الاجتهاد والتجديد عند الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي

يثير تراث الشيخ أحمد بن عليوة منذ منتصف القرن الماضي اهتماما خاصا لدى الباحثين في مجال الإسلاميات كما تشهد على ذلك الدراسات العديدة المخصصة للإمام المستغانمي. كما ترادفت منذ العشرينيات من القرن الماضي شرقا وغربا شهادات علماء الإسلام المشيدة بمدرسة الشيخ أحمد العلاوي. من هنا لا يسعنا إلا أن نتساءل عن سبب بلوغ الإمام المستغانمي هذه المكانة العلمية العالية؟ كيف انتشرت شهرة شيخ زاوية تجدیت في ربوع بلد الإسلام حتى كادت تثير إجماع أهل العلم على اعتباره من المجددين للدين"؟

يمكن تفسير هذه الظاهرة بنضال الشيخ العلاوي من أجل نشر تعاليم إسلام مجدد ومحرر من قيود التقليد، بالإضافة إلى استخدامه لأسلوب ديني معاصر واقتراحه لمقاربة اجتهادية للنصوص الشرعية جامعة بين الأصالة والمعاصرة.

لا خلاف بين علماء الاجتماع الحضري أن القيمة التراثية للمدن مرتبطة ارتباطا وثيقا بالشخصيات العلمية التي عرفتها عبر تاريخها. فإن كانت مستغانم تتميز بالعدد المعتبر من الأعلام الذين ترعرعوا في أحضانها، لقد ازدادت مدينة "الأربعين شاشية (1-2) شهرة في السنوات الأخيرة، بالأخص منذ إعلان منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلم (اليونسكو) في شهر نوفمبر 2013 الاحتفال بمئوية تأسيس الطريقة العلاوية : مدرسة للتسامح و الحوار الديني".

لا شك أن هذا الإعلان الدولي الذي أضاف اسم عالم جزائري مثل الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي إلى قائمة كبار رجال الإنسانية، قد شرف الجزائر بلدا ومستغانم مدينة.

ومما يزيد في أهمية الحدث السبب الذي دفع باليونسكو إلى اختيار مدرسة بن عليوة رمزا للتسامح الديني: فقد كرمت المنظمة العالمية الطريقة العلاوية معتبرة إياها مدرسة فكرية جعلت من تعزيز الحوار بين الأديان أولويتها (إذا تبين كيف يمكن تقديم خدمة أفضل للإنسانية (...) و تراهن على المحبة الأخوية بين البشر"(3).

بالطبع إن شہرة الشيخ العلاوي لم تنتظر إعلان اليونسكو لمئوية تأسيس مدرسته، فقد ترادفت منذ الربع الأول للقرن الماضي شهادات أهل العلم شرقا وغربا على أصالة منهجه؛ نذكر منها شهادة إمام جامع سيدي رمضان في العاصمة الشيخ محمد السعيد بن محمد الشريف الزواوي الذي يصف بن عليوة ب"المرشد الكامل المربي السالك الناسك"(4)؛ أو مفتي حضيرة تلمسان الشيخ محمد ابن الحاج علال الذي يكني الإمام المستغانمي ب"الشيخ المرشد المعظم"(5). نجد نفس الثناء لدى قاضي مدينة بجاية الشيخ السيد الحاج محمد السكندري حين يرى في "سيدي أحمد بن مصطفى الأستاذ المعظم الذي أعز الله الوجود بوجوده"(6)، أو إمام مدينة "بیدو" الصحراوية الشيخ محمد المصطفی الشنقيطي الذي يشهد له بمتابعة السلف الصالح من المواظبة على العبادة والدعوى إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة"(7).

بالطبع لم تتوقف شہرة بن عليوة عند حدود بلده؛ إذ نجد مفتي مدينة بنزرت التونسية مثلا
الشيخ إدريس بن محفوظ الشريف البكري يصف الإمام الجزائري ب"العارف الرباني ذي
النور الرباني"(8). نفس الثناء على لسان مفتي مدينة فاس الشيخ أحمد ابن السيد الحبيب بن منصور حين يلقبه ب"جامع الحقائق وکعبة المقاصد من أهل الطرائق"(9), وكذلك في بلد الحجاز کناه شيخ المحدثين بالمدينة المنورة السيد الحاج بالقاسم بن مسعود الدباغ ب"العارف بالله والدال عليه الولي الكامل المربي"(10)، ولقبه الشيخ سيف أحمد الذبحاني اليمني ب"قطب دائرة الإرشاد هادي العباد إلى سبيل الرشاد"(11). وقد أحسن الشيخان السيد عبد السلام بن محمد الأزهري و السيد محمد الفاخرة الفلسطيني الرثاء على الإمام المستغانمي، حيث ينشد الأول قائلا:

یا ناشر البر والإسلام في الأمم *** عوفيت يا بحر من علم ومن كرم
وفي الجزائر أصل الفيض منتسب *** لمستغانم وهو الليث في الأجم(12)

ويعقب الثاني:

بها عظما الجزائر خير حبر *** علاوي العلى المفضال أحمد
جلیل القدر منبسما علاه      ***          معاليه تعالت أن تحدد (13)

على ضوء هذا المقتطف من الإشادات الموجهة للشيخ العلاوي، لا يسعنا سوى أن نتساءل عن سبب بلوغ الإمام المستغانمي هذه المكانة العالية عند علماء عصره؟ كيف انتشرت شہرة شيخ زاوية تجدیت في ربوع بلد الإسلام حتى كادت تثير إجماع علماء المشرق و المغرب على اعتباره من المجددين للدين"(14)؟

أول ما يتبادر لذهن الباحث تفسير شهرة بن عليوة بتراثه العلمي المعتبر المشكل من أكثر من عشرين مصنف في مختلف ميادين العلوم الشرعية(15). لكن هل الكم المعرفي وحده كاف لتفسير هذا التبجيل الذي حظيت به الشخصية العلمية العلوية؟ لا نظن ذلك, فالأمر لا يتعلق من وجهة نظرنا بعدد تصانيف بن عليوة بقدر ما هو راجع لمحتواها؛ فقد اجتهد الشيخ العلاوي في نشر تعاليم إسلام مجدد ومحرر من قيود التقليد، بالإضافة إلى استخدامه لأسلوب ديني معاصر واقتراحه المقاربة اجتهادية للنصوص الشرعية جامعة بين الأصالة والمعاصرة.

المبحث الأول: الشيخ العلاوي وتجديد الخطاب الديني

لن نتطرق هنا للسيرة الذاتية للشيخ العلاوي، بل سنكتفي قط بالتذكير بأهم مراحل حياته لإبراز الدور الذي لعبته نشأته الثقافية في تكوين شخصيته الإصلاحية.

