الحيرة في ديوان سيدي أحمد العلاوي

يحتار الإنسان كثيرا في حياته بسبب تضارب الأفكار و تقاطعها وتعارضها، فتراه يحتار في الحب و المعضلات الحياتية وفي اختياراته بين التقليدي و العصري وفي كل الأمور الدنيوية، هذه الحيرة الحسية يشعر بها كل الناس لكن حيرة العارفين هي حيرة في معرفة الله عز و جل وهي الدهشة و الذهول و الغرق في بحار العلم بالله، هذا ما سنقف عليه في أشعار سيدي أحمد العلاوي بعد أن نتطرق إلى تعريفات الحيرة و مدلولاتها.


فالحيرة عند أهل الله ليست سلبية كما هو الشأن في المسائل الحسية ولكنها حيرة إيجابية، وحار في اللغة معناه رجع، حار الشيء كسد، الماء تردد كأنه لا يدري كيف يجري فتجمع. الرجل نظر إلى الشيء فغشي بصره ظل الطريق ولم يهتد إلى سبيله في أمره، جهل وجه الصواب فهو حيران. في الفكر الصوفي، المعرفة بالله تؤدي إلى الحيرة والتحير مما يعني دلالة صريحة وعلى وفق الإقرار الصوفي بالعجز عن هذه المعرفة المعبر عنه وفق المراد اللغوي تارة بالجهل. والحيرة عند الصوفي تشحن الحياة وتصنع التاريخ وتضيء العالم، وهي التي توسع حدود المعرفة و تفتحها على اللانهاية. فالحيرة مسكونة بنزوعها إلى المطلق ودورانها عليه وهي تنتج القطب و الإنسان الكامل مركز الكون وتلتصق بها الدهشة و التيه و المتاه والذهول والضياع ...كل هذه الدلالات للحيرة سنجدها في أشعار سيدي أحمد العلاوي، يقول:

ألا يا بصير          إن لم تكن حائر
في الخلق اعتبر   من ذا الذي ظاهر

هنا الحيرة ضرورية لتحقيق المعرفة فهي تأمل و مكابدة واغتراب ووحدة وترقب للحظة الإلهام أو التجلي. فالذات الإلهية متجلية على هذا الكون بأسره و لتحقيق المشاهدة لا بد من الحيرة في الأنوار المتجلية في جميع الموجودات. ويقول في بيت آخر:

أهل حزب الديان    حار العقل مني
إني هائم ولهان      غائب عن أيني

يقف الشيخ موقف عجز أمام عظمة الله سبحانه و ذاته العلية المتجلية على الكون، يحار فيخرج عن نطاق الإحساس بنفسه، يصاب بالخبل فالعقل في غيبة بسبب الأنوار و الأسرار و الحقائق. يشعر بالتردد و الاضطراب، يقول السراج الطوسي (الحيرة منازلة تتولى قلوب العارفين بين اليأس و الطمع في الوصول إلى مطلوبه ومقصوده لا تطمعهم في الوصول فيرتجوا و لا تؤيسهم عن الطلب فيستريحوا فعند ذلك يتحيرون ). وهذا ما نلمسه في أشعار سيدي أحمد العلاوي يقول :

حالي مثلي حيران    فيما وقع مني

نلاحظ مخاطبة ذاتية بسبب الذهول و الدهش الذي شعر به الشيخ وهو في حضرة المولى عز و جل، فهو بين الصحو و السكر يخاطب نفسه في استفسار عن ذلك الحال الرباني الذي انتابه، هذه الحيرة بديهية ترد على قلبه عند تأمله و حضوره وتفكره تحجبه عن التأمل و الفكرة.

يقول:

لا نرضى بدلا به    أهل الهوى فيه تاهوا
سكارى حيارى فيه    صرحوا به وفاهوا

إن المعرفة بالله هي أقصى الغايات التي يطلبها الشيخ، تبدو فيها الحيرة عين الثبوت، فالعارف ينظر إلى ربه بعين قلبه، و لا يبغي عنه بدلا أو حولا، يقول:

تراهم حيارى في شهود الله        تراهم سكارى و الله و الله.

