رسالة الشيخ العلاوي إلى القس جياكوبيتي





الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، إلى جناب الراهب الواجل  والمسيحيّ الفاضل، السيد (يعقوب القسيس) المقيم لبث دعوة التبشير المسيحيّ بمدينة (الجلفة)، أرشدنا الله وإيّاكم إلى الصواب، وعرّفنا الحقّ حقّا، وألهمنا إليه المآب.

هذا أيّها المحترم، قد كنت تشرّفت بكتابكم، الذي فاجأتمونا به، فلكم الفضل من أجل ذلك، وقد ذكرّتمونا بتلك السويعات التي قضيناها ونحن على متن الباخرة في تجاذب أطراف الحديث، فيما يعود نفعه على عموم الخليقة في العاجل والآجل، وقد وجدتكم رجلا تمثل العطفة المسيحيّة، بما ينويه من الخير لأبناء البشر، شبه ما يريد أن يسير طبق التعاليم المسيحيّة، حذو النعل بالنعل، ويا حبذا لو تمكّنت تلك العطفة في جميع من ينتمي إلى رسول الله المسيح عليه السلام، ولكنّ الكثير على البعد منها بمراحل.

أيّها المحترم، إنّنا لا ننكر ولا ينكر غيرنا ما المسيح عليه السلام ولخاصة أتباعه، من رفيع الأخلاق ورقّة الطبع، وتمام الشفقة، ولكن هل توجد تلك الشمائل بين عموم المبشرين بدينه، وعلى الأخصّ من ذلك مبشري (البروتستانتية) لا! لا! كما بلغنا عن أكثرهم إلاّ ما يجري على نقيض تعاليم المسيح ولا يخفاكم أيّها المحترم، من كون المسيح عليه السلام كان يقول: (صلوا مبغضكم) أمّا هؤلاء فإنهم يسيئون لمحبّهم فضلا عن مبغضهم، ولا يفوتكم أيّها المحترم ولا يفوت غيركم ما جاءت به التعاليم الإسلاميّة، وما قام به نبيّ الإسلام، وكيف كان سلوكه مع المسيح عليه السلام.

يقول ذلك النبيّ المعظم على لسان ربّه في حقّ المسيح: إنّه (رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه / النساء آية / 171)، ويقول في أمّه إنّها صدّيقة، وأنت إذا تأملت ما أثبته محمد صلّى الله عليه وسلّم على لسان ربّه للمسيح، بالنظر لما قالته اليهود فيه، أدركت مقدار قيمة إحسان الإسلام، ثمّ تأمّل في أسلوب دعوة الإسلام التي كان يرتكبها مع المسيحيّين تدرك مقدار تلك النزاهة، قال الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم إلاّ نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله / آل عمران آية / 64).

ثمّ تأمّل مقدار عظمة الإسلام على مسيحيّى زمانهم، وكيف كان المسلمون يحزنهم ما يحزن الكتابيّين، وعلى الأخص النصارى، ويشهد لهذا ما لحق المسلمين من الغمّ لما انكسرت النصارى في حربهم مع الأكاسرة، وكان هؤلاء الأخيرون على دين المجوسيّة، فأنزل الله على المسلمين ما يسليهم عمّا أصابهم من الحزن، يقول الله تعالى: (ألم , غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ولله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله / الروم آية / من 1 – 5)، كلّ هذا كان الإسلام يعامل به المسيحيين، وفي استطاعته أن يعاملهم به الآن، وما داموا مسيحيّين، ولكن البروتستانتيين عاملوا الإسلام، وعاملوا نبيّ الإسلام بنقيض الإحسان، وبسائر أنواع الشتائم والسباب، فعلوا ذلك جزاء لما قام به محمد مع المسيحيّين، ما قدمنا ذكره وما لم نقدمه. لا يفوتكم أيّها المحترم، ما تقوم به تلك الطائفة من نشر مؤلفاتها ومحاضراتها، وما تحويه تلك المؤلفات من ساقط الألفاظ، وفحش القول، فهي لم تترك أسلوبا في تنقيص نبيّ الإسلام إلاّ ارتكبته،  وبذلك الموجب لا تراني متغاليّا إذا قلت لكم : إنّ هؤلاء المبشرين مسّوا الإسلام في أرقّ عطفته، ولكموا أفئدة أبنائه، مما جعل المسلمين يتساءلون عمّا كانوا به مستوجبين تلك المعاملة، وما ذنب محمد مع المسيح الذي جرّ له من أتباعه تلك الإهانة، فهل ذكره له بالنزاهة، ولأمّه الصدّيقة، ولأتباعه بالرحمة والرهبانية، أم ما ذنبه وذنب أمّته ؟

