الأجوبة العشرة المشهور بمظهر البينات في التمهيد بالمقدمات - الشيخ العلاوي

مظهر البينات في التمهيد بالمقدمات
الأجوبة العشرة المشهور بمظهر البينات في التمهيد بالمقدمات، وهو كتاب عظيم الشأن رفيع القدر في بابه، إذ عالج فيه موضوعاً يعد من أخطر المواضيع التي لم تدرس بالطريقة التي ينبغي أن تدرس بها، فدرس كتابي العهد القديم والجديد، ومنها أقام الحجة على بطلانها من خلال تعارض نسخها الثلاث والمطبوعة باللغات؛ العبرانية واليونانية والسامرية، وأقام الحجة على صحة الديانة الإسلامية بما أورده من أدلة تاريخية وعقلية ونصّيّة من تلك الكتب ثم دعم ذلك بما يشهد لها من أدلة شرعية من القرآن والسنة وحجج منطقية فلسفية. 

جاءت ردا عن أسئلة عشرة وجهها له مريده الفرنسي صاحب مكتبة بوهران واسمه "شارل طبي" (عبد الرحمان) واشترط في تحري إجابتها منهجية معينة طالبا إياه الإجابة عنها بغاية الوضوح لتكون أداة لتبليغ رسالة الإسلام للغرب، وتعهد بأن يتولى هو ترجمتها للفرنسية.

لكن توفت المنية بعبد الرحمن طبي ويبدو أن الشيخ العلاوي لم يجد من يملئ الفراغ الذي خلفه وفاة شارل طبي الذي عوَّل كثيرا عليه ولم يجد بين أتباعه الأوربيين من يقوم مقامه, فتوقف إنجاز مشروع كتاب الأجوبة العشرة عند الإجابة على السؤال الرابع إثر وفاة عبد الرحمن طبي، وظل مشروعا طموحا لم يكتب له أن يرى النور، فلم ينشر منه إلا مقدماته ضمن كتاب الروضة السنية، أما الأجوبة الأربعة فقد نشرت مقاطع منها في جريدة "البلاغ الجزائري" ضمن مقالات حول الإصلاح الاجتماعي.

تمثلت الأسئلة العشرة كما نقلها الحسن بن عبد العزيز عن السائل بعد أن ترجمها للشيخ فيما يلي:

  1. الأول منها هل الإسلام يضمر سوءا لمن سواه من الأمم أو يسمح بالمودة والبرور؟ 
  2. الثاني ما هي عقيدة الإسلام في الأناجيل الموجودة الآن بين أهلها؟ 
  3. الثالث هل ترون أن المسيحيين يلزمون باعتناق الدين الإسلامي أم لا؟ 
  4. الرابع هل أحكام الإسلام تطابق المدنية العصرية أم لا؟ 
  5. الخامس هل يوجد في الأحكام الشرعية منافع دينية زيادة عن كونها تعبدية؟ 
  6. السادس ما هي عقيدة الإسلام في الإله وما هي دلائل وجوده عندكم؟ 
  7. السابع ما هي عقيدة الإسلام في محمد عليه السلام وما هي دلائل نبوته؟ 
  8. الثامن ما هي فائدة الأمة الفرنسية لو اعتنقت الدين الإسلامي على التقدير؟ 
  9. التاسع هل يوجد في الإسلام من الرخص ما يوافق حال المبتدئين إن قصدوا الدخول فيه؟ 
  10. العاشر بأي قول أو فعل يلزم من أراد اعتناق الإسلام بحيث يكون كافيا له في كونه مسلما؟

المقدمة مهد بها كتابه الأجوبة العشرة قدمت تحت هذا العنوان يتضمن الكتاب مقدمة مستفيضة في خمسة و ‏عشرين فصلا، تناول فيها المؤلف أهم مسألة تشغل العالم أجمع، وهي ضرورة الشرائع الإلهية لبني البشر، وان ‏الإنسان لابد له من دين يتضمن سعادة الدارين، ومركزه الأهم التوحيد، ثم الانقياد فيما أمر و نهى و أراد حسبما ‏تتوقف عليه ما يوافق الحاضر. وفيها رد على الفلاسفة و الدهرين الذين ضل سعيهم في العلم الإلهي بسبب ‏استخدام العقل في ما وراء طوره، وفيها دعوة أوروبا العظمى إلى الإيمان بالقرآن الذي يلائم مدنيتها الحاضرة، ‏و الكتاب جدير بالدراسة. 

