الشيخ العلاوي - الدين كفيل بسعادة الدارين

إن من يتأمل تعاليم ديننا الحنيف تأملا دقيقا وينظر في أحكامه نظرا فلسفيا لم يلبث أن يقول لا يتم إصلاح الدنيا وتنظيمها إصلاحا وتنظيما يطابقان الحكمة ويتضمنان كل نعمة إلا بالدين الحنيف وذلك لما أبصر بعين يقينه من ارتباط العدل والإحسان به ارتباط المعلول بعلته.

ذلك العدل وذلك الإحسان اللذان لم تنتظم ولن تنتظم أبناء الانسان على اختلاف مللهم وأصنافهم ولغاتهم وتباعد أوطانهم على أمر واحد اشتمل على صلاحهم الحالي والمآلي إلا بهما بل ولم توجد ولن توجد حياة عمرانية ولا مدنية ولا إنسانية ولا يستقر كرسي مملكة ولا يطمئن عرش سلطان إلا بهما. ولو سألت الواقع أو التاريخ ما سبب اتساع دائرة الملك وطول عمره وكمال عزته, وما علة وجود العمران وطول حياته في ارتقاءه, وما سبب حدوث الثقة والتعارف والمواصلة والائتلاف بين أبناء البشر المتبايني العناصر والملل واللغات وما سبب ارتفاع الوطن من سفل المذلة والفقر الفادح الى سماء العز والغنى ,لقال لك العدل والإحسان اللذان جاء بهما الفرقان على لسان سيد ولد عدنان ونزلت بهما سائر الكتب السماوية على ألسنة رسل الله عليهم الصلاة والسلام لأن الشرائع السماوية هي سياسة الله لخلقه إذ لا يأمر عبده إلا بما يفيده حالا ومآلا ولا ينهاه إلا عما يضره كذلك إذ بوجود العدل مع الإحسان ممن لهم الحل والعقد من الملوك والوزراء وسائر خدمة السياسة يأخذ الجور والإساءة في الاضمحلال من الأرض التي يستوي عليها عرش الملك الموصوف بالعدل والإحسان ما قامت آية العدل بين يديه الى حد لا يبقى معه في الأرض إلا العمل الذي تقتضيه سياسة الحق ومصلحة عباده.

فحينئذ يأخذ الملك في الامتداد, والعمران في الانتشار والمستعمرون في الازدياد بسبب إعانة من يعتنق المملكة من الأنصار والأعيان والمهاجرين لها من سائر الأقطار والأوطان لما تحلى به جيد الملك من العدل والإحسان وهذا زيادة على ما يناله الوطن من تمام الأمن والعافية وما يحوزه من النعم المادية والأدبية.

وبالجملة فإن صلاح المأسوسين مرتبط بصلاح ساستهم وقادتهم ارتباط صحة الجسم باعتدال المزاج, وسمو الملك مرتبط بالعدل والإحسان من الجميع ارتباط الجدار بأساسه هكذا ينبئك لو سألته سؤال مستفيد ويشهد لو تأملته تأمل ذي بصر حديد.

ومن الإحسان المأمور به كل مكلف سواء كان رئيسا أو مرؤوسا ,ذكرا أو أنثى, ترويض النفس وتدريبها على الخصال الحميدة وإلزامها تعلم العلوم المفيدة حتى تدرك مالها وما عليها من جهة دنياها ومن جهة أخراها.

ومنه إخلاص ما طلب منك لمولاك أو لإخوانك دينا وإنسانية أو لأمتك من الواجبات المنوطة بذمتك لما ذكر بأن تأتي بما وجب عليك لمولاك على الوجه الأكمل غير قاصد به إلا شكر ما أنعم به عليك وغير مبتغ به سوى رضاه جل ثناؤه وأن تعامل إخوانك المؤمنين والآدميين بما يطالبك به الدين والإنسانية أن تعاملهم به من فضول أموالك وإرشاداتك لهم لما ينفعهم غير قاصد بمعاملتك تلك سوى وجه الدين والإنسانية.

وأن تخدم أمتك خدمة ترضاها منك غير قاصد خدمتك إلا أن تعد عضوا صحيحا في جسمها ,فهذه حقيقة الإخلاص الذي لا يصح العمل إلا به, وإنما اقتضت سياسة الشارع تلك الأعمال منك لأنك اذا أحسنت لنفسك بحبسها على أنواع البر وكفك إياها عن أنواع الشر وإلزامك لها بتعلم العلوم الرافعة النافعة دينا و دنيا وأحسنت لغيرك بالتفضل عليه من فضول مالك ومن خزانة معلوماتك وأحسنت لأمتك بقيامك بمصالحها حق القيام, متى حدثت لك يد على العمل وجدت جزاء إحسانك أمامك أضعافا زيادة على ما تلقيه في العاجلة من التحام من أحسنت إليه بك وإعانته لك حسب طاقته زيادة على ما تلقيه من ثناء أمتك عليك حيا وميتا ثناء مقرونا بطلب الرحمة والسلامة.