إنّي لا أكتمكم أيّها المحترم، من أنّ كثيرا من أبناء الإسلام صدورهم متحجّرة من معاملة البروتستانتيين لنبيّهم بتلك الإهانة، وهو الأمر الذي بعثني عن أن نبسط لكم ما نراه متعيّنا بسطه لأمثالكم، على أنّي لا أقول في الكاثولكيين أنّهم ارتكبوا في تبشيرهم ما ارتكبه البروتستانتيين، ولا أعتقد أيضا كونهم تسرّهم تلك المعاملة من البروتستانتيين مع المسلمين، ولا أظنّ أنّهم يعتبرونهم مبشرين، أمّا أنا فإنّي لا أراهم إلاّ منفرين لا مبشرين ومسيئين لا محسنين، ولربما قلت إنّهم ليسوا بمسيحيّين على الجملة، وهذا بشهادة القرآن والإنجيل معا، أمّا شهادة الإنجيل، فإنّ المسيح عليه السلام كان يقول لأتباعه: (صلوا مبغضكم)، وهؤلاء ما استطاعوا أن يصلوا محبّهم فضلا عن مبغضهم، وأمّا شهادة القرآن من كونهم ليسوا بمسيحيّين، أنّه أثبت وجود المودّة من المسيحيّين مع المسلمين، وقال في أتباع المسيح: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى / المائدة آية / 82)، وهؤلاء لم يسلم منهم المسلمون كفافا، فضلا عن أن يوادوهم ولو بالكلام، هذا ما رأيناه نحن وإذا رأيتم أنتم من يشهد بخلاف ذلك فعرّفونا به، فإنّه لا غرض لنا، وأيم الله، إلاّ أن نرى القلوب يوما ما مجتمعة على توحيد الله، وموقرة لجميع رسل الله مع مراعاة الروابط الإنسانيّة، والأخوّة البشريّة، واحترام العواطف الوديّة، وليس في ذلك ما يستبعد ما دام الإنجيل يبعث قومه على الصنيع الجميل مع كلّ الناس، والقرآن يقول: (وقولوا للناس حسنا / البقرة آية / 83)، ويقول: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ / الممتحنة آية / 8)، وحيث إنّ الخلق عيال الله وأحبّ الخلق إلى الله أرحمهم لعياله، وهذا ونظيره في الكتب المنزلة ليس بقليل، ولكنّ الأهواء أبعدت البشر عن التعاليم الإلهيّة، فأصبحوا يعملون بضد ما جاءت به على خط مستقيم، ألهمنا الله وألهم عموم عباده لما فيه صلاح الدارين آمين.

1. القس جياكوبيتي أحد رؤساء المراكز التبشيريّة بالمسيحيّة بالجلفة الجزائر (الرسالة من الممكن تأريخها ابتداءا من سنة 1926 عام تعرفه عليه, كان قد اجتمع به على متن الباخرة في سياحته إلى افتتاح مسجد باريس، وكان سبب معرفته به أنّه سأله لماذا الإسلام يمنع المسلمة أن تتزوج بالكتابيّ، ولا يمنع المسلم من التزوج بالكتابيّة ؟، قال له الأستاذ رضي الله عنه: لأنّ المسلم إذا تزوّج بالكتابيّة فهو يحترم دينها ورسولها، ويعتقد أنّه رسول الله كعيسى وموسى عليهما السلام، وأمّا الكتابيّ إذا تزوّج بالمسلمة، فهو لا يحترم تعاليم دينها ولا رسولها، وإذا فالمعاشرة بينهما لا يتمّ ودادها غالبا، والمودّة بين الزوجين أصل من أصول الحياة، فلا بدّ من المحافظة عليها.)

تعليقات