الشيخ العلاوي - تفسير للآية (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا...)

سئل رضي الله عنه عن قوله تعالى: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا(1) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا(2) وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)" [الفتح]، هل المراد بالفتح فتح مكة، أو قصّة الحديبية حسبما جرى عليه أكثر المفسرين، أم يشير إلى ما هو أعلى من ذلك؟

فأجاب قائلا إنّ التعليل في قوله تعالى ليغفر لك الله، ينافي كون الفتح على ما جرى عليه بعض المفسرين، لأنّه لا مناسبة لتعليق المغفرة على فتح مكّة، أو نحوها من المدن، ولو كان المراد فتح مكّة، لقال ليمكن لك في الأرض أو لينصرك، وما هو من هذا القبيل، وعليه فلزمنا أن نحمل الفتح على الفتح الأكبر، الذي هو أخصّ وأحرى بهذا المقام، وليس المراد به إلاّ فتح البصيرة، وتمكّن القلب من شهود الحقّ عزّ وجلّ، ولمّا كان الفتح قد يكون غير مبين، وهو المحتمل لعودة الحجاب قيّده تعالى بالمبين، فقال إنّا فتحنا لك فتحا مبينا، والمعنى أنّه مأمون العاقبة ممّا يطرقه من الشوائب، وما فتحنا لك هذا الفتح يا محمد إلاّ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك، وهو الذنب الذي كان يستغفر منه صلّى الله عليه وسلّم كقوله: (سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي فإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت)، وقد يستبعد المؤمن صدور الذنب منه صلّى الله عليه وسلّم، وكيفما كان لا يتصور أنّه ذنب، لكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحقّقه من نفسه، ولولاه لما استغفر الله.

ولنذكر لكم شيئا ممّا أطلعني الله عليه في هذا الباب، فأقول إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجب عليه أن يؤمن برسالته كما يؤمن به غيره، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ" [البقرة:285] وبهذه المناسبة لمّا تحقّق من نفسه بالرسالة ظهر له وجود التقصير من نفسه مع نفسه، حيث إنّه كان يعاملها معاملة دون اعتبار، لأنّه غاية ما كان يرى لنفسه أنّه محمد بن عبد الله، ولا شكّ أنّ من كان مع أحد من رسل الله وهو يعلم بأنّه رسول، لا يخلو من الإساءة والتقصير، على ما تقتضيه المعاشرة، وعندما يتضّح له أنّه رسول الله، تبين له هفواته وتقصيراته التي كان يرتكبها من قبل، ويعقبها من الكمد ما يفضي به إلى الالتجاء إلى الله عزّ وجلّ من ذلك التقصير، وهكذا حاله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه كان لا يرى نفسه إلاّ محمّد بن عبد الله، ولما فتح الله عين قلبه، بحيث أبصر ما هو عليه وما يجب في حقّه، من احترام مقامه الذي هو به رسول، كما يحترمه غيره، قال صلّى الله عليه وسلّم ظلمت نفسي فيما قبل من جهة عدم إعطائها ما تستحق، وما كنت أعترف لها بالرسالة، ولا أنّها أشرف البريّة، فقال له تعالى ما فتحنا لك ذلك الفتح إلاّ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذلك الذنب، وما تأخر منه إن كان أيضا، لأنه قد يتلاهى عن نفسه وربما ينظرها باحتقار، فأخبره تعالى أنّه يتجاوز عن مثل ذلك، ولمّا كان محمد صلّى الله عليه وسلّم قد يتخيّل عدم تمام النعمة، فقيل له وما فتح لك ذلك الفتح المبين إلاّ ليتمّ نعمته عليك، ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيزا، وعليه فيؤخذ من ذلك أنّ كلا من غفران الذنوب وسلوك سبيل الرشاد والنصر، وسلامة العاقبة، معلّق على الفتح المبين، فمن فتح الله عليه فتوح العارفين الوارثين، لم يتردد في كونه مغفورا له منصورا ومهديا، وما ارتدّ من ارتدّ إلاّ من الطريق، وحصل له فتح غير مبين وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى "وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" [الأعراف:128].

تعليقات