ينحدر الإمام من عائلة مستغانمية شريفة مشتهرة بالعلم والقضاء. رغم صعوبة الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها الشاب بن عليوة والتي حالت دون التحاقه بالمدرسة العمومية، لم يمنعه ذلك من تعلم القراءة والكتابة وحفظ ثلثي القرآن على يد أبيه.

توفي والده وهو في سن السابعة عشر من عمره، فاضطر إلى مباشرة عدة حرف، منها صناعة الأحذية وخياطة الجلود، قبل أن ينتقل للتجارة؛ فأخذ يكرس نهاره لاكتساب أسباب المعيشة، ويخصص ليلة لتحصيل العلم والمعرفة، ملزما نفسه بحضور حلقات العلم في مساجد مستغانم.

عزم على الانتساب للطريقة العيسوية، لكنه اعتزلها بعد فترة معاتبا على مريديها التركيز على الكرامات أكثر من التقرب إلى الله عز وجل. فاستمر مترددا على المسجد الكبير بمستغانم(16) إلى حين ملاقاته بشيخه بالإمام محمد بن الحبيب البوزيدي(17) الذي سيلزم صحبته قرابة خمس عشر سنة.

الجدير بالذكر أن بن عليوة المريد لعب في قيد حياة أستاذه دورا هاما في نشر تعاليم الطريقة؛ كما يذكرنا بذلك الشيخ الحالي للطريقة العلاوية، الأستاذ خالد بن تونس: "يجب العلم أن الشيخ البوزيدي بعد عودته من المغرب الأقصى، رغب في التعريف بالطريق في مستغانم، إلا أنه اصطدم بمعارضة كبيرة من طرف الزوايا الكبيرة الموجودة آنذاك. فرأى يوما من الأيام النبي (ص) يأمره بالسكوت، و لم يلقن المعرفة بعد ذلك إلى حين ملاقاته بالشيخ العلاوي. فبعد أن أذن لمريده بنشر تعاليم الطريقة، التحق بها عدد كبير من الأتباع الجدد"(18).

ندرك من هنا لماذا بادر مرید و الشيخ البوزيدي، مباشرة بعد وفاة شيخهم سنة 1326-1909م، إلى مبايعة بن عليوة على رأس الطريقة(19). لم تمنع هذه المبايعة الشيخ الجديد من اتخاذ قرار الهجرة من الجزائر إلى عاصمة الخلافة العثمانية, ولكن وبمجرد وصوله إلى تركيا، خاب أمله في الإقامة في أرض المشرق: "تيقن أن ما أريده من المقام بتلك الديار غير متیستر، لأسباب أهمها ما تفرسته من انقلاب المملكة إلى الجمهورية، و من الجمهورية إلى الإباحية"؛ فقفل راجعا إلى الجزائر مكتفية من الغنيمة بالإياب, "وفعلا لم يرتح بالي و لم يسكن روعي إلا في اليوم الذي وطئت فيه تراب الجزائر، وحمدت الله على ما كنت أستحسنه بالطبع من عوائد أمتي، و جمودهم على عقيدة آباءهم و أجدادهم، و تشبثهم بأذيال الصالحين"(20).

فعاد الشيخ العلاوي إلى وطنه مستيقنا بأن بلده أولى بدعوته الإصلاحية، دعوة يمكن تلخيص ركائزها في العناصر الثلاثة التالية:
(أ) التجديد ونبذ التقليد،
(ب) الوسطية ورفض الغلو،
(ج) التسامح وإنكار التعصب.

أ. التجديد ونبذ التقليد: 

بمجرد توليه المشيخة أخذ الشيخ بن عليوة يدعو مريديه إلى التماشي مع العصر، منکرا عليهم الاقتصار على الاجتماع "مثل العجائز" حول قبر الشيخ البوزيدي لحرق العطور، و تلاوة الأذكار، و تردید السماع، دون مبالاة بالفتن الدائرة خارج جدران الزاوية. يقول في هذا السياق: "لا أعتقد أن سيدي حمو الشيخ البوزيدي حينما أورثنا من علمه أراد بذلك أن نځل مكانه بل على العكس! [...] علينا بإبلاغ ما لدينا و ليس كتمه لأنه مفيد لإخواننا البشر!"(21).

كان الشيخ أول عامل بهذه الوصية: فبدأ بإلغائه لعادة "الوحدة" أو الاجتماع للذبح والدعاء عند ضريح الولي، وتعویضها بالندوات العلمية والمؤتمرات السنوية. كما باشر سلسلة من السياحات نحو مختلف مدن وقرى البلاد لتذكير أهاليها بسيرة أجدادهم، ودعوتهم إلى إتباع منهجهم؛ علاوة عن تأسيسه لعدد من الزوايا في كبار المدن مثل غليزان ومعسکر وتلمسان والجزائر العاصمة وعنابة.

لم يمنعه عدم إتقانة اللغة الأمازيغية من عبور الأوراس وبلاد القبائل مخترقا القلاع البربرية لنشر معالم الطريقة الروحية.

ولكن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة للشيخ: يجب تسخير وسائل الاتصال الحديثة لخدمة طريق الله. فقام بتأسيس صحيفة "لسان الدين"، والتي صدر أول عددها في جمادى الأولى 1341-جانفي 1923م. منعت المجلة من طرف السلطات الاستعمارية في عددها الخامس والعشرين، فاضطر الشيخ إلى تزويد الزاوية بمطبعة خاصة قبل أن يؤسس جريدة أسبوعية أخرى: "البلاغ الجزائري" التي دخلت حيز النشر سنة 1344-1926م. " فقد عرفت هذه الأخيرة صدى رائع في أنحاء العالم العربي، كما شارك فيها عدد من الكتاب والمفكرين والفقهاء والشعراء من كافة البلدان, تعتبر هذه المجلة وثيقة تاريخية ذو قيمة كبيرة، تصف تطور الفكر الإسلامي في تلك الفترة، فترة النهضة الإسلامية"(22), نهضة اتخذت من العبارتين التاليتين شعارا لها: (الوسطية والاعتدال).

