاملنا بما تعامل به أولياءك الصالحين المقربين واغفر لي ما جنته جوارحي ونفسي التي بين جوانحي وسعت كل شيء رحمة فلا تؤاخذني بما أستحق من العذاب والنقمة فمهما تخيلت عظم ذنبي إلا خاطبت بواسع الرحمة قلبي واعتمدت على قولك:  (إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي) فتفرج عني الكروب وتحتقر في جانبي كرمك جميع الذنوب وإني لم أثبت لغيرك وجودا ولم أرى سواك معبودا و مشهودا اللهم كم أزلت في الدنيا غيرك عن بصيرتي فكن في الآخرة كنزي وذخري وكما أذهبت عن بصيرتي الخيال وكحلته بالنور فاكسني حلة الجمال يوم الحشر والنشور وكن سمعي وبصري ويدي ولساني حتى لا تؤاخذني بما رقمت من الحروف ببنان فإنك قد رفعت عن أمة حبيبك محمد صلى الله عليه و سلم الخطأ والنسيان فاغفر لي ما تعمدته في هذا الشرح وتجاوز عما منه شأن و أنفع عبادك المؤمنين بما وافق منه الحق وزان فإن فهمي كليل وعلمي قليل وأنت حسبي ونعم الوكيل وصلى اللهم على حسبك المقتفى وحبيبك المصطفى وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ذوي المجد والاصطفاء صلاة تناسب المقام وتؤدي حقه عليه الصلاة والسلام ما أشرقت شمس التمام وفاح مسك الختام سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.


الأصول الدينية في شرح الرسالة العلاوية

تعليقات