الشيخ العلاوي - من الأمراض الفتاكة في جسم الاسلام والمسلمين

قد ابتلى الله تعالى هذا الدين بطائفة من أبنائه أسقط متاعا وأحط منزلة إلى غاية تبعد عن التصور بالنظر لسلف الأمة وصلحائها يزعمون أنهم بعثوا مجددين لدين الله وهم الأمناء على أحكامه والحالة أن بعدهم عن الدين أكثر من بعدهم من رحمة الله زيادة عما هم عليه من دناءة الأخلاق ورجس الطبيعة الأمر الذي يبعد بهم عن دعوتهم لو كانوا يشعرون.

ومن أين لهم أن يشعروا وأحلامهم الخسيسة آخذة بنواصيهم ونفوسهم الأمارة تسول لهم بأن فيهم من الأهلية ما يبعثهم على مناقشة سلف الأمة وعظماء المذاهب فيما دونوه من أحكام الدين وهذبوه من الطرق الموصلة لصرف اليقين بدون ما يعرق منهم جبين ولا يحمر منهم عرنين, إحياء من مكانتهم في الدين وسابقيتهم في الإيمان ولو كانوا من المهاجرين الأولين ولربما يتهمونهم فيما دونوه. وإذا قلت لأحدهم أتق الله في حرمة من سبقك بالإيمان أخذته العزة بالإثم ويأخذ ينتفخ انتفاع الهرِّ ليمثل بذلك عظمة الأسد قائلا ما شأنكم وشأن هاته الذوات التي قد سيرتموها ؟ ألا شأن من قال تعالى في حقهم : "اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا" (التوبة 31), فإنكم جعلتم اختياراتهم كأنها تنزيل من حكيم حميد.

أما نحن فالإصلاحيون أو تقول المجددون فلا نرى لهم من فضل علينا, ولربما نحمل على عواتقهم افتراق الأمة نهرا وطرائق قددا, وأحزابا ومذاهب. ولهذا نرى من الواجب على الأمة نبذ سائر ما جاءنا على طريقهم في مقابلة الرجوع إلى الكتاب والسنة وحث الناس الى التمسك بهما دون سواهم. وقلَّ ما يوجد فينا من أصبح على استعداد في فهمهما بما هو أبلغ من فهم السابقين بذوق يناسب العصر ويطابق التمدن الحاضر, يعني بذلك من هو كطه حسين وعلي عبد الرزاق للمصريين وأضرابهما ممن ابتلى الله بهم حقد الدين إلى أن أصبح ألعوبة بين يدي أولئك المتنطعين يثبتون منه ما شاءوا أن يثبتوه ويحذفون ما شاءوا أن يحذفوا وقد أعانهم على ذلك قوم آخرون, خصوصا من ذلك شبان العصر المتغذين بلبان الأجانب الذين لا يعرفون للدين معنى ولا لأوضاعه مبنى.

وهذا هو السبب الوحيد في تحكم أهوائهم وانتشار جراثيم ضلالهم في كثير من المدن الاسلامية. وهكذا شاع ذلك الرأي السخيف إلى أن أصبح يرقص على نغمتهم البعض من الطلبة الذين كنت تحسبهم على قدم راسخ في الدين وثبات تام في اليقين. وهذا النوع وإن لم يقل بعموم لكن يستحسن البعض من اختياراتهم ويركن لدعوتهم خصوصا دعوى الرجوع للكتاب والسنة. كأني بالمتغفل من هذا النوع يظن أن الكتاب والسنة مورد لكل صادر ووارد تستطيع أن تأخذ أحكامهما منهما حتى الرعاع بدون واسطة أي كان. وهذا الزعم ضروري البطلان وإذا لم يتأت ذلك فلم نرتكب ذلك التدليس وننتحل هذه السفسطة مهما كان لا بد من وجود مستعد لأجل تبيين أحكام الدين لغير المستعدين من عامة المؤمنين.

وعلى فرض أنه يوجد في هاته الطبقة من هو على استعداد ليبين للناس أحكام دينهم من الكتاب والسنة، فلِمَ يرغبون عن دواوين السابقين إلى الأخذ بما يدونوه المتأخرون من هاته الطائفة وبماذا يستحقون ذلك التخصيص يا ترى؟ وهذا على فرض أن يكون فيهم الكفاءة.

أما وقد عرفناهم أنهم لا كفاءة ولا ورع ولا دين, إنما هو مجرد غش وتشويش ارتكبوهما لأجل التلبس على الأمة أمر دينها وبعث أفرادها على الشك في ماضيهم واحتقار سلفهم, واذ ذاك يكونوا قد قاموا بخدمة جليلة لمثل الملحدين والمبشرين وأعانوهم في طريقهم, جعلوا خدمتهم فيها هو تشكيك المسلمين في أمور دينهم.

ومن أهم الأسباب الباعثة على ذلك ضعف الثقة في سلفهم الذين شيدوا مباني هذا الدين وأسسوا قواعده على أسس متينة، كل ذلك لقرب عهدهم من البعثة وكينونتهم في القرون الثلاثة الشهود لها بالخيرية, حتى إذا ضعفت ثقة المسلمين (لا سمح الله) لمن حمله لهم ذلك الدين إلى أن وصلهم غضا طريا بدون ما يمسه أحد بسوء, أصبحوا على هيبة تامة مفرغين عن كل ما يعوقهم في طريق الإلحاد, وإذ ذاك تقر عين المجددين ويصفو لهم الوقت ويخلو لهم الجو ويصبحون دعاة على الحقيقة لا إلى التجديد والإصلاح فقط, بل إلى صراط الجحيم, وإذ ذاك تكون لهم السابقة في المضمار بناءًا على أن الساعة لا تقوم إلا على اللكع ابن اللكع وفي بعض الروايات : (إلا على شرار الخلق).

ومهما يكن ذلك فها هي قد ظهرت أشراطها تمهيدا لطلوع الشمس من مغربها, وإلا فهل كنا نظن أن تبلغ الجراءة بأبناء الدين الى حد يتطاولون فيه على السابقين الأولين مع خلو وطابهم من كل خير يرتجى ثوابه عند الله ؟

وبالجملة فإن القلوب قد دهمتها سيول منبعثة من مصادر لا يفوت المؤمن المتبصر مقدار خطورتها على الدين وأبنائه, وعليه فواجبه والحالة هذه أن يحتفظ بدينه ويعض عليه بالنواجذ ويَحْذَر كل الحذر من أن يتسرب لباطنه شيء من شك المشككين كائنا من كان, قال تعالى : (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار),  هود 113, وهذا انهى ما ينصح به المسلم أخاه المسلم والله ولي التوفيق.


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري - من الأمراض الفتاكة في جسم الاسلام والمسلمين, العدد 293 بتاريخ 09-05-1933


تعليقات