ب. الوسطية و نبذ الغلو 

بالنسبة للشيخ العلاوي، "إن أسوأ أعداء الدين أولئك الذين يتحدثون باسمه، بمن فيهم شيوخ الطرق الذين غلبهم طمع الدنيا، ذوي الشهية الشرهة التي تستغل سذاجة الشعب المغلوب على أمره والذين كانوا يذيعون وسط الأغلبية الأمية جراثيم الشعوذة والخرافات"(23). فقد خصص الشيخ جزءا معتبرا من كتاباته لانتقاد "علماء الدنيا"، ودعوة أهل التربية إلى الاقتداء بالسلف الصالح في الجمع بين القول والعمل. يقول في هذا السياق: "كان السلف الصالح رضوان الله عليهم إذا تعلم أحدهم مسألة بادر إلى العمل بها لكن غلب على العباد والنساك والعلماء في هذا الزمان التهاون بالذنوب حتى غرقوا في شهوة بطونهم و فروجهم (...) فهلكوا وهم لا يشعرون"(24).

نجد نفس الفكرة في ديوانه حيث يوجه البيتين التاليين إلى من معين الولاية:

ألا يخشى رب العرش يوم لقائه حيث *** يدعي الوصول والحال لا وصلا
ألا يتقي الرحمن صونا لعرضه        ***     يحفظ نور الإيمان لئلا يرحلا(25)

بقدر ما ينتقد ابن عليوة "أرباب الزوايا المتداخلين"، يوجه نفس اللوم إلى الغلاة من دعاة الإصلاح الذين يتنكرون على التصوف ويطعنون في أهل نسبة الله بكل لسان ويذكرونهم بكل زور وبهتان"(26). يقول في إحدى رسالاته ردا على بعض دعاة زمانه ممن أسرف في انتقاد أهل الزوايا: "أما الانتقاد على أهل نسبة الله تعالى عموما، والتجاهر برد مذهبهم كما فعلته أنت أيها الشيخ، حيث استدللت عليه بأنه بطالة وجهالة وضلالة، فقد تظاهرت بشيء لم يتظاهر به غيرك من علماء الدين (....) و بالجملة، فإن قلوب أهل السنة جبلت على حب التصوف وأهله، ونجد كل من سعى في تنقيص مذهبهم يسقط من عيون الخصوص والعموم، وليس ذلك إلا دلالة على سقوطه من عين الله والعياذ بالله!"(27).

الطائفة الثالثة من الغلاة التي يتصدى لها الشيخ العلاوي أنصار الحدثية الداعين إلى تعطيل أحكام الشريعة، ورواج العلمانية المنادين إلى إبعاد الدين عن الحياة العمومية. يقول مشيرا إلى هؤلاء الجزائريين الذين "نقضوا عهد الأجداد": "هناك أفراد أسرتهم نشوة دعوة الإصلاح [...] وما هو ذلك الإصلاح؟ وما هو ذلك التقدم؟ وما هو ذلك النهوض ؟.. فإنك إذا تأملته جيدا لا تجده إلا عبارة عن طرح الدين جانبا، ولعل الأقل التخفيف من وطأته (...) فليتفطن قراء الأمة، وليتنبه كتابها، وليتدبر علماؤها سوء العواقب ووخامة المصير!"(28).

بالفعل لقد تفطن الشيخ العلاوي المخطط المستعمر الفرنسي في "تغريب" أبناء وطنه، فبذل قصارى جهده للتصدي لهذا الخطر الذي يهدد هوية أمته؛ بالإضافة إلى نضاله في سبيل النهوض باللغة العربية لغة القرآن، رفض بن عليوة بقوة فكرة التجنيس (اكتساب الجنسية الفرنسية) لما تقتضيه من تحاكم لغير الشريعة المحمدية في مجال الأحوال الشخصية, فنجده يدعو المسلم إلى الاعتزاز بمعالم حضارته الأصيلة، ورفض سلبيات ثقافة المستعمر الدخيلة، خاصة في مجال الأخلاق التي يتأسف عن انحلالها تأثرا بالإباحية الغربية: "أبناء الإسلام لم لا تفقهون ما أحيط بدينكم العزيز من الأخطار المدلهمة ؟! (...)ها نحن نرى السفہاء انتصرت، والرذائل انتشرت، والأخلاق انحطمت، والنساء ترجلت، والولدان تختثت، والبنات تهتكت، والنفوس تمردت، والإباحة تسربت..." (29).

مهما ناضل الشيخ العلاوي في نشر طريق الوسطية، وحماية الإسلام من دعاوى التيارات المتطرفة، لم يكن ليجهل بأن استقرارا الأمة المحمدية لن يتحقق دون توحيد صفوفها: من هنا دعوته إلى التقريب بين المذاهب و نبذ التعصب الفكري.

ج. الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب:

الركيزة الأخيرة التي يقوم عليها المشروع الإصلاحي العلاوي توحيد صفوف الأمة الإسلامية. لقد برزت فكرة التوفيق بين المدارس الفقهية بقوة منذ منتصف القرن الماضي، مع تأسيس "دار التقريب بين المذاهب" في القاهرة سنة 1368-1947م(30) تحقيقا لأمنية رجال النهضة في إزالة أسباب الفتن بين المسلمين.

كان الشيخ العلاوي في مقدمة هؤلاء المصلحين الداعين إلى إخماد نار الفتنة بين أبناء الأمة المحمدية: بالإضافة إلى تأكيده في مختلف مؤلفاته على صحة المذاهب الفقهية الإسلامية مهما اختلفت منابعها و تباينت مناهجها(31)، نجده يبذل كل ما في وسعه لتنبيه علماء الإسلام بضرورة العمل معا لتحقيق الخير للبلاد والعباد.

من رسائله لأهل العلم الكلمات التالية الداعية إلى الوحدة واليقظة:
"إليكم یا معاشر العلماء الأعلام أني أوجه كلامي، وأصوب قلمي، لأنكم نخبة الأمة وخاصتها (....) (32), ليس منكم ومنا أيها الأجلاء من لا يحب أن يكون مسلما وطنيا غيورا على دينه وقوميته بكل معنى الكلمة، وليس فيكم أيضا من يجهل ما عليه حالتنا الاجتماعية من الوهن المستحکم وانفكاك الأوصال [...] فكل عضو من أعضاء الأمة يعمل على حدته، وعلى نقيض عمل غيره، حتى كأنا خلقنا لنعيش أفذاذا ونعمل أفرادا"(33).

يذكر ابن عليوة في هذا السياق المسلمين بأنه لا سبيل لجمع شمل أمتهم إلا بنبذ أسباب الخلاف وعلى رأسها التعصب المذهبي: "أنت تعرف أيها القارئ الكريم ما تجر إليه تلك الاختلافات، و تنتهي فيه تلك التعصبات، بموجب أن كلا يرى الحق من جهته، وهو المنتدب إلى نصرته (... ولا شك أن دائرة الإسلام أوسع من أن تضيق بمذاهبه، إنما ثضيق بارتكاب الرذائل والموبقات التي أراها الآن على أتم انتشار بانتظام وبغير انتظام (...) وإذا فلم لا نتضامن على حطم ما يرى عند الجميع منكرا في فرصة خولها لنا الإجماع من الأمة؟ والفرصة جديرة بالاعتناء."(34).