وإلا تعمل ما طلب منك لقيت جزاء ما أسلفت مثلا بمثل "مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" سورة فصلت - الآية 46, هكذا ينطق لسان الواقع لمن سأله ويظهر للمشاهدة لمن استشهده كما لو سألته ما سبب سفك الدماء بغير حق ونهب الأموال والحرابة والسرقة والغصب والاختلاس وانتشار الفواحش والمناكر وما تولد منها من كل رذيلة يمجها الدين القويم والطبع السليم, لقال الجور والإساءة من أولي الشوكة والغلبة لما علمت وشهدت من ارتباط استقامة المسوسين باستقامة ساستهم وقادتهم ارتباط صحة الاعضاء بسلامة المزاج الطبيعي وتسبب اعوجاجها عن اعوجاج رؤسائها وإن كان في الرعية صالحون مصلحون لأن أوامرهم ونواهيهم لم تكن على صفة الجبر والقهر حتى يرتعد بها كل ظالم فكيف عما هو مرتكبه فلا يؤثرون تأثير أولي الجبر والقهر حتى لو استمر الحال بلا أمير عدل يقطع المناكر كلا أو بعضا بأنواع العقوبة فلابد من اضمحلال الصلاح ونمو الفساد شيئا فشيئا حتى لا تسمع ولا ترى إلا ما لا يوافق الدين وما المروءة لا قدر الله على بقية الاسلام.

لا ضير ولا خوف على الاسلام مع بقاء من يفديه بروحه من أبنائه الراشدين المهديين ومن يحترمه من إخوانه الأوربيين المستشرقين الذين أبانت لهم إنسانيتهم من آدابه وأخلاقه وتهذيبه وإصلاحه ما ألزمهم محبته واحترامه على رغم بعض أبنائه العاقين الذين حسبوه أوهاما وخرافات وقالوا فيه ما سمعوه عن وارداتهم الشيطانية وسولته لهم نفوسهم البهيمية وتلقوه من سفسطات الأجانب.

وها هم يمرقون منه أفرادا وأزواجا كما قد دخلت فيه أسلافهم الكرام أفواجا فصار بعزائمهم للمسترشدين سراجا وهاجا وهاهم يتخلصون من صفوفه شيئا فشيئا ويتملصون من عقائده وأزيائه الى حيث يجدون أنفسهم لا من المنتقل منه ولا من المنتقل إليه, وهاهم يبيعون حلته الحسية والمعنوية بغيره متمادين الى حد سترى فيه مثلهم كمثل الغراب الذي شرع يتعلم مشية الحمام فغابت عنه مشيته الموروثة عن آبائه فلا هو إذا بمشية الحمام ولا بمشية آبائه وليس الصبح ببعيد, فانظروا يرعاكم الله إلى أحوال أبناء الاسلام العصريين المتنورين لماذا صاروا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المقتفين لهم من كل همج رعاع. تابع كل ناعق وراقص على كل إيقاع ؟!

يريدون بذلك بناء وثيقا يقيهم الحر والبرد بدل بناء قد بذلت أسلافهم الكرام النفس والنفيس في إحكام أساطينه وتشييد مناراته وأسواره الى أن صار ملجأ للمضطرين ومنجى للهاربين وحماية للعزل المحتمين ولم يزل قائما على دعائمه الوثيقة لم يؤثر في جوهره نطح القرون الماضية المتعاقبة عليه قرنا بعد قرن ولا زعزعته معاول العوائد والطبائع المنافية له ولا الملل المحاربة له, فلا يصلون ورب الكعبة إل ما تعلقت به هممهم السافلة ماداموا عاملين على عكس دينهم المتين مارقين منه ومما استقر عليه عرف صالح المؤمنين.

فانظروا بارك الله فيكم الى قلة عقولهم حيث حاولوا أن يدخلوا بيوت العز والشرف المغلقة عنهم منذ أزمنة طويلة بغير مفتاحها مفتاح الاسلام الذي فتحت به جدودهم الأعزة الأجلة في ثمانين عاما ما فتحته روما في ثمانية قرون.

من الذي لا يعتقد أن الدين هو نظام العلم الإنساني والرابطة العظمى بين العناصر المتضادة والأصناف المتباينة الأخلاق والعوائد واللغات المتنائية الأوطان وروح المدنية الحقة وأساس كل عمران ومادة كل حياة علمية ارشادية إصلاحية من حيث تعاليمه وتأديبه وتربيته وتهذيبه لأبنائه وعدله وإحسانه حسب سياسته لمعتنقيه ؟

كل ذي حياة انسانية وفكرة سامية نعتقد فيه ذلك وأكثر مما هناك اعتقادا جازما ناشئا عن أقوى برهان إلا من غلبت عليهم شقوتهم من أبنائه العادلين عن منهاجه القويم ومن قيدتهم عن السير في طريقه جهالتهم وكثافة عقولهم من إخوانهم التابعين لهم شبرا فشبرا أو باعا فباعا المقصرين فيما يدعوهم إليه الله ورسوله استثقالا, المرتكبين لضده اقتداء بنفوسهم الأمارة لهم بكل ما لا يقتضيه الدين القويم ولا الطبع السليم تقصيرا وارتكابا كادا يفيضان بهم إلى الانسلاخ عن رسوم الدين تماما.