وهنا بعض ما ورد في الجواب حيث قال (رضي الله عنه) بعد البسملة ما نصه:

الحمد لله الهادي من استهداه، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وآله وصحبه ومن والاه.

أمّا بعد أيّها الصديق فقد بلغتني رسالتكم التي تتضمّن من الأسئلة عشرة، بوساطة محبّكم، وإنّه أعرب لي عمّا قصدتموه، واشتملت عليه طويتكم من إضمار الخير لعموم البشر، كما أخبرني (أيضا) أنّكم تريدون ارتباط الجواب بنصوص قرآنيّة أو أحاديث نبويّة، أو قواعد فلسفيّة عصريّة، ليكون أدعى للقبول، وأمكن تأثيرا في النفوس والعقول، ولمّا كانت الأسئلة بالقلم الأعجمي، ألزمته إيضاح معناها، فأتاني بما يلائم ما اشتملت عليه تقريبا فوجدتها كافلة بالصلاح في بابها تنبىء عن مكارم أخلاقكم من إضمار الخير لبني البشر: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا / الأنفال آية 70)، وبالجملة فإنّها أسئلة أجدر بأن يتشوّف لجوابها العالم أجمع، فضلا عن الأمّة الفرنسيّة التي أنت من أفرادها، فجزاكم الله خيرا، فقد خدمتم بذلك أبناء جنسكم، وسعيتم فيما لا جزاء يعادل فعلكم، هذا إلاّ جنّة عرضها السّماوات والأرض، وبعد هذا أرجو الله أن يلهمنا إلى ما فيه السداد، ويسلك بنا، وبكم سبيل الرشاد. 

مختصر من مقدمة الأجوبة العشرة (من كتاب "الروضة السنية") : 

أ: فأقول: (من المعلوم أنّ المجتمع البشريّ مفتقر بالطبع إلى من يسوسه ظاهرا وباطنا، ولذا رتّب الله سبحانه وتعالى له شرائع سماويّة تسوسه وتزجره من حيث الباطن، كما جعل له قوانين سلطانيّة تسوسه وتزجره من حيث الظاهر، فكان الدين والعمل شريكين حيث لا غنى لأحدهما عن الآخر، أمّا السرّ، لأنّ القوانين الصارمة المترتبة على منتهك الحرمات، لا تجري على صاحبها إلاّ مع البيّنة، والحالة أنّه يأمن من الإطلاع عليه، لا والله لا يحجزه شيء إلاّ إذا كان يخشى الله ربّ العالمين، وعليه فالمستغني بترتيب القوانين السلطانيّة عن الزواجر الإلهيّة فهو متهوم العقيدة، لأنّه قائل بجواز انتهاك الحرمات مهما أمكن الخفاء. 

إنّه مهما اعترفنا بلزوم سلطة باطنيّة دينيّة تؤازرها السلطة الظاهريّة في المحافظة على حريّة الإنسان في بدنه وماله وعرضه، بحيث يكون مأمونا سرّا وعلانية، فلا يعتبر ذلك اللزوم مجرد سياسة اتسمت بالشرائع الإلهيّة، وعليه فلا يحصل له تمام التبرؤ من ذلك أمكن الخفاء، لأنّ ذلك يلزمه بمجرد ادعائه الإطلاع على سرّ الوضع، وعليه فلا يحصل له تمام التبرؤ من ذلك إلاّ إذا تلقّى الزواجر الإلهيّة في الباطن كما تلقّى به الزواجر السلطانيّة في الظاهر، وبذلك يدخل في دائرة من آمن بالله واليوم الآخر. 

