طريقة الشيخ العلاوي وسلوكه

إنّه رضي الله عنه كثيرا ما كان يتكلّم بصوت (العبوديّة) الخالصة وذلك فيما يتعلّق بالقمّة التي ينتهي عندها السعي الروحيّ كلّه، حيث إنّه لم يفرد بالذكر منه إلاّ جانب (المقتضيات)، وهي التي تشير إليها الآية القرآنيّة (إنّا عرضنا الأمانة على السّماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلوما جهولا / الأحزاب آية / 72)، وإنّ بلوغ نهاية الطريق الروحيّ، وليست تلك سوى الحالة التي كان عليها الإنسان في بداية خلقه، وإنّ هذا المقام الأخير (الولاية الكبرى) الذي أشار إليه في حديثه مع (الدكتور كاري) بلفظ (السلام الأعظم)، ليعرفه رضي الله عنه في كتابات أخرى له بأنّه (السكر الباطنيّ والصحو الظاهريّ)، وبفضله يقوم العقل بوظيفته التحليليّة بمنتهى الوضوح، وذلك بالرغم من عدم وجود شيء من قبيل الحاجز المطلق بينه وبين نشوء القلب.

أمّا بالنسبة للصوفيّ الذي يكون قطع أشواطا في الطريق ولمّا يصل بعد إلى نهاية يكون العقل نهبا للسكر الأخرويّ الذي يجعله على درجة من النشاط الروحانيّ لا يطيقها البشر، أو يحدث شذوذا يفقد النفس اتزانها، ومن الممكن لصوفيّ أن يصل إلى نهاية الطريق ويحصل على فيض السكر دون أن تثبت هذا حالة من الصحو التام الذي يكمّله، وذلك لأنّه بالرغم من أنّ طبيعة الوليّ الإلهيّة باقية لا يعتريها تطوير، فإنّ طبيعة البشريّة خاضعة للزمن، وقد لا تستطيع أن تتلاءم في يوم واحد مع مقتضيات الحضرة الإلهيّة، ولا سيما في الحالات التي يقطع فيها الرحلة بسرعة خارقة، ومن الأقوال المنسوبة إلى سيدنا (أبو الحسن الشاذليّ) رضي الله عنه: (وتجلّت لي رؤية الحقيقة الإلهيّة ولم تفارقني، وكانت أقوى ممّا أحتمل، فدعوت الله أن يجعل بيني وبينها حجاب فناداني صوت قائلا:  ليتك عرفت كيف تتوسل إليه سبحانه وتعالى كما توسل إليه الأنبياء والأولياء ومحمد حبيبه، ومع هذا فلن يحجبك عنها، ولكن أدعه لكي يقوّيك عليها: فسألته القوّة فقوّاني عليها والحمد لله).

ويقول (أغسطين بيرك): (عرفت الشيخ العلوي من سنة 1921م إلى سنة 1934م وشهدته يدنو من الشيخوخة بالتدريج إلاّ أنّ استطلاعه الفكري كان يشتدّ مضاء يوما بعد يوم، ولقد ظلّ حتى النهاية من عشاق البحث الميتافيزيقي  - التربية النفسية  - وندر من المسائل ما لم يخض فيها ومن الفلسفات ما لم يستخلص لبّها، حيث أنّ الصوفيّ  - في جوهره -  ما هو إلاّ عارف بالله، وليست الصوفيّة طريقا محفوفا على الجانبين بالمفاتن والمشغلات بقدر ما هي طريق في بيداء كلّ حجر فيها عرضة لأن يتحول في لحظة فقر ما حل إلى غنى هائل، وكان يستشهد بأقوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، فكيمياء العرفان لا تترك الأشياء على ظواهرها، وإنّما تردّها إلى لا شيء، أو تجعلها تبدو كأنّها سمات لوجه الخالق...

كان الشيخ دائم الظمأ لمعرفة الأديان الأخرى، ويبدو أنّه كان على علم واسع بالكتب المقدسّة، التوراة، والإنجيل، وحتى فيما يختص بالمأثورات عن أباء الكنية.) اه.

وهذا مختصر ممّا ورد في كتاب الشيخ أحمد العلاوي للدكتور مارتن لنجز الشهير بالحاج أبي بكر سراج الدين.

لقد كان الشيخ (العلاوي) يتصدّر للإرشاد نفس الكم ولكن بلا كيف أثناء حياة شيخه (محمد البوزيدي)، وقبل وفاة الأخير بما لا يقلّ عن خمس عشر سنة، ويصرح بذلك العلاوي في قصائده ومدائحه الكثيرة، وممّا يقوله في ديوانه: 

عملنا على كتم الحقيقة وصونها               ومن صان سرّ الله أخذ بالشكر
ولمّا جاد الوهّاب عنّي بنشرها              أهلني للتجريد من حيث لا أدري
وقلدني سيف العزم والصدق          والتقى  ومنحني خمرا فيا له من خمر
خمرة يحتاج الكلّ طرا لشربها              كما يحتاج السكران لمزيد السكر
فصرت لها ساقي وكنت عاصرها   وهل لها من ساق سواي في ذا العصر

إنّ تحدّث الشيخ عن وظيفته بطريق غير مباشر، وأحيانا مباشر، وكذلك رؤيته لتلك الجهود الضائعة التي تبذلها الجموع الغفيرة من الأنفس التواقة لجمعها على الله جعل الشيخ أكثر صراحة في أحاديثه، حيث إنّه يعتبر أحد المجدّدين الذين بشّر بهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حيث يبعث الله على رأس كلّ مائة عام واحدا منهم (إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها) رواه أبو داود، وكان آخر هؤلاء قبل الشيخ العلوي الشيخ الأكبر الدرقاوي نفسه بلا منازع، وفي ذلك يقول الشيخ العلاوي  في ديوانه:

فأنا الساقي المجدّد   حامي الحمى والوفود
والحقّ حقّ لا يرد      بالرغم عن الجحود

صرح يا رواي    باسم العلاوي    بعد الدرقاوي خلّفه الله

وقد كان الشيخ في ذلك الوقت في أوّل أربعينياته، وكان رضي الله عنه (يشع منه ضياء عجيب، وكان لشخصه جاذبيّة لا تقاوم، وكان ذا نظرة سريعة صافية ذات سحر فوق المعتاد، وكان لطيف المعشر، جمّ الأدب، شديد التواضع، ليّنا حريصا على تحاشي الصدام، وكان يشعر المرء بأنّه في قرارة نفسه متثبت بهدفه منطو على نار خفيّة تحرق ما تتسلّط عليه في لحظات قلائل، وحين يتكلّم كان يتمهّل كأنّه يستمد من مدد خارجي مع السيطرة على القلوب وجمعها نحو نقطة المذاكرة بكيفيّة عجيبة، وكان يذاكر كلّ واحد على قدر عقله، وبالنظر لأخلاقه يخيّل للفرد أنّه المحبوب الوحيد عنده وكان إذا خرج من مكانه تبعه خلق كثير وساروا وراءه في الشارع وكأنّهم مشدودون إليه بحبال خفيّة).


من كتاب الشيخ أحمد العلوي للدكتور مارتن لنجز الشهير بالحاج أبي بكر سراج الدين.

تعليقات