هذا الشهود في عالم الملك والملكوت كذا الجبروت والذات المسماة دائما تجعل الشيخ في حيرة بين طمع ورجاء ورضا وخوف وتوكل. يقول في بيت آخر:

حير لي بالي المتعوب      لم يدر أش هذا
أيا عشاق المحبوب     وقت النهوض هذا

يقف الشيخ في حالة عجز عن الفهم والإحاطة، حيرة بارزة للعيان في محاولة للترقي والوصول إلى الحقائق يقول ولي الله الدهلوي (الحيرة هي حالة لا يقف فيها العبد عند حالة واحدة إنما هي الجمع في المراتب وهي نتيجة لترقيه إلى حقيقة الحقائق والوحدة القصوى حيث تستولي عنده الحالات جميعا و التجليات بأسرها و النشآت قاطبة ). ويفهم من البيت أن هذه الحيرة مطلوبة وإيجابية للتفكر والتأمل في الإنسان والوجود وهي دعوة إلى كل المحبين للنهوض بالهمم لمعرفة المحبوب. ويستمر الشيخ في إيراد أبيات تتحدث عن تلوينات الحيرة يقول:

فقوموا للذكر حيارى نراكم        وغوصوا بالفكر والداعي دعاكم.

هذه الحيرة تحصل بالذكر المتواصل و المسترسل والغوص بالفكر في ملكوت الخالق عز وجل وتأتي بعد رشف كأس المحبة كما قال ابن الفارض:

زدني بفرط الحب فيك تحيرا      وارحم حشى بلظى هواك تسعرا.

فالمحبة هي التي تأجج الحيرة عبر الذكر والفكر والانجذاب إلى الجمال الإلهي الأخاذ يقول سيدي أحمد:

حير لي بالي قطب الجمال      عين الكمال هو المرام.

الشيخ لا يصل إلى نتيجة يقينية إنما هي حجب تسدل الواحد تلو الآخر، و الحيرة تبدو في هذا المقام ذات وجهين وجه ألفة و وجه غربة ووجه قرب ووجه بعد وجه سكينة ووجه اضطراب كما قال محمد غازي عرابي. يقول سيدي أحمد العلاوي:

كم رجوت طلعتكم متحيرا وذاهلا     كم عملت بأمركم مرتجيا به وصلا.

فالمحبة تدفع إلى هذه الحيرة خصوصا محبة أهل الكمال السادة الواصلون العارفون، فمحبتهم مركبة نجاة و قنطرة عبور إلى المولى عز وجل، لذلك كلما ازدادت محبة المريد ازدادت حيرته. يقول الإمام ابن عربي (كل من حار وصل و الذي اهتدى انفصل ). فمقام الحيرة مقال عال وغال لا يصله إلا أهل الله الذين يجاهدون ويكابدون، يقول سيدي أحمد:

أرواحهم نائرة في الملكوت طائرة     في الجبروت حائرة قد غابوا عن الورى.

هناك دوام نظر وتأمل لتوالي تجليات الذات العلية، حيث يغيب الفكر في الأنوار والأسرار و الحقائق، يقول الإمام ابن عربي (الهدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة فيعلم أن الأمر حيرة والحيرة قلق وحركة و الحركة حياة فلا سكون فلا موت ووجود فلا عدم).

بهذه الإطلالة السريعة عن الحيرة في ديوان سيدي أحمد العلاوي نفهم أن حيرة الشيخ هي حيرة واقعية سببها هو التعقيد الهائل الذي يمتاز به الإنسان والوجود، فبالتأمل والمحبة والحيرة يحصل الشيخ على المعرفة التي تمنحه الحياة بالله.

عبدالعزيز بوترفاس 

تعليقات

  1. الله الله على نفحات ربانية العقل اللي ما فيه حيرة ليس بعقل نعطيو مثل الرجل إذ لم يكون له اولاد مع الزوجة لابد ايحير ويكابد باش يكون عنده ولد بأي طريقة فما بالك النفحات الربانية التى ترفع من المقام السفلي إلى المقام الأعلى ويقولون ( لي الله نفحات فتعرضوا لها) ونختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وتابع التابعين إلى يوم الدين مالا نهاية للكما لات وجزاكم الله خيرا على الشروحات الدقيقة النفيسة الربانية وكل من ساهم في نشرها والله لا يظيع أجر المحسنين

    ردحذف

إرسال تعليق