ب: إنّ من المحتمل إن يقال أنّ ما اجمع عليه القدماء من لزوم مراعاة الشرائع طبقا لما جاءت به الرسل هو من ضروريات الظروف الغابرة، وعلى تقدير صحّة المقالة فثمّ فرق يتعيّن مراعاته بين الشرائع الإلهيّة والقوانين المخترعة، إذ لا ينكر البصير كون القوانين المخترعة لا تخلو من بعض الأغراض الشخصيّة من واضعها حال التأسيس، حيث القانون يتسمّى باسم واضعه، والمؤسس لا يخلص تماما من مراعاة بعض حظوظه، وذلك لاستجلاب نفع أو درء ضرر، وبدوران الدوائر قد يعطّل القانون أو ينتقل القانون إلى عكسه، إذا فالأمّة لا تخلص أبدا من تقلبّات الأغراض الشخصيّة، بينما الشرائع الإلهيّة حاكمة على الجميع ثابتة الحقائق لا تنعكس، فمن استظل بظلها فهو في أمان.

هنالك من قال بأنّ الوقوف مع مقتضيات الشرائع من لوازم التقهقر. 

فأقول: إنّها كلمة جديرة بالإهمال إن أريد بها عموم الشرائع ناسخا ومنسوخا، لأنّ الشرائع جاءت بأسباب الرقيّ لأهله، فالتاريخ أعدل شاهد على ذلك، ولهذا اضطر بعض الكتابيين من أهل أوروبا إلى استبدال عدة أحكام بغيرها، وعليهم الملامة لأنّهم لم يلتفتوا إلى غير ما بأيديهم من الكتب السّماويّة، لينظروا ما عسى أن يوافق الغرض الموقوف عليه، ويكون مستندهم إلى كتاب سماويّ، وهو شأن المنصف المحافظ على الأوامر الإلهيّة، وممّا صحّ عن سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم أنّه كان يستند إلى بعض أحكام أهل الكتاب فيما لم يوح له به، فما الذي يمنع أهل الكتب السماويّة أن يأخذوا ما وافق مدنيتهم العصريّة من القرآن ؟، فهل ذلك مجردا تغفّل ؟

ج: وأي لوم يلحق المسيحيين لو التفتوا أدنى التفات للبعثة المحمديّة، مع التأمّل في جيئها بعد المسيح، لينظروا ما عسى أن يكون ذلك المبشّر به في الإنجيل، وهل لا يجعلون للبشائر المسيحيّة أدنى مكانة: (هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر / البقرة آية 210). 

جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم عقب بعثة المسيح بنحو خمسمائة سنة، فقال: (أنا دعوة أبيكم إبراهيم وبشارة عيسى)، فأمنت به طائفة من النصارى، وكفرت به طائفة، وذلك بسبب توهمّها أنّه ليس هو ذلك المبشر به، فقد اتضح الآن صدقه، كما اتضح صدق المسيح عليهما السلام بتصريحه عن المبعوث بعده. 

ويتّضح لنا صدق ذلك من خلاصة أقوال سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم أنّه هو ذلك المبعوث في الإنجيل، وليس بعده نبيّ حتى ينتظر. 

إنّ هذا الخبر إلى الصدق أقرب، وبالواقع أنسب، بما مرّت عليه من السنين وعددها أربعة عشر قرنا، وهي كفيلة في تحقيق صدقه في كونه هو ذلك المبشّر به. 

وبالجملة فمن لم يقل بنبوّة محمد من المسيحيّين، فهو يقول بعدم صدق بشارة سيدنا عيسى، وممّا تقدّم لزمنا على ذلك احترام عموم الشرائع الإلهيّة، وهذا بالنظر للمجتمع الإنساني، فلا بدّ للمكلّف من البحث عن شريعة سّماويّة يعتنقها، حالة كونه على بصيرة ممّا اشتملت عليه، فكلّ إنسان لزمه أن يسعى إلى خلاص نفسه: (يوم لا ينفع مال ولا بنون , إلاّ من أتى الله بقلب سليم / الشعراء آية 88، 89). 

ومن الغريب أن تهمل أوروبا البحث عن مثل هذا الموضوع مع ما جبلت عليه من طلب الرقيّ في كلّ شيء، فهل منعها تقليد الآباء والأجداد، أم غفلة منها عن يوم المعاد؟، لأنّ الإنسان يعتبر باليوم المقابل، لا بما فات، وكل آت، آت.