لا شك أن "الغيرة على الدين" هي التي دفعت بالإمام إلى صياغة مشروع تأسيس "الجمعية العلمية"، والتي جعلت غايتها "بت العلم والتعليم، والسعي في سعادة أبناء الوطن بإخراجهم من سجن الجهالة والاختلاف إلا فضاء العلم، والسعي في تحسين العلائق والروابط الودية بالوسائل التهذيبية الموافقة للشريعة الإسلامية مع مراعاة القوانين الدولية"(35). و إن لم تسمح الظروف بتأسيس تلك الجمعية، لم يمنع ذلك الشيخ العلاوي من المساهمة بصفة فعالة في إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. بالفعل و كما يذكرنا بذلك صالح خليفة، "ما يجهله المؤرخون الجزائريون قاطبة، هو لما وقعت فكرة الجمعية في بال أحد أثرياء الجزائر العاصمة من أصل أمزيغي، واسمه عمر إسماعيل، فاتح بها رئيس تحرير جريدة "البلاغ الجزائري" التابعة للشيخ العلوي، وكان رئيسها آنذاك محمد المهدي، الذي من جانبه تكلم مع الشيخ العلوي الذي بدوره اعتبر أن الفكرة جيدة وتبناها، فكانت جريدته الأسبوعية الوسيلة التي أتيحت له للتعريف بالمشروع؛ فالبلاغ الجزائري هي الجريدة الوحيدة من بين الصحف الجزائرية التي أشادت بفوائد تأسيس جمعية من هذا النوع.. حتى استجاب لها مجموعة من العلماء"(36).

وقد سبق لرئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الإمام عبد الحميد بن باديس الإشادة
بجهود بن عليوة في تجاوز الخلافات المذهبية: "دعانا الشيخ سيدي أحمد بن عليوة إلى العشاء عنده ... ومما شاهدته من أدب الشيخ وأعجبت به أنه لم يتعرض أصلا لمسألة من محل الخلاف يوجب التعرض لها على أن أبدي رأيي وأدافع عنه، فكانت محادثاتنا كلها في الكثير مما هو محل اتفاق دون القليل الذي هو محل خلاف؛ وانصرف المدعوون ونحن من جملتهم شاكرين فضل حضرة الشيخ وأدبه ولطفه وعنايته".(37)


ويبدو جليا مما سبق أن الشيخ بن عليوة بدعوته للتجديد، وانتصاره للوسطية، ونضاله من أجل توحيد الأمة الإسلامية، قد وضع حجر الأساس لإحياء الخطاب الديني في بداية القرن العشرين, لكن التجديد يستوجب فتح باب الاجتهاد الذي قيل أنه غلق منذ أكثر من تسع قرون.

المبحث الثاني: الشيخ العلاوي وفتح باب الاجتهاد

بالإضافة إلى اهتمام صاحب "البلاغ الجزائري" بالدين عن التصوف، لقد منح مكانة خاصة لموضوع الاجتهاد. فعلى صورة المصلح المصري محمد عبده (ت.1323-1905م) الذي كان في نفس الفترة يدعو إلى "تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف وقراءة القرآن وتفهم أوامره ونواهيه ومواعظه وعبره كما كان يتلى على المؤمنين والكافرين أيام الوحي"(38)، كذلك نجد الشيخ ابن عليوة الجزائري "ينادي بالعودة إلى إسلام الصحابة [...] الذي لم يتجمد بعد من أعمال الفقهاء الذين أتوا من بعد"(39).

فها هو ذا المصلح الجزائري ينتقد بشدة القائلين "بغلق باب الاجتهاد"، الداعين إلى تقليد المتقدمين، الرافضين للرأي المخالف لفقه الأولين، المتنكرين على المجتهدين المجددين؛ من ردوده على هؤلاء المتعصبين: "ولعل القائل يقول: قد كفانا الله ما أهمنا من استخراج جواهره على يد من تقدمنا, فأقول: وإذن لضاع حظنا من التدبر فيها حاشا لله ! لا يقول بهذا عاقل ولا من هو بالإيمان حافل! [.. قال صلى الله عليه و سلم: "القرآن لا تنقضي عجائبة" [... من حكمته تعالى أن لا يجري على ألسنة علماء كل زمان إلا ما يليق بأهل ذلك الزمان"(40).

فبالنسبة للشيخ العلاوي، لازال باب الاجتهاد مفتوحا، ولا يجوز لأحد أن يدعي انغلاقه. يخبرنا الأستاذ محمد مصطفى، مدير المدرسة القرآنية بالعاصمة، أن الشيخ سئل في حضرته: "هل الاجتهاد انقطع كما يزعم البعض أو هو في كل عصر فرض ؟" فرد قائلا: "لا يصح أن ينقطع الاجتهاد باجتهاد، لأن قولنا الاجتهاد انقطع هو اجتهاد في نفسه، وليس لدينا نص لقفل هذا الباب, و زيادة إن نظرنا في تاريخ الأمة المحمدية قبل هذه المقولة، نجدها أحسن مما هي عليه الآن، لما كانت تسبح في بحر المعارف، واستنباط المسائل الشرعية والعقلية"(41).

ألا تذكرنا هذه الكلمات بإنكار السيد جمال الدين الأفغاني (ت.1413-1897م) لفكرة غلق باب الاجتهاد: "ما معنی باب الاجتهاد مسدود؟ و بأي نص سد باب الاجتهاد؟ أو أي إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه بالدين ؟ أو أن يهتدي بهدي القرآن وصحيح الحديث؟ أو أن يجد ويجتهد لتوسيع مفهومه منهما، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحکامه ؟ "(42).

يبدو جليا على ضوء الأسطر السابقة أن فكر الشيخ العلاوي يندرج كلية ضمن تعاليم المدرسة الإصلاحية المعاصرة. كان من الطبيعي أيضا أن تنعكس دعوته للاجتهاد في الواقع العملي من خلال قوله مثلا بضرورة اهتمام المسلمين بالعلوم الحديثة مع ما تتطلبه من إتقان اللغات الأجنبية؛ فقد سبق في هذا السياق فتوى جامع الأزهر الصادرة سنة 1349-1931م والقائلة "بجواز ترجمة معاني القرآن"، حيث صرح فترة قبلها بمشروعية "ترجمة معاني القرآن إلى الفرنسية أو إلى الأمازيغية"(43).

