البكاء المعنوي عند الشيخ العلاوي

يستغرق الإنسان كثيرا في المحسوس ويفنى فيه بالكلية ولا يستطيع الانفصال عنه، فيأسر روحه فيما هو فاني وزائل، ولا يمكن له أن يتحرر من هذه القيود إلا بالتربية الروحية و السلوك المعنوي.


إن بدن الإنسان يحتاج إلى الكثير من المحسوسات ليستمر في الحياة وكذلك الروح تحتاج إلى الكثير من المعنويات لكي تستمر في الحياة، لذا فإن الانغماس في المحسوسات يقيد الروح ولا يترك لها حريتها في التعبير عن إرادتها في معانقة الإطلاق، فهي دائمة مشتاقة إلى أصلها، يقول سيدي أحمد العلاوي :

والأصل مني روحاني      كنت قبل العبوديا
 ثم عدت لأوطاني          كما كنت في حريا

فبسبب هذا الأسر تتعذب الروح وتنطمس الفطرة لأن المحسوسات تجبر الإنسان على الخضوع المطلق، فيصبح يعشقها حتى الثمالة، فتراه يبكي بكاء شديدا على صحته وماله و معشوقته، يبكي على الدنيا ويغفل على الآخرة،قال بعض الصالحين : ( ليس للقلب إلا وجهة واحدة متى توجه إليها غاب عن غيرها) فلا تجد الروح فرصة للتعبير عن رغبتها وسط هذه المحبة الحسية العارمة، فكم من روح أزهقت ظلما وعدوانا لأن صاحبها ضاعت منه أمنية دنيوية وطموح مستقبلي، وكم من روح تتعذب لأن صاحبها أصابته صدمة دنيوية فأصبح يتسكع في الطرقات، وكم من فقير كفر بالله بسبب فقره، وكم من شاب ضيع نفسه في المخدرات بسبب انسداد الأفق عليه، وكم عاشق انتحر حزنا على حبيبته وكم من متسلط أحرق الدنيا من أجل كرسيه، الأمثال كثيرة و التعبيرات خطيرة.

هذا الأسر في العالم الحسي هوالذي يجعل الإنسان يبكي على مفارقة الفاني ولا ينتبه للحي الدائم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم"، فالروح محتاجة إلى البكاء من خشية الله، بكاء خوف ومحبة، ليست محتاجة إلى البكاء على الدنيا وملذاتها، لهذه الغاية السامية كان لزاما على الإنسان أن يبكي على ذنوبه كي يطهر روحه قال أحد الصالحين  (إذا أنت لم تبك على ذنبك فمن يبكي لك بعدك ) وقال آخر  (يا إخوتاه ابكوا على الذنوب فإنها ترين القلب حتى ينطمس فلا يصل إليه من خير الموعظة شيء).

الروح تبحث عن نقائها وصفائها و تحن إلى أصلها ولاشيء يوصلها إلى ذلك إلا البكاء من خشية الله ، عن مجاهد كان سيدنا يحيى بن سيدنا زكرياء يبكي من خشية الله وقد اتخذت الدموع مجرى في وجهه من البكاء فقال له أبوه زكرياء يا ولدي إني سألت الله ولدا أقر به عيني فقال يا أبتي إن جبريل أخبرني إن بين الجنة و النار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء.

المسلم المعاصر اشتغل بالهموم الدنيوية فطال بكاؤه ونحيبه عليها ولم يتفكر في مولاه، حتى أثناء وقوفه في صلاته عقله شارد في أمور دنياه . قال كعب الأحبار (لأن أبكي من خشية الله أحب إلي من أتصدق بوزني ذهبا).

إن العودة إلى الأصل الروحاني يتطلب تطهيرا من العالم الحسي وهذا لا يتأتى إلا بالبكاء، بكاء على الذنوب و الخطايا، بكاء محبة للخالق، بكاء لأهل الكمال، بكاء لهفة إلى المقام العالي، يبكي الإنسان على حاله ووضعه الذي لا يشرف طموحه في السمو الروحي، الإنسان يبكي على دنياه وهو يعلم أن الزهد فيها هو المطلوب، يبكي على الصور الشبحية ولا يبكي على الصور المعنوية، يبكي على مستقبله ولا يتوكل على مولاه، بكاء دائم على المحسوسات وندرة وشح في البكاء على سيده ومولاه، قال مالك بن دينار (البكاء على الخطيئة يحط الذنوب كما تحط الريح الورق اليابس).

كان سيدي أحمد العلاوي يبكي على حاله و ينحسر حينما يرى الأحباب كلهم رقوا إلى البساط المعناوي يقول :

الواو الواو سافروا الأحباب امشاوا     رحلوا وارقاوا للبساط المعناوي
رانا نسعاوا في الصواب الي نراوا   عسى يرضاوا بالضعيف العلاوي

هذا هو البكاء المعنوي الذي تحقق به الحياة الحقيقية، حياة بالله وفي الله وإلى الله، في حين البكاء الحسي لا يمنحنا إلا ارتباط بالدنيا و الهوى و طول الأمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" عينيان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله.". والبكاء من خشية الله يكون بكاء رحمة و رقة وخوف وخشية ومحبة وشوق وفرح وسرور وحزن وجزع، كل إنسان راقب حاله الحسي والمعنوي واجتهد من أجل التحرير من المحسوسات والرقي في عالم المعنى يزيد بكاؤه وخشوعه ويلين قلبه.

قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (من استطاع منكم أن يبكي فليبك ومن لم يستطع فليتباك )، وقال عيسى بن مريم عليه السلام (طوبى لمن خزن لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته )، فلنبكي كلنا على خطايانا، وعلى حالنا ولا نترك للدنيا والشيطان والهوى والنفس حظا فينا.

اللهم أعنا على البكاء المعنوي، الذي به نحصل على الطهارة التي تأهلنا إلى الدخول إلى حضرتك آميــــن.


عبدالعزيز بوترفاس

تعليقات