د: إنّ من اللزوم مراعاة الزواجر الدينيّة من المنتظم البشري، هو بقطع النظر عن واجب الإيمان باليوم الآخر، ولوازم الحياة الأبديّة.

قد يتنازع النفي والإثبات على ذلك المركز، لما هو عليه من المكانة والعز: (ليجزي الذين أمنوا وعملوا الصالحات من فضله / الروم آية 45) . 

فمهما اعتقدنا أبديّة الإنسان، بمعنى كونه غير ترابيّ، أو شككنا في ذلك، لزمنا اعتبار ما بعد الانتقال، ليتقّى ما يكون الموعود به حقا، ومن تمكّن من درجة اليقين يكون إنسانا بالطبع لا بالتكليف، ومن لا فلا. 

إنّ الإنسان بيوم الميعاد لازم وهو مفرع عن إثبات المدبّر لهذا العالم، وقد أجمعت الأمم على اختلاف معتقداتها قديما وحديثا على إثباته، إنّما المختلف فيه تعيين الحقيقة، أي ما هو ذلك المدبّر من جهة الماهيّة والوصف؟

فافترقت الملل، وتعدّدت النحل، وذلك بما أخبرها به نبيّها، أو سمح لها اجتهادها، والجامع بين ذلك كلّه هو الإثبات، ولم تنكره إلاّ شرذمة قالت بنفيه وأسندت الأمر إلى غيره، وعليه فإنّها تعتبر خارقة لما أجمع عليه العالم بأسره، لأنّ ذلك كفر بصفته الخاصّة وكلّ ما دونه من المنفيات مفرّع عليه: (ذلك بأنّ الله مولى الذين أمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم / محمد آية 11).

ه: هنالك من أفرط في المقررات الدينيّة إلى أن وصل به غلوّه إلى نفي المدبر لهذا العالم، ولم يشعر أن إنكاره للألوهيّة، ضرب من ضروب الوحشيّة، فحقّه أن يعد قرحة في جانب الإنسانيّة.

لقد تلبّس بهذه العقيدة الأقدمون: (وقالوا ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر / الجاثية آية 24)، لقد صحّ أنّ هاته المقالة ممّا تمخضت به الدهور الغابرة والأمم القاصرة، وإنّ القرآن الكريم يخبرنا ما ارتكبوه في تلك الأعصار: (إن هم كالأنعام بل أضلّ سبيلا / الفرقان آية 44). 

إنّ ما تفوّه به الأقدمون من نفي الألوهيّة، ربّما كان السبب فيه القصور في العلم. فما السبب الآن في التفوّه بمثله مع السعة فيه؟

فأقول: هذا السؤال حقّه أن ينتظر جوابه، وإنّي أمعنت النظر فوجدت الداعي الوحيد فيه هو سابق الاعتقاد في الإله، فقد يكون الفيلسوف موحّدا قبل اشتغاله بالفن الذي أوصله إلى نفي المدبر، لأنّه يتخيل الإله جرما مستقرّه العلو، ومهما استعان به من الاستكشافات والمكبرات، فلا يجد إلاّ فراغا متسع الأرجاء لا غاية له ولا تخالله أجرام، مما يسمى الكواكب كالشموس والأقمار تفوق حدّ الحصر، تتحكّم بحركتها الجاذبيّة والنواميس الكونيّة، فيتضح له أنّ الأشياء مرتبطة ببعضها، والطبيعة فاعلة لا غير، فلا يستطيع أن يثبت موجودا أو زائدا على ما وصل إليه علمه، فكيف يتسنى له أن يثبت إلها حسبما تخيله في ذهنه سابقا من كونه ذا جرم مقرّه في السماء، جالسا على كرسيّ أو نحوه، فهيهات أن يجد إلها بهاته الصفة، وهذا هو الباعث له على إنكار الألوهيّة: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه الله على علم / الجاثية آية 23). 