لندرك أكثرا موقع الاجتهاد في فكر الشيخ أحمد العلاوي، سنتطرق لمسألتين شرعيتين تعرض لها الإمام بجرأة علمية كبيرة, مسألة الناسخ والمنسوخ في القرآن، ومسألة علاقة المسلم بغير المسلم أو ما يعرف اليوم بحوار العقائد والأديان.

أ. الناسخ والمنسوخ عند الشيخ العلاوي:

لقد سبق وأن أشرنا إلى الطبيعة الموسوعية للشيخ العلاوي, فعلاوة عن تدوينه في علم التصوف والفقه والمنطق، خلف في علم التفسير ثلاثة مؤلفات أساسية: منهل العرفان في تفسير البسملة وسور من القرآن؛ مفتاح علوم السر في تفسير سورة العصر؛ والبحر المسجور في تفسير القران بمحض النور. علاوة عن منهجيته الخاصة في تفسير الآيات القرآنية حيث يقترح لكل آية أربع مستويات من التأويل، لا شك أن أهم اجتهاداته القرآنية تكمن في كيفية معالجته لمسألة "الناسخ و المنسوخ".

يعرف النسخ في مصطلح الأصوليين - استنادا لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}(البقرة: 106) - بمثابة "رفع الشارع حكما شرعيا بدليل شرعي "(44). كما هو الأمر بالنسبة لنسخ كراهية الخمر بآية تحريمه، أو نسخ الوصية للورثة بآية المواريث.

من المسائل العويصة التي طرحتها قضية الناسخ والمنسوخ: "الحكمة من رفع الحكم مع بقاء التلاوة"، أو بعبارة أخرى, لماذا ترك الشارع الآيات المنسوخة في المصحف رغم انتهاء العمل, ويفسر جمهور العلماء ذلك بسببين: "أحدهما أن القرآن كما تلى ليعرف الحكم منه والعمل به، فيتلى لكونه کلام الله تعالى فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة؛ وثانيهما أن النسخ غالبا يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة"(45). لكن الشيخ العلاوي يضيف سببا ثالثا أقل ما يقال فيه أنه مثير للاهتمام، ثبتت الآيات المنسوخة في المصحف كي يتخذ منها المجتهد مستندا شرعيا يستنبط منه الأحكام الفقهية عند الضرورة! يعلل الشيخ رأيه قائلا: "إن الفهم الخاص لا يرى لفظا في كتاب الله معطلا، بالمعنى هو لمجرد التلاوة حسبما يتبادره الفهم العام من منسوخ الحكم؛ بل يعتبره محكما من وجهة، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}(هود: 1)، أي ولا آية إلا وهي محكمة صالحة وقتا ما بالنظر لتغيرات الزمان والمكان [] الأحكام المقيدة بالعلل والأزمنة هي باقية مهما علمنا وجه الحكمة في تأخرها. ومن المعلوم أنها ما أخرت عن العمل وترکت في المصحف إلا لحكمة أو لوقت استتر الله بعلمه، وهذا فيما لا نجد له صلاحية للعمل به الآن، وهو أقل القليل"(46).

من هنا يرشد الشيخ العلاوي المجتهد إلى تدبر الآيات المنسوخة مثلما يتمعن الآيات التاسخة، ثم لينظر أي النصين من الناسخ أو المنسوخ أولى بالتطبيق تحقيقا للمصلحة, ويضيف في هذا السياق: "المنسوخ هو عبارة على حكم من الله تقرر العمل به في زمن لا حكم أولى منه فيه، ومهما استدار ذلك الزمان كهيئته، يكون هو أولى به من غيره. ألا ترى في زماننا باعتبار ضعفنا ما هو أولى به: أ آية السيف أم آية الصبر والتحمل حتى يأتي الله بأمره؟ ومن هنا نعلم أنها ما ترکت في التنزيل إلا لمن هو على شاكلتنا، وهكذا لو تأملت كتاب الله"(47).

لا يكتفي ابن عليوة بالاستدلال عقلا ونقلا على مشروعية العمل بالآيات المنسوخة، بل يحاول إقناع المجتهد بأمثلة عملية عسى أن يقبل على التصوص بمقاربة فقهية مقصدية، على سنة الرعيل الأول من الفقهاء الذين جعلوا القاعدة العامة في استنباط الأحكام الشرعية "حيث وجدت المصلحة, فثم شرع الله"؛ يقول الشيخ معقبا على هذه الفكرة: "والذي يشعرك بذلك سيرة الداعين إلى الله، فإنهم يستعملوا كل آية فيما نزلت من أجله، حتى لو أرادت قبيلة الدخول في الإسلام ولم يمنعها إلا صوم رمضان، فيقول لهم الداعي إلى الله قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}(البقرة: 184)، وهكذا لو استصعبوا ترك الخمر مثلا يقال لهم: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ}(النساء: 43)، وقس على ذلك! فإنهم رضي الله عنهم على قدم النبوءة من جهة قيامهم بدعوة الخلق حسبما تقتضيه العوارض الشخصية والظروف الزمنية" (48).

من جهة أخرى، ينتقد الشيخ العلاوي بشدة تعطیل جمهور المفسرين للعديد من آيات الكتاب الحكيم بحجة أنها منسوخة، بالأخص آیات الموادعة والمتاركة والمصابرة التي حكموا بنسخها "بآية السيف"(49)؛ منها قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(البقرة: 256)، أو {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}(الكهف: 29)، ومنها قوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ۚ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}(الغاشية: 21-22)، أو {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ}(الزخرف: 89). يحذر الشيخ العلاوي المسلم من الإذعان إلى دعوی نسخ هذه النصوص القرآنية: "ولا تتولع بما أدخله المكثرون في المنسوخات، ظنا منهم أن ذلك من سعة معلوماتهم، حتى كادوا أن يحكموا على أكثر من كتاب الله بالتعطيل. ومما يوجب الأسف وينبئ عن عدم انتباه المكثر أن أدخل في المنسوخات قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}(البقرة: 83) ظنا منه أنها منسوخة بأية السيف، و لم ينتبه أنها جاءت في معرض حكاية فيما أخذ من الميثاق عن بني إسرائيل (....) والنظر السديد لا يعتبر من هؤلاء ما جمعوه"(50).

باعتبار رفض الشيخ العلاوي لفكرة نسخ آيات الموادعة والمصابرة "بآية السيف"، كان من الطبيعي أن يتظاهر متسامحا مع أتباع الملل الأخرى حتى غدا من رواد الحوار بين الأديان في القرن العشرين.