فكلا هذين الفريقين لا يعتقد ما اتصف به الدين من الصفات العالية وانفرد به من الخصائص والمزايا.

أما الفريق الأول فاعتقاده أن الدين أكبر عائق لأبنائه عن السير في طريق التقدم الى الأمام وأشد مانع لهم من أن يتعلقوا بأسباب سعادتهم الدنيوية من التخلق بأخلاق من لا دين له ولا إنسانية والتزي بأزياء تأباها المروءة والفطرة الإسلامية بل والعقول العالية.

وأما الفريق الثاني فلعدم استقرار مكانة الإسلام فم قلوبهم إذ لو أدركوا محاسن الإسلام وخصاله العظام لما ألقوا وراء ظهورهم ما كلفهم به من الأعمال الصالحة وتعلم العلوم المصححة لها, فمعاذ الله أن يتصف الدين بما وصفه به أعداؤه الضالون المضلون من كونه يمنع بطبعه تابعيه أن يسلكوا سبل الوصل الى ما وصلت اليه الأمم الراقية وتعالى عما يقولون فيه علوا كبيرا إذ لا تتصور فيه ذلك إلا عقول الجاهلين بمبادئه وغاياته, الجاهلين بتواريخ أبنائه الأجلة المضروب بهم الأمثال في التقدم والإقدام ولا يرى فيه عيبا إلا أولئك الأنذال الذين نكبوا عن أحكامه وحكمه ونسبوا إليه ضد ما وصفه به تاريخه الزاهر من الإصلاحات والإرشادات وحسن التربية والصعود بأبنائه الى أسمى الدرجات.

فبالله عليكم إلا ما أخبرتمونا في أي كتاب أم في أي سنة وجدتم قانونا يمنع مما يدعو اليه واجب التقدم والنهوض من تعلم الأولاد فنون المدنية والعمران حتى قلتم وبئسما قلتم : الدين عرضة لأهله…, ونحو ذلك من أنواع الطعن في دين الله بغير علم, فإن قلم إن في القرآن والسنة أحكاما تقتضي السكون المستلزم للانحطاط والتقهقر قلت إن الكتاب والسنة يشهدان أنكم كاذبون حيث لم تفقهوا معانيهما, فلو اطلعهم على سياسة الله التي برز بها كتابه العزيز وسنة نبيه لرأيتم أن الدين الاسلامي هو المصلح الأكبر وأنه المرشد الفريد لأبنائه الى ما يصلحهم في الدارين وأنه المعلم لأبنائه ما يفوقون به سائر أبناء البشر من العلوم إن كانوا بها عاملين, وانه الصاعد بهم الى أسمى الدرجات مهما كانوا له مطاوعين.

أتظنون أن الدين الذي نسبتم إليه الانحطاط والتأخر بأبنائه هو ما اعتادته أبناء الحظوظ النفسانية والإغراض الشخصية من مقاتلة إخوانهم وطنا وجنسا ودينا ابتغاء للرياسة والسيطرة عليهم ليستبدوا بما تحت أيديهم...

أم تحسبون أن الدين هو ما اشتهر به مدعوا الشرف من استدرار أكف العامة بالتكهن والترهبن وغير ذلك من أنواع الاحتيال لجلب أموال الناس.

كلا ثم كلا إذ لو كانوا مسلمين على الحقيقة لرأيتهم متصلبين على ملتهم تصلب الحديد متآلفين على نظام دينهم القويم السديد متحدين على كل ما يرضيه اتحاد البنيان المرصوص بحيث لا ينتقل أحد من صفه إلا بفراقه لدنياه الذي لابد منه كما كان أسلافهم الأحرار, على أننا لا نحكم على الجميع لوجود البقية الصالحة من أبناء الملة القائمين بالإرشاد والإصلاح ما استطاعوا حتى "لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا" سورة الأنفال الآية 44.

 هذه البقية هي التي قال فيها المصلح الأكبر والعالم الأشهر (صلى الله عليه و سلم) : " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ".

جعلني الله وإخواني المؤمنين من أتباعهم المبايعين لهم على الموت والحياة. (اه).

المصدر: جريدة البلاغ الجزائري- الدين كفيل بسعادة الدارين, العدد 68 و 69 بتاريخ و 04  و 11-05-1928

تعليقات