و: إنّ الإنسان إذا مدح باستقلال الفكر، لا يأمن من غوائل ذلك، لأنّ حريّة الضمير تقضي إلى الاستبداديّة، وهو نفس التمذهب القائل (الحرّ بمذمته).

وعليه فيكون المتنقل منه هو المرجوع إليه، لأنّ المتنقل كان مقتديا فصار مقتدى به، وبالجملة فالدهريّة نفسها مبالغة في استقلال الضمير، فرارا من التمذهب بأي مذهب كان، فاستنتجت بذلك مذهبا علاوة على ما سبق، أحدث في المجتمع الإنسانيّ تشويشا وارتباكا لأنّ الكلّ كان قبل حدوثه متفقا على إثبات المدبر لهذا العالم، وإنّما الخلاف في تعيين من ذلك المدبر، وإنّي مع الاعتراف بأنّه أعزّ شيء للإنسانيّة الافتخار به حريّة الضمير، مع اليقين بسلطة يتعذّر إدراكها، تسمّى بالألوهيّة، ومن لا توجد فيه هاته الحاسّة فهو إنسان في الصورة لا غير. 

كلّ من تمذّهب بمذهب الدهريّة، هو على شكّ من أمره، وما يتبع إلاّ الظنّ: (وإنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا / النجم آية 28)، لذا فإنّ أكثر هاته الطائفة يجنح إلى الإقرار في معلوماته خصوصا عند النوائب، والتي يخالها التوحيد بقدر إنصاف صاحبها، ولا حامل له على الإقرار إلاّ ضغط الألوهيّة على المتجبّر: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون / العنكبوت آية / 65)، وبالجملة إنّ الإنسان هو عبد بالأصالة حبّ أم كره: (إنّ كلّ من في السّماوات والأرض إلاّ آتي الرحمن عبدا / مريم آية 93).

ز: إنّ إنكار الألوهيّة ضرب من ضروب الوحشيّة، وأي وحشيّة أوحش ممن أنكر وجود المدبر لشؤونه، ويستقل بالوجود معجبا برأيه وهو بالأمس: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا / الإنسان آية 1)، لأنّ بسطة الجسم والمال تقوده إلى ذلك: (كلا إنّ الإنسان ليطغى , إن رآه استغنى / العلق آية 6، 7)، (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض / الشورى آية 27)، ومن العجب أنّ يحارب الموجود من أوجده: (أولم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين / يس آية 77)، من المحتمل تقيّيد الحيوان المفترس، وهذا النوع لا يتقيّد بحال، لأنّه لم ير سلطة عليه يراقبها.<br /> ح: لقد تفرّسنا احساسات القائلين الآن بالنفي، وتصفّحنا عقائدهم، وأمعنّا النظر، فلا نجد نفيهم واقعا على الإله الحقّ، على ما تقتضيه سجاياهم من حسن الدراية، بل هو ما تقرّر فيغالب الأذهان، إنّما إله العالم عبارة عن شبه إنسان، مقرّه في السماء على نحو كرسي مثلا، صالح أن يلمس باليد على التقدير، فضلا عن إحاطة البصر به.

لذا، فعنقاء مغرب ليست أولى بالنفي من هذا الإله الذي هو بهذه الصفة، إنّما الإله الحقّ الذي هو عبارة عن الغيب الصرف، وفي ظنّي لو قيل لأحدهم إنّ الإله هو عبارة عن قوّة غيبيّة يتحسس العقل وجودها في العالم من مكان بعيد، ما زالت متعذّرة الإدراك عن الأبصار والبصائر، في الغالب لا يتعجّل النفي حسبما تعجله من قبل، حيث يستشعر ذلك من نفسه من طريق الشكّ أو الظنّ: (إنّ نظن إلاّ ظنّا وما نحن بمستيقنين / الجاثية آية 32)، فلا يتحقّق تحصيل اليقين إلاّ بعد تحقيق الظنّ، لوجود الارتباط بينهما. 