ب. الشيخ بن عليوة: مدرسة للتسامح الديني

رغم مقاومته الشديدة للحركات التبشيرية، وردوده القوية على أعداء الملة الإسلامية، لم يثبت الشيخ العلاوي موقفا معاديا تجاه أتباع الديانات الأخرى, بل نجده يدعو المسلم إلى احترام غيره من أبناء الملل ممن لم يضمر له سوءا ومعاملتهم أحسن معاملة "اقتداء بفعل النبي عليه السلام مع أهل الكتاب في معاشرتهم ومواصلتهم، حيث كان يعود مرضاهم، ويشيع جنائزهم، ويأكل ذبائحهم"(51). يقول في هذا السياق ردا على من اتهم الإسلام بالعنف التطرف: "و أما معاملة الإسلام مع من سواه من الأمم من جهة المودة وحسن المعاشرة، فليست بخافية حتى تتعذر دلائلها لأنها أمر من الله يعلن بها الكتاب المقدس: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة: 08). أو ليس في هذا كفاية فيما يشهد لحسن مقاصد الإسلام حيث أنه لم يحاش من عموم البشر إلا المحارب في الدين ؟"(52).

لم يكتف الشيخ بمقاربة نظرية المسألة التعددية الدينية بل تطرق أيضا للموضوع من ناحية عملية، حيث تجرأ لفتح باب الحوار مع غيره من ممثلي الديانات خاصة منها المسيحية؛ فعلى صورة الأمير عبد القادر الجزائري (ت.1300-1883م) "الذي بذل ما في وسعه لرفع الخلاف بين المسلمين والنصارى وجعلهم إخوانا ظاهرا وباطنا"(53).

كان الشيخ العلاوي مستيقنا بإمكانية إيجاد أرضية وئام بين هاتين الديانتين المرتبطتين بمحبة المسيح عليه السلام. وقد شهد على هذه الفكرة المستشرق "أوغسطين بارك" قائلا: "لقد تعرفنا على الشيخ بن عليوة من سنة 1921 إلى 1934 (....) يروى أن بن عليوة فكر في تحضير مفاهمة بين النصرانية والإسلام، بمطالبة الأول بالتخلي، أو على الأقل بتأويل عقيدة التثليث"(54). تتجلى رغبة الشيخ العلاوي في التقريب بين الإسلام والنصرانية في شهادة أخرى للقس "جياكوبيتي" (ت.1942م) عقب ملاقاته سنة 1926م بالشيخ الجزائري على متن السفينة المتجهة نحو مارسيليا: "لقد تحدث مع الشيخ بن عليوة الذي ربطتني به علاقات وطيدة: "تحدثنا طويلا وبطريقة ودية (....) أراني صفحات من كتاب كان يؤلفه للتقريب بين الفرنسيين التصاری والمسلمين .. عند نهاية الحوار الودي، طلب مني الشيخ هل يستطيع التصاري أن يتفاهموا مع المسلمين ليكونوا دینا واحدا؟ قال لي: "اتركوا عقيدة التثليث والحلول، ولا شيء يفرق بيننا !" [...] أجبت الشيخ أنه لو يريد السلم مع التصارى، فلا يجب أن يطالبهم بالانتحار؛ لأن من ترك العقيدتين الأساسيتين لدينه لم يعد نصرانيا... ثم افترقنا على حسن الوداد" (55).

ندرك على ضوء الصفحات السابقة لماذا لم تتوقف دعوة الشيخ العلاوي عند حدود وطنه، وكيف بلغ إشعاعه ربوع العالم العربي والغربي؛ فلا زالت تشهد بأثاره الزوايا العديدة الموجودة إلى يومنا في تونس، والمغرب الأقصى، والحجاز، وفلسطين، وسوريا، واليمن، بل و حتى في فرنسا وسويسرا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا، حيث اجتهد أتباع الطريقة العلاوية في نشر تعاليم شيخهم, المهاجرين الجزائريين في فرنسا، ثم البحارة اليمنيين والصومال في هولندا وبريطانيا.

كان من المتوقع أن يؤثر وجود أتباع الطريقة العلاوية في أوروبا على وضعية المسلمين هنالك, ففي فرنسا مثلا، وبعدما كانت الحكومة تمنع العائلات المسلمة من استرجاع رفات أفرادها لدفنهم في بلد الإسلام، كان الشيخ العلاوي أول من طالب من السلطات الفرنسية تخصيص مقبرة للمسلمين؛ فوفق في طلبه وأنشئت "المقبرة الفرنسية-الإسلامية". وبمبادرة شبيهة تم تخصيص "المستشفى الفرنسي-الإسلامي" للجالية المسلمة بفرنسا.

لعب فقراء الطريقة دورا معتبرا أيضا في بناء مسجد باريس حين ألحوا على الإدارة الفرنسية لتزويدهم بمكان للصلاة(56)؛ تم تدشين المسجد في 4 محرم 1344-15 يوليو 1926م بحضور الشيخ العلاوي.

لم يعد ابن عليوة إلى فرنسا إلا مرة واحدة، عند رجوعه من الحج سنة 1349-1931م لركوب السفينة المتجهة إلى الجزائر من ميناء مرسيليا. لكن إشعاعه الروحي بأوروبا سمح لعدة شخصيات غربية من اكتشاف جواهر التصوف قبل اعتناق الإسلام والانتساب للطريقة العلاوية... من بين هؤلاء المثقفين الأوروبيين الذي لبسوا الخرقة: "غوستاف هنري جوصو" (عبد الكريم)، و"فریتجيوف شيوون" (عيسى نور الدين أحمد)، و"تيتوس بوخارث" (إبراهيم)، و"ميشال فالسان" (محمد عبد الباقي)، و"مارتن لينقز" (أبو بكر سيراج الدين).

عندما نلاحظ الجهود التي بذلها هؤلاء الأوروبيين منذ حوالي قرن لحمل الرسالة المحمدية إلى أبناء جلدتهم، لا يمكننا سوى موافقة الباحث في الإسلاميات "إيريك جوفروا" (يونس) حين يستنتج أن "الشيخ العلاوي، بفضل بركته، شارك بسعة في انفتاح الغرب على الإسلام، ومهد بذلك بروز إسلام المعرفة والحكمة والمدنية بأوربا. فأغلبية المعتنقين للإسلام الذين أحصاهم الغرب منذ عشرات السنين لم يسلموا بناءا على الدعوة الوهابية رغم البترو- دولارات التي تتباطل على القارة، ولكن بناءً على ما هو أساسي وجوهري من العبادة الروحية الكاملة التي يتمتع بها التصوف"(57).











الهوامش :


1. تسمى المدينة بهذه التسمية نسبة للأضرحة الأولياء الصالحين التي تتخللها.
2.Bentounes Khaled, la fraternite en héritage: histoire d'une confrerie, Ed. Albin Michel, Paris, 2009
3. المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، القرار رقم 32/EX 191، نوفمبر 1993م، ص. 2.
*من كتاب الحسني التونسي بن محمد بن عبد الباري، الشهائد والفتاوي فيما صح لدى العلماء من أمر الشيخ العلاوي، المطبعة التونسية، تونس، 1344ه - 1929 م...
4. المرجع السابق،
محمد السعيد بن محمد الشريف (خطيب بمسجد سيدي رمضان), الجزائر, 1
5. المرجع السابق، محمد بن علال (مفتي تلمسان) الجزائر ,1
6. المرجع السابق، محمد السكندري, بجاية, الجزائر 
7. المرجع السابق، محمد مصطفى الشنقيطي (إمام ببيدو), الصحراء
8. المرجع السابق،إدريس بن محفوظ (مفتي بنزرت), تونس, 1
9. المرجع السابق، أحمد أحبيب بن منصور, فاس ,المغرب, 1
10. المرجع السابق، بالقاسم بن مسعود الدباغ الفاسي المدني, المدينة المنورة, بلد الحجاز 
11. المرجع السابق، سعيد سيف الذبحاني اليماني, اليمن, 1 
12. ...
13. ...
14. ...

15. ترك الشيخ العلاوي أكثر من 24 تأليف في مختلف المجالات العلمية، أهمها: في العقيدة ميادين التأييد في بعض ما يحتاج إليه المريد وفي الفقه الرسالة العلاوية في بعض المسائل الشرعية، وفي التفسير البحر المسجور في تفسير القران بمحض النور، وفي التصوف المنح القدوسية في شرح المرشد المعين بطريقة التصوف؛ وفي الفلسفة الأبحاث العلاوية في الفلسفة الإسلامية؛ وفي علم الفلك مفتاح الشهود في مظاهر الوجود.
16. أكثر من حضر مجالسهم الشيخ علال محمد ولد مصطفى. أنظر: بوغانم غزالة، الطريقة العلاوية في الجزائر ومكانتها الدينية والاجتماعية (1909-1934)، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الحديث والمعاصر، جامعة منتوري قسنطينة، 1429ه-008م، ص. 68.
17. وليد مستغانم سنة 1222ه-1824م، استخلف على رأس الطريقة الدرقاوية بعد وفاة شيخه الوكيلي. اعترض عليه بعد المغاربة فاضطر بالعودة إلى مستغانم والإقامة بها إلى حين وفاته سنة 1327 ه / 1909 م.

18.    Bentounes Khaled, « Nouveau regard sur la vie et l'euvre du cheikh el-Alawî», A /epreuve de la diversite: Droit, Societe et Education, lssam Toualbi (dir.), p. 23-43
19. "ينقل الشيخ في سيرته الذاتية رؤيا حصلت له فترة قصيرة قبل توليه المشيخة: "رأيت نفسي جالسا وإذا بداخل علي، فقمت إجلالا له الحقني من هيبته. وبعد ما أجلسته جلس بين يديه ، فظهر لي أنه رسول الله (ص)، فعدت على نفسي باللوم حيث لم أقم بواجب احترامه، لأني ما كنت أظن أنه رسول الله (ص)، فيقي منكمشا مطرق الرأس حتى خاطبني قائلا: ألم تعلم لأي سبب جئتك ؟ فقلت لا أدري یا رسول الله! فقال لي: إن سلطان الشرق قد توفي، وستكون أنت إن شاء الله سلطانا بدله، فما تقول؟ فقلت: إذا توليت أمر ذلك المنصب فمن ذا الذي ينصرني؟! ومن ذا الذي يتبعني؟! فأجاب عليه الصلاة والسلام: أنا معك وأنا أنصرك؛ ثم سكت. وبعد هنيهة انصرف عليه الصلاة والسلام، فاستيقظت على أثر خروجه من عندي، وكأني ألاحظ أثر انصرافه يقظة.
20. الدكتور صالح خليفة (العلاوية والمدنية من مصادرها المباشرة إلى الخمسينيات) أطروحة للحصول على دكتوراه الدولة في الدراسات العربية والإسلامية. جامعة ليون جان مولان (فرنسا). (ترجمة إلى العربية : درويش العلوي).
21. صالح خليفة، المرجع السابق.
22. العلاوي أحمد، المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1409ه-1989م، ج.1، ص. 146.

23. صالح خليفة، المرجع السابق.
24. العلاوي أحمد، القول المعروف، ص. 9
25. العلاوي أحمد، دیوان آیات المحبين ومنهج السالكين، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1406ه/ 1986م، ص. 10
26. العلاوي أحمد، القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1406ه/ 1986م، ص. 8-9.
كلا البلاغ الجزائري، عدد 32، 13 صفر 1346ه/ 12 أوت 1927، ص. 226-227 2 العلاوي أحمد، "أبناء الإسلام ما لكم لا تشعرون"، البلاغ الجزائري، 26، 1 محرم 1345ه / 1 جويلية 1927، م، أضاميم المد
الساري، المرجع السابق، ج 1، ص. 100.99|
27. ضمت هذه الجمعية عند تأسيسها عشرين عالما من مختلف المذاهب السنية والشيعية، كالشيخ حسن البنا مؤسس ورئيس حركة "الإخوان المسلمين"، والشيخ محمد شلتوت، والشيخ عبد الوهاب خلاف أستاذ بالأزهر، وآية الله محمد تقي القمي ممثل الشيعة الجعفرية، وعلي المؤيد ممثل الشيعة الزيدية : يقول الشيخ في كتابه المنح القدسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية مشيرا إلى حرية المريد في اختيار المذهب الفقهي الذي يريده: "أن يكون متلبسا في أفعاله وعبادته بفقه مالك أو بأحد الأئمة رضوان الله عليهم" (المطبعة العلاوية، مستغانم، ط 2، 1419ه/1998م، ص. 36).
: العلاوي أحمد، "إلى علمائنا"، البلاغ الجزئري، العدد 51، 20 جمادی الثانية 1346ه / 29 ديسمبر 1927، ص. .185
28. العلاوي أحمد، " إلى كتاب أمتنا ومفكريها"، البلاغ الجزائري، العدد 34، 27 صفر 1346 ه / 26 أغسطس 1927م، أضاميم المد
الساري، المرجع السابق، ج 1، ص. .209
از العلاوي أحمد، " إلى كتاب أمتنا ومفكريها"، المرجع السابق، ص. 209-210
22 بن تونس عدة، الروضة السنية في المآثر العلوية، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1407ه/ 1987م، ص. 108.، ص. 149.
د صلاح خليفة، المرجع السابق
بن باديس عبد الحميد، آثار ابن باديس، تحقيق عمار طالبي، الجزائر، دار ومكتبة الشركة الجزائرية، ط 1، 1388ه - 1968م، ج 4،
32
* * *
ص. 312.
اپنا ہی به 3
که عبده محمد، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، بيروت، دار الشروق، 1413ه/ 1993م، ج 1، ص 183-184 و.186
لا نقلا عن صلاح خليفة، المرجع السابق
العلاوي أحمد، البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض التور، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1415ه/ 1995م، ص. 18 و26.
بن عبد الباري محمد الحسني التونسي، ص. 136.
29. نقلا عن المرعشلي هاني عبد الوهاب، العقل والدين، الإسكندرية، المكتب العلمي للنشر والتوزيع، 1421ه/ 2001م، ص. 36
" صلاح خليفة، المرجع السابق
42 الخضري بك محمد، أصول الفقه، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط. 6، 1389ه/ 1969م، ص. .250
له الزركشي بدر الدين، البرهان في علوم القرآن، بیروت، دار المعرفة، 1410ه/ 1990م، ج. 2، ص 170.
44 العلاوي أحمد، البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور، ج. 2، ص. 205.
45 المرجع السابق
46 المرجع السابق
48
* {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا
الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } (التوبة: 5).
* العلاوي أحمد، البحر المسجور في تفسير القرآن بمحض النور، ج. 2، ص. 206. |
ده العلاوي أحمد، "الأجوبة العشرة"، مخطوط رقم ع 064، المطتبة العدنانية، الزاوية العلاوية، مستغانم، الجواب 1، الفصل 3.
50 المرجع السابق، ج.1 ، ف.2
اء الأمير عبد القادر الحسني الجزائري، ذکری العاقل و تنبية الغافل، تحقيق عمار طالبي، الشركة الوطنية للنشر والإشهار، ص. 1.107
51
Berque Augustin, «Un mystique moderniste, le cheikh Benalioura », Revue africaine, Société historique algérienne, Alger,
1936,t.VII.
54
53 المرجع السابق.
24 كان أكثر العلويين المقيمين في فرنسا يعملون في مجال بناء السكك الحديدية ومترو الأنفاق. وردت الإشارة إلى نمط
حياتهم في تقرير مجلس النواب السابق لبناء مسجد باريس: "إن أتباع الشيخ السيد العلوي هم أشخاص ذوي نظافة،
ويعيشون حياة سليمة؛ فهم مہذبون أخلاقيا، و تعاليمهم تدعو إلى محبة الآخرين".
55 إيريك يونس جوفروا، " الإشعاع الروحي للشيخ العلاوي في الغرب"، ريجيو بيرينيس، مايو 2005م، ترجمه درویش
56 العلوي،
قائمة المراجع
باللغة العربية:
بن باديس عبد الحميد، آثار ابن باديس، تحقیق عمار طالبي، الجزائر، دار ومكتبة الشركة الجزائرية، 1388ه/1968م.
بن تونس عدة، الروضة السنية في المآثر العلوية، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1407 ه / 1987م.
في مجمله
بوغانم غزالة، الطريقة العلاوية في الجزائر ومكانتها الدينية والاجتماعية (1909-1934)، مذكرة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ الحديث
والمعاصرة، جامعة منتوري قسنطينة، 1429 ه / 2008م.
الحسني الأمير عبد القادر، ذکری العاقل و تنبية الغافل، تحقيق عمار طالبي، الشركة الوطنية للنشر والإشهار، 1424ه/ 2004م.
الحسني التونسي بن محمد بن عبد البراي، الشهائد والفتاوي فيما صح لدى العلماء من أمر الشيخ العلاوي، المطبعة التونسية، تونس،
1344 ه / 1929م.
الخضري بك محمد، أصول الفقه، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط. 6، 1389ه/ 1969م.
الزركشي بدر الدين، البرهان في علوم القرآن، بیروت، دار المعرفة، 1410ه/ 1990م.
عبده محمد، الأعمال الكاملة، تحقيق محمد عمارة، بيروت، دار الشروق، 1413 ه / 1993م.
العلاوي أحمد، "أبناء الإسلام ما لكم لا تشعرون"، البلاغ الجزائري، 26، 1 محرم 1345ه / 1 جويلية 1927.
العلاوي أحمد، " إلى علمائنا"، البلاغ الجزئري، العدد 51، 20 جمادى الثانية 1346ه / 29 ديسمبر 1927، ص. 185.
العلاوي أحمد، "إلى كتاب أمتنا ومفكريها"، البلاغ الجزائري، العدد 34، 27 صفر 1346 ه / 26 أغسطس 1927م.
العلاوي أحمد، البحر المهجور في تفسير القرآن بمحض التور، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1415ه/ 1995 م
العلاوي أحمد، القول المعروف في الرد على من أنكر التصوف، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1406ه/ 1986م.
العلاوي أحمد، المنح القدسية في شرح المرشد المعين بطريق الصوفية، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1419ه/ 1998 م.
العلاوي أحمد، المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1409ه/ 1989م.
العلاوي أحمد، دیوان آیات المحبين ومنهج السالكين، المطبعة العلاوية، مستغانم، 1406ه/ 1986م.
المرعشلي هاني عبد الوهاب، العقل والدين، الإسكندرية، المكتب العلمي للنشر والتوزيع، 1421ه/ 2001م.
En langue française :
Bentounes Khaled, « Nouveau regard sur la vie et l'ouvre du cheikh el-Alaw[ », Arepreuve de la diversite:Droit, Societe et
Education, Issam Toualbi (dir.), p. 23-43.
Bentounes Khaled, la fraternite en heritage : histoire d'une confrerie, Ed. Albin Michel, Paris, 2009.
Berque Augustin, «Un mystique moderniste, le cheikh Benalioua », Revue africaine, Société historique algérienne, Alger,
1936,t.VII.
Geoffroy Eric, « Le rayonnement spirituel du Cheikh el Alawi en Occident », Religion Perennis, Mai 2005.
T.A:Derwiche Alaw1, www. alalawi.1934.free.fr.
Salah Khelifa, Alawisme et Madanismne, These de doctorat, Université Jean Moulin, Lyon III, 1985. T.A:Derwiche Alawi.


د.عصام طوالبي الثعالبي
أستاذ محاضر (أ) بجامعة الجزائر1
مدیر کرسي اليونسكو الأمير عبد القادر لحقوق الإنسان وثقافة السلام
عضو في المجلس العلمي للمنظمة الدولية غير الحكومية للتصوف العلاوي
 
 
(بلقاسم)

تعليقات