ط: وهل العقل توصل إلى ما توصّل إليه من الاستخدام في المحسوسات والتصرّف فيها بدون آلة يعتمدها؟، كلا!، فقد يفتقر إلى السمع، ليستمدّ منه معرفة الأصوات ومقطعات الحروف، ليميّز بين صوت الإنسان وصياح البهائم، ونغمة الطيور وخرير الماء، وهبوب الرياح وما أشبهه، وهكذا البصر في الألوان، وقس على ذلك كلّ الجوارح، ولا يتوصل العقل إلى شيء ممّا ذكرناه من حيث ذاته إلاّ بواسطة آلة يعتمدها: (ربّنا الذي أعطى كلّ شيء خلقه / طه آية 50)، ولا يصل إلى شيء من الأشياء التي هو من جنسها إلاّ بآلته الموضوعة من أجله، لأنّ الإنسان يتوصّل إلى كنه ربّه بأي آلة يجدها في نفسه، فيدركه على ما هو عليه، كلا!: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء / البقرة آية 255)، فإنّ للعقل عثرات في هذه النازلة، وبالمقابل فإنّ له مزايا. 

إنّ الآلة التي يتصرّف بها العقل في الأشياء هي إمّا بدنيّة كالحواس الخمس، وإمّا نفسية كالخيال والفكر ونحوها، وإنّ الحواس والفكر والخيال لا تعلّق لها بالإلهيّات، فالفكر لا يجوز على نعت الإصابة إلاّ فيما مرّ عليه، والخيال لا يتخيّل إلاّ ما ارتسم فيه وأين هم من شيء لا مساس لهم به البتة؟، فلم يبق إلاّ الاعتماد على الدليل من الخارج، كأحد الكتب الإلهيّة، وإلاّ يخشى عليه: (إنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم / الإسراء آية 9).

ي: إذا لا بدّ للإنسان من دين يعامل به ربّه، فالدين عبارة عن وضع إلهيّ يكلّف الله به الإنسان بانتهاجه، ليضمن له سعادة الدارين، ومركزه الأهمّ التوحيد، ثمّ الانقياد لله فيما أمر ونهى وأراد، لأنّ جوهرة الدين لا تتغيّر في كلّ الأعصار، إنّما المتغير أحكامه حسبما تقتضيه الأزمنة، وتتوقف عليه مصالح العباد، أمّا كنهيتّه لا تتحمّل التغيّر بحال، فالدين واحد لا غير: (شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصيّنا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه / الشورى آية 13)، فالملخّص من هذا أنّ الدين واحد، مختلف الأحكام، مراعاة منه سبحانه وتعالى لمصالح المجتمع البشريّ، وما يوافق ضرورياته في كلّ عصر وزمان. 

إنّ الشرائع الإلهيّة على السواء، فلا نتجمّد على أحكام التوراة مع وجود الإنجيل، ولا على أحكام الإنجيل مع وجود القرآن مهما علمنا أنّ الكلّ من عند الله، بل نتسارع لأيهم أوفى بالعصر، فالقرآن الكريم هو الكتاب الصالح لبقية الدهر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر / القمر آية 17).

نقتبس فصلين تتعلّق بأبحاث الفلسفة:

(1): الفصل الأول: 

إنّ السبب أيّها الصديق في إنكار بعض المعاصرين من الفلاسفة لوجود المدبّر، هو سوء الاعتقاد السابق، حيث كان يسبق في خلده أنّ إله العالم هو بالكثائف أشبه منه باللطائف، فلا يتصوّره إلاّ جرما، ولو أعطاه من جميل الأوصاف ما استطاع حتى إذا وصل إلى ما وصل إليه الأوربيّون من فن الهيئة بواسطة الاكتشافات الحديثة، فلا يجد إلاّ فراغا متسع الأرجاء، ذا أجرام تتوقد ذاتيّا واكتسابا تتوّقف حركة بعضها على بعض على ما تقتضيه الجاذبيّة النواميس الطبيعيّة، فيتضح لديه أنّ الأشياء مرتبطة ببعضها، لكن لا يخلو معتقده تماما من بقية تومىء إليه بإمكان سلطة هناك تدق عن الإدراك. لكنّه يتعجّل القول بمجرد الطبيعة، وإنّ مع بقاء ذلك الزائد المتوّهم عنده: (خلق الإنسان من عجل / الأنبياء آية / 37)، وكان حقّه أن لا يتعجّل التصريح بالنفي مع تحسّسه بذلك الزائد على الطبيعة، عساه أن يأتيه البيان، فيكون حجّة على غيره، وإمّا ما يهتدي به في الإثبات، أمّا النفي فهو شيء قد يتصوّر من ضعف الإدراك خلاف مقابله، فليتأمل.

(2): الفصل الثاني: 
قد يضل الإنسان في محل الاهتداء، ويدبر عن الحقّ في طريق الإقبال عليه. وإنّي قد سافرت مرّة إلى تونس، وعندما قربت إلى سوق العطارين عبقت رائحة المسك ونحوه طافحة، فأخذت أتبع الرائحة بالتوسم، عسى أن نهتدي إلى المحل دون السؤال عليه، ولمّا وصلت للمحل نفسه انقطعت عني الرائحة تماما، فظننت أنّي أدبرت عن المقصود، فأخذت التفت يمينا وشمالا، فناداني رجل من دكان بجانبي: (أيش تريد يا شيخ)، فقلت له أريد المسك، فقال لي هذا محلّه، فقلت له أعطنيه، فناولني قطعة سوداء في فأرة من جلد، فأخذتها منه، ثمّ وضعتها عند أنفي، ثمّ رددتها قائلا: أريد أجود من هذا، وأنا أقول هيهات أن يكون هذا هو المسك، فتركته ثمّ استعنت على طلبه مرّة أخرى بدليل، فأرجعني إلى المحل نفسه، قلت: ولا شكّ أنّه لو كان لي نصيب من معرفة المسك، لمّا تركته عند التحصيل عليه. 

وهذا مثال المشتغل بفنّ الفلسفة، فقد يدبر عن الحقّ في حال الإقبال عليه، وإلاّ إذا كان له نصيب من عقيدة الخصوص، فلا يزداد بذلك إلاّ يقينا، لأنّ ما وصل إليه من عدم الإدراك، هو ما ينبغي الاعتماد عليه، وتلك عقيدة الإسلام، لقول الصديق رضي الله عنه: (العجز عن درك الإدراك إدراك)، وكما قيل: (إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإنّ أهل الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم).(انتهى)

(يستدل الأستاذ في الجواب الرابع من الأجوبة العشرة بتحريم الولايات المتحدة لتعاطي الخمر على خطورة ظاهرة الإدمان, تعجب كيف لم تحز فرنسا على قصب السبق في هذا الميدان...وفاخر بأنه إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية لم تنتبه لخطورة تعاطي الخمور إلا في مطلع القرن العشرين، فإن الإسلام حرم الخمر منذ أربعة عشر قرنا. ولعله بعد فشلها في تطبيقه وصل إلى قناعة أن حال البشر لن يصلح إلا بالتعاليم السماوية لا بالقوانين الوضعية، خاصة وأن تعاليم الإسلام نجحت حيث أخفقت القوانين الوضعية في حماية الأخلاق وصيانة المروءة، وما الانحلال الخلقي السائد إلا نتيجة البعد عن تعاليم الإسلام وبفعل الغزو الثقافي.).


الأجوبة لم تنشر كاملة ولم تترجم إلى الفرنسية إلى يومنا هذا، ولعلها لن تتم ترجمتها، مادام قد تعرض فيها بصراحة وحرية ضمير لموقف الإسلام من الأديان السماوية، ونظرته للجهاد، وموقف الإسلام من المدنية الحديثة، وخاصة مسائل المرأة والاختلاط وتعاطي الخمور والتعليم الإجباري, ولم يترجم منها إلا مقدمتاها من طرف باسكال بن والي، مع الإشارة لبعض محتويات الأجوبة.

المخطوط الذي بأرشيف زاوية مستغانم يحتوي على تسعة فصول من الجواب الأول، والجواب الثالث بداية من البشارة السابعة، وعلى فصول الجواب الرابع كاملة، مع غياب كلي للجواب الثاني. أما المخطوط الأصلي مع باقي المخطوطات فهو عند السيد خالد بن تونس بفرنسا.

الصور الأصلية